تراث طرابلس

Categories
الصفحة الرئيسية دراسات في تاريخ طرابلس وحاضرها شريط آخر المقالات

أكبر خانات طرابلس عرضة للإهمال

بقلم رحاب نصر

   خان التماثيلي، الشاهد على دور طرابلس في التجارة الدولية، هو في حالة مزرية. فالمبنى التاريخي تسكنه أكثر من 40 أسرة فقيرة جداً حوّلت غرفه وباحته إلى مكان إقامتها الذي لا يملك أي مقومات الحياة الكريمة.

   تحفة مملوكية غدر بها الزمان وتآمر عليها الإنسان. هذا تعريف بسيط عن خان التماثيلي الشاهد الحي على التجارة الدولية في ميناء طرابلس. عمره سبعة قرون ويتميّز بخصائص معمارية اشتهر بها بانوه: المماليك. مقرنصات وتجويفات تعلو الزوايا الأربع في الأروقة العليا. لكن رؤية هذه التحف الفنية تطلب مجهوداً كبيراً، فالخان مقرّ لأسر فقيرة منذ عقود.
هندسة خان التماثيلي لا تختلف عن غيرها، فهو مؤلف من طبقتين: الأولى كانت مستودع البضائع ومسرج الخيول ومعلف الماشية ومخازن للبيع والشراء، والثانية كانت مكاتب التجار وغرف النوم. لكن، تغيرت جهة استعمال الخان. فالمستودعات باتت محالّ لإصلاح السيارات، ومناشر للخشب… أما الباحة، فهي مملوءة بالنفايات وبعض هياكل السيارات المعطلة. وبركة المياه باتت اليوم ممتلئة بالمياه المبتذلة التي تأتي من الطبقة الثانية التي تسكنها الأهالي.
45 غرفة واسعة متجاورة تؤلف الطبقة العلوية من خان التماثيلي الذي تزين 34 قنطرة ممره الأساسي. غرفه تطل كلها على الشارع العام، فهي كانت مقر الوكالات الأجنبية، من هولندية ويونانية وغيرها. كان القناصل يجلسون فيها لاستقبال بواخرهم إلى جانب التجار. لكنها اليوم باتت منازل لتلك الأسر. سكان الخان يعيشون في ظروف صعبة جداً، فالمبنى لا تتوافر فيه أي شروط صحية للعيش مع غياب البنى التحتية من مياه الصرف الصحي واستفحال الرطوبة والنش داخل الجدران. وقد عمل بعض الأهالي على تحسين ظروف إقامتهم باستحداث غرفة ومطبخ وحمام داخل حصتهم من الغرف، ومن مالهم الخاص. وقام البعض الآخر بـ«توريق» الجدران بالباطون ودهنها من جديد، ما شوّه منظر الخان وأفقده طابعه الأثري. هذا، بالإضافة إلى الملابس المتدلية عن الشرفات فتحجب المنظر العام للباحة الواسعة التي تتوسطها بركة ماء كانت تستعمل لري الحيوانات وباتت ممتلئة بالمياه المبتذلة بعدما حول الأهالي مصارفهم الصحية إليها.

عمره سبعة قرون ويتميّز بخصائص معمارية اشتهر بها المماليك

أما البوابة الضخمة للخان، المصنوعة من الخشب المصفح بالحديد، فيصل ارتفاعها إلى ستة أمتار، ويعلوها عقد متسع الدائرة تتوسطه سنجات متعاشقة متناسقة التصميم والألوان. لكن لم يبق اليوم من البوابة الضخمة إلا بعض ألواح خشبية مهترئة آيلة للسقوط.
ما كان عليه خان التماثيلي لا يشبه أبداً ما آل إليه، بعدما استوطنت الأسر غرفه وأفسد فيه الدهر والإنسان معاً. لم يعد هذا المعلم الأثري يحتفظ بشكله الأصلي، فلم يبقَ من خصائصه المميزة الفريدة سوى هياكل تعيسة بعدما طالتها عملية تشويه من الأهالي عبر ترميمهم الغرف على طريقتهم الخاصة. فتبدلت معالم الغرف بحسب الحاجة التي استعملت لها. فهنا باب حديدي كبير إلى جانب باب خشبي، وحتى النوافذ لم تسلم من الأهمال، فكل نافذة اتخذت شكلاً مختلفاً عن الأخرى، لتؤلف لوحة لا تعرف التناسق والانسجام، وتغطي الأعشاب البرية الجدران، وبعضها وصل إلى الطابق العلوي.
رغم هذه الصورة، إلا أن محاولات عدة قد جرت لانتشال هذا الخان الأثري من براثن الأهمال، لكن المشكلة التي تبرز مع كل حديث عن ترميم الخان وتأهيله ليؤدي دوره الأثري في هذه المدينة في عملية التأهيل، هي وضع السكان القاطنين. فالخان ملك لعائلة الخانجي التي باعت وأجرت العديد من الغرف للقاطنين في الخان. وهنا، بدأت عملية الشد والجذب بين السكان وبلدية طرابلس.
يقول إبراهيم حبيب: «وعدتنا البلدية بأنها ستوفر لنا مبالغ من المال لإخلاء الخان، لكننا ما زلنا ننتظر منذ سنوات». صرخة إبراهيم تلقى قبولاً عند مروان مصطفى الذي يخبر عن الوضع المزري الذي يعيشونه من إهمال وغياب النظافة، لكن لا بديل من هذه الغرف المتواضعة. أما محمد صالح، فقد ملّ ـــــ كما يقول ـــــ من «تقديم الأوراق الثبوتية لملكيتنا للمنازل إلى البلدية، واستدعينا مرات عدة، وتفاوضنا مع البلدية، ولم نصل إلى حل حتى اليوم».
في انتظار الحل الذي سينقذ المبنى من براثن الدمار، لا بدّ من الإشارة إلى أهميته التاريخية والهندسية في هذه الواجهة البحرية. فيقول رئيس لجنة التراث والآثار في بلدية طرابلس، الدكتور خالد تدمري: «خان التماثيلي في طرابلس يوازي خان الإفرنج في صيدا، حتى إن التماثيلي أكبر من الإفرنج من حيث المساحة. لذا، فهذا المبنى مؤهل لأن يمثّل بعد الترميم مشروعاً سياحياً أو مركزاً ثقافياً ينبض بالحياة».

نشر في جريدة الأخبار بتاريخ ٢٣ تموز ٢٠١٠

Categories
من علماء طرابلس

العارف بالله أبو المحاسن القاوقجي

طرابلسيون منسيون

العارف بالله أبو المحاسن القاوقجي

آخر العلماء الموسوعيين والمحدثين ذوي السند العالي في طرابلس وبلاد الشام

بقلم الدكتور خالد بريش[1]

   أنه لمن الصعب على كثيرين في أيامنا هذه تصور حياة إنسان يقوم الليل ذاكراً متعبداً محاطاً بمريديه الذين قدموا لحضور حلقته وسماع دعائه، أو وفدوا للسلوك على يديه من بلاد الشام المختلفة والعراق ومصر والحجاز، فيزدحم بهم جامع الطحام، فيفترشون الأرض تحت شبابيك الجامع في الطرقات والزواريب، متعلقة قلوبهم بالباري الخالق، تردد ألسنتهم ذكره، وأسماءه الحسنى، وأوراد الشاذلية. ثم تختتم ليلتهم بصلاة الصبح، فيتبعون ذلك بتلاوة من القرآن الكريم (إن قرآن الفجر كان مشهودا). حتى إذا ما لاحت بوارق أضواء الشمس التي لا يضاهي ضياؤها أنوار تلك الشموس المتهجدة المتعبدة، صلوا الضحى خاتمين ذلك بدعاء ثم انطلقوا إلى أعمالهم، وقام هو لقضاء حوائجه.

   فذلك الإنسان الذي أحدثكم عنه هو علامة عصره الفقيه المحدث الشاعر قطب الذاكرين العابدين العارف بالله شمس الدين أبو المحاسن القاوقجي الذي تقصر الكلمات مهما كانت بليغة عن تأديته حقه وصفا أو إحاطة بعلمه وقدره. بل يشعر أحدنا بنوع من ندم وحسرة لأنه لم يدرك تلك الأيام التي عاش فيها ذلك العالم البركة، والجلوس بين يديه ليتلقى منه حديثاً أو ورداً أو دعاءً من بضع كلمات..  

   والقاوقجي اسم لمهنة صناعة القاووق مارسها أحد أجداد أبي المحاسن. والقاووق نوع من التيجان أو العمائم الخاصة التي كان يضعها السلاطين على رؤوسهم، ثم انتقلت إلى علية القوم وكبار رجالات الدولة، وشاعت بين المقتدرين على دفع ثمنها. ثم ما لبثت أن انقرضت حيث بطل لبس القاووق في آخر زمن خلافة السلطان محمود ابن السلطان عبد الحميد آخر السلاطين العثمانيين.

   وعائلة القاوقجي من العائلات الطرابلسية القديمة والتي ينتهي نسبها إلى العترة المحمدية الشريفة، وتحديداً إلى الحسن بن علي وأمه الزهراء رضي الله عنهم أجمعين. ومن المفيد ذكره أن عائلة القاوقجي وبربر والقرق والعلمي والسبع ورضا وسلهب ونشابة في الأساس ينتهون كلهم إلى عائلة القصيباتي نسبة إلى شرف الدين محمد العلمي القصيباتي الولي الصالح، وصاحب القبر الشهير الموجود في بلدة القلمون. وينتهي نسب القصيباتي إلى إمام التصوف في عصره العارف بالله الإمام عبد السلام بن مشيش المغربي (559-626/1163-1228). مع ملاحظة أمر هام وهو أن عائلة القصيباتي تفرعت في كل بلاد الشام إلى عائلات مختلفة، وأنها أسرة علم وقضاء وتصوف عبر التاريخ.

مولده

   ولد العارف بالله القطب شمس الدين محمد أبو المحاسن بن خليل بن ابراهيم بن محمد القاوقجي في طرابلس، في بيت أخواله من آل الحامدي الفاروقيين نسبة إلى الفاروق عمر بن الخطاب، وتحديداً في بيت خاله الشيخ محمد الحامدي، وذلك قبيل صلاة عشاء يوم الاثنين الواقع في الثاني عشر من ربيع الأول لعام 1224هـ الموافق 27 نيسان 1809م. وكان البيت الذي ولد فيه مطلاً على جامع العطار، وكانت حينئذ تُقرأ قصة المولد الشريف في مسجد العطار ويصل صوت القارئ إلى داخل البيت، ووالدته في المخاض. وعندما وصل القارئ السيرة العطرة إلى قوله: فولدته صلى الله عليه وسلم، أطل أبو المحاسن رحمه الله بوجهه على الحياة. فاستبشر أهله وأقاربه بولادته أيما استبشار، وغدت قصة ولادته مدار ألسنة كثيرين بسبب توافق هذه الحادثة.

نشأته

   توفي والده وهو ما زال صغيراً فنشأ يتيماً ورعاه أخواله أولاد العارف بالله العالم الكبير الشيخ عبد القادر بن محمد الحامدي، ومنذ نعومة أظفاره رحمه الله أخذ يتنقل ما بين المساجد وحلقات الذكر مع أخواله. فقد تعلم قراءة القرآن الكريم وله من العمر أربع سنين وحفظه رحمه الله في سن مبكرة، وتعلم الخط والكتابة ومبادئ العربية والعلوم الدينية من فقه وحديث وتفسير وتوحيد ومنطق.

   وظهرت عليه إشارات الذكاء، والنباهة واتقاد الذهن، وقد نهل بنهم ما استطاع من العلوم على أيدي علماء مدينة طرابلس في حينها، والذين كانت تزدحم فيهم مساجد المدينة ومدارسها، وكذلك تشرب منذ صغره طريق التصوف التي كان يحضر حلقاتها في بيت أخواله وفي معظم مساجد المدينة ومدارسها حيث كانت طرابلس في تلك المرحلة أشبه بخلية نحل لرجال الله والطريق.

السفر إلى القاهرة المعزية

   ولما بلغ خمسة عشرة ربيعاً أي في عام 1237هـ/1824م عقد العزم على السفر إلى القاهرة المعزية طلباً للعلم في الأزهر الشريف وللمجاورة فيه. وقد مكث في الأزهر سبعاً وعشرين سنة يتلقى فيها العلم عن كبار علماء عصره المحققين الذين ذكرهم في كتابه “معدن الآلئ في الأسانيد العوالي”. هذا ووضع أبو المحاسن رحمه الله نصب عينيه أن يكون عالماً في علوم الشرع العقلية والنقلية والعربية، فوهب نفسه للعلم ولا شيء غير العلم، لأنه كان يعرف أن العلم إن لم تهبه كلك لا يهبك بعضه.

   وسلك في أثناء تواجده في مصر الطريقة الشاذلية، ولبس الخرقة على يد شيخها قطب الزمان الشمس بهاء الدين محمد بن أحمد بن يوسف البهي. وتشبع بأفكار المتصوفة وأذكارها التي ألفها منذ طفولته، وأصبح ككل أهل الطريق لا تأخذه المظاهر، لا في الأمور الدنيوية والحياتية، ولا فيما يقع له من نوائب الدهر. وكان كل ما يقرأ رحمه الله من نصوص ومتون، أو يرد على ألسنة أساتذته العلماء يمعن النظر فيه ويراجع ما قاله العلماء حوله، فيمحص أقوالهم ليتعرف على مقاصدهم وحقيقة ما عنوه، ذاهباً إلى خفايا معاني النصوص والمتون، مقلباً الآراء في كل ذلك ليقف على الحقيقة، والأصح والأقوى من الناحية العقلية ومن حيث السند أيضاً.

   واهتم رحمه الله خلال فترة تواجده في الأزهر الذي دام سبعاً وعشرين سنة بالحديث النبوي رواية ودراية أكثر من اهتمامه ببقية العلوم. وأخذ يطلب عوالي الأسانيد في الأحاديث النبوية. فكان لا يسمع عن شيخ من شيوخ الأزهر الشريف أو ممن يزورون قاهرة المعز وعنده رواية لحديث من الأحاديث النبوية إلا وسعى إليه وأخذه عنه. ولا عرف بشيخ عنده إجازة صحيحة في كتاب من كتب العلم شرحاً أو متناً، إلا وهرع لحضور حلقة دروسه والحيازة على إجازته. وقد قربه أساتذته منهم عندما لاحظا نبوغه ونباهته وسرعة حفظه وتمكنه فهماً وإدراكاً لما يسمعه ويتلقاه، ومن ثم يدلي فيه بدلوه توجيهاً وتعليقاً وتفنيداً. فأصبح بعد فترة وجيزة يعيد دروس أساتذته على الطلاب، ويشرح لهم بعض غوامضها وبحضور بعض أساتذته أحياناً.

   وأصبحت له بعد سنوات من الدراسة المعمقة العالية حلقة خاصة به بعدما كتب بعض الرسائل والشروح في علوم مختلفة وخصوصاً فقه الأحناف، والتصوف، وعلم الكلام. والتي نالت استحسان أساتذته وتداولها طلاب العلم واشتهرت في الأزهر الشريف حينها. فكان رحمه الله يشرح في حلقة دروسه بعض رسائله، ويقوم بقراءة كتب أساتذته التي درسها وهضمها، وأجازه شيوخه فيها. فيعلق على غوامضها، واضعاً عليها بعض النكت العلمية والإيضاحات والعقيبات. 

العودة إلى طرابلس

   عاد أبو المحاسن القاوقجي رحمه الله إلى طرابلس بعدما شعر بالاكتفاء من العلم، وأنه بلغ فيه درجة الأستذة والمشيخة. وقد ذاع صيته بين العلماء وطلاب العلم على السواء في طرابلس وبلاد الشام، وعرف قدره، وخصوصاً أنه درس مجموعة من العلماء في أيام وجوده في القاهرة. فهرع إليه طلاب العلم من كل صوب للأخذ عنه وللجلوس في حلقات علمه. واتخذ من جامع الطحام الذي كان إمامه وخطيبه مركزاً له يقيم فيه حلقات دروسه العامة والخاصة، بالإضافة إلى تنقله في مختلف مساجد طرابلس التي كان يدرس فيها ويخطب وينشر ما منّ الله عليه من علوم. وبدأ أيضاً بنشر الطريقة الشاذلية التي أصبح بعد فترة وجيزة قطبها وشيخها الأكبر في بلاد الشام، وقد اتخذ لدعوته الشاذلية ثلاث زوايا في مناطق مختلفة من طرابلس يقيم فيها الواجب من حلقات الذكر والتعبد، ويتلو الأوراد، ويؤدب فيها المريدين:

   – الأولى: كانت في منزله الواقع في منطقة الدفتردار، حيث يوجد زقاق ينسب إليه زقاق القاوقجي.

   – الثانية: كانت في جامع الطحام.

   – الثالثة: كانت في الميناء.

   وقد شهدت طرابلس في الأيام التي كان يقيم فيها الواجب وحلقات الذكر ازدحام المريدين والأتباع، وشيوخ الطريقة على مختلف طبقاتهم وأعمارهم، والقادمين من مختلف المناطق اللبنانية ومن بلاد الشام والعراق ومصر والحجاز، حتى كادت أن تكون طرابلس حينها عاصمة العالم ومركزه.       

أبو المحاسن الإنسان

   ما زال كثير من الطرابلسيين يذكرون في أحاديثهم فتاويه ويعملون بها، ولكنهم يتذكرون أكثر قصصاً جرت له رحمه الله مع فلان أو علان من الباشوات والبكاوات والأفندية، ويذكرون إلى الآن أيضاً بعض كراماته، فيتخيل سامعها أن أبا المحاسن وما قام به، كان في عهود غابرة تعود لآلاف السنين، مع أننا قريبي العهد به، بل ما زالت رائحة مسك أثوابه تفوح من الطرق التي سلكها، وصوته وهو يذكر القدوس الودود يتردد صداه إذا ما سمعنا بقلوبنا ونحن نمر بقرب مسجد الطحام.

   وكانت الخطابة وسيلته في الوعظ والإرشاد والتربية، فكان خطيباً مصقعاً، لنبرة صوته رنين خاص على الأسماع وفي القلوب. تدمع عيناه إذا ما مر في خطبته أو درسه وحديثه على ذكر الله، أو بعض آيات كتابه الكريم. فتسافر معه قلوب السامعين إلى حيث يريد رحمه الله. فتعلو أصوات من خلفه في الصلاة أو في الدعاء مجهشة بالبكاء ندماً وحسرة على ما قدمت من عمل، راجية عفو الله ومغفرته. أوليست مغفرته سبحانه وتعالى أقصى أماني العابدين المؤمنين..؟.

   فقد كان رحمه الله عالماً بحق، يشار إليه بالبنان، اجتمعت قلوب أهل المدينة على محبته واحترامه من الكبير والصغير على السواء. وكان مثالاً للعالم المتواضع الدرويش المستقيم المتمسك بأهداب دين الله وشريعة نبيه. لا يخاف في الحق لومة لائم. سريع الغضب لحرمات الله، ونواهي نبيه. يفيض الحب من كل تصرفاته ونظراته، شأنه شأن كل من غرق في حب الله وبحار أنواره، وعرف الوجد ولذة الذكر والسجود والركوع، وتخطى بعينه وقلبه صور الأشياء إلى حقائقها.

   كان بهي الطلعة، تبعث إطلالته على الجلالة والمهابة في القلوب. تخافه العامة وعلية القوم وكل المسؤولين ورجالات المدينة، ويشعرون أمامه بالصغر، لأنه رحمه الله كان زاهداً في الدنيا ومالها وغبارها وكل ما في أيديهم. شديد التواضع لين الجانب مع الفقراء والمساكين، يجالسهم ويشاطرهم الطعام، معطاءً كريماً معهم، ومع طلابه ومريديه، فتمتد يده لمساعدتهم بلا تردد باذلاً من أجلهم الغالي والنفيس.

   وكان القريبون منه والبعيدون يتعشقون مجلسه الذي كان مليئاً بالأذكار والأوراد والأدعية وبالإفادة العلمية والوعظية حتى إن عبارات مثل: العلم، والإصلاح، والتقوى الخ.. غدت علماً عليه في زمانه وأيامه في هذه المدينة.    

