علماء ومدارس طرابلس خلال القرن التاسع عشر
للدكتور أنيس الأبيض
يبقى التطرّف والتعصّب من أشدّ الأمور خطراً والتي تهدد المجتمعات بالتمزّق والتي قد تفضي إلى إشتعال الحروب بين الناس، وهو يحتاج إلى بيئة حاضنة يعيش فيها ويعتاش منها، وقد كان الحرمان والفقر وفشل مشاريع التنمية من أبرز العناصر والعوامل المساعدة على نمو التعصّب والتطرّف. وهذا يعني أن محاربة هذه الظاهرة ومكافحتها ليس عملاً أمنياً بقدر ما يجب أن يكون فعلاً تنموياً مستمراً على المستوى البشري والعمراني والثقافي والتربوي.
فالتطرّف والتعصّب ظاهرة مرضية، وأفضل علاج لها هو الوقاية الصحيحة. والوقاية الصحيحة يجب أن تركز على التعامل العقلاني الذي يستهدف تصحيح الإختلالات الإقتصادية والسياسية والإجتماعية وإشاعة الفكر النقدي والمشاركة والشورى والديمقراطية في كافة مجالات الحياة وبدءاً بالمؤسسة التربوية.
من دراسة “الإسلام والتطرف بين فقه الهوامش وضوابط الأصول” للعميد الدكتور عبد الغني عماد
طرابلس في عهد الانتداب الفرنسي
هدى عبد الله
وصف مدينة طرابلس
تميزت مدينة طرابلس بموقعها الجغرافي فهي واقعة على “طول شرقي 20 و44 و35ﹾ وعرض شمالي 26 و26 و34ﹾ[1]، وبجمالها الطبيعي الذي لفت أنظار المؤرّخين والشعراء فتوقّف لويس لورته (Louis Lortet) عند جمال طبيعتها عندما زارها عامي 1875 و1880 قائلاً: “الطبيعة هنا باهرة، وقد تكون أجمل فيها من أي مكان من سوريا”[2]. ولم يستهوه جمالها المطبوع فحسب بل أعجب بجمالها المصنوع فراح يتغنّى بالحدائق والمنازل بقوله: “يزيد بهجة هذه المدينة المنظمة البناء “البساتين العديدة التي تنبسط في السهل وتمتد إلى الميناء”[3]. فالبناء المنظم والبساتين العديدة من المناظر الحضارية والاقتصادية المتطوّرة. وقرب السهل من الجبل أدهش الزائرين فتوقف لورته عند هذا الطوق المتعدّد الألوان الذي يحيط بالمدينة من جميع جهاتها. فلقد قال لورته “والبحر يطوق تطويقاً بديعاً ذلك الاخضرار الذي يتباين وقمم جبل المكمل، قمم لا تزال ثلوج الشتاء تكلّلها بالبياض”[4].
كذلك يصفها المؤرخ جرجي يني معدداً خيراتها من مياه وثمار… معللاً سبب بياضها قائلاً: “هي من أحسن مدن سوريا جمالاً وأبهجها منظراً وأكثرها رياضاً. قائمة على ضفتي نهر أبي علي المعروف عند الأقدمين بنهر قاديشا (أي المقدس) وتحفها البساتين والغياض وتكثر فيها المياه والأثمار فتزيدها نضارة وحسناً وتظهر للرائي كالحمامة البيضاء فإن أكثر جدرانها وسطوحها مبيض بالكلس ناهيك عما يرى فيها من جمال الطبيعة”[5].
لقد شطر نهر أبي علي مدينة طرابلس شطرين “فهي تقع على ضفتيه حيث يخترقها من الشرق إلى الغرب فيشطرها شطرين غير متساويين ويخرج منها فيمر في أرض كثيرة الجنائن والبساتين ويصب في البحر إلى الشمال من الميناء على مسافة ميل عنها”[6].