علومه ومعارفه وأسانيده

   إن الحديث عن أبي المحاسن رحمه الله حديث ذو شجون لكونه حديثاً عن أغزر علماء طرابلس في عصره تأليفاً وتصنيفاً وتمكناً في العلوم. وعن خطيب بليغ شاعر مفوه تهتز له أعواد المنابر، وقلوب السامعين. فلقد تمكن العارف بالله الشيخ أبو المحاسن القاوقجي رحمه الله من ناصية العلوم وتملكها. فكان واحداً من العلماء الموسوعيين الكبار على مستوى الأمة بحق، فبلغت سمعته الآفاق. وكان حديث الألسن، ومقصد طلاب العلم والعلماء. لأنه لا يوجد علم من علوم العربية، والعلوم الشرعية النقلية، وكذلك العلوم العقلية، بالإضافة إلى علم الذوق والتصوف، إلاّ وله فيه شرح أو مؤلف وربما أكثر. ونستطيع القول بأنه بلغ درجة رفيعة من العلم، ومرتبة لا يشق لها غبار، وكاد أن يصبح مجتهد عصره في فقه الأحناف الذي كان فيه متمكناً أمكن أصولاً وفروعاً واستظهاراً لمسائله، ومعرفة بأقوال علماء المذهب وأدلتهم وتوجيهاتها، حتى إنه بزّ كل أقرانه في ذلك وفاقهم.

   وأما في السند ورواية الحديث النبوي، فقد كان رحمه الله الأعلى سنداً ليس في طرابلس فحسب، بل في كل بلاد الشام والعراق والحجاز ومصر، حيث انتهت إليه رواية الحديث. وقلما وجدنا سنداً في حديث محدثي بلاد الشام ومصر والحجاز والعراق في القرن التاسع عشر إلاّ وكان منتهياً إلى أبي المحاسن رحمه الله، حتى إن المؤرخ عبد الحي الكناني قال عنه: “مسند بلاد الشام في أول هذا القرن، وعلى أسانيده اليوم المدار في غالب بلاد مصر والشام والحجاز”. فكانت طرابلس في أيامه بفضله وبفضل العلماء الذين عاصروه محط أنظار طلاب العلم والباحثين عن علو السند في رواية الحديث في كل البلاد الإسلامية.

   ولهذا كان رحمه الله المقصد من قبل العلماء والطلاب من مختلف الأقطار والأمصار لسماعه أو للتلقي منه، وخصوصاً ما اشتهر به دون غيره من العلماء حينها وهو رواية مثلثات الإمام البخاري، والتي يقصد فيها الأحاديث التي يرويها البخاري عن ثلاثة رواة، أي صحابي وتابعي وتابع التابعي، في الوقت ان بين أبي المحاسن القاوقجي والبخاري عشرة رواة فقط.      

شيوخه وأساتذته

   إن المدة التي مكث فيها أبو المحاسن في قاهرة المعز، يسرت له اللقاء بعدد كبير من كبار علماء الأزهر الشريف الذين يعدون بالمئات. فحاز رحمه الله على إجازات عامة وخاصة من العشرات منهم، والذين ذكرهم في كتابه “شوارق الأنوار الجلية”، وذكر أيضاً ثلة من شيوخه وأسانيده في الحديث في كتابه “معدن اللآلي في الأسانيد العوالي”، ومن شيوخه الكثر نذكر:

   – العالم المتبحر الشيخ محمد بن أحمد التميمي الخليلي (…-1268/…-1852) مفتي الديار المصرية.

   – خاتمة المحدثين وإمام المحققين محمد عابد بن أحمد السندي الأنصاري (حوالي 1190-1257/1776-1841) رئيس علماء المدينة المنورة.

   – الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر الشيخ إبراهيم بن محمد الباجوري (1198-1277/1784-1860).

   – قطب الزمان وسند الديار المصرية الشمس بهاء الدين محمد بن أحمد بن يوسف البهي الشاذلي (…-1260/…-1844).

   – العارف بالله الشيخ محمد بن صالح السباعي العدوي الخلوتي (…-1268/…-1852).

   – الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر الشيخ برهان الدين حسن بن درويش بن عبد الله بن مطاوع القويسني (…-1254/…-1838).

   – العارف بالله العالم الشيخ حسين بن سليم الدجاني (1202-1274/1788-1858)، المولود في مدينة يافا بفلسطين، والمتوفى في مكة أثناء أدائه فريضة الحج ودفن في المعلا.

طلابه ومريدوه

   ذاع صيت أبي المحاسن رحمه الله في البلاد، فكانت طرابلس في أيامه محجة لطلاب العلم الذين كانوا يأتون إليه من مختلف البقاع مثل: مصر، والعراق، والحجاز، واليمن، وكل بلاد الشام، لقراءة أحد كتبه على يديه، أو لسماع أحد أسانيده، أو للحصول على إجازته، أو من أجل السلوك على يديه، أو بحثاً عن العلم والكلمة الطيبة. ولهذا كثر طلابه ومريدوه وانتشروا في البلاد. واعتقد أنه من الصعب جداً حصر من نالوا منه إجازة، أو سمعوا منه حينها. وكذلك يصعب تعداد مريديه في التصوف ومن سلك على يديه أو ألبسه الخرقة. ولكن سوف نذكر بعض طلابه الذين تلقوا العلوم على يديه والذين حازوا إجازته في الحديث واشتهروا ومنهم:

   – الشيخ المحدث أحمد بن محمد الدلبشاني الحنفي الموصلي.

   – الشيخ العالم صالح بن عبد الله العباسي.

   – الشيخ العالم بسيوني القرنشاوي.

   – الشيخ العالم محمد بن محمود خفاجة الدمياطي شيخ علماء دمياط.

   – الشيخ المحدث حبيب الرحمن الكاظمي الهندي.

   – الشيخ العلام المحدث أبو الحسن علي الوتري المدني مسند المدينة المنورة في زمانه.

   – الشيخ حسن السقا الفرغلي خطيب الجامع الأزهر.

   – عالم دمشق في وقته ومسندها الشيخ أحمد العطار.

   – الشيخ العالم المحدث سليم المسوتي الدمشقي.

   – الشيخ بكري العطار (1251-1320/1835-1902)، أحد كبار مسندي بلاد الشام.

   – الشيخ عبد الرحمن الكزبري، أحد كبار العلماء في بلاد الشام ومسندها.

   – العالم الشيخ عبد الله السكري (1230-1329/1815-1911)، أحد كبار المسندين في بلاد الشام والعراق والحجاز.

   – العالم الشيخ محمد ناصر الدين أبو النصر الخطيب (1253-1325/1837-1906)، أحد كبار علماء بلاد الشام والحجاز ومسنديها.

   أما في لبنان فقد كان له أثر كبير على معظم علماءِ طرابلس ولبنان في وقته علماً وثقافة وأخلاقاً، حيث ان معظمهم جلس بين يديه، واغترق من مجالس علمه، وقبسات أنوار اذكاره وأوراده وأعيته، التي ما زال كثيرون يرددونها إلى اليوم. مع ملاحظة ان بعض العلماء الطرابلسيين الذين لم يتعلموا أو يسلكوا على يديه في طرابلس قد تتلمذوا على يديه في مصر خلال إقامته فيها ونذكر منهم:

   – الشيخ أبو النصر بهاء الدين محمد القاوقجي (1285-1253/1868-1934)، ابنه، ومسند طرابلس ومصر وبلاد الشام.

   – الشيخ عبد الفتاح الزعبي (1256-1354/1840-1935)، نقيب أشراف طرابلس وإمام وخطيب المسجد المنصوري الكبير.

   – الشيخ القاضي عبد المجيد المغربي (1283-1352/1867-1934)، وقد شرح “كفاية الصبيان”، أحد كتب أبي المحاسن.

   – الشيخ عبد القادر المغربي (1283-1376/1867-1956) المصلح واللغوي الشهير.

   – الشيخ المصلح محمد رشيد رضا (1282-1354/1865-1935) صاحب تفسير المنار.

   – أبو المعالي الشيخ عبد الكريم محمد عويضة (1283-1378/1865-1958)، درة علماء طرابلس، وكبير علمائها.

   – الشيخ العالم عبد الرحمن الحوت (1262-1336/1846-1916)، نقيب أشراف بيروت ومفتيها.

   – الشيخ العالم عبد القادر بن عبد القادر الأدهمي (…-1325/…-1907)، أحد كبار علماء طرابلس، والذي ألف كتاباً في ترجمة شيخه أسماه ترجمة قطب الواصلين.

 

أبو المحاسن العارف بالله وقطب التصوف

   لقد تعمق شمس الدين أبو المحاسن القاوقجي في سلوك طريق التصوف، وأبحر في رياضة الأذكار والأوراد بكليته حتى غدا في الطريق وعالم الذوق والأنوار قدوة وقطباً ومحط أنظار المريدين، وباب الوصول بالنسبة للسالكين والباحثين عن المعرفة والعرفان. وظهرت له كرامات كثيرة ما زالت موضع حديث كثيرين من أهل المدينة وخصوصاً من أهل الطريق فيها. ومن ذلك ما يروى أن صديقه وأخاه في الطريقة الشيخ عبد الله الزعبي الجيلاني قد أعياه المرض يوماً، وأجلسه الفراش في داره بحيذوق في عكار، ولم يطلع على مرضه أحداً من أهله وأتباعه إلا الله. وبينما كان في غيبوبة الصحو والوجود، مطلقاً لروحه العنان في مقامات الشهود، رأى أن البتول فاطمة الزهراء رضي الله عنها وأرضاها وقد آلت لزيارته على ناقة، فمدت له يدها، وأردفته خلفها. فارتد إلى حاله فجأة، ونظر في أمر نفسه، فوجد أن المرض الذي كان يعاني منه قد ذهب عنه. فكتب له الشيخ أبو المحاسن في نفس اليوم رسالة أرسلها له مع أحد مريديه، يهنئه فيها بزيارة الزهراء له، وركوب الناقة خلفها، وحدوث الشفاء.

   وغدت لأبي المحاسن بعد مدة من قدومه إلى طرابلس مدرسته الخاصة من حيث الأذكار والأوراد وصنوف المجاهدات والرياضات الروحية والتعبد في داخل الطريقة الشاذلية، وأصبح لهذه المدرسة مريدوها ومواسمها، وهي ما يعرف حتى يومنا هذا بـ “القاوقجية الشاذلية”. وقد اعترف بهذه الطريقة من قبل المجلس الأعلى للطرق الصوفية في مصر في نهاية شهر جمادي الأول من عام 1345هـ الموافق كانون الأول (ديسمبر) 1926م.

   وكان رحمه الله يختبر مريديه ويمتحنهم من قبل أن يسلكهم، وذلك بامتحانهم في أمور العقيدة وقدرتهم وصحة عزمهم على العبادات، وفي مراقبة تصرفاتهم والسؤال عنهم، مخافة من الله أولاً، ومن ان لا يتحمل وزر بعض رعاع الخلق. وكان أيضاً يتدرج مع مريديه في الأوراد والأذكار التي يعلمهم إياها، والعبادات والمجاهدات التي كان يأمرهم بها أيضاً. وهنا تحضرني نقطة مهمة وهي أنه كان رحمه الله لا يفعل كما يفعل بعض شيوخ الطريق فيوهمون المريدين في الوصول إلى معرفة كنه الأشياء والوصول إلى حالة عرفانية مطلقة. ومن ذلك أن الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله بعدما سلك على يديه طريق الشاذلية ومارس رياضاتها وأذكارها، ونال منه إجازة في رواية دلائل الخيرات وهي مرحلة متقدمة في الطريق إلى حد ما، طلب من أبي المحاسن أن ينتقل به من الشاذلية الصورية التي يمارسها كل المريدين من ذكر وعبادات مختلفة، إلى سلوك طريق المعرفة اللدنية الحقيقية. فاعتذر منه رحمه الله وقال له: “يا بني إنني لست أهل لما تطلبه فهذا بساط قد طوى وانقرض أهله..؟.

   وكان رحمه الله لا يجعل أتباعه يتوهمون أيضاً ان سلوك الطريق يعني فوزاً بالجنة، أو أنهم بأنواع أذكارهم وعباداتهم سيكونون بمأمن من قضاء الله وقدره وعقابه وحسابه. فيقول مبيناً وموضحاً: “الأذكار والأوراد لا تبدل قدراً ولا تغير قضاء، وإنما هي عبودية اقترنت بسبب كاقتران الصلاة بوقتها. فالدعاء سبب لرد البلاء واستجلاب الرحمة، كما ان الترس سبب لرد السهم. وليس من شرط الاعتراف بقضاء الله أن لا يحمل السلاح. وقد قال تعالى (خذوا حذركم)، فربط الأسباب والمسببات على تفاصيل الأسباب على التقدير والتدريج هذا القدر، الذي قدر الخير قدره بسبب، وكذلك الشر قدر لرفعه سبباً، فلا تناقض عند من انفتحت بصيرته..”.

   ومن بين كبار مريدي الشيخ أبي المحاسن رحمه الله سوف نذكر عالمين جليلين كانا من وكلائه في نشر الطريقة القاوقجية في مصر، وكان لهما أثر كبير في انتشار هذه الطريقة ومدرستها وهما:

   – الشيخ محمد بن عبد الرحيم بن عبد الوارث النشابي (1266-1339/1850-1919)، أحد كبار علماء الأزهر الشريف. وقد نشر الطريقة القاوقجية في طنطا وجوارها. وكان له بحي سيجر بطنطا ساحة كبيرة للذكر ولإطعام الطعام واستقبال الضيوف.

   – الشيخ سلامة بن حسن سلام الراضي (1284-1357/1867-1939)، وكان من كبار رجال التصوف العباد الصالحين الثقات. وقد أقيم له بعد وفاته ضريح في مسجد يحمل اسمه بمنطقة السبتية ببولاق أبي العلا في القاهرة.

سياحاته وزياراته

   كان شمس الدين أبو المحاسن يخرج في كل عام أكثر من مرة إلى المناطق القريبة من طرابلس. وكانت الوفود تأتيه من شتى البلاد والأصقاع وتجلس على بابه إلى أن يستجيب لها في زيارة بلدتهم أو قريتهم كونهم كانوا يستبشرون به وببركته خيراً. فكانوا إذا ما حل بهم يستقبلونه بما يليق به من ذبائح وولائم وحلقات ذكر وعبادة تبقى عامرة مدة إقامته بينهم.

   وكان رحمه الله يخرج خروجاً كبيراً في كل عام يزور فيه بيت المقدس ويمر في طريقه على زوايا مريديه وأتباعه، وعلى كبار المشايخ والعلماء. وكذلك على قبور الأولياء والصالحين، وصولاً إلى مصر حيث يبقى فيها مدة قد تطول أحياناً. وفي أثناء الطريق كان ينضم إليه المحبون والأتباع والمريدون في موكب كبير، فيتنقلون معه من بلد إلى آخر ومن قرية إلى أخرى. وكان أحياناً يرتب أمر خروجه هذا ليكون قبل موسم الحج بفترة قليلة، بحيث إذا ما أنهى زيارته لمصر، تابع طريقه لزيارة بيت الله الحرام ومسجد المدينة المنورة وقبر نبيه المصطفى r، مؤدياً مناسك الحج والعمرة هو ومن رافقه في سياحته هذه.

   وكان في كل مرة يخرج فيها يصاحبه عدد لا بأس به من الأتباع والمريدين الطرابلسيين، ويبقون معه إلى أن يعود إلى طرابلس مرة أخرى. وأما في مصر فقد كان إذا ما وصلها تبعه الأتباع من أهل الطريق والذاكرين بالمئات في مواكب تحيط به وهم يحملون الرايات والأعلام، وكأنه شمس محاطة بالأقمار.

مؤلفاته ومصنفاته

   إن سعة علم أبي المحاسن القاوقجي تظهر جلية بوضوح من خلال كم المؤلفات والمصنفات التي تركها، والتي أوصل عددها بعض من ترجموا له إلى ثلاثمائة كتاب ورسالة وشرح. فكان بحق أغزر علماء عصره تأليفاً ونتاجاً. قد تطرقت كتبه ومؤلفاته إلى مختلف ميادين العلوم الإسلامية والشرعية والتربية والوعظ واللغة من نحو وبلاغة وشعر. وللأسف ما زال كم كبير منها غير مطبوع، ولم يرَ النور بعد وهو حبيس رفوف المكتبات. وكذلك يوجد عدد كبير منها قد ضاع وفقد. ومن مؤلفاته التي وردت في أكثر من مرجع نذكر:

   – الاعتماد في الاعتقاد، طبع في القاهرة عام 1926م.

   – الإمدادات الإلهية على الأربعين النووية.

   – البدر المنير شرح على حزب الشاذلي الكبير.

   – البرقة الدهشية في لبس الخرقة الصوفية.

   – بغية الطالبين فيما يجب من أحكام الدين، رسالة في المذاهب الأربعة، طبعت عام 1322م.  

   – البهجة القدسية في الأنساب النبوية.

   – تحفة الملوك في السير والسلوك.

   – تحفة الناسك في المناسك.

   – تسهيل المسالك مختصر لموطئ الإمام مالك بن أنس.

   – تنوير القلوب والأبصار ونزهة العيون والأفكار في أحاديث النبي المختار.

   – الجامع الفياح لجوامع الكتب الثلاثة الصحاح البخاري ومسلم والموطأ.

   – جمال الرقص في قراءة حفص.

   – خلاصة الزهر على حزب البحر، طبع في القاهرة عام 1304هـ.

   – الدر الصفي على عقيدة النسفي.

   – الدر الغالي على بدء الأمالي، طبع في المطبعة النصرية في مصر عام 1317هـ.

   – الذهب الإبريز على كتاب المعجم الوجيز للميرغني، وشرح للأحاديث النبوية، طبع في بيروت، 1310هـ.

   – ربيع الجنان في تفسير القرآن.

   – رحلة، وقد جمعت غرائب أسفاره وبعض أخبارها في مصر والحجاز والشام.

   – رسالة في مصطلح الحديث.

   – رفع الأستار المسدلة في الأحاديث المسلسلة.

   – روح البيان في خواص النبات والحيوان.

   – ريحانة القلوب في خلوة المحبوب.

   – سفينة النجاة في معرفة الله وأحكام الصلاة، طبع سنة 1322هـ.

   – شرح الأجرومية على لسان أهل التصوف.

   – شرح حزب سيدي إبراهيم الدسوقي، طبع في مصر عام 1302هـ.

   – شرح حزب الفتح الشاذلي.

   – شرح حزب القطب النبوي سيدي أحمد البدوي.

   – شرح حزب النووي.

   – شرح على الكافي في علمي العروض والقوافي.

   – شرح غرامي صحيح في مصطلح الحديث.

   – شرح ورد السحر لسيدي مصطفى البكري.

   – شوارق الأنوار.

   – ضوء المنازل فيما ورد من النوافل.

   – الطور الأعلى شرح الدور الأعلى، شرح حزب الدور الأعلى لمحي الدين بن العربي.

   – عجالة المستفيد في أحكام التجويد وشرحها.

   – عناية المهتدي على كفاية المبتدي.

   – غاية المرام على كفاية الغلام.

   – الغرر الغالية على الأسانيد العالية.

   – غنية الطالبين فيما يجب من أحكام الدين على المذاهب الأربعة.

   – الفتح المبين على الحصن الحصين.

   – الفضة النقية في سلوك الطريقة الخلوتية.

   – الفيوضات القدسية وصلوات السادة الدسوقية.

   – قواعد التحقيق في أصول أهل الطريق.

   – كواكب الترصيف فيما للحنفية من التصنيف.

   – لطائف الراجين وبغية الطالبين في أصول المحدثين وقواعد الدين.

   – اللؤلؤ المرصوع فيما قبل لا أصل له في الحديث الموضوع، المطبعة البارونية بمصر.

   – مسرة العينين، حاشية على تفسير الجلالين.

   – معدن الآلي في الأسانيد العوالي، ثبت ذكر فيه مشايخه وأسانيده.

   – مفتاح الكنز الأفخر لمن أراد أن يصل إلى العلي الأكبر، طبع في القاهرة، 1294هـ.

   – المقاصد السنية في آداب الصوفية.

   – منتقى الأزهر على ملتقى الأبحر.

   – مواهب الرحمن في خصائص القرآن.

   – مولد البشير النذير، سيرة المولد النبوي الشريف، طبع في المطبعة النصرية، مصر 1317هـ.

   – نزهة الأرواح في أسرار النكاح.

   – نسيم الشجي الأواه في فضائل لا إله إلاّ الله.

   – هدية الأحباب.

   – وصية الإخوان والأصحاب.

   – يمن الأنام في فضل ما بني عليه الإسلام.

   – ينبوع الحياة على سفينة النجاة.  