ويتفق لويس لورته والمؤرخان رفيق التميمي ومحمد بهجت على أن “القسم القائم من المدينة على الضفة الجنوبية من النهر أهمّ من القسم القائم على الضفة الشمالية”[7]. نظراً لما يحتويه كل قسم من مناطق حيوية إذ “تضمّ الساحة الكائنة على الجانب الأيسر من النهر ثلاثة أرباع البلدة وتوجد فيها ثماني محلات تمتد من الجنوب إلى الشمال على شكل قطع ناقص، وهي بوابة الحدادين والمهاترة، النورية، التربيعة، باب الحديد، العدسة، ثم في الجهة الغربية من هؤلاء محلة الرمانة وبعدها تل الرمل. أما في الجانب الأيمن من النهر فتوجد محلّة الجسرين وباب التبانة”[8]. ولقد أنشئت في طرابلس ست عشرة منطقة عقارية منها ثلاث عشرة منطقة داخل المدينة: الحدادين، التل، النوري، المهاترة، الزاهرية، الرمانة، السويقة، التبانة، القبة، الحديد، المينا الأولى، المينا الثانية، والمينا الثالثة؛ وثلاث مناطق خارجها: بساتين المينا، بساتين طرابلس، وزيتون طرابلس[9].
ومن الناحية العمرانية، فطرابلس “المنظمة البناء”[10] كما اعتبرها لورته، كانت تضمّ حسب تقدير التميمي وبهجت “عشرة آلاف بيت، باستثناء الميناء التي تحتوي على قريب من ألفي مسكن، غلب فيها الطراز البيروتي تارة والطراز الشامي أخرى أو يمتزج هذان الطرازان في بعضهما وكلها تبنى بالحجارة ولا يصنع من الخشب إلا سقوفها ونوافذها وغيرها من فروع البناء. وثلث هذه البيوت من الطراز الحديث وثلثاها من الطراز القديم”[11].
ويختلف توزيع هذين الطرازين فيها حسب قدم أو حداثة فترة البناء من جهة وحسب درجة تطوّر الموقع الحيوي من جهة أخرى “فالقسم الذي يبدأ من يسار نهر “أبو علي” ويمتد إلى الجانب الغربي من البلدة المسمى بالتل، أو طرابلس القديمة حي عين دمشق القديمة… أما البيوت من النسق الحديث فهي تشاهد في موقع القبة العالي المتصل بالمحلات الكائنة على يمين ساحل نهر “أبو علي”، ثم في التل من غربي البلدة؛ فقد شيدت في التل كل البنايات الفخمة التي تفخر بها طرابلس. ثم ان دار الحكومة، وبرج الساعة، وروضة البلدة ودار البريد والقنصليات والمصارف والفنادق، ومركز الترام، وأغنى المخازن كلّها تحتشد في تلك الناحية، ولهذا أصبح موقع التل له الوقع العظيم في تلك البلدة. بما فيه من الشوارع الواسعة والمباني الرصينة وما زال يتدرج في الرقيّ. ويمكن أن نقول إن طرابلس الجديدة عبارة عن هذا الموقع”[12].
هذه المعطيات تضعنا أمام واقع ما كانت عليه مدينة طرابلس في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين: بلدة زراعية مزدهرة عمرانياً واقتصادياً نظراً لتضافر العوامل الطبيعية والجغرافية. فالموقع المميّز على شاطئ البحر الأبيض المتوسط ووجود مرفأ طبيعي عاملان من عوامل ازدهار تجارتها، والنهر وفر مياه الريّ لبساتينها وزاد من خصوبة تربتها، بالإضافة إلى التربة الرملية من البحر، فازدهرت زراعتها.
* * * * *
[1] – جرجي يني: “تاريخ سوريا” المطبعة الأدبية، بيروت 1881، ص371.
[2] – Louis Lortet: “La Syrie ďaujourďhui”, Voyages dans la Phénicie, le Liban et la judée, 1875, 1880, Librairie Hachette, Paris, 1884, P. 55.