شعره

   كان أبو المحاسن القاوقجي شاعراً مجيداً ولكن غالب شعره لم يطبع أو أنه قد ضاع. والذي نشر منه فإن الكثير كان في المدائح النبوية والعترة المحمدية والأدعية والابتهالات والأذكار والتوسلات وشيوخ الطريق. وكثير مما نظمه رحمه الله ما زال يردده الطرابلسيون في موالدهم ومناسباتهم الدينية، أو يردده أهل الطريقة الشاذلية في حلقات ذكرهم إلى يومنا هذا. وللأسف ليس بين أيدينا أمثلة كثيرة على شعره لكي نستطيع دراستها وتقديمها للقارئ الكريم بما يليق بها. ومن شعره الذي بين أيدينا نختار مثالين:

   الأول: في الابتهال إلى الله وطلب عفوه ومغفرته، والذي يظهر من خلاله جزالة أسلوبه رحمه الله، وقوة تدبيجه وصفاء بحره. ويعطي صورة من خلال تكراره لبعض الألفاظ عن نقله لحقيقة العبد الواقف في باب الخضوع والذل معترفاً بذنبه. حيث يقول:

دعوتك يا الله والدمع دافق

                  وحبل رجائي فيك يا رب واثق

وصبري تقضى والهموم تراكمت

                  وإن لم تدركني فإني وابق

وأنت وعدت السائلين إجابة

                  وحلمك واسع ووعدك صادق

فإني مضطر وعجزي ظاهر

                  وإني محتاج وجودك سابق

أغثني أغثني يا مجيري ومنقذي

                  أقلني أقلني إنني منك شافق

أجبني أجبني يا الهي وسيدي

                  أنلني أنلني إنني فيك واثق

   والثاني: وهو يتناول فيه أهل الطريق أهل الله ومنالهم من خلال الذِكر والعبادة، وفوزهم بما لا يناله إلا هم من حكمة ومعارف وكشف ومكاشفات فيقول:

لله قوم أخلصوا في ذكره

                  فسقاهم كأس المحبة والهنا

أعطاهمو فوق الذي يرجونه

                من حكمة ومعارف وتفننا

كشف اللثام عن الجمال تمننا

                  أحيا لقلب مات من حر الفنا

ناداهمو فتمتعوا بجمالنا

                  فأنا المحب وأنتمو أحبابنا

فذي خزائن حكمتي فتحكموا

                  فيها بما يرضيكمو في ملكنا 

وفاته

   ككثير من أهل الطريق والمكاشفات كان يدرك رحمه الله أن خاتمته ستكون في مكة المكرمة عند البيت العتيق الذي طالما تغنى به وأحب وخصص له القصائد. وأيضاً لأن شيخه العارف بالله حسين بن سليم الدجاني قد بشره في ذلك يوماً وأخبره أنه سيكون إلى جانبه ومما يذكر في هذا الصدد أن الشيخ عبد الفتاح الزعبي رحمه الله أتاه مودعاً قبل حجه وقال له: “ردك الله إلينا بالسلامة والعافية الوافية، وأعاد لنا أيام قربك بالمسرة الشافية”، فأجابه رحمه الله: “لسنا هنا نختار، لكننا نرجو لقاء الله في ذلك الجوار”.

   ففي منتصف رجب من عام 1305هـ الموافق عام 1888م غادر طرابلس مع بعض أهله إلى مصر حيث أمضى فيها بين أتباعه ومريديه شهر الصيام حتى كان أواخر ذي القعدة، فتوجه إلى بور سعيد التي غادرها على ظهر إحدى البواخر العثمانية ميمماً شطر المسجد الحرام والبيت العتيق الذي وصله متمتعاً غير مقرن. واتخذ لنفسه بيتاً عند باب الوداع. فبعدما طاف وسعى وتحلل من إحرامه بدت عليه عوارض مرض وحمى شديدة حتى كانت ليلة الأربعاء من السابع من ذي الحجة، وكان يؤدي صلاة العشاء على سطح الحرم. وما إن انقضت الصلاة والإمام يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام”، حتى صرخ الشيخ أبو المحاسن: الله..!.

   وكانت آخر ما خرج من فمه وتلفظ به، مودعاً دنيا فانية، صاعدة روحه إلى بارئها ولقاء أحبته. وضحوة يوم الأربعاء غسل وكفن، وحمل إلى البيت العتيق، وأقيمت عليه الصلاة ودفن في المعلا بجوار شيخه الدجاني، بين قبري آمنة أم الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم، وزوجته خديجة رضوان الله عليها.

   وقد رثاه رحمه الله معظم معاصريه من العلماء والشعراء في طرابلس، ومنهم المرحوم الأستاذ العلامة الشيخ حسين الجسر في قصيدة نختار منها:

شُقت له مهج الرجال ومُزقت

                 أستار هاتيك الحسان الغيد

مصر لمصرعه غدت مقهورة

                 وتصعدت زفرات كل صعيد

والشؤم عم الشام حتى لا ترى

               بربوعها من طالع مسعود

   ورثاه أيضاً مريده وتلميذه الشيخ أبو المعالي عبد الكريم عويضة في قصيدة مطولة منها هذه الأبيات التي يقول فيها:

هو السيد المفضال قطب زمانه

               إمام بأفق الفضل قد لاح فرقدا

تعود فعل الخير مذ كان يافعاً

               وللمرء من دنياه ما قد تعودا

فكم زف أبكار المعاني لطالب

               وكم من مريد للطريق أرشدا

دعاه إله العرش نحو جواره

            فسار مع الركب الحجازي منجدا

   ورثاه أيضاً مريده وتلميذه العالم الشاعر الشيخ عبد القادر الأدهمي رحمه الله في قصيدة منها هذه الأبيات:

تبكي المنابر بعده من وحشة

           إذ لم تكن لسواه طوعاً تسجد

تبكي محاريب المساجد حسرة

          إذ لم يصلها مثله متهجد

تبكي رياض الذكر مجلسه بها

        وعليه يندب شملها المتبدد

هو بحر علم وشمس هداية

        عجباً لقبر ظل فيه يلحد

   رحم الله أبا المحاسن القاوقجي وتغمده بمغفرته وسحائب رحمته، فقد أدى الأمانة، ووفى الرسالة، وترك جيلاً من العلماء الذين لا يشق لهم غبار، ومعذرة إن لم نفه حقه هو وأمثاله من ذلك الرعيل العظيم الذين لا نداني كعوبهم.   

 

[1] – نشر في جريدة الانشاء، العدد 7252، الجمعة 12 أيار 2017، الموافق فيه 15 شعبان 1438هـ، السنة 70.

Categories
من علماء طرابلس

الشيخ الأستاذ حسين بن محمد بن مصطفى الجسر قائد الإصلاح والتنوير والحداثة وصنع العلماء… وباني الأجيال…

طرابلسيون منسيون

الشيخ الأستاذ حسين بن محمد بن مصطفى الجسر قائد الإصلاح والتنوير والحداثة وصنع العلماء… وباني الأجيال…

بقلم الدكتور خالد بريش[1]

 

   لم يكن الأستاذ الشيخ حسين الجسر رحمه الله بالرجل العادي من أبناء هذه المدينة. فقد كان شخصية فذة متفردة ملأت أخبارها آفاق، وغدت حديث العلماء العرب والمسلمين، والمثقفين المتنورين في نهايات القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين.

   كان رحمه الله جذوة لم يخب نورها يوماً، بل ما زال يزداد توهجها إلى يومنا هذا. فنجد أن هناك عشرات الكتب التي تناولت سيرته، بالإضافة إلى مئات المقالات. وليس في الوطن العربي والإسلامي فقط، بل وحتى في العالم العربي حيث نال اهتماماً كبيراً من الدارسين والمستشرقين والمثقفين ورجال الفكر، قد يكون أكثر مما ناله حتى في وطنه وخصوصاً في بلده طرابلس …!.  

   فالأستاذ الشيخ حسين الجسر واحد من بين أهم شخصيات التنوير والإصلاح في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين، فرض وجوده على صفحات التاريخ من خلال فكره المستنير، وقلمه، وكلمته الحرة التي كانت تستشف المستقبل في الدرجة الأولى، وأساليب التعاطي معه. ومن خلال تلاميذه الذين خرجوا من تحت عباءته، فملأت سيرته وسيرتهم الآفاق، وأحدثوا ثورة فكرية في طروحاتهم وآرائهم، وجعلوا من طرابلس محط أنظار العالم وموضع تساؤلاته.  

   لقد جرت العادة في الماضي أن يطلق على العلماء، بالإضافة إلى أسمائهم كنية أو لقباً يعطي فكرة عن شخصيتهم، ودورهم العلمي والروحي، ويضفي على أسمائهم صفة علمية وهالة. إلاّ أن الشيخ حسين بن أبي الأحوال محمد الجسر لم يكن له هذا اللقب، لأنه كان لا يحب ذلك تواضعاً. ولكننا عندما نقرأ سيرته رحمه الله، ونقرأ من خلالها ما قام به من دور متفرد، فإن أفضل لقب من الممكن أن يعطى له هو “الأستاذ” وخصوصاً عندما نرى كم العلماء الذين خرجهم وأهلهم، وندرك دورهم الريادي والتنويري علمياً واجتماعياً، والذي تخطى مدينة طرابلس ليصل إلى أرجاء العالم. في الوقت الذي أصبح فيه الأستاذ الشيخ حسين الجسر حديث الناس، والمنتديات الفكرية والإصلاحية، لا في زمانه فقط، بل امتد ذلك حتى وقتنا الراهن لأن ما طرحه هو وتلامذته من بعده ما زال حديث الساعة، ولم تتخطه الأقلام بعد.  

   لم يكن الأستاذ الشيخ حسين الجسر رحمه الله بالرجل العادي من أبناء هذه المدينة. فقد كان شخصية فذة متفردة ملأت أخبارها الآفاق، وغدت حديث العلماء العرب والمسلمين، والمثقفين المتنورين في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. كان رحمه الله جذوة لم يخب نورها يوماً، بل ما زال يزداد توهجها إلى يومنا هذا. فنجد أن هناك عشرات الكتب التي تناولت سيرته، بالإضافة إلى مئات المقالات. وليس في الوطن العربي والإسلامي فقط، بل وحتى في العالم الغربي، حيث نال اهتماماً كبيراً من الدارسين والمستشرقين والمثقفين ورجال الفكر، قد يكون أكثر مما ناله حتى في وطنه وخصوصاً في بلده طرابلس…!.  

   فالأستاذ الشيخ حسين الجسر واحد من بين أهم شخصيات التنوير والإصلاح في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين. فرض وجوده على صفحات التاريخ من خلال فكره المستنير، وقلمه، وكلمته الحرة التي كانت تستشف المستقبل في الدرجة الأولى، وأساليب التعاطي معه. ومن خلال تلاميذه الذين خرجوا من تحت عباءته، فملأت سيرته وسيرتهم الآفاق، وأحدثوا ثورة فكرية في طروحاتهم وآرائهم، وجعلوا من طرابلس محط أنظار العالم وموضع تساؤلاته. 

   وكم هو محزن فعلاً أن تكون شخصية على هذا القدر من الاعتبار والاحترام في كل مكان من العالم المتحضر، وبالأخص لدى المثقفين والجامعيين المهتمين بالتحولات الفكرية والثقافية في العالمين العربي والاسلامي وتطورها، ما تزال سيرة حياته التي كتبها ابنه المرحوم الشيخ محمد يمن الجسر بعنوان “تاريخ حياة الشيخ حسين الجسر”، مخطوطة حبيسة الصفحات، ولم تطبع إلى اليوم ليطلع عليها المهتمون والدارسون. وأن تجد الناس في بلده يمرون على ذكره مرور الكرام، بل يكاد يكون مجهول التاريخ والأثر وسط أهله وبيئته..!.

   وحتى لا يكون الكلام جزافاً وعلى سبيل المثال، فإن الشيخ حسين رحمه الله، كان أول من أسس في بلده الذي أحب طرابلس، بل في لبنان كله، مدرسة وطنية إسلامية عربية حديثة منهجاً وأهدافاً، اهتمت بالعلوم الدنيوية، بالإضافة إلى العلوم الشرعية واللغات. ومع ذلك، ولسوء الحظ، لا نجد على امتداد الوطن مدرسة واحدة تحمل اسمه، ولا حتى في بلده ومدينته طرابلس. ولا نجد أيضاً منتدى ثقافياً واحداً، أو مركز أبحاث يتناول فكره وكتاباته ودوره…!.   

آل الجسر

   تعود أصول آل الجسر إلى مدينة دمياط في دلتا مصر، وينتسبون إلى أرومة أهل البيت الحسنية، كونهم فرع من آل الرفاعي المتحدرون من جدهم العارف بالله الشيخ أحمد الرفاعي الحسني (512-578هـ/1118-1182م). وكانت عائلتهم تعرف بآل المائي، وذلك نسبة إلى المهمة التي كانت مُلقاة على عاتقهم، وهي الإشراف على توزيع ماء نهر النيل على الأهالي والمزارعين. وقد تحول لقب المائي إلى الجسر فيما بعد حيث أنه كان للشيخ مصطفى الجسر الكبير ولدان؛ واحد بدين طويل، فأطلق عليه لقب الجسر لضخامته. وآخر نحيل، أطلق عليه العظمة لضعفه.

   وعلى ما أعتقد أن المقصود بلقب “الجسر” وهو الأرجح بالنسبة لي، ما يشكله شيخ الطريقة لمريديه من وسيلة عبور وانتقال إلى بر النجاة، أو الوصول إلى الحق والحقيقة، وعوالم الأنوار، لكونه الواسطة بالنسبة لهم. وهو ما نجد له أثراً في كتاب الشيخ حسين عن والده أبي الأحوال (ص30)، الذي كان من مريدي العالم الكبير القطب الشيخ أحمد الصاوي شيخ الطريقة الرفاعية، وذلك أيام مجاورته في الأزهر الشريف في القاهرة المعزية. ففي إحدى الجلسات، وفي ساعة تجل وكشف من الشيخ الصاوي، وقبل ورود خبر وفاة الشيخ مصطفى الجسر والد أبي الأحوال، قال الشيخ الصاوي للحاضرين من مريديه: اسمعونا الفاتحة عن روح الشيخ مصطفى الجسر..!.

   فأخذ أبو الأحوال بالبكاء الشديد، والشيخ الصاوي يعزيه، ويضرب على ظهره قائلاً له: “أنت جسر بإذن الله.. أنت جسر بإذن الله…”. ومما يؤكد ما ذهبت إليه ويدعمه، هو ما نجده في قصيدة رثاء الشيخ سالم الدجاني في أبي الأحوال، حيث يصفه بجسر الولاية والمريدين، فيقول في أحد أبياتها:

سليلُ خيرِ الورى جسرُ الوَلا فلقد         همى نَداهُ كمُزن الغيثِ إن قيسا..  

القطب الشيخ محمد الجسر الكبير ومولد الشيخ حسين

   يقف رجل بعمامة بيضاء وجبة عادية، في يده عصا وسط السوق، وينادي بأعلى صوته في المارة وأصحاب المحلات: ساعدوا فلاناً ابن فلان، أخيكم في الله، فهو مجهد..! فلا يمر المساء إلاّ ويكون من سمعوا نداءه من المقتدرين وأهل الخير، والذين وصلهم الخبر عبر الهواتف البشرية من أبناء المدينة، إلاّ وقاموا بما يلزم لذلك الرجل، دون سين ولا جيم.. ومن دون أن يكونوا يعرفون فلاناً هذا، أو حاله وأوضاعه…!.

   فذاك الرجل الذي لبى الناس نداءه مسرعين، كانت له سطوة على الكبار من أغوات وبشوات وأفندية، وله رهبة في القلوب، ويخاف الناس دعاءه، أو حتى نظراته. هو عالم طرابلس وقطبها الرباني المعروف بـ “أبي الأحوال”، الشيخ محمد الجسر الكبير، صاحب الكشوفات والكرامات، حبيب الفقراء وجميع أهل المدينة. والذي كانت كلمته مسموعة ومطاعة ليس من قبل مريديه فقط، بل من كل الطرابلسيين وبالأخص علية القوم الذين كانوا يخافون من كلمة واحدة تصدر منه بحقهم، فتضيع هيبتهم، ويخسرون احترامهم ومكانتهم، أو أن يدعو على أحدهم، فيصبح بعدها عبرة لمن اعتبر.

   إنه أبو الأحوال الذي فرّ من طرابلس خلال حكم المصريين لبلاد الشام إلى قبرص بعدما اتهموه بمعارضتهم، والثورة عليهم وتأليب الناس، والوفاء للباب العالي، وتشكيل وفد من أعيان طرابلس يزور اسطنبول ويطالب المسؤولين فيها بسرعة الانقضاض على المصريين، وتخليص بلدهم منهم. فمكث في قبرص بعض الوقت، ثم غادرها إلى اسطنبول حيث مكث فيها مدة تزوج فيها من امرأة عاد معها إلى طرابلس بعد زوال سيطرة المصريين عليها. وذلك في عام 1257هـ/1842م، فأنجبت له بعد فترة وجيزة أبناً أسماه حسيناً.  

   ويشاء القدر أن يتوفى الله أبا الأحوال في نفس العام الذي ولد فيه ابنه، وذلك في أثناء تجواله في فلسطين لزيارة أتباعه ومريديه، وللتعبد في ثاني القبلتين وثالث الحرمين. فدفن في مدينة اللد الفلسطينية. وترك ابنه يتيماً وهو في الشهر العاشر من عمره. فكفله عمه الشيخ مصطفى، وقام بكل ما يلزم تجاهه تربية وتعليماً وتأديباً. ويشاء القدر أيضاً أن يتوفى الله من بعدها أمه بفترة، أي عندما كان في العاشرة من عمره، ليصبح يتيم الأبوين.

نشأته وشبابه

   ولد الأستاذ الشيخ حسين بن محمد بن مصطفى الجسر في طرابلس الفيحاء حي الحدادين عام 1261هـ/1845م، ونشأ يتيماً في حضن عمه. ولكن والده كان حاضراً في كل تفاصيل حياته، لكون والده المدعو بأبي الأحوال، كان حديث المدينة، والمريدين من أهل الطريق، بل حديث كل بلاد الشام في حينها. فكان هاجس التفكير في والده لا يبارحه، ومسكون داخله بأسئلة كثيرة حوله. فأخذ ومنذ مطلع شبابه يجمع الأخبار التي كانت تحكى، ويسمعها عن والده في كشكول. ويسعى في السؤال عن كل كبيرة وصغيرة قيلت في والده، ثم يتأكد من كل ما يُقال أو سمعه، فيجعله بين دفتي كشكوله. ولهذا نجد أن أول كتاب ألفه، كان عن حياة والده رحمه الله، وقد أسماه “نزهة الفكر في مناقب مولانا العارف بالله تعالى قطب زمانه وغوث أوانه الشيخ محمد الجسر.

   كانت نشأة الشيخ حسين رحمه الله وسط العلماء من كل صوب، وحيثما اتجه. وفي أي حي من أحياء بلده طرابلس ولى وجهه فيه، وجد عالماً ومدرسة إن لم يكن أكثر تُشرع أبوابها لاستقبال طلاب العلم، وأهل الله. لقد كانت المدينة تعج بالعلماء على مختلف مشاربهم ومستوياتهم. وحتى رجال الطريق المتصوفة في أيامها، كانوا من حملة العلم والحفظة لكتاب الله الكريم، ولم يكونوا من الجهال أصحاب الهزهزة والرقص كما قد يخطر على بال البعض. حيث كان شيوخ الطريق لا يقبلون بالمريد إن لم يكن خلوقاً، متقناً لقراءة القرآن الكريم، وعلى معرفة بالحلال والحرام، وعلى درجة من العلم ولو كانت محدودة ببعض العلوم من حديث، وفقه، وتفسير الخ…

   تلقى الأستاذ الشيخ حسين رحمه الله علومه في طرابلس على كبار علماء المدينة حينها، فكان من بين أساتذته وشيوخه فيها بالإضافة إلى عمه الشيخ مصطفى رحمه الله الذي كان له أثره الكبير عليه علماً وخلقاً، كلاً من:

   – الشيخ الحافظ أحمد عبد الجليل، الذي قرأ على يديه القرآن الكريم وحفظه.

   – صهره الشيخ عبد القادر الرافعي.

   – صهره الشيخ عبد الرزاق الرافعي.

   – الشيخ أحمد أعراب أو عرابي، أحد مشاهير العلماء في طرابلس.

   – الشيخ محمود نشابة، شيخ الشيوخ وأعلم علماء طرابلس حينها.

   وقد نبغ رحمه الله فيما تلقاه من علوم ومعارف وهو ما زال دون السابعة عشرة من عمره، فأخذ يستعد للذهاب إلى الأزهر الشريف قبلة طلبة العلم ومبتغاهم.  

السفر إلى الأزهر الشريف

   في عام 1279هـ/1863م عزم الشيخ حسين على السفر إلى القاهرة المُعزية لإكمال علومه في أزهرها الشريف. فكان أن أقام في بيروت عدة أيام في ضيافة مفتيها حينئذ الشيخ محمد أفندي الطرابلسي، الذي كان تلميذاً ومريداً لوالده أبي الأحوال. وكان من حسن حظه أن التقى في بيت المفتي بالمتصرف الذي نصحه بالاهتمام والتعمق في العلوم العقلية والفلسفية، وبالأخص علم الكلام. لكونها العلوم التي يحتاجها العلماء في دفع حجج المضللين والمشككين في الدين، وفي تثبيت دعائم الدين الحنيف.

   لم تكن هذه المقابلة بالمتصرف عابرة، بل كان لها أثرها الكبير في نفسه، وشكلت نصيحته توجهاً وهدفاً. وأصبحت بالنسبة له مشروعاً نما وكبر في داخله، حتى غدا سمة غالية في تآليفه وكتاباته فيما بعد، وكذلك في خياراته لطبيعة ونوعية مدرسيه في الأزهر الشريف. فنلاحظ أنه عندما وصل الشيخ حسين إلى القاهرة أخذ يدور على حلقات العلم والعلماء في بداية أمره، ثم ما لبث أن استقر في حلقة من وجد فيهم ما يعزز مشروعه، ويفيده مستقبلاً فيما انزرع في عقله وقلبه.

   فنجد أنه وقع اختياره على ثلة من علماء الأزهر الشريف في مقدمتهم العلامة الشيخ حسين المرصفي (1230-1306هـ/1815-1889م)، الذي كان يقوم بتدريس علم الكلام، بالإضافة إلى “مقدمة ابن خلدون” فلازمه واستمع إلى دروسه بحب وشغف. فكان لذلك تأثير كبير على مجمل أفكاره، مما منحه رحمه الله الأدوات الفكرية اللازمة لنقد النصوص غير المطابقة للعقل، ولتحليل آفات المجتمع وأمراضه وفهمها، وامعان النظر فيما يدور حوله من تصرفات بشرية. وأيضاً في بنية الحجج المعتمدة على المشاهدة والتسلسل العقلي المنطقي. وتشبع في الوقت نفسه بكل ما كان يدور على لسان شيخه العلامة حسين المرصفي في أثناء شروحاته من مصطلحات علمية وفلسفية فكرية حديثة.

   وكان ممن تتلمذ الأستاذ الشيخ حسين رحمه الله على أيديهم أيضاً خلال رحلته العلمية إلى الأزهر الشريف من كبار علماء الأزهر في حينها، ونال إجازاتهم بالإضافة إلى الشيخ حسين المرصفي كلاً من:

   – الشيخ سليمان الخاني (…/…).

   – الشيخ عبد القادر الرافعي الطرابلسي الكبير، شيخ رواق الشوام، وأحد كبار علماء الأزهر ومفتي الديار المصرية (1248-1322هـ/1832-1905م).

   – الشيخ عبد الرحمن البحراوي (1235-1322هـ/1819-1904م).

   – الشيخ حسين منقارة الطرابلسي (…-1319هـ/…-1902م).

   – الشيخ مصطفى لمبلط (…-1284هـ/…-1867م).

العودة إلى طرابلس

   كان في نية الأستاذ الشيخ حسين البقاء في الأزهر عشرين عاماً يشبع خلالها حبه ونهمه للعلم. ولكن بعد انقضاء أربع سنوات ونصف السنة انقطع فيها للدراسة، ولم يزر فيها بلده وأهله، اضطر للعودة إلى بلده بعدما وصلته في 9 ربيع الأول سنة 1284هـ/11 تموز 1867م رسالة من أحد مريدي والده وعمه ويدعى الحاج محمد القرق، يخبره فيها، بضرورة عودته دون تأخير، بسبب مرض عمه الذي طال أمده، واستحكم في جسده منذ ستة أشهر، وأن المرض ما برح يشتد عليه ويزداد يوماً بعد يوم، ومما ورد فيها:

   “… كما يعلم الله تعالى أنه كان مرادنا نحضر لعندكم مخصوص لأجل إحضاركم لهذا الطرف، ولكن بسبب مرض عمكم فما مكنا المذكور أن نسافر. وأيضاً في طول هذه المدة ما سافرنا قط إلى محل يكون معلومكم. فلا تحوجونا للحضور لطرفكم. وكذلك جميع أهل البلد تعجب من عدم حضوركم. وهذا ما هو حق التربية. ولا تظنوا أرسلت الكتاب برأي عمكم حيث المذكور ما بقي يحرر لكم كتب بهذا الخصوص..”. 

   وصلت الرسالة إلى الأستاذ الشيخ حسين، فأدرك أن السفر أصبح محتماً لا محالة، فأخذ بجمع أغراضه، وبإعداد العدة للسفر. وما هي إلا عدة أسابيع حتى عاد رحمه الله إلى مسقط رأسه طرابلس. وتوفي عمه بعد وصوله إليها بفترة وجيزة. فتحمل الأستاذ الشيخ حسين بعد ذلك أعباء العائلة المعيشية، بالإضافة إلى الأعباء الروحية من ناحية إدارة الطريقة الخلوتية، حيث خلف عمه وأباه في إدارة حلقات الذكر، ومتابعة أحوال المريدين في داره، وفي المدرسة الرجبية التي كانت مقراً للطريقة.

   بدأ الأستاذ الشيخ حسين يقوم بمهامه الدعوية التربوية، فكانت له حلقة عامرة في المسجد المنصوري الكبير للعامة، وحلقات أخرى في غيره من مساجد المدينة ومدارسها، وحيثما تواجد، دون كلل أو ملل. فالتف حوله طلاب العلم من كل حدب وصوب. فجلس رحمه الله على هذه الحالة قرابة عشر سنوات قضاها ما بين تعليم، ومطالعة، ودروس توجيهية تعليمية للعامة، وإقامة الواجب في إحياء حلقات الذكر.

المدرسة الوطنية أول مدرسة وطنية حديثة في لبنان

   بدأت رياح الإصلاح السياسي تهب على أبواب الباب العالي، وبدأت الدعوات الإصلاحية تعلو وترتفع، وتجد لها بين الرعية والعلماء والقادة أصواتاً مؤيدة. وظهر إلى العلن دستور جديد يحدد بعض سلطات الخليفة، ويحدث أجهزة الدولة ومؤسساتها. إلاّ أنه سريعاً ما ألغي وذلك في عام 1292هـ/1876م.

   وفي ظل هذه الأجواء التي توصف بالانفتاح والإصلاح، افتتح الأستاذ الشيخ حسين الجسر أول مدرسة وطنية حديثة معاصرة في طرابلس الفيحاء، وذلك في عام 1297هـ/1880م، أسماها “المدرسة الوطنية”. وكانت فكرة إنشاء مدرسة عصرية تراوده منذ زمن طويل، وتحديداً منذ أن تولّد لديه شعور بأن مدارس الإرساليات والمدارس الأجنبية بدأت تغزو بلاد المسلمين. وقد حظيت مدرسته بتأييد من المصلحين مدحت باشا وحمدي باشا، ولاقت أيضاً إقبالاً كبيراً لتميزها من ناحية المناهج، ولسمعته العلمية والأخلاقية، وثقة الأهالي فيه شخصياً.

   وقد شهدت هذه المدرسة إقبالاً كبيراً من الطلاب، حيث كانت تدرس العلوم الحديثة من جغرافيا، وهندسة، وحساب، وقانون عثماني، ولغة تركية وفرنسية. بالإضافة إلى علوم اللغة العربية المختلفة من نحو وصرف، وبديع، وبيان، وعروض، وأدب. وكذلك العلوم الدينية من أصول، وفقه، وحديث، وتفسير، وعلم كلام، ومنطق، إلى جانب مواد أخرى.

   إلاّ أنها وبعد مضي تسعة أشهر على افتتاحها اضطر الأستاذ الجسر إلى إقفالها بسبب تراجع رياح الإصلاح في الدولة العثمانية وإداراتها عامة، وذلك بعد تعليق الدستور. وبسبب وشايات الأعداء والحساد على السواء، والذين قد يكون من ضمنهم، القناصل والسفراء، والسياسيين، والمتنفذين من رجالات المدينة. بالإضافة إلى سبب آخر وهو عدم اعتبارها من ضمن المدارس الدينية، التي كان يتم إعفاء طلابها من الخدمة العسكرية.

   لقد كانت آمال المرحوم الأستاذ الشيخ حسين الجسر كبيرة من خلال هذه المدرسة التي كانت في حينها تعتبر مدرسة طليعية بامتياز. وشكلت حدثاً مهماً في تاريخ مدينة طرابلس والوطن، كونها أول مدرسة وطنية حديثة عربية إسلامية في لبنان. وكان يهدف من وراء مدرسته هذه إلى عدة أمور نذكر منها بإيجاز:

   1- إحداث تغيير جذري في المجتمع، ورفع مستواه، وذلك بتخريج كم من العلماء القادة المصلحين، ذوي الرؤية المستقبلية لكل ما يدور حولهم. وهو ما نجح فيه إلى حد بعيد إذا ما تأملنا أسماء وأعداد العلماء الرواد المصلحين الذين انتسبوا إلى هذه المدرسة، ومن ثم تابعوا تلقي العلم على يديه بعد إقفالها.

   2- إعداد علماء عارفين في العلوم الدينية والدنيوية. حيث كان ببصيرته يدرك حركة تطور المجتمعات، وما هي مقدمة عليه، وبالأخص المجتمعات الاسلامية. وأن الآية القرآنية “ولا تنسى نصيبك من الدنيا” لا تقتصر على المنافع والماديات ومتع الحياة، بل هي عامة وتشمل العلوم والمعارف أيضاً.

   3- إعداد شباب يكونون قادرين على تولي المناصب المدنية والإدارية في أجهزة الدولة. وهو بالتالي يبعد هذه المناصب والمسؤوليات المترتبة عليها عن الذين لا يخافون الله، وعن أصحاب الرذائل، والرشوة، والانحراف عن الحق.

   4- تخريج عدد كبير من شباب المدينة، لا يكون لديهم عقد نقص أمام طلاب مدارس الارساليات الذين كانوا يتقنون اللغات الأجنبية والعلوم الحديثة. فتجد أن أحد تلاميذ مدرسته وهو المرحوم الشيخ عبد الكريم عويضة، وبعد أن أمضى عدة أشهر في الدراسة فيها، يمتحنه طلاب من مدرسة بكفتين في اللغة العربية والفرنسية فيتفوق عليهم ويبهرهم.

   ويتضح ذلك أيضاً وبشكل أفضل من خلال إشادة المرحوم الشيخ محمد رشيد رضا فيها وما قاله عنها: “وكان أستاذنا العلامة الشيخ حسين الجسر الأزهري هو المدير لها بعد أن كان هو الذي سعى لتأسيسها، لأن رأيه أن الأمة الإسلامية لا تصلح وترقى إلا بالجمع بين علوم الدين وعلوم الدنيا على الطريقة العصرية الأوروبية مع التربية الاسلامية الوطنية تجاه التربية الأجنبية في مدارس الدول الأوروبية والاميركانية…”.    

الإنتقال إلى بيروت

   بعد أن تهاوى حلمه الطرابلسي رحمه الله، استجاب لدعوة وجهت له من قبل أعضاء جمعية المقاصد الخيرية بالحضور إلى بيروت لكي يدير المدرسة السلطانية التي قاموا بإنشائها. وكان في ذلك تعويض له غير مباشر بعد إقفال مدرسته في طرابلس. ونستطيع اعتبار هذه المرحلة البيروتية في حياة الأستاذ الشيخ حسين الجسر عبارة عن استراحة محارب، ومحطة انطلاق للبدء في مشروعه العلمي التأليفي. وكانت أيضاً فرصة كبيرة بالنسبة له للاطلاع على النظريات الفلسفية، والأفكار السياسية التي كانت شغل الناس الشاغل في حينها، وآخر المكتشفات في العلوم الحديثة. فقد وجد في مكتبة الكلية الانجيلية السورية ضالته التي كان يبحث عنها، ولم تكن متوفرة له في طرابلس. فكان يكثر من التردد عليها، ويمضي جل وقته فيها.

   وفي بيروت سنحت له فرصة مهمة أخرى، وهي اللقاء بالإمام الشيخ محمد عبده (1266-1323هـ/1849-1905م) الذي كان يُلقي في المدرسة دروساً ومحاضرات، وجرت بينهما نقاشات كثيرة ظهر أثرها فيما بعد على مؤلفه “الرسالة الحميدية”. والتقى كذلك بالشيخ ابراهيم الأحدب (1240-1308هـ/1824-1891م) صاحب كتاب “مجمع الأمثال” الذي كان يدرس فيها، وبالشيخ أحمد عباس الأزهري (1269-1344هـ/1853-1926م)، الذي كان مدرساً وناظراً فيها.

العودة إلى طرابلس وافتتاح المدرسة الرجبية

   بعد أن أمضى في عمله ببيروت قرابة السنة، عاد الأستاذ الشيخ حسين الجسر إلى طرابلس، وذلك في عام 1330هـ/1883م، ليزاول نشاطه من جديد وبهمة وعزيمة أقوى من قبل، فكان يتنقل بين مساجد المدينة. جاعلاً من المسجد المنصوري الكبير محطته الرئيسة في دروسه العامة لأهالي المدينة، وعامة طلبة العلم الذين كانوا يأتون لحضور دروسه من مختلف المناطق. وأما دروسه الخاصة، أو العالية إن صح التعبير، فقد كان يلقيها في المدرسة الرجبية التي أسسها في رجب من عام 1093هـ/1682م الشيخ رجب بن يوسف اللبابيدي الذي كان حينها إماماً وخطيباً في جامع قلعة طرابلس، والواقعة في منطقة الحدادين حي الدبابسة. وكان رحمه الله يُدرس فيها العلوم الإسلامية المختلفة من حديث، وتفسير، وفقه، وأصول، وعلم كلام، ومنطق، وعلوم العربية من نحو وصرف وبلاغة، وأدب، وعروض، الخ..

   وبعد قرابة خمس سنوات من العمل الدؤوب، دشن رحمه الله مرحلة جديدة من مراحل حياته تمثلت في ظهور أول كتبه، والخاص بسيرة والده أبي الأحوال، وذلك في عام 1305هـ/1888م، وقد أسماه “نزهة الفكر في مناقب مولانا الشيخ محمد الجسر”، ثم أتبعه بكتاب آخر وهو أهم وأشهر كتبه على الإطلاق والمسمى بـ “الرسالة الحميدية في حقيقة الديانة الإسلامية وحقيقة الشريعة المحمدية”. 

المدرسة الرجبية مركز إشعاع حضاري

   لقد شكلت المدرسة الرجبية علامة فارقة في تاريخ طرابلس. بل تخطى أثرها واشعاعها المدينة التي أنشئت فيها، لينتقل إلى الأمة عبر طلابها الذين تخرجوا منها، والذين كانوا يحملون راية الفكر الاصلاحي الديني والاجتماعي الذي انتقل إليهم عبر أستاذهم. ففيها على سبيل المثال تعلم الشيخ محمد رشيد رضا أهمية الصحافة ودورها وتأثيرها عندما أصدر صديقه وزميل دراسته الشيخ عبد الكريم عويضة في عام 1307هـ/1889م وبتوجيه من أستاذهما الشيخ حسين الجسر مجلة أسماها “روضة الآداب” والتي كانت تنتهج أسلوباً تعليمياً على طريقة السؤال والجواب. وتتم طباعتها على الستنسل (البالوظة) ومن ثم توزع على طلبة المدرسة، والمهتمين بدروس الشيخ حسين الجسر. وهي ثاني مجلة خرجت في طرابلس بعد مجلة “المباحث” التي أصدرها الكاتب والمؤرخ جورج يني.

   وفي هذه المدرسة أيضاً تشربوا جميعهم أسلوب النقاش والتعاطي مع الآخر، ودحض حجج المحرطقين والمشككين. وفيها تعلموا أيضاً مفهوم وحدة الأمة، وواجب المحافظة عليه، وأيضاً مفاهيم الإصلاح والتطور في أساليب الحكم والأنظمة. ولهذه الأسباب وغيرها كانت مدرسة تختلف عن كل المدارس الأخرى ومن كل النواحي. ويكفي أن نلقي نظرة على أسماء بعض طلابها الذين درسوا فيها لندرك مدى مساهمتها في الفكر الإصلاحي التنويري والحداثة على مستوى الأمة والوطن، والذي كان منهم:

   – الشيخ اسماعيل عبد الحميد الحافظ (1289-1358هـ/1873-1940م).

   – الشيخ روحي ياسين الخالدي (1280-1231هـ/1864-1913م).

   – الشيخ عبد الحميد الرافعي (1275-1350هـ/1864-1932م).

   – الشيخ عبد القادر المغربي (1283-1376هـ/1867-1956م).

   – الشيخ عبد الكريم عويضة (1282-1378هـ/1865-1958م).

   – الشيخ عبد المجيد المغربي (1283-1352هـ/1867-1934م).

   – الشيخ كاظم ميقاتي (1282-1379هـ/1865-1959م).

   – الشيخ محمد ابراهيم الحسيني (1270-1358هـ/1854-1940م).

   – الشيخ محمد أمين عز الدين (1290-1387هـ/1874-1968م).

   – الشيخ محمد رشيد رضا (1282-1354هـ/1865-1935م).

   – محمد كامل البحيري (1272-1338هـ/1856-1920م).

   – الشيخ محمد يمن الجسر (1298-1353هـ/1881-1934م).

   – الشيخ مصطفى وهيب بارودي (1290-1361هـ/1874-1943م).

   وقد بلغ عدد طلابها في حينها خمسة عشر طالباً، وهم الطلاب الذين كانت ترسل أسماؤهم في كشوفات خاصة ليتم إعفاؤهم من الخدمة العسكرية. إلاّ أن المدرسة كانت تغص بطلاب العلم الذين كان بعضهم موظفاً، وبعضهم الآخر يعمل في أعمال حرة. والذين كانت مواظبتهم تقتصر على حضور بعض الدروس والمواد دون أخرى بسبب ظروف عملهم. وكان يساعد الأستاذ الشيخ حسين رحمه الله في إدارتها وفي إلقاء بعض الدروس ابن أخته الشيخ صالح الرافعي. هذا إذا علمنا أن مريديه من أتباع الطريقة الخلوتية، كانت لهم حلقاتهم التعليمية الخاصة بهم، والتي كانت تعقد في المدرسة الرجبية أيضاً، وأن حلقات الذكر والتعبد كانت تتم فيها أيضاً.

   نداء من الأستاذ الشيخ حسين الجسر إلى الطرابلسيين: الحذر الحذر من التواني والسكوت عن الاسترحام في صوالحكم..![2].

بقلم الدكتور خالد بريش[3]

   كانت نهايات القرن التاسع عشر وكانت أيضاً بداية نمو المشاعر العروبية والقومية. في الوقت الذي أخذت فيه أفكار الإصلاح السياسي لنظام الحكم الذي كان قائماً، وللمجتمع بكل أطره، مساحة كبيرة في حياة المثقفين عامة، والمفكرين والعلماء ورجال الدين. وكانت طرابلس في تلك الفترة تعيش في صخب ثقافي وعلمي رائع بكل المقاييس. فقد كانت أشبه بالبركان المستعرة حممه. حيث كان يصدر فيها عدة صحف في آن معاً، تنطلق منها إلى مختلف بلاد العالم لتصل إلى أواسط آسيا وأقاصي الهند.

   وكان رجال الدين فيها أدباء وشعراء وطنيون عروبيون لا يشق لهم غبار، ملأت أخبارهم الآفاق، وعبرت أخبارهم البحار. وكان لكثير من المشايخ العلماء فيها آراؤهم ونظرتهم الخاصة حول قيادة الباب العالي للمسلمين، ولكنهم كانوا لا يشهرون ذلك على الأشهاد، حرصاً على وحدة الأمة، وحياء من الله الذي نهى عن فرقة الصف. ولكنهم كانوا يرون أنه لا بد من إصلاح قاع المركب، لكي لا يكبر الخرق، ويتسع الرقع على الراقع، وتغرق المركب بمن فيها..

   وكانت كلمة طرابلس تصل إلى الباب العالي من خلال علمائها المميزين وعلاقة بعضهم المباشرة في الباب العالي ودون المرور بالولاة. ومن خلال صحفها الذائعة الصيت، والداعية إلى الإصلاح بكل أبعاده، وقصائد شعرائها التي كانت تتناول الأوضاع وتحمل أنين أهلها. وطبعاً من خلال جواسيس الباب العالي المنتشرين في كل مكان. وكان كثير من وزراء الباب العالي ورجالاته ينظرون لهذه المدينة نظرة خاصة، ناهيك عن مكانة رجالاتها أيضاً، لكونها كانت أهم ثغر في ساحل بلاد الشام علماً وثقافة وفداء وتضحية.