واعتمدت ترجمة كرم البستاني: “مشاهدات في لبنان” ط2، منشورات دار المكشوف، بيروت 1951، ص14، يخرج نهر “أبو علي” من جبل لبنان قرب قرية بشري من مكان يقال له الدواليب ويجري إلى الجنوب الغربي قليلاً فيتحد معه جدولان يقال لأحدهما رشعين والآخر المخاضة ومن ثم يدخل طرابلس.
[3] – Louis Lortet; “La Syrie ďaujourďhui”, p.55.
[4] – Ibid., p55.
[5] – جرجي يني: “تاريخ سوريا”، ص371.
[6] – جرجي يني: “تاريخ سوريا”، ص372. ويذكر رفيق التميمي ومحمد بهجت في “ولاية بيروت”، ص201، أن “النهر يدخل بلدة طرابلس فيخترقها حيث يكون ربعها عن يمينه وثلاثة أرباعها عن شماله. وبعد أن يتلوى بين بساتين الليمون مقدار نصف ساعة، يسير إلى الجانب الشمالي الغربي من طرابلس وينغمس في زرقة البحر”.
[7] – Louis Lortet: “La Syrie ďaujourďhui”, p.51 et 52.
[8] – رفيق التميمي ومحمد بهجت: “ولاية بيروت”، ص208.
[9] – الجريدة الرسمية، العدد 2455، الجمعة في 30 كانون الثاني 1931، المرسوم رقم 7680 وحددت فيه نقاط حدود كل منطقة من هذه المناطق.
[10] – Louis Lortet: “La Syrie ďaujourďhui”, p.51 et 52.
[11] – رفيق التميمي ومحمد بهجت: “ولاية بيروت” ص205-207. يمكن التفريق بين شكلي الطراز القديم والطراز الحديث: فالطراز القديم منها له سطوح مستوية مطلية ومرشوشة بالكلس الأبيض، أما بيوت الطراز الحديث فهي مستورة بسطوح محدبة من القرميد الأحمر. وان أكثر بيوت طرابلس مبنية بحجارة سمراء تضرب بلونها إلى الصفرة ويؤتى بتلك الأحجار من المقالع الكائنة على الساحل قريباً من المينا. وقد أخذ الطرابلسيون منذ خمس عشرة سنة يطلون جدار البيوت بالملاط الأبيض “سمينتو” ciment) blanc) لكي لا تنفذ الرطوبة من خلال الأحجار.
[12] – رفيق التميمي ومحمد بهجت: “ولاية بيروت” 205 و206.
إمتيازات الجماعات المسيحية في المملكة العثمانية!؟..
بقلم جان رطل
صلاحيات جامعة مانعة
كان البطريرك ينظر في جميع الدعاوي المدنية والجزائية في بطريركية القسطنطينية واحتفظ بجميع الكنائس ما عدا كنيسة أجيا صوفيا». ومن ضمن الدعاوي والمحاكمات كل أمور الزواج والطلاق والسرقات والجنح وكانت المحكمة مؤلفة من «الاكليروس» بدرجاتهم العليا.
على السلطات العسكرية ان تنفذ قرارات البطريرك والمطارنة حيث لكل واحد سلطة إصدار الأحكام بين أبناء رعاياه وحتى بين من يحتكم له من الأرمن والمسلمين بطلب منهم.
للبطريرك أن يصدر حكماً بالنفي لا يمكن ان يوقف حتى ولو تحول المحكوم الى الاسلام واعتنقه ديناً. كما له أن ينشئ مدارس وينفق عليها ويشرف على دروسها وكتبها ويمنع الكتب المضرة.