   في مقدمة المصلحين الذين تعالت أصواتهم في تلك الفترة يأتي الأستاذ الشيخ حسين الجسر رحمه الله، الذي كان مسكوناً بهموم الأمة، وعلو قدرها ورفعتها، وتقدم مجتمعاتها ونهضتها، وكل ما يؤدي إلى عودتها أمة رائدة.. والذي عبر صوته الحدود لسببين أولهما كتابه “الرسالة الحميدية”، الذي اشتهر واعتبر من أهم الكتب في حينها. وثانيهما يعود إلى الجريدة التي كانت تحمل اسم طرابلس، وتحمل همومها، في نفس الوقت الذي تحمل فيه هموم الأمة، والدعوة إلى الاصلاح، والتي كان يرأس تحريرها تلميذه محمد كامل البحيري. بالإضافة إلى سبب آخر جد مهم، وهو صدق دعواه التي لم تكن من أجل منصب، ولا من أجل جاه. وعندما عرض عليه السلطان عبد الحميد الجاه والمنصب، اعتذر..! وفضل الابتعاد عن نار جهنم، أقصد المناصب، والبقاء في رحمه ومدينته التي أحب طرابلس مدرساً ومربياً ومنشئاً للأجيال.

   وعندما نتحدث عن الأستاذ الشيخ حسين بن أبي الأحوال رحمهما الله، فإننا نتحدث عن أحد العلماء الذين خرجوا جيلاً من المصلحين، وعالم كان يرى ببصيرته حالنا وأوضاعنا البائسة في هذه المدينة منذ أكثر من قرن. نتحدث عن هامة ومنارة علمية ووطنية بكل ما لذلك من معان وأبعاد، فلقد كان واحداً من أوائل الذين دعوا إلى العيش المشترك، والوحدة الوطنية، حتى من قبل الاستقلال، ومن قبل الدخول في متاهات الطائفية والمذهبية التي نعرفها اليوم. مما يؤكد وبلا فخر أن طرابلس هذه المدينة الولادة والمظلومة كانت مهد الوطنية والعيش المشترك وما تزال. وأنها بالرغم من التشويه الاعلامي والسياسي الذي ألصق بتاريخها وبأبنائها ستبقى هي: أم الولد… وحجر الزاوية، وأسّ هذا الوطن. وعلى عاتق رجالاتها وعلمائها، وبفضل إرادتهم بني هذا الوطن الذين يتنكر لهم فيه أناس لحقوا بالمركب مؤخراً وبعد رسوه، من أجل المنافع، دون أن يقدموا على ساحة التضحيات فيه حتى مجرد فتافيت خبز..

السفر إلى الباب العالي

   لم يكن الأستاذ الشيخ حسين كوالده الشيخ محمد أبي الأحوال كثير السفر والتجوال لزيارة المريدين، والأولياء الصالحين، وإخوة الطريق. بل كرس كل وقته وجهده للتعليم والتربية والكتابة والمطالعة. ولم يسافر أبعد من بعض المدن السورية للقاء بعض شيوخ الطريق وبيروت، بالإضافة إلى السفر لبيت الله الحرام أكثر من مرة، وكذلك إلى الباب العالي الذي قام بزيارته ثلاث مرات.

   كانت المرة الأولى بعد اشتهار كتابه “الرسالة الحميدية”، وانتشاره عبر الحدود ووصل إلى بلاد الهند، وأصبح حديث العامة والخاصة. ووصل أيضاً خبره إلى السلطان عبد الحميد الثاني (1258-1336هـ/1842-1918) الذي قرر دعوته لمقابلته. فكتب له السيد محمد ثريا بن مصطفى رئيس كتاب الحضرة السلطانية كتاباً مؤرخاً في 21 محرم 1309/26 آب 1891م، رسالة يدعوه فيها بأمر من السلطان لزيارة الآستانة وفيما يلي بعضاً مما جاء فيها:

“سعادتلو أفندم

   لما كان الشيخ حسين أفندي الجسر المقيم في طرابلس الشام من متبحري العلماء فقد رؤي من الجانب العالي أن يأتي إلى دار السعادة مدة سنة ليشتغل ببعض التآليف ولما كانت قد قضت إرادة حضرة صاحب الخلافة العالية تبشير الأفندي المومى اليه بالسلام السلطاني الموسوم بالسعادة وتبليغه إمكان إحضاره حرمه معه إذا أراد ذلك لأنه سيبقى هنا مقدار سنة..

   فلبى رحمه الله الدعوة، وسافر مع أهله، وأقام هناك تسعة أشهر، قابل خلالها السلطان الذي احتفى به وأكرمه. والتقى أيضاً بكبار المسؤولين حينها، وبعدد كبير من العلماء. وقضى معظم وقته مشتغلاً بالتآليف، فكتب خلالها كتابه المسمى بـ “الحصون الحميدية للمحافظة على العقائد الإسلامية”. وعندما قرر العودة في عام 1310هـ/1893م، منحه السلطان عبد الحميد وساماً، ورتبة علمية، وعرض عليه السلطان البقاء في الآستانة على أن يكون مدرساً في إحدى مدارسها الكبرى. فاعتذر رحمه الله مفضلاً العودة إلى طرابلس. إلا أنه اغتنم الفرصة، واستحصل على ترخيص لجريدة تصدر في طرابلس، باسم تلميذه المرحوم محمد كامل البحيري.

   أما المرة الثانية فكانت في عام 1312هـ/1894م حيث كان رحمه الله في رحلة الحج إلى البيت العتيق، وبمجرد وصوله من الحج، وجد عند والي بيروت رسالة تدعوه للمثول بأسرع وقت بين يدي السلطان عبد الحميد. وكان ابنه الشيخ محمد قد وصل لتوه من طرابلس للقاء أبيه في بيروت، فاصطحبه معه إلى الآستانة، وسافر برفقتهما في هذه الرحلة الشيخ صالح الميقاتي. ونزلوا جميعاً في “مالطا كوجك”، وهو قصر صغير للضيوف، أو فيلا داخل أسوار قصر يلدز. وقد التقى خلالها بالسلطان الذي كلفه بوضع برامج لتعليم الدين الاسلامي في المدارس السلطانية التي انتشرت في تلك الفترة في البلاد والمدن.

   أما المرة الثالثة فكانت في عام 1320هـ/1902م وبعدما وصلت السلطان أخبار عدة مقالات كتبها الأستاذ الشيخ حسين حول متاعب الحجاج لبيت الله الحرام ووعورة الطريق، وما يلاقونه من وعثاء السفر، ودعوته المتكررة إلى إنشاء خطوط للسكة الحديدية تربط مدن دولة الخلافة ببعضها، وتنعش وضعها الاقتصادي. وقد طلب منه السلطان في هذا اللقاء كتابة تقرير عما يلاقيه الحجاج في حجهم. وهو ما نفذه رحمه الله، فقام برحلة إلى الديار المقدسة عام 1321هـ/1903م، خصصها لهذا الغرض، وزار خلالها مصر، وقابل الخديوي عباس حلمي باشا.          

الشيخ حسين الإنسان

   كان رحمه الله على أخلاق عالية، شديد الحساسية. يعتبر أن رضى الله هو الأساس في كل التعاملات والتصرفات. فكان يخاف أن يُمس دينه أو خلقه وكرامته بأي دنس مهما كان نوعه. ويعتبر أن المناصب من الفخفخة الزائلة في الحياة، وأنه يجب إعداد العدة للموت الذي هو أقرب إلى المرء من حبل الوريد. واتخذ أيضاً موقفاً حيادياً من الصراعات التي كانت دائرة، أو دارت حينها في أروقة الدولة. مدركاً في الوقت نفسه ان إرضاء الخلق غاية لا تدرك، وأن موافقة الخلق في مسالكهم يعني بالنسبة له سلوك طريق الضلال التي قد لا ترضي الله سبحانه.  

   وكان رحمه الله كريماً، محباً لعمل الخير ولا يتوانى عن تقديمه أو القيام به. فقام في عام 1293هـ/1876م، بتنظيم حملة جمع فيها تبرعات للمعوزين والمحتاجين. وكان يفتح بيته طيلة شهر رمضان للفقراء والمساكين. فيُحضّر لهم الطعام، ويأكل معهم بحب وتواضع جلوساً على طبليات صغيرة. ومما يذكر في هذا الصدد أن ابنه الشيخ محمد يمن جلس للطعام يوماً، وجلس إلى جانبه فقير بثياب رثة، فحاول الشيخ محمد تغيير مكانه خلسة، فتنبه له الشيخ حسين رحمه الله، فنهره غاضباً، آمراً، قائلاً له: لعل ذلك الرجل عند الله أفضل منك، فابق جالساً في مكانك..!.

   وبالرغم من كونه متصوفاً يعيش في حالة عبودية للخالق يتلذذ فيها، ويعتبرها نعيماً لا يطاله إلا الخواص من عباده سبحانه. إلاّ أنه كان رحمه الله من ناحية أخرى باحثاً عن حريته بالابتعاد عن الوظائف أياً كان وضعها. باذلاً وسعه في الابتعاد أيضاً عن اللاعبين بالسياسة، وأصحاب المناصب على أنواعها، ليكون مالكاً لحريته بشكل كامل. حتى إنه رفض منصب الإفتاء الذي عرض عليه تعففاً وورعاً. ورفض كما أشرنا سابقاً أن يكون من علماء قصر السلطان، أو من المدرسين في مدارس اسطنبول. وذلك ليبقى يطل على الجميع من برجه العلمي، وعليائه التي وهبه الله إياها في محكم قوله تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات).

   وكان رحمه الله من خلال صحيفته يُصوّب بوصلتهم، ويحدد لهم جميعاً الطريق. حذراً غاية الحذر في كل تصرفاته، وفي كل كلمة يقولها. لا يخاف شيئاً أكثر مما يخاف حصائد الألسنة. فكان لسانه كثير الذكر، والشكر، والحمد لله، ولفضائله. وصفه تلميذه عبد القادر المغربي فقال عنه: “كان مُصلحاً ديناً دقيق النظر، لكنه مع هذا بقي طول حياته محافظاً شديد الحذر”. وهذا الحذر الذي ينتقده بسببه تلميذه، نستطيع اعتباره حذراً مسؤولاً، من عالم كان كل همه وحدة الأمة، ووحدة كلمتها. وعدم إحداث بلبلة فكرية أو عقائدية بين أفراد مجتمعه الصغير وعلى مستوى الأمة.  

   وتظهر إنسانيته وبعضاً من أخلاقياته بوضوح أكثر من خلال ما نظمه رحمه الله في أبيه حيث يقول:

يُتِمْتُ منكَ ولكن من رِضاكَ          تقواكَ لاقيتُ يُتْمَ الدُّرِّ مع صِغري

من يَتقِ الله يهْنأ بالبنين كما          قد جاءَ ذلك في أي من السُّوَرِ

رُبيتُ في نِعمةٍ أرجو الإله لها        شُكراً وأرجوهُ نُعْماهُ مدى العُمْرِ

وأرْتجي منه تنويرَ الفؤادِ فذا          عينُ السعادةِ هذا مَطْمَحُ النظرِ

الشيخ حسين المتصوف

   كان الشيخ حسين رحمه الله بحكم تربيته والميراث العائلي، متصوفاً يُسخر جزءاً كبيراً من وقته للعبادة، ولأتباعه ومريديه. فيلقي عليهم دروساً خاصة بهم. ويقوم بإلباس خرقة الصوفية لمن يرى فيهم الأهلية، ويسلكهم في الطريقة الخلوتية التي كان شيخها في طرابلس ولبنان وبعض مدن بلاد الشام. فكان يأتيه المريدون من كل القرى والمدن من أجل خلوتهم عنده، وتحت ناظريه، بحثاً عن صفاء أرواحهم التي تدنست بالدنيويات ومادياتها. وكان يقوم بالواجب أيضاً كما جرت العادة. والمقصود فيه حلقات الذكر في مواعيدها.

   ولم يكن التصوف بالنسبة له حالة سلبية تجاه المجتمع. بل هو حالة إصلاح تبدأ بداخل الفرد من خلال صفائه الروحي، ومن ثم سموه بفضل عباداته وأذكاره وعلمه. فيكون بالتالي تداخله واندماجه في المجتمع ذو تأثير إصلاحي كبير. لأنه سيكون المرآة التي يرى فيها أفراد المجتمع أنفسهم. وكان رحمه الله مؤمناً بالحقائق الصوفية التي ترتكز على وجود الأولياء الذين لا يخلو الكون منهم ولا البلاد. وكذلك كل ما يتبع هذه المنظومة من، قطب، وأئمة، وأوتاد، وأبدال. أوجدهم الباري سبحانه لحكمة أرادها ولتدبير لم يشرك فيه أحداً من خلقه سبحانه.

الشيخ حسين الجسر الإمام المجدد

   كانت غالب كتابات الشيخ حسين الصحفية تدعو إلى الاصلاح، وذات جانب تحريضي بالمفاهيم النضالية الحديثة، كونه كان لا يفوت فرصة في دعوة أفراد المجتمعات إلى النهوض، والتحرك، والمناداة بالحقوق، والإصلاح. وأما كتاباته الدينية، فقد احتل الجانب العقائدي وعلم الكلام فيها مساحة واسعة، بالإضافة إلى التربية والتعليم. فالتوحيد والوحدانية والايمان الصحيح بالنسبة له رحمه الله هي الأساس الذي تبنى عليه بقية المسائل، حياتية معيشية، أو فكرية، وما عدا ذلك قابل للنقاش…

   وفي الواقع ما كان ينقصه رحمه الله إلا الإدلاء ببعض الاجتهادات الفقهية، والخوض في علم التفسير، وأن يكون في مصر بدلاً من طرابلس ليكون مجتهد العصر، ومجدده بلا منازع. فكثيرون لا يدركون القيمة العلمية لما قام به من تجديد لعلم الكلام من حيث اللغة المستخدمة فيه، وأيضاً ترتيب الحجج العقلية المستخدمة، وما قام فيه من إدخال للنظريات الفلسفية الحديثة والرد عليها. ولا يدركون أيضاً عظم هذه المسؤولية ومشقة القيام بها. ولم يكن ذلك من خلال رسالته الحميدية فقط، بل كان في أكثر من كتاب ورسالة. وأن مقولة السيد جمال الدين الأفغاني فيه: “أشعري الزمان”، تعني الكثير. وتضع الأستاذ في المكان الذي يستحقه فعلاً كعالم وقف ضد التقليد في أهم شيء وهو العقيدة. مما يعني أن رفضه لذلك في العبادات والمعاملات تحصيل حاصل. دون أن نغفل تأكيده على دور العقل الذي هو مناط التكليف في حياة الانسان ومعتقده فقال: “لا يجوز لنا تقليد علماء الاسلام في أمر الاعتقاد من غير أن يظهروا لنا دليلاً عقلياً أو شرعياً”.   

   ولهذا نلاحظ خلو رسالته الحميدية من أي آية قرآنية، أي دليل نقلي. لأنه وعلى ما اعتقد بالإضافة إلى العقلانية التي أضفاها عليها، فإنه أراد أن يقرأها المسلم وغير المسلم، وكل ذي لب وعقل. بل نجد أنه يعتمد على نصوص من العهد القديم مما يعطيها بعداً آخر وهو التأكيد على وحدانية مصدر الأديان السماوية. مؤكداً في كل ما كتبه أن الشريعة يجب أن لا تتناقض مع العلوم والمكتشفات العلمية. وإن حدث ذلك فبسبب قصور عقول علماء الشريعة عن التحليل والتفسير، وليس لوجود عيب في الشريعة نفسها. فقال رحمه الله: “… وإذا كانت الاكتشافات العقلية: العلمية، تناقض ظاهرياً مع ما جاء في القرآن، فإن ذلك يعود إلى خطأ في تأويل نصوص الشريعة”.

   فالشيخ رحمه الله كانت له مدرسته الفكرية الخاصة به بعيداً عن مدرسة محمد عبده والأفغاني، وغيرهما من المصلحين في تلك الفترة. فهو كانت تتفاعل في داخله الروحانيات التي اكتسبها من الطريقة الخلوتية، بالإضافة إلى العقلانية التي تعتبر إحدى السمات الأساسية للمذهب الحنفي الذي كان عليه. بالإضافة إلى الانفتاح على الثقافات الأخرى، وعلى الأفكار القادمة من وراء الحدود، والتطلع إلى المدنية الحديثة القائمة على التربية والتعليم كأساس. وعلى منظومة سياسية تقوم على العدالة والقانون والمواطنة…

مؤلفاته

   ترك الأستاذ الشيخ حسين عدداً لا بأس به من الكتب تمت طباعة بعضها، بينما ما زال البعض الآخر مخطوطاً، يقبع في الخزائن ينتظر فرج الله للظهور من مكمنه

* مؤلفاته المطبوعة:

   1- الأدبيات. 2- إشارة الطاعة في صلاة الجماعة. 3- البدر التمام في مولد سيد الأنام. 4- تربية الأطفال سعادة النساء والرجال وعموم الشعب في المآل. 5- تربية المصونة. 6- تعدد الزوجات. 7- التوفير والاقتصاد. 8- الحصون الحميدية للمحافظة على العقائد الإسلامية. 9- حكمة الشعر. 10- الرسالة الحميدية في حقيقة الديانة الإسلامية وحقيقة الشريعة المحمدية. 11- رياض طرابلس الشام، وهو مجموعة لمقالاته نشرت في جريدة طرابلس، في عشرة أجزاء. 12- العلوم الحكمية في نظر الشريعة الإسلامية. 13- كلمات لغوية. 14- مهذب الدين. 15- نزهة الفكر في مناقب مولانا العارف بالله الشيخ محمد الجسر.  16- هدية الألباب في جواهر الآداب، أرجوزة في تعليم الأولاد.

* مؤلفاته المخطوطة:

   1- بنات الأفكار في كشف حقيقة الكيمياء ومشارق الأنوار. 2- خديجة وبثينة. 3- ديوان مجموع في الشعر يقع في 700 صفحة و1375 بيتاً. 4- الذخائر في الفلسفة الإسلامية. 5- ذخيرة الميعاد في فضائل الجهاد. 6- رسالة في آداب البحث والمناظرة. 7- رسالة في صدقة الفطر. 8- العقيدة الإسلامية والعقيدة النصرانية والمناظرة بينهما بالاستدلال من كتبهما. 9- القرآن الكريم وعدم اقتباسه شيئاً من التوراة والانجيل وعصمة الأنبياء. 10- الكوكب الدرية في العلوم الأدبية. 11- مجموعة من خطب الجمعة.

أولاد الشيخ حسين

   رزق الشيخ حسين بعدد لا بأس به من الأولاد، مات بعضهم في سن الرضاعة وآخرون وهم صغار السن، مما كان يسبب له اكتئاباً وحزناً. وقد رزق رحمه الله يوماً بمولود أسماه آدم برجاء أن يطول عمره تيمناً بآدم أبي البشر. ولكن قلبه لم يكن مطمئناً لذلك فكان قلقاً حائراً. فأدرك الشيخ عبد الكريم عويضة لقربه منه أمره، وسبب قلقه. فأنشأ قصيدة يطمئنه فيها من أنه سوف يعيش بإذن الله، ويطول عمره يقول في مطلعها:

هلال تبدى طالما رصدوه          وبدر المعالي في الأنام أبوه

   ولم يبق من أولاده حياً سوى ثلاثة ذكور وهم: الشيخ محمد يمن (1299-1353هـ/1881-1934م)، والذي تبوأ مناصب كثيرة في أيام الدولة العلية كان آخرها عضواً في مجلس المبعوثان، ثم أصبح رئيساً لمجلس النواب، وترشح لرئاسة الجمهورية اللبنانية بدعم من كل الطوائف، لكن المستعمر كانت له إرادة أخرى. وسوف نأتي على تفصيل ذلك في مقالة خاصة به إن شاء الله. والشيخ نديم (1315-1400هـ/1897-1980م)، مفتي طرابلس وعالمها، والذي بلغ من الشهرة حداً واسعاً لم يبلغها أحد من أقرانه. وعبد الرحمن الذي توفاه الله فتياً. وبنت واحدة أسماها فاطمة، وتزوجت من تلميذه الشيخ كامل الميقاتي (1286-1375هـ/1869-1955م).

الشيخ حسين وطلابه

   أمضى رحمه الله عمره في التعليم إن كان المدرسي في المدرستين اللتين أنشأهما، وفي المدرسة السلطانية في بيروت. أو الديني في مساجد ومدارس طرابلس. أو الروحي من خلال متابعته وتعليمه لمريديه من أتباع الطريقة الخلوتية التي كان يرأسها. وقد ترك تلامذة وأتباعاً منتشرين في كل بلاد الشام. أي لبنان وسوريا وفلسطين، حملوا فيما بعد راية الاصلاح بحق. وكان تلامذته وأتباعه يكنون له الاحترام، والاعجاب، ويقيمون معه علاقات ود تبلغ حد الطاعة. ومن ذلك ما نقرأه في تقريظ تلميذه ومريده السيد حسن محمد القرق لكتاب أستاذه الشيخ حسين عن أبيه المسمى “نزهة الفكر”، فيقول:

أتى به عالم همام               أحسن فيما أجاد وضعا

حسين فضل له صفات          يضيق عنها البليغ ذرعا

أكرم به سيد عظيم              إليه أهل العلوم تسعى

قد فرق الرشد في البرايا         فكانت للمكرمات جمعا

وأودع الخير في كتاب          حوى جميع الهدى فأوعى

   وسوف نتناول الحديث عن اثنين من طلابه اتخذ كل واحد منهما طريقاً ومنهجاً في الاصلاح مختلفاً عن الآخر. وكان لكل منهما موقف من أستاذه وهما: أبي المعالي الشيخ عبد الكريم عويضة، والمصلح الشيخ محمد رشيد رضا.

* الشيخ عبد الكريم عويضة:

   كان الشيخ عبد الكريم أقرب تلاميذه إليه، وأكثرهم التصاقاً به، وموضع ثقته وإعجابه. فكان يلبي طلباته دون تأخير، ويخدمه في بيته، ويشتري له أغراضه المنزلية، ويحملها بنفسه في مطلع شبابه إن دعت الحاجة إلى ذلك. وكان في نفس الوقت أكثر تلاميذه مدحاً له، حيث كتب فيه وفي أولاده عشرات القصائد، ورثاه في قصائد عديدة أيضاً. وكان يحبه حباً جماً حتى إنه إذا ما أتى على ذكره بعد وفاته، اغرورقت عيناه بالدموع وبكى. وكان من أمانيه يوماً لو أن خديه الأرض التي يطأها أستاذه بنعليه، حتى قال فيه يوماً:

يا ربّ إنْ كانت وفاتي قد دَنَتْ          فاجعلْ على حُبّ الحُسَين وفاتي

   وكان الشيخ عبد الكريم بمثابة السكرتير لشيخه الأستاذ الجسر، فكان يقوم بتبييض ما يكتبه الشيخ حسين بخطه الجميل المنمق. إذ كان الوحيد من بين طلابه الذي بمقدوره فكفكة رموز كتابة شيخه الجسر لغموضها، وسوء خطه. وعندما ألف الشيخ حسين كتاب “الذخائر”، والذي زادت مقدمته على مائة وخمسين صفحة من القطع الكبير، قام الشيخ عبد الكريم بتبييض كامل الكتاب، بل قام أيضاً بعمل جداول لكل الآيات القرآنية التي وردت في موضوع البعث صراحة، أو إشارة، أو دلالة، مشيراً إلى السور، والأجزاء، والأرباع، والأسطر، والصفحات. وكان أيضاً موضع أسرار شيخه ومستشاره في بعض الأمور. فعندما ضاقت الأحوال والظروف يوماً في الشيخ حسين وفكر في التجارة. أسر بذلك إلى تلميذه الشيخ عبد الكريم الذي كانت له في التجارة خبرة وباع طويل، حيث كانت له مع إخوته تجارة ناجحة في الصابون. فرد الشيخ عبد الكريم عليه:

   – إن الله لم يخلقك للتجارة وإنما خلقك للعلم.

   – فقال له: يا بني قال الفخر الرازي: إذا أخذ الانسان حظه من العلم، فعليه أن يستعمل نفسه، وكرامة ذاته، من أن يُنظر إليه بعين الاحتياج، والعوز. وإنه ليشق علي أن استعمل العلم أحبولة أصطاد بها أموال الناس…!.  

   – فقال له الشيخ عبد الكريم ساعتئذ: إني لأرجو الله أن يفتح عليك أبواب فضله، ويرزقك بهذه الرسالة الحميدية ما تقر به عيناك.

   وهو ما كان بعد ذلك، حيث فتح الله عليه بسببها واستدعى إلى لقاء السلطان في اسطنبول كما أسلفنا.

* الشيخ محمد رشيد رضا

   كان الشيخ محمد رشيد رضا شاباً يعيش مرحلة عنفوان الشباب التي غالباً ما تتداخل فيها المثل مع الثورة على التقاليد، والعادات، والواقع ورفضه.. مما يخلق نوعاً من التناقض مع المحيط، وبالأخص مع من هم أكبر سناً. فينتقدونهم على تحفظهم، ورصانتهم. ومن هنا نفهم العلاقة بينه وبين الشيخ حسين، وموقف كل منهما من الآخر. والذي هو في الحقيقة صراع بين جيلين. أو بالأحرى نظرة جيلين إلى بعضهما، واختلاف في الأعمار والخبرات، وبالتالي اختلاف في الأولويات وترتيبها لكل منهما، والنظرة إلى الأمور أيضاً…

   ويظهر ما نحن بصدده جلياً من خلال الحوار الذي وقع بينهما بعد تأليف الشيخ حسين للرسالة الحميدية حيث سأل تلميذه الشيخ رشيد رضا عن رأيه في الرسالة الحميدية..؟ فرد عليه قائلاً:

   – إن الحاجة إليها شديدة، ولم يسبق مولانا أحد إلى مثلها في الدفاع عن الإسلام، ولكن لي عليها أنكم توردون المسألة القطعية في العلم ككروية الأرض ودورانها بعبارة فرضية تدل على شككم فيها.

   – فقال له الشيخ حسين: أنت تعلم تعصب الجاهلين بهذه العلوم في بلادنا، فلا تترك لهم مجالاً للقيل والقال.

   – فرد عليه: اذا كان مثلكم في ثقة الأمة بدينه وعلمه لا يجرؤون على التصريح بالحقائق. فممن نرجو ذلك…؟.

   وعندما ظهرت جريدة المنار وانتقد فيها الشيخ رشيد رضا التصوف والمتصوفة، مع أنه متصوفاً، وسلك الطريق قبلها. وأن شيوخه في طرابلس كانوا من أهل الطريق كأبي المحاسن القاوقجي، والميقاتي، والجسر والرافعي… مما دعا الشيخ الجسر إلى الكتابة له قائلاً: “ظهر المنار بأنوار غريبة إلاّ أن أشعته مؤلفة من خيوط قوية كادت تذهب بالأبصار”.

   وإن كان من كلمة نختم بها علاقة الأستاذ الشيخ حسين بطلابه، ودوره في تنشئتهم، وتعليمهم أسس النظر في النصوص، ووزنها بميزان العقل، وإطلاق أرواحهم للسفر في عوالم الحرية، فإننا نختارها مما قاله فيه تلميذه العالم المصلح الشيخ عبد القادر المغربي:

   “إقتبست من شيخنا الجسر تعاليم فيها شيء من حرية النقد، وانطلاق الفكر. وقد تعلمنا ان النصوص الدينية الموروثة فيها الغث وفيها السمين وأن بينها ما هو غير صحيح ولا معقول ولا منطبق على القرآن ولا السنة النبوية الصحيحة، فيجب الانتباه إليه. والتنبيه عليه. والتحذير منه وتمييز غثه من سمينه. وحقه من باطله”.           

 

 

الشيخ حسين وأقرانه من العلماء

   كانت علاقة الشيخ حسين بأقرانه من العلماء علاقة احترام متبادل واعجاب. فقد كانت تصله رسائل من مختلف أنحاء العالم من علماء كبار يتبادل معهم وجهات النظر. أو يطلبون منه طرح قضية ما عبر مقالاته في جريدة طرابلس. أو تتضمن رسائلهم مديحاً له على ما يتناوله من مواضيع. أو حوت استمزاجاً لرأيه في قضية، أو في مسألة لم يجدوا لها حلاً. بالإضافة إلى رسائل علماء كانوا من أهل الطريق المتصوفة فكانوا يكتبون له أيضاً. وسوف نتناول علاقته بثلاثة من كبار علماء عصره، لعبوا دوراً مهماً في حياة الإسلام والمسلمين فكرياً وسياسياً.

   1- علاقته بالإمام محمد عبده:

   كان لقاء الشيخ حسين بالإمام محمد عبده (1266-1323هـ/1849-1905م)، لأول مرة في بيروت عندما أشرف الشيخ حسين على المدرسة السلطانية، وكان الإمام يلقي دروساً ومحاضرات. ودارت بينهما نقاشات كثيرة، ومعمقة. أسفرت بأن ألف الإمام محمد عبده فيما بعد كتابه “رسالة التوحيد” وألف الأستاذ الشيخ حسين كتابه “الرسالة الحميدية”، وكلا الكتابين في علم الكلام. ونلاحظ إن الشيخ محمد يمن بن الأستاذ حسين عندما سافر إلى الأزهر فإنه حضر محاضرات ودروس الشيخ محمد عبده بتوجيه من والده. وعندما سافر تلميذه أبو المعالي الشيخ عبد الكريم عويضة أرسل معه صندوقاً حوى نسخاً من كتابه “الرسالة الحميدية”، هدية للشيخ الإمام.

   إلاّ أن هذه العلاقة شابها شيء من العتب من قبل الإمام على الأستاذ الشيخ حسين، لكون الإمام قد لاحظ أن الأستاذ في مقالاته كثير التحفظ، وأقرب إلى السلبية في التعاطي مع الأمور السياسية. دون أن يراعي الإمام قضية مهمة وهي أنه كان في مصر تحت حكم الخديوي الذي كانت مصر في أيامه تنعم بانفتاح كبير، وبكثير من الحريات، لم تكن تنعم فيها طرابلس، التي كعادتها كانت الوشايات بين كبرائها على أشدها. وأيضاً ما قام فيه الولاة في لبنان بعد أحداث جبل لبنان سنة 1276هـ/1860م، حيث ضيقوا الخناق، وراقبوا كل شاردة وواردة. وحدوا من التدخل في الأمور السياسية، فكان الاضطهاد والاعتقال سيد الموقف…

   وقد أرسل له الإمام محمد عبده في عام 1302هـ/1885م، رسالة يعبر فيها عن حبه واحترامه له كعالم له سمعته ومكانته العلمية. مظهراً فيها تواضعه أمامه، ومضمناً إياها ما يتوخاه منه. قال في مطلعها: “لو أذن الله للأرواح أن تظهر بالأشباح لرأيتني اليوم بين يديك مؤدياً حق الإخلاص لديك”. موضحاً هدفه من رسالته: “وقد كنت أحب لو جلست إلى سيدي الأستاذ جلسة أفضى إليه فيها بشيء مما في نفسي لكن منعني عن ذلك من جهة شاغل…”. ثم يخبره عن بعض أمراض المجتمع التي يريد التباحث معه فيها، والتي قد تكون امتداداً لنقاشات قد حدثت بينهما في أثناء تواجد الإمام في بيروت، أو تكون بهدف تكوين حالة فكرية كان يجب أن يكون الأستاذ الجسر أحد داعميها فيقول: “ولكن أصبح المتلو لفظاً لا ينظر إلى معناه وأصبحت السير أرقاماً لا يلتفت إلى ما تهدي إليه…”.

   2- علاقته بالإمام الأفغاني:

   سمع السيد جمال الدين الأفغاني (1254-1314هـ/1838-1897م) بالأستاذ الشيخ حسين الجسر كثيراً، حتى إذا ما وصلت إلى يديه نسخة من كتابه “الرسالة الحميدية” قرأها، وأعجب بها ايما إعجاب، ونعت صاحبها بأشعري الزمان. إلاّ أنه عندما التقى به في دائرة الحج علي بك كبير القرناء سنة 1312هـ/1894م، أثناء زيارته الثانية إلى الآستانة، وكانت قد وصلته أعداد من جريدة طرابلس التي كان الأستاذ يصدرها، ويكتب فيها افتتاحيتها باسم مستعار، انتقده بشدة قائلاً:

   “ما هذا يا أستاذ..؟ إن جريدتكم جمعت بين الكفر والإيمان: أقرأ في صفحاتها الأولى الحض على الفضيلة والخير ومكارم الأخلاق، وفي باقي الصفحات ضروباً من التملق والنفاق. فاعتذر الأستاذ بالنيابة عن أصحاب الجريدة مؤكداً له أن الصحف لا تعيش إذا لم تتمشى إدارتها على هذه الطريقة من اللين والرفق وبعضاً من مجاملة الحكم. قال: فلم يقبل الأفغاني هذا العذر. وعندما رجاه أن يخفض صوته في الحديث كي لا يسمع من هم حولهم في الدائرة أن مثله يكتب في صحف الأخبار امتعض الأفغاني لأن الأستاذ يحاذر الانتساب إلى الصحافة قائلاً له: “الصحافة عمل شريف وأنا صحافي وكان لي في باريس جريدة أكتب فيها”.

 

   3- الشيخ حسين وأبو الهدى الصيادي

   أما علاقته بأبي الهدى الصيادي (1328-1266هـ/1849-1909م)، فقد كانت علاقة شابها الحذر من طرفه رحمه الله، لكونه كان يسمع الكثير عن ممالأته للسلطان ولرجالات الباب العالي. ويبدو أن الشيخ حسين لم يرتح له خلال لقاءاته المتكررة فيه أثناء زيارته الأولى للباب العالي. وكذلك لم يرتح للطريقة التي يدير بها الأمور، فحاول رحمه الله قدر جهده الابتعاد عنه. إلاّ ان أبا الهدى حاول إدخال الأستاذ في ألاعيبه ومكره في خصومه. فكتب للشيخ حسين رسالة يدعوه فيها إلى كتابة كتاب أو رسالة ينتقد فيها أتباع الطريقة القادرية المناوئين له. فرفض الشيخ حسين طلبه، لأن ذلك يتناقض مع أخلاقه، ومبادئه التي كانت وحدة الأمة من أولوياتها. ومما جاء في رسالة أبي الهدى:

   “وحيث ان بني رفاعة وان تباعدت فروعهم فأصلهم الجامع واحد، وتجمعهم الكلمة الأحمدية والنخوة والأخوة الرفاعية، وان بعدت البلاد والمعاهد وإني أقول قولي بعون الله صدق ومدعاي حق أن جماعة من القادرية ما بين بغدادي وحموي أخذهم الحسد كل مأخذ فمزق منهم الحق وصرفهم إلى الباطل فقادتهم الخبيئة للإساءة للمحسن. وألفوا في الحضرة الرفاعية ورزايلها المرضية وأتباعها وأتباع السنة السنية من خزعبلاتهم الرسائل وكلها ما تحتها طائل…”.

الشيخ حسين ثوري ومناضل بيئي

   كان رحمه الله ثورياً من الطراز الرفيع، فأعجب به كل الإصلاحيين الذين عاصروه من أمثال الشيخ الإمام محمد عبده، والسيد جمال الدين الأفغاني، ومصطفى كامل، وأديب إسحق. وحتى الذين جاءوا بعده من أمثال شكيب أرسلان وغيره. وكان أيضاً داعياً أفراد الأمة إلى التحرر من عقد النقص أمام الأجنبي الغربي، ومن الانبهار بحضارته وصناعاته. وعندما نقول ثورياً، فإننا نقصد أنه كان رحمه الله سابقاً لعصره، وتخطت أفكاره ودعواته عصره ومحيطه. فنجد على سبيل المثال أن الشعارات البيئية المطروحة في أيامنا هذه كان قد نادى بها رحمه الله وقبل أكثر من قرن من الزمان. فقد رفع صوته عالياً مستنكراً قطع الأشجار، شارحاً أضرار ذلك. ومطالباً بالرفق في الحيوانات وعدم الاعتداء عليهم بالضرب، مؤكداً ان ذلك دناءة لا يقوم بها إلا دنيء. وكتب رحمه الله أيضاً عن ضرورة تنظيف وتنقية المياه الواصلة إلى مدينة طرابلس فيقول: “… يأتي الماء إلى البلدة بلون الطين الأحمر وتتراءى فيه قطع الوحل.. فلا تسل عما ينجم عن ذلك من الأضرار صحة ومالاً وأدباً وكمالاً…”.

الأستاذ الشيخ حسين والمشروع الإصلاحي

   كثير من المثقفين والباحثين يأخذون على الشيخ حسين أنه لم يكن له مشروع إصلاحي واضح المعالم، أي مشروع كالذي تقدمه الأحزاب في أيامنا هذه. متناسين طبيعة العصر والظروف السياسية والاجتماعية التي كانت تحيط بالأمة. وكأني بغيره من الإصلاحيين في عصره كان عندهم ذلك المشروع. ولكن من يدقق النظر في كتاباته ومقالاته يخلص إلى أن مشروع الأستاذ الشيخ رحمه الله كان واضح المعالم، ولكن فقط يحتاج إلى وضع قطع الدومينو إلى جانب بعضها وترتيب الأبجديات بشكل متناسق كما هو متعارف. ونستطيع القول إنه كان هناك مدرستان تناديان في الإصلاح في العالم الإسلامي. أولاهما مدرسة محمد عبده والتي أخذت حجماً ودوراً كبيراً بسبب حجم مصر ومكانتها التي كانت ساحتها. وبسبب دوره على رأس أهم مؤسسة دينية في العالم الإسلامي حتى يومنا هذا ألا وهي الأزهر الشريف. يضاف إلى ذلك قربه من جمال الدين الأفغاني، وتناغم أفكارهما وإصدارهما سوية لصحيفتهما الإصلاحية “العروة الوثقى”، الخ. وثانيهما، وهي مدرسة الأستاذ الشيخ حسين الجسر والتي كانت تختلف مع المدرسة الأولى ليس في الهدف، ولكن في التكتيك، والطريقة، والأسلوب الذي يجب انتهاجه من أجل الاصلاح.

   وكلا المدرستين كانتا تقولان بأن الإسلام والسلطان توأمان، كل واحد منهما لا يصلح إلا بصاحبه. وأن الإسلام هو الأساس، والسلطان هو الحارس لشرع الله، الذي قوامه إقامة دين الله بحرمة الخروج على الإمام الحاكم، والسعي في الفرقة. بل لا بد من طاعة ولي الأمر ووجوب تأدية النصيحة له، لكونه السد المنيع في مقابل الغرب الذي بدأت في تلك الفترة تتضح أطماعه… أما في الموضوع العمراني (الاجتماعي، أو المجتمعي) كما يقول ابن خلدون فإن مشروع الشيخ حسين رحمه الله لإصلاح الأفراد والمجتمعات يرتكز على أربع دعائم أو أسس هي:

   1- التربية والتعليم، حيث اعتبر الشيخ حسين إن التربية والتعليم هما أساس الحضارات، وأن الغرب ما وصل إلى ما وصل إليه إلاّ بسببها. مؤكداً على وجوب مشاعة التعليم والمعرفة لكل أفراد المجتمع دون استثناء وبالأخص المرأة والأولاد الصغار. وأن يشمل ذلك كل أنواع العلوم وبالأخص الحديثة منها. بالإضافة إلى اللغات التي تتكلمها الشعوب الإسلامية والغربية على السواء. مركزاً على افتتاح المكتبات العامة وإنشاء المدارس الصناعية التقنية العليا على غرار ما فعله نابليون في فرنسا. منادياً بإحداث تغيير في المناهج، وطرق التدريس التي كانت سائدة لكي تؤدي التربية والتعليم أهدافهما، وهو ما يرويه عنه ابنه محمد يمن فيقول: “كان أسرع الناس شعوراً بأهمية الموقف وخطورة العمل في المستقبل وقد أدرك أن طريقة التدريس على الأصول القديمة لا تأتي بالفائدة المطلوبة، بل يجب تبديلها بسواها”.. ولهذا أكد رحمه الله على أنه لا بد من الاستعانة بما توصل إليه الغرب من مكتشفات علمية، وتقنية، ونظريات علمية، والبناء عليه. معتبراً أن التعليم يكون على مستويين:

   أ- التعليم العلمي، وهو ما نعرفه اليوم، ويتم في المدارس. ويكسب متعلمه المهارات اللازمة لرقيه وتطوير معارفه. ويساعده أيضاً على الانفتاح الفكري على الحضارات والعلوم المختلفة بأنواعها. مما يسهم في رقي وتقدم المجتمعات. فقد كان يرى رحمه الله ان الاطلاع على علوم الغرب وثقافته، أمر لا بد منه لتقدم مجتمعاتنا وتطورها، ورفع مستوى الأفراد فيها معرفياً واقتصادياً. لكن دون نسيان القيام بتنوير أفراد المجتمع بتاريخهم ودينهم الذي يعتبره أمراً لا بد منه.