كل هذه السلطات كانت موضوع ملاحظات من قبل مسؤولين في مواقع سياسية تركزت حول نظام شؤون المسيحيين التي اعترف بها الخط الهمايوني الصادر سنة 1856… وهي معاهدة من سلسلة المعاهدات والمواثيق التي وُضعت من بعد الفتح، للقسطنطينية، أولها معاهدة بين ملك فرنسا فرنسيس الأول والسلطان سليمان القانوني، وهو معتبر سلطان شديد البأس، الذي قبل المعاهدة لأنه يرعاها الدين الاسلامي وحافظ عليها. وينسحب هذا الأمر على السلطات الممنوحة للقناصل وهي تشبه سلطات البطريرك على رعاياه، وبالتالي للقنصل على رعايا دولته.
عمل رجالات الدولة تباعاً على نشر تطمينات للدول المسيحية الأوروبية التي تتكفل أمامها بالمحافظة على امتيازات المسيحيين والتطمينات هي:
أولاً: الشريعة الاسلامية تحترم الامتيازات.
ثانياً: شرف السلاطين لا يمكنهم بأن ينكثوا بوعودهم.
ثالثاً: اهتمام الحكومة العثمانية بالعناية برعاياها المسيحيين.
مقتطفات من بحث نُشر في جريدة الإنشاء العدد 7160 بتاريخ 15 تشرين الثاني 2013
الدراسة كاملة موجودة في خانة “دراسات في تاريخ طرابلس وحاضرها”
(الجزء الثاني من بحث “مجتمع النهر في طرابلس” لكاتبه الصحافي المرحوم طلال المنجد)
النهر ومياه الشفة
النظام القديم
يعتبر عام 1935 حداً فاصلاً بين نظامين من استعمال مياه الشفة في طرابلس الأول قديم والثاني حديث.
وحتى ذلك العام الذي أنتهت فيه أشغال وتمديد مياه نبع رشعين، كان النظام القديم هو السائد ويرجع تاريخه إلى عهد الكونت ريمون دي تولوز حاكم طرابلس في أيام الحملات الصليبية (توفي عام 1112م) حين أقيم سد فوق نهر رشعين قرب الموقع المعروف بالمرداشية ومنه شقت قناة ترابية بطول تسعة كلم تنتهي في الجهة الشرقية من قلعة طرابلس بحوض صغير علوه عن سطح البحر حوالي 32م وتتجمع فيه مياه القناة. هذا الابتكار شكل حجر الأساس لنظام مياه الشفة لطرابلس المملوكية حيث جرى توزيع مياه القناة إلى 72 فرعاً ويسمى كل فرع منها (قمرية) وكل قمرية تنقسم بعدئذ إلى 12 قسماً ويسمى القسم (شاهية) أي ما مجموعه 864 شاهية. ولا نملك معطيات كافية عن حقوق توزيع المياه في طرابلس العصر المملوكي ونرى في وقفية لجامع مملوكي… «ولهذا المسجد من الماء بحق واجب نصف وربع أصبع من قناة طرابلس».
وفي العصر العثماني، تطورت شبكة توزيع المياه بحيث تنتهي القنوات الفرعية (الشاهيات) في بعض أحياء المدينة إلى خزان ثانوي يشبه البرج ويعرف باسم (قائم أو طالع) ارتفاعه من 10 إلى 12 متراً ويعلوه مقسم تتغذى منه خطوط الدار الخاصة.
ونظراً لارتفاع خزان المياه بجانب القلعة أكثر من 30 متراً عن سطح البحر فإن ذلك سمح وفقاً للمبدأ الفيزيائي المعروف بالأوعية المتصلة بوصول المياه إلى الطبقة الثالثة من أي بناء يشاد..
وهو ما شكل مصدر فخر للطرابلسيين بمائهم على ماء بقية المدن كبيروت ودمشق. ويعطي فكرة عن مدى التجريبية العلمية الفيزيائية في التعاطي باستخدام مياه الشفة في طرابلس في القرون الوسطى.