   ب- التعليم الروحي، وهو الذي يتم على يد الشيخ بعد السلوك في الطريق. والذي يتيح للسالك الرقي الروحي، وتطهير نفسه من دنس الماديات، والإبحار في عوالم الأنوار.

   2- الاعلام (الصحافة)، حيث كان يرى فيه ركناً مهماً في بناء المجتمعات وإصلاحها وتطورها. ويساهم في تنوير الفكر والشعوب، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والذي لم يكن بالنسبة له وعظياً خطابياً، بل كان اجتماعياً وسياسياً. وكان يرى أيضاً أن الصحافة تساعد على تبادل الأفكار وتلاقحها، بالإضافة إلى الاطلاع على مجريات الأحداث والأمور، وشرح المسائل العارضة في الفكر وفي المجتمعات أيضاً. وكانت فكرة إنشاء صحيفة تراوده منذ عودته من مصر، واعتقد أنه عندما دفع تلميذه الشيخ عبد الكريم إلى إصدار صحيفته “روضة طرابلس”، إنما كان للتجربة، ولقياس ردة الفعل. وازدادت قناعاته بخصوصها أثناء زياراته لاسطنبول، ومعايشته لأثر الصحافة في الناس والمجتمع ودورها. فلم يفوت الفرصة، وحصل قبل عودته على الترخيص من أعلى سلطة وهي الباب العالي. لتصبح جريدة طرابلس منبره الذي يوصل صوته، ودعواته الإصلاحية، وتحذيراته من المخاطر المحدقة بالأمة إلى العالم. وبقي يكتب افتتاحيتها إلى أن توفاه الله.

   3- الوحدة الوطنية ودولة المواطنة والعدالة، كان رحمه الله واعياً لدسائس الأجنبي ولنظراته الدونية إلى مجتمعاتنا، واستغلاله للقضايا المذهبية والطائفية أي هذا الفسيفساء الذي تتكون منه بلادنا، لكي يستولي في نهاية المطاف على البلاد وخيراتها. ومما قاله في ذلك رحمه الله: “.. إن الأجنبي لا يعبأ إلاّ بجنسيته ولا يفكر إلا بنوعيته ولا يهمه أمر سواه إلاّ بقدر ما يستعمله في غرضه وهواه”. ولهذا نادى رحمه الله برص الصفوف، وبالوحدة الوطنية في مواجهة العدو الخارجي. بل ذهب أبعد من ذلك بكثير عندما دعا إلى المساواة بين المواطنين والحقوق أي دعا إلى دولة المواطنة قبل قرن ونصف من الآن. فكان أكثر تقدمية وتحضراً وانفتاحاً من بعض السياسيين مدعي العيش المشترك المنافقين في أيامنا هذه. ومما قاله في هذا المجال: “إن المسلمين والمسيحيين من تبعة الدولة العلية قد أنار الله تعالى عقولهم وبصرهم في عواقب الأمور، وأصبحوا في هذه الأعصر يقدرون حق التقدير ما عليه شؤون دولتنا العلية من الشفقة والمرحمة لرعاياها، وبذل التساوي بين أفرادهم في جميع الحقوق والوظائف. لا يميز مسلم على مسيحي، ولا مسيحي على اسرائيلي[4]، كما لا يميز عجمي على عربي..”. فكان بذلك أول من طرح مشروعاً وطنياً بامتياز، ومن قبل أن يتأسس لبنان الوطن. ومن قبل أن تظهر دعوات المواطنة الحديثة. وعندما قلت في بداية مقالي: إننا أم الولد.. فإنني كنت أدرك ذلك لأنه من هذه المدينة الطيبة خرجت الدعوة الأولى إلى وطن لا تمايز بين أبنائه، وطن العدالة والحقوق، ووطن الجميع بلا استثناء…!.

   4- التنمية الاقتصادية وتعزيز الأواصر بين الشعوب والقوميات، وذلك بجمع شمل كل الفسيفساء التي كانت تحت حكم الباب العالي. فاقترح من أجل ذلك إنشاء خط حديدي ضخم يصل الأناضول بالبلاد العربية. وبالتوازي يتم إنشاء عدة خطوط تربط البلاد العربية ببعضها، وأخرى تربط داخل بلاد الشام بالمدن الساحلية. لأنه كان يدرك رحمه الله ان ربط البلاد ببعضها من خلال خط حديدي سوف ينتج عنه تقدم وحركة تجارية وإنسانية وفكرية، وسوف يساهم في تطوير المدن والمناطق النائية وتنميتها. وكان كل ذلك من قبل أن يفكر السلطان عبد الحميد الثاني بإنشاء خط الحجاز، ومن قبل أن يتم إنشاء خط اسطنبول بغداد…!.

الشيخ حسين والهم الطرابلسي

   لقد أدرك رحمه الله أهمية دور طرابلس وعلاقتها بمحيطها من قرى ومدن، فنادى في عام 1310هـ/1893م أن يتم الوصل بينها وبين محيطها بخطوط حديدية تكون طرابلس مركزها، وتربطها ببيروت ويافا وعكا ودمشق وحمص وحماة وحلب.. لأن ذلك سوف يزيد من عمرانها، ويقسم المنفعة على أفرادها، ويحفظ البلاد والقرى من الخراب. وأما خياره لطرابلس كمركز فلأسباب أهمها، وجود مينائها البحري والضارب بجذوره عبر التاريخ، وأن تطويره لا يحتاج لكلفة كبيرة. بالإضافة إلى وجود الأسواق الكبيرة المتخصصة، والخانات، وكثرة بضائعها وخيراتها. وتوفر اليد العاملة الكفوءة والرخيصة.. فكل ذلك يتكامل مع بعضه، ويجعل من طرابلس مركزاً كما هو حال القلب في الجسد. لقد كانت عنده نظرة اقتصادية متكاملة للوضع الطرابلسي من خلال التنمية عبر الميناء وخط السكك الحديدية والتجارة البيئية، وذلك في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. يفتقدها في أيامنا هذه، السياسيون المدعون لزعامتها، وخريجو أرقى الجامعات العالمية. فيقول رحمه الله: “وأنه بالابتداء في طرابلس يجدون أوفر التسهيلات في أخذ ما يحتاجونه من الأراضي في طريقهم ذات القيم الرخيصة والاتساع الكافي لمعيشة الملايين في الخلق إلى غير ذلك من المرجحات التي تظهر لهم عند تدقيق النظر”.

   وعندما لاحظ رحمه الله تقاعس الطرابلسيين، وسكوتهم عن حقوقهم وخنوعهم للطبقة السياسية في حينها وجه لهم نداءه الخالد محرضاً فقال:

   “وننعطف بالخطاب إلى الطرابلسيين ونقول الحذر الحذر من التواني والسكوت عن الاسترحام في صوالحكم…”.

   ثم ينبههم رحمه الله إلى مخاطر حرمانهم من مشروع السكك الحديدية، محذراً مما ستؤول إليه أحوال مدينتهم في حال عدم تنفيذه. وهو الحال الذي هي عليه اليوم مع بعض الفوارق في الديكور فيقول:

   “أما تعلمون أن الألوف من رجالكم عتالة وفعلة وطحانة وكيالة وسماسرة في ساحة الحبوب يعضهم ناب الفقر ويصبحون في حالة يرثى لها ويهلكون هم وعيالهم وأطفالهم من انسداد سبل ارتزاقهم ويغدون حملاً ثقيلاً على أغنياء البلدة وما ندري ماذا يؤول إليه حال هؤلاء الأغنياء. فالبدار البدار والحزم الحزم وانظروا في العواقب وافتكروا في صالحكم وإلاّ فلا ينفع الندم بعد الفوت والهمم العالية من الإيمان…”. إن التخلف الذي حذرنا منه الشيخ حسين الجسر رحمه الله منذ أكثر من قرن من الزمان ها نحن نعيش فصوله غارقين فيه حتى النخاع. فلقد كان يرى حالنا ومصيرنا بحسه وببصيرته إن أهملنا المطالبة ورفع الصوت ويتوقعه.

   في 11 من شهر رجب الحرام سنة 1327هـ، الموافق 29 تموز 1909م توفى الله الأستاذ الشيخ حسين الجسر، ومضى على وفاته أكثر من قرن والميناء الذي حلم به لم يتم إنشاؤه، والخطوط الحديدية التي طالب بها لم ترَ النور، والعاطلين عن العمل كما توقع أكوام وأكداس على أبواب الزعامات ينتظرون صدقاتهم، وكلماته كانت وما تزال وستبقى حية تقارع أسماع من ألقى السمع وهو شهيد، وواقع نعيشه بمآسيه لا ندري متى سيتغير ويتبدل. رحم الله شيخنا الجليل وكل ذلك الرعيل آمين.    

 

[1] – نشر في جريدة الانشاء، العدد 7247 و7248، الجمعة 24 شباط و10 آذار 2017، الموافق فيه 27 جمادي الأولى 1438هـ و11 جمادى الآخرة، السنة 70.

[2] – ملاحظة: ورد في جريدة الانشاء العدد السابق 7247، أي في الحلقة الماضية أن قصة حياة الشيخ حسين الجسر التي كتبها ابنه الشيخ محمد الجسر ما زالت حبيسة الصناديق. ولكن تبين لنا أنها صدرت عن مكتبة مدبولي في القاهرة سنة 2013، بتحقيق د. خالد زيادة بعنوان “رؤى وعبر، سيرة الشيخ حسين الجسر، للشيخ محمد الجسر”، وهذه الملاحظة وضعت في جريدة الانشاء العدد 7248 من قبل الكاتب الدكتور خالد بريش.

[3] – نشر في جريدة الانشاء، العدد 7248، الجمعة 10 آذار 2017، الموافق فيه 11 جمادي الآخرة 1438هـ، السنة 70.

[4] – المقصود هنا يهودي.

Categories
الصفحة الرئيسية

المهن والحرف الطرابلسية

تقديم لكتاب جمانة ديب بغدادي

المهن والحرف الطرابلسية

بُنيتها وتنظيماتها وأسواقها ودورها في الحياة الاقتصادية في القرن التاسع عشر

بقلم

الأستاذ الدكتور عبد الغني عماد

   لقد تطورت الكتابة التاريخية وأخذ نطاقها يتوسع كما أخذت المناهج المتبعة في عملية التأريخ تزداد دقة ووضوحاً وضبطاً. لم يعد البحث عن أسباب الأحداث يجري خارجها، بل أخذ ينكب عليها ليتفهم حالتها، ويحلل العلاقات التي تربطها وليميز بين الأسباب والنتائج، وليستخلص من هذا كله صورة الاتجاهات التي تنتظم بها حركة الواقع وتناقضاته وصراعاته.

   ولكي تتم هذه القراءة بشكل علمي، لا بد من العودة إلى الأصول والجذور، لكن المشكلة أن الأحداث والوقائع التي حدثت في الماضي لا يمكن إستعادتها ولا معاينتها وملاحظتها بشكل مباشر، إلا عن طريق الآثار التي حفظت لنا منها. لذلك فالتاريخ بلا وثائق لا قيمة له. وبفقدان الوثائق يعتبر التأريخ ضرباً في المجهول، وحكايات متواترة ومتخيلة، وبناء عليه قيل حيث لا وثائق لا تأريخ. ولهذه الأسباب غاصت جمانة بغدادي في بحر الوثائق الطرابلسية العائدة لمحكمتها الشرعية بين الأعوام (1666-1899)، وهي الباحثة المتمكنة والمدربة على أصول البحث الوثائقي في مركز إحياء التراث الوثائقي في طرابلس منذ العام 2009، فوظفت خبرتها ومعرفتها في قراءة وتحليل الوثائق العثمانية لإعداد رسالة جامعية متميزة عن المهن والحرف في طرابلس الشام في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

   لماذا الحرف والمهن؟ ببساطة شديدة لأن هذه الحرف التي انتظمت فيما يعرف بـ “طوائف” أو “أصناف” في ذلك الزمن، لعبت دوراً أساسياً في مجتمع المدينة. ومنذ وقت مبكر أدرك الباحثون أهمية الكتابة في هذا الموضوع، لكن ندرة المصادر ومحدوديتها شكلتا عائقاً أساسياً أمام التعمق في دراسة هذه الظاهرة، وبخاصة في طرابلس، وقد إنكًب بعض المستشرقين بدءاً بماسينيون وأندريه ريمون وجب وبوون وغيرهم، على دراسة المجتمع المديني، وظاهرة الأصناف الحرفية وتنظيماتها وتحولاتها، في مدن القاهرة ودمشق وحلب وبغداد، وظلت طرابلس بدون دراسة متخصصة وافية وشاملة، نظراً لشحّ المصادر وصعوبة الوصول إلى الوثائق والتعامل معها، مع أن هذه المدينة كانت عاصمة لإحدى ولايات الشام العثمانية لأكثر من قرن.

   ومنذ تأسيسنا لمركز احياء التراث الوثائقي في طرابلس أصبح بالإمكان التعامل مع وثائق محكمة طرابلس الشرعية بصورة أيسر، وبطريقة علمية وموثقة تتيح للباحثين المادة الوثائقية المطلوبة من بين آلاف الوثائق المبعثرة. والأهم من كل ذلك أنه أصبح بالإمكان ملء الثغرات والفراغات المتعلقة بتاريخ المدينة، أو إعادة النظر ببعض ما كتب بدون توثيق أو تأكيد ما كان موضع شك، وإزالة الكثير من الأوهام والأفكار الشائعة والروايات المغلوطة والمتداولة بلا تدقيق أو أدلة.

   لقد أخرجت جمانة بغدادي في رسالتها الجامعية التي تحولت إلى كتاب، الحرف الطرابلسية بتنظيماتها، وبنيتها، وعلاقاتها وأنواعها وانتاجها، وتحولاتها وأسواقها، من عتمة التاريخ وظلمة الإنحباس في سجلات بين آلاف الوثائق، فقدمت إلى مدينتها التي أحبتها إلى حد العشق، بحثاً يروي حكاية الحرف الطرابلسية بأسلوب شيق ومتبصر، متسلحة بصبر عجيب، فلم تسمح لنفسها أن تخون الأمانة العلمية، إذ يجد القارئ، وعلى مدى صفحات هذا البحث، أن لكل معلومة مصدر وإحالة دقيقة وموثقة.

الحرف بوصفها… نظام حياة: لقد واكبت إعداد الباحثة لهذا الكتاب الذي هو بالأصل رسالة جامعية، وكنت أعرف صعوبة الولوج في تفاصيله، فالحرف انتظمت في طوائف وأصناف، يختار معلمو كل حرفة شيخاً للحرفة، يُقر اختيارهم القاضي الشرعي في المدينة، الذي يصدر “حجة شرعية” تسجل كوثيقة رسمية في المحكمة الشرعية. كان يشار للحرفة بعبارة “الطائفة” أو “الصنف” أو الصنعة” أو “الكار”. وقد وجب على “الشيخ” أن يكون ملماً بأصول الحرفة، وإلا فإنه يتعرض للعزل من زملائه معلمي الحرفة. ورغم أن كل حرفة مستقلة عن غيرها إلا أن بعض الطوائف الحرفية المرتبطة ببعضها لجهة المصالح والأعمال المشتركة كانت تتفق على تنصيب “أخي بابا”، أو كان يسمى في بعض الأحيان “شيخ السبعة”، للتنسيق فيما بينهم.

   تفيد دراسة الحرف الطرابلسية إلى ما يشبه الحرف الدمشقية، فحسب الوثائق التي عرض لبعضها هذا الكتاب، فإن كبار الحرفيين كان يطلق عليهم لقب “أستاذ” أو “معلم” أو “أوسطى”، ومنهم كان يتم اختيار مشايخ الحرف. وكان يأتي بعدهم في المرتبة المهنية “الصانع”. وقد شكل “الصنّاع” العدد الأكبر في الحرفة بالمقارنة مع عدد المعلمين والأجراء. ويعتبر المبتدئ أو “الأجير” هو كل من يتعلم الحرفة.

   ولا توضح السجلات بالتفصيل الآلية التي كان يتم بها الترقي من مرحلة الأجير أو مرحلة “آخذ اليد” كما كانت تسمى، إلى مرحلة “الصانع”، وأخيراً إلى مرحلة “المعلم”، حيث يصبح من حقه افتتاح مشغل أو دكان حرفي خاص به، لذلك كان لا بد من اللجوء إلى نوع آخر من الوثائق وطريقة أخرى من التحليل الوثائقي المقارن، وهذا اعتمدته الباحثة جمانة بغدادي، فنجحت في تجاوز هذه المشكلة، حيث يتبين أن الأجير يبقى سنوات يتعلم بدون أي أجر، يأخذ الصنعة عن أستاذه، وهي مرحلة “أخذ اليد” تليها عملية “الشدّ” و “التمليحة”. وهي تعبيرات لا تزال مستخدمة حتى اليوم في بعض المجالات. وهي بمثابة بوابات عبور ليصبح الأجير صانعاً ثم معلماً. عملية “الشدّ” هي أشبّه باحتفال التخرج بالنسبة إلى الحرفي، فيه يعاهد المشدود معلمه، الذي يعد أباه بالكار، بالبقاء وفياً له وحافظاً لأسرار المهنة، ويرافق ذلك مجموعة من الطقوس الاحتفالية والصوفية التي يشترك في اقامتها جميع أبناء الحرفة.

المشاركة الجماعية في عملية الترقية تعكس روح التضامن الحرفي الذي كان سائداً آنذاك، والذي يتوج بـ “التمليحة” التي يقدم فيها الطعام والهدايا، وبعضها يكون من صنع الصانع نفسه. وقد خضع جميع الحرفيين من المسيحيين واليهود للإجراءات والطقوس عينها في عملية “الشدّ”، كما كان من الواضح بموجب الوثائق التي كشف عنها هذا البحث، أنهم شغلوا أيضاً مناصب مشايخ حارات (حوالي أربع حارات)، كما دلت الوثائق على اختيار عدد من معلمي الحرف لمشايخهم من المسيحيين (كشيخ الترزية، والصباغين والسيوفية و..). وهو ما يدحض أي ادعاء بالانغلاق الاجتماعي، بل يؤكد على عمق العلاقة التي كانت تربط المسلمين بالمسيحيين في المجتمع الطرابلسي، حيث لم تكن هناك أحياء أو حرف أو مهن، أو تجارة مغلقة أو محتكرة من فئة بوجه فئة أخرى. لقد شكل السوق، وشكلت الحرف والمهن حقلاً سوسيولوجياً فريداً، واختلاطاً غنياً، وتجاوراً مميزاً، بالرغم من أن بعضها قد غلبت عليه أكثرية اسلامية سنية بحكم طبيعة وهوية المدينة، وهذه من الخلاصات الهامة التي يمكن استنتاجها من هذه الدراسة القيمة.

   لقد أغنى الفصل الأول من هذا الكتاب، التحليلات التي كتبت عن الحرف ونشأتها، وأسواقها، والتركيب البنيوي لها، نتحدث عن كل حرفة منها في طرابلس معرفاً بأسمائها المتغيرّة، وصولاً إلى الأسواق المتخصصة والخانات التي ذاع صيتها، والواقع أنه يمكن أن نعرف الأهمية الاقتصادية للمدينة عبر تنوع الحرف وعدد الأسواق والخانات التي توجد فيها، والتي بلغ عددها في طرابلس حوالي 27 سوقاً و40 خاناً، فضلاً عن 24 حرفة منتظمة، مقابل وجود 77 سوقاً ومئة خان في حلب و45 سوقاً و57 خاناً في دمشق كما يذكر اندريه ريموند. هذا عدا الحرف والمهن الصغيرة التي بلغت حوالي 133 نوعاً كنت قد حصرتها وقمت بمسحها وثائقياً، وتابعت جمانة بغدادي هذا العمل بالتوثيق والتدقيق، علماً أن المؤرخ الدمشقي المعروف عبد الكريم رافق، لم يجد وعلى سبيل المقارنة، في كل من حلب ودمشق ما يزيد عن 163 نوعاً حرفياً ومهنياً في كل منهما، وهو ما يشير، إلى مكانة وأهمية طرابلس الاقتصادية والحرفية والتجارية في القرن الثامن والتاسع عشر.

   الحرف والمهن باعتبارها… ناظمة لشبكة علاقات: العلاقة بين أبناء الحرفة الواحدة والحرف الأخرى والمجتمع، وبينهم وبين السلطة العثمانية، الأخلاق وقوانين المهنة وأعرافها، أهمية الدين والتدين، وعلاقة الحرف بالطرق الصوفية، وبالأوقاف، وبالعائلة وتكوينها البنيوي، هذه المواضيع الهامة كانت محور الفصل الثاني الذي أشبعته الباحثة درساً وتحليلاً، ولتكشف من خلاله آلية تضامن أهل الحرفة الواحدة لمواجهة المصاعب التي تواجهها والمحافظة على جودة الانتاج، وانتظام تسديد الضرائب. وهنا تأتي أهمية الأعراف والتقاليد الحرفية السائدة في هذا المجال والتي جعلتهم كتلة متضامنة في وجه تعسف السلطة أحياناً. وقد كشفت الدراسة كيف كان شيخ الحرفة يقوم بأدوار تتخطى خصوصية “الصنعة” و “الكار” في بعض الأحيان، فقد كان يلعب دور الوسيط، وصلة الوصل بين أهل الحرفة والسلطة التي لم تكن تنأى بنفسها عن التدخل، لحل مشاكل الأسعار والاحتكار من جهة، مع الاشارة إلى الترابط العميق بين الحرف والطرق الصوفية، والذي إن دلّ على شيء، فإنما يدّل على انغماس الثقافة الحرفية في أعماق الثقافة الشعبية السائدة والتي تحولت نظاماً عائلياً، حتى أصبحت سمة طبعت بعض العائلات، واكسبتها كنيتها التي اشتهرت بها، وما أكثر العائلات الطرابلسية التي تتصل بأصل حرفي دون أن تتصل فيما بينها بقرابة عائلية.

   أما الحياة الاقتصادية في طرابلس في تلك المرحلة فقد خصصت لها الباحثة فصلاً متكاملاً درست فيه الزراعة وأنواعها، وخاصة تلك التي اعتمدت عليها المهن والحرف، كما رصدت بدقة نواة الصناعة الحرفية، والمصنوعات الهامة التي عرفتها المدينة، ولم تهمل التجارة وحركة السوق والصادرات والواردات، ولا الضرائب والرسوم الجمركية وطريقة تحصيلها وأثرها على الحركة التجارية. واهتمت بأدق التفاصيل كالمقاييس والمكاييل والأوزان (فقد كان القنطار والرطل في المكاييل لا يزال متداولاً والمثقال في الأوزان، كما الذراع والقيراط في المقاييس في ذلك الحين).

   يكشف هذا الفصل أهمية تطور وسائل النقل والمواصلات وأثرها على الحياة الاقتصادية، فيعرض بشكل موثق المبادرات الأهلية والرسمية لتطويرها منذ تولي مدحت باشا وزيارته لطرابلس، وانشاء الطريق المعبدة بين طرابلس والأسكلة، ومن ثم تأسيس شركة التراموي التي امتدت خطوطها إلى باب التبانة مخترقة الزاهرية، وصولاً إلى انشاء شركة “الشوسية” لتأمين المواصلات بين طرابلس وحمص وحماه. تكشف الدراسة عن أثر شبكة المواصلات هذه، على الحياة الاقتصادية والتي أدت إلى تطوير الصناعة ونمو المعاملات المصرفية وعمليات التبادل التجاري وبداية تأسيس المصارف، حيث تم تأسيس مصرف (الذوق وعبد الواحد عام 1893)، وبعد أصبح للمصرف العثماني ومصرف سلافيك فروع في طرابلس. واللافت في الأمر أن أغلب هذه الشركات كانت وطنية، اشترك في تأسيسها أبناء المدينة على طريقة الأسهم، كما بينت الوثائق التي أشارت إليها الباحثة، ما يعني حضور المبادرة والمشاركة المحلية في التنمية إلى جانب الدولة. وقد انعكس ذلك حركة نشطة أدت إلى توافد التجار الأجانب إلى المدينة، حيث استأجر بعضهم مقرات خاصة بهم، وبعضهم استوطن وتملك في المدينة، في حين عمدت بعض الدول إلى افتتاح قنصليات وأخذت تتنافس فيما بينها لتوسيع نفوذها. حدث هذا في ظل بداية مزاحمة قاسية كانت تجري، فقد كانت بيروت تنهض وتتوسع سريعاً، وهو ما لم يتأمن لطرابلس.

بدايات التراجع وفقدان الدور: يتبين لنا أن الحرف الطرابلسية تميزت بتوزع نشط للعمل، وتخصص إتسم بالدقة، وهي شهدت منذ وقت مبكر نشوء علاقات مشغلية، وتأسس شركات تجارية وأساليب تسويقية خضعت للتخصص الذي حكم السوق، وهذه العمليات كلها من مظاهر الاقتصاد المنظم، الحامل لقابلية التطور والتكيُف في شروط وظروف متكافئة ضمن إطار بنيته التقليدية. لذلك ثمة سؤال يطرح دائماً. لماذا تراجعت طرابلس اقتصادياً وقد كانت دُرّة مدن ساحل الشام؟ فما أن شارف القرن التاسع عشر على النهاية حتى بدأت طرابلس كمدينة وولاية تفقد ألقها ودورها الريادي، فنهايات هذا القرن حملت معها تحولات ومتغيرات ضخمة، حاولت جمانة بغدادي في رسالتها أن تُشرّحها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. فعلى الصعيد السياسي مثلت الامتيازات الأجنبية وحملة محمد علي باشا، كما الاطماع الاستعمارية، عوامل أساسية في اضعاف الدولة العثمانية، وانعكست حروباً وأحداثاً طائفية شهدها جبل لبنان بين الأعوام 1840 و1860، أدت إلى زعزعت الوضعين الاقتصادي والاجتماعي. كما أن نظام الامتيازات منح تفضيلات للأجانب على حساب التجار المحليين، ما أدى إلى حرمانهم من المنافسة المتكافئة وسيطرة التجار الأوروبيين ومنتجاتهم على الأسواق، وامتدت هذه السيطرة إلى نوع من الحماية، حيث أخذت كل دولة تمنح موظفيها وتراجمتها المحليين وعائلاتهم البراءات، فينعم كل منهم برعاية الدولة المانحة وتطبق عليهم الامتيازات الأجنبية.

   يمكن اعتبار الاصلاحات التي أقرتها الدولة العثمانية، والتي كان أهمها خط كلخانة 1839 والتنظيمات 1856، والذي ترافق معهما سلسلة من القوانين الاصلاحية السياسية والاقتصادية والدستورية، المحاولة الجدية الأخيرة لإنقاذ ما يمكن انقاذه من الدولة التي تلمسّ اصلاحيوها أنها كانت على شفير الانهيار.

   لكن التدخل الأجنبي في الدولة العثمانية كان قد بلغ ذروته على كافة الأصعدة، وخاصة على الصعيد الاقتصادي، وقد وفقت الباحثة في تحليل الآثار الكارثية لهذا التدخل على الحرف والزراعة والتجارة، والأهم هو التوقف المعمق أمام نهضة بيروت وأثرها على دور طرابلس وأهميتها. فالتطور الذي أصاب بيروت منذ أواسط القرن التاسع عشر، مع تزايد الاهتمام بمرفأها وربطه بالسكة الحديدية مع المناطق الداخلية، عدا عن أنه حولها إلى ولاية، مهّد لها الطريق لذلك التحول الذي شهدته لتصبح مدينة متميزة ومتطورة وبوتيرة متسارعة، أغرت تجار المدن الكبرى على التواجد فيها واعتمادها كعاصمة لهم، فضلاً عن عوامل كثيرة اقتصادية وسياسية تتوقف عندها الدراسة بالشرح والتحليل.

   في هذا الوقت كان مرفأ طرابلس يتعرض للإهمال، وخطوط مواصلاتها تتقطع، واقتصادها يدخل في حال من الجمود، وهو ما دفع إلى هجرة عدد كبير من الحرفيين المهرة، أو فقدان الجدوى من بعض المهن والحرف اليدوية التي أغلق العديد من أصحابها محلاتهم ومصانعهم وورشهم الصغيرة. تشير الدراسة إلى تفشي البطالة المبكرة في طرابلس، والنزوح الريفي إليها، وهو في ظل تخلخل النظام الحرفي، أدى إلى اتساع رقعة الفقر التي خيمت على أحياء وشرائح واسعة من أبناء المدينة. تعدد الدراسة أثر هذه التحولات في انهيار الكثير من هذه الحرف التقليدية التي كانت يعيش منها المئات من العائلات، وينتظم من حولها شبكة ضخمة من العلاقات الاقتصادية الاجتماعية. لم تعد الحرفة التقليدية قادرة على الصمود أمام فيضان الانتاج الأجنبي ومزاحمته ولم تعد قادرة على منافسته، فأصابها التدمير والانحلال، ولم ينشأ بديل عنها أكثر تطوراً، وما نشأ بقي ضمن المستوى الذي لا يرقى إلى المنافسة ويسمح بتطوير ونهضة اقتصادية معتبرة.

   في الخلاصة نحن أمام كتاب يقدم مادته بشكل موثق وشيق ومتماسك، يحلل بدقة مرحلة من أخطر وأصعب المراحل في تاريخ طرابلس، وهي لا تزال تترك بصماتها على واقعنا الراهن، ويدرس ظاهرة الحرف في الحياة المدينية خلال القرن التاسع عشر، فقد حدث انتقال تدريجي لمواقع القوة في المدينة وفي لبنان، ففي المدينة شهدنا انتقالاً من الأحياء والأسواق القديمة إلى الأحياء الجديدة ذات الأجواء الحديثة، وفي لبنان نهضت بيروت على حداثة متسارعة تنافس مثيلاتها على ساحل مدن بلاد الشام، مع هذا الانتقال واجهت الحرف التقليدية الطرابلسية صعوبات متزايدة في المزاحمة والتنافس نتيجة طوفان السلع الأوروبية الأرخص ثمناً والأفضل نوعية والمعفية من الضرائب في أغلب الأحيان. لقد اختفت حرف كثيرة كلياً رغم أن بعضها شهد انتعاشاً محدوداً، إلا أنه كان عاجزاً عن تطوير تقنيات انتاج جديدة وأرخص كلفة. وبشكل عام فقد عانى التجار الطرابلسيون العاملون في التجارة المحلية والاقليمية من خسائر جسيمة في تنافسهم مع بيوتات التجارة الأوروبية ووكلائها المحليين الذين استفادوا من الامتيازات الأجنبية.

إقتصاد ريعي .. وذهنية طرابلسية: لكن ما يجب التوقف عنده هنا، أن العوامل “الخارجية” السابقة على أهميتها الموضوعية، لا تعني أنه ليس هناك أسباباً محلية تتعلق بما يمكن أن نسميه بالذهنية الطرابلسية التي تولدت نتيجة ذلك السياق الذي إنحدرت إليه حال المدينة. فالإمتيازات الأجنبية والدور المتضخم للقناصل وللشرائح التجارية الصاعدة الملتفة حولهم، والاعفاءات الجمركية التي استفاد منها هؤلاء والتي أدت إلى اضعاف أو افلاس التجارة والحرف ومنعت تحولها من صنعة وحرفة إلى صناعة ومؤسسات تشغيلية، كان من نتيجتها تحوّل ما تبقى من البورجوازية الطرابلسية الناشئة إلى الاستثمار بالأرض وتملك العقارات والعيش من “ريعها”، بعيداً عن مغامرات الربح في التجارة والصناعة. لقد أدى هذا إلى استكانة البورجوازية المحلية الناشئة في الوسط الطرابلسي وتحولها إلى الاعتماد على “الاقتصاد الريعي” المضمون الذي تدره الأملاك العقارية وليس الاستثماري غير الآمن، كما في الصناعة أو التجارة، وهو الأمر الذي تفسره ملكية بعض العائلات والأعيان لقطاعات واسعة من الأراضي في طرابلس ومحيطها.

   لقد استقر النشاط الاقتصادي في المدينة منذ أواسط القرن الماضي على ما ينتج من ريع الملكيات العقارية من جهة، وعلى عدد محدود من الأصناف الحرفية، التي يتم توارثها في غالب الأحياء عائلياً، بحيث يبقى “الكار” أو الصنعة “سراً” ثم “ارثاً” يتناقله الأبناء والأحفاد. لقد أدى هذا إلى تجذر عقلية تقوم على الاقتصاد الحرفي العائلي المتخصص. حيث اشتهرت عائلات معينة بعملها في مجال حرفي معين أباً عن جد. وبقيت هذه الحرف تدار بالذهنية التقليدية، وإن أطلق البعض فيما بعد على عمله اسماً حديثاً (مؤسسة أو شركة) لكن هذا الاسم بقي مرتبطاً بالعائلة في كل الأحوال، ويدار أيضاً بذهنية الحرفة العائلية الصغيرة القاصرة عن التحول إلى مؤسسة أو شركة مساهمة كبرى تقوم بتطوير الحركة الاقتصادية في المدينة عن طريق مراكمة وتجميع رأسمال، واعادة ضخه في داخلها ومحيطها، في عمليات متكاملة تؤدي لتأمين المزيد من فرص العمل من جهة، وتطوير الاستثمارات الاقتصادية من جهة أخرى. نستثني من ذلك بطبيعة الحال محاولات صناعية واستثمارية ناجحة حصلت بداية القرن ولم يكتب لها الاستمرار.

   المسألة تتعلق بتخلف الذهنية الاقتصادية الطرابلسية وانكفائها إلى الاقتصاد الريعي الأكثر أماناً، وغيابها عن مواكبة المفاهيم الادارية الجديدة التي تتطلب استخداماً لتقنيات لم تكن معروفة سابقاً، واستخداماً جريئاً للكفاءات التي هي في الحقيقة استثمار بعيد المدى، وليست هدراً مانعاً من تنفيع الأقرباء الأقل كفاءة. ان استثمار الكفاءات والخبرات والتقنيات وتحديث العقلية الاقتصادية ونقلها من عقلية الكار والصنعة والحرفة إلى المؤسسة والشركة والمصنع هي المسألة التي تخلف عنها الاقتصاد الطرابلسي وأدت إلى تراجع دور المدينة وتهميشها، إلى جانب العوامل الأخرى بطبيعة الحال والتي جرى مناقشتها وتحليلها بتعمق.

   لقد قدمت جمانة بغدادي دراسة غنية عن المهن والحرف في طرابلس خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، متسلحة بترسانة من الوثائق التي تنشر لأول مرة، وبخبرة واسعة في التعامل معها، وهي بهذا العمل البحثي الرصين، قدمت خدمة جليلة لمدينتها كما للمكتبة العلمية والتاريخية. ان العناصر التي تضيف من قيمة هذه الدراسة وأهميتها متعددة، وقيمتها الرئيسية في كونها تلقي أضواء كاشفة على مرحلة وظاهرة لم تكن بهذا الوضوح، فضلاً عن أن قراءتها ممتعة، وخصوصاً حين نكتشف بأن جزءاً من الماضي لا يزال كامن في حاضرنا.

Categories
الصفحة الرئيسية شريط آخر المقالات

الانفوميديا والاعلام الشبكي

الانفوميديا والاعلام الشبكي واشكالية الهوية الثقافية

 الدكتور عبد الغني عماد

    إذا كان الباب الاقتصادي والسياسي قد شرع أمام العولمة، فإنه من الطبيعي أن يصبح المجال الثقافي بكل أبعاده مجالاً خصباً لتداعياتها. ولعل هذا المجال بالتحديد من أخطر النتائج المترتبة على العولمة لاتصالها بالشخصية الثقافية والهوية والانتماء للشعوب والأمم التي أصبحت مكشوفة أمام مؤثرات وتحديات لم تعد تنفع معها الدفاعات الثقافية التقليدية السابقة للحفاظ على الخصوصيات والهويات المحلية.

      كانت الثقافة ولا تزال أحد المجالات المصاحبة للصراع بين الأمم والحضارات. وهي اقتصرت في الماضي على التأثير والتأثر المتبادل عبر التجاور الجغرافي والسفر والتجارة، ومن ثم عبرالحروب التي تفرض في نتيجتها ثقافة الغالب وطرائقه في العيش عبر آلية التقليد والمحاكاة التي أجاد العلامة ابن خلدون  تفسيرها، فالمغلوب “مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده”.

     لقد كانت العوامل العسكرية والاقتصادية القائمة على استعمال القوة المادية هي الحاسمة في إخضاع الآخرين وفرض شروط المنتصرين عليهم، لكننا نشهد اليوم تحولاً جذرياً في أدوات وتقنيات إدارة الصراع، سببه التطور الذي نشهده في ميدان إنتاج المعارف والأفكار والرموز والقيم، أي أن ميدان الثقافة انتقل من كونه عاملاً مساعداً ليصبح من أبرز حقول الصراع المعاصرة[1]. وما الحديث عن صدام الحضارات الذي دشّنه هانتنغتون مصنفاً فيه الإسلام من الحضارات المتحدية إلا دليل على المكانة التي أخذ يتبوأها هذا الرأسمال الرمزي الممثل بالثقافة- الحضارة، بوصفها فعل ممانعة ينتج خصوصيته وأتباعه وأدواته، خصوصاً في المناطق التي لم ينجح فيها الاستعمار التقليدي في الحصول على تسليم ثقافي وحضاري كاملين كما في اليابان والوطن العربي والصين والعديد من الدول الإسلامية، وذلك بخلاف ما جرى في معظم أفريقيا وأمريكا الوسطى والجنوبية، فضلاً عن أمريكا الشمالية التي نجح فيها الاستعمار الانكلوساكسوني ومن ثم البرتغالي والإسباني والفرنسي، وتمكن من مسخ شخصيتها الحضارية وتوطين لغاته وثقافاته على حساب ثقافات سكان البلاد الأصليين.

 


[1]  كريم أبو حلاوة، “الآثار الثقافية للعولمة: حظوظ الخصوصيات الثقافية في بناء عولمة بديلة،” عالم الفكر، السنة 29، العدد 3 (كانون الثاني/يناير-آذار/مارس 2001)، ص 181.

لمزيد من المعلومات أنظر الرابط التالي:

الانفوميديا والاعلام الشبكي واشكالية الهوية الثقافية

Categories
الصفحة الرئيسية شريط آخر المقالات

رواد طرابلسيون في عالمي المسرح والسينما

صلاح تيزاني (أبو سليم) الكوميدي القيادي المبدع

   يعتبر صلاح تيزاني (ابو سليم الطبل) أحد أبرز الممثلين الكوميديين الأوائل في لبنان، الذين شاركوا في تكوين الذاكرة الفنية لشريحة واسعة من الجمهور اللبناني.

   عشق منذ بداياته الفن بشكل عام، والكوميديا بشكل خاص، واعتبر الفرح واضحاك الناس هدفاً سامياً لا يقل أهمية عن أي هدف آخر.

   لم يحلم “ابو سليم الطبل” بغير الفن، رغم أنه الحلم الأصعب لطفل نشأ في مجتمع محافظ، وفي زمن تعاطى فيه الناس مع الفنان على أنه “مشخصاتي”، فكيف اذا كان فناناً كوميدياً يضحك الناس.

   لم يكتف “أبو سليم” بالتمثيل، وهو الذي عرف منذ صغره بشخصية قيادية، فأسس أكثر من فرقة مسرحية، وكتب وأخرج غالبية أعماله المسرحية، وكانت له صولات وجولات في مختلف الوسائل الاعلامية، أهمها مسيرته التلفزيونية الطويلة التي بدأت في تلفزيون لبنان، واستطاعت أن توصله الى أكبر عدد ممكن من المشاهدين، الأمر الذي انعكس ايجاباً على أعماله المسرحية التي استطاعت ان تستقطب قاعدة جماهيرية عريضة ظلت وفيّة له ولفرقته على مدى عقود.

   هو صانع “الكاركترات”، وناقد اجتماعي أجاد اضحاك الناس، وعالج بسخرية مضحكة حيناً، ولاذعة أحياناً، المشكلات الاجتماعية، وتنطلق هذه المعالجة من أفكار شعبية بسيطة ومحببة، وتخلص الى ان الحكمة تخرج من أفوه البسطاء ومن داخل المعاناة.

   أنجز تيزاني أكثر من 2250 حلقة تلفزيونية و750 حلقة اذاعية و11 مسرحية و4 أفلام سينمائية. وهو بعد أن أمضى أكثر من ستين سنة في خدمة الفن، لا يزال في كلامه عزم وارادة واصرار على متابعة المسيرة والرسالة التي نذر حياته لأجلها.

لمزيد من المعلومات أنظر الرابط التالي:

رواد طرابلسيون في عالمي المسرح والسينما