وكان السكان يتداولون بيع وشراء الماء فيما بينهم وسعر الشاهية الواحدة لا يقل عن 500 ليرة عثمانية ذهباً. وبسبب هذا الثمن الباهظ، عرفت طرابلس نظام احتكار الشاهيات حيث تخصص بعض الأشخاص في بيعها وشرائها وتحصيل أرباح طائلة من ذلك. ولم تكن ماء الشفة تصل إلى كل البيوت ولعل هذا ما يفسر وجود كثرة الأسبلة وبرك المياه العامة في مختلف أحياء طرابلس القديمة بحيث يصل عددها إلى ما يزيد على 20 سبيلاً وبركة بمعدل سبيل أو بركة لكل حارة أو محلة بالإضافة إلى ان كل قائم ماء كان يعتبر كسبيل تسيل ماؤه للعموم من أحد جوانبه.
ولقد أعتبر على الدوام في طرابلس ان تسييل الماء من المآثر الحميدة للحكام والولاة والأشخاص.. حتى أننا نجد في وقفية فريدة وعائدة للعصر المملوكي صرف مبلغ معين للاستسقاء في جامع ومبلغ آخر ثمن ماء وثلج يصرف في يوم الخميس من كل أسبوع ويفرق بباب التربة إلى جانب توزيع الخبز..
وفي المدينة الإسلامية عموماً، كان يتولى تسبيل الماء وتوزيعه على طالبيه «المزملاتي» الذي اشترطت فيه شروط جسمية وخلقية خاصة كأن يكون سالماً من العاهات والأمراض «وان يسهل الشرب على الناس ويعاملهم بالحسنى والرفق ليكون أبلغ في إدخال الراحة على الواردين وصدقة دائمة وحسنة مستمرة».
لم تعرف طرابلس مثلما عرفت بعض المدن الإسلامية كالقاهرة، طائفة ناشطة تقوم ببيع الماء كالسقائين رغم وجود بعض الأحياء والحارات لم تكن تصلها الماء كالرفاعية والقبة بل عرفت المدينة بعض الأفراد المتخصصين بنقل الماء على الدواب إلى هذه الحارات وبيعها عرفوا «بالمكارية» وعددهم ظل ضئيلاً. وسكان القبة كانوا يقصدون النهر لغسل حاجياتهم.
مجتمع النهر في طرابلس
دراسة أعدّها الباحث والصحافي الراحل طلال منجد
في العام 1988. أعدّ الصحافي والباحث الراحل طلال منجد مذكرة بحث لنَيل شهادة الجدارة في العلوم الإجتماعية (انتربولوجيا)، في معهد العلوم الإجتماعية الفرع الثالث في الجامعة اللبنانية.
حملت الدراسة عنوان «مجتمع النهر في طرابلس». وفي مقدمة هذه الدراسة طرح منجد السؤال التالي: «لماذا مجتمع النهر؟».
ثم أجاب عن هذا السؤال فكتب: «يشكل مجتمع النهر في طرابلس النواة الأولى لمدينة طرابلس الداخلية وهو قد تعرض منذ مطلع ستينات القرن العشرين لتغيير شامل وعميق تناول معالمه وأسسه ووجوده الديموغرافي.
ولا يتعلق الأمر هنا بتناول النهر ككارت بوستال سياحي قديم أو البكاء على اطلاله وذكراه وانما يطمح البحث إلى محاولة تحديد نظام التفاعل الايكولوجي الإنساني المحلي وما قد يكشف عنه ضمن مدى زمني يتوقف عند مفصل حاسم هو قيام ما عرف «بمشروع النهر» في منتصف الستينات.
فمسألياً سيتناول هذا البحث كأهداف أساسية له محاولة كشف وتظهير وإعادة ترتيب «بعض» من معطيات قدمها هذا المجتمع المحلي والذي تغيرت معالمه الأساسية وتفرق ناسه وتبعثروا دون أن تتلاشى خزائنه الذهنية بالتأكيد».
في 30 أيّار الماضي رحل الصحافي والباحث الزميل في «التمدّن» طلال منجد، واحتراماً لذكراه، تنشر «التمدّن» على حلقات دراسته «مجتمع النهر في طرابلس»، وهي من أهمّ ما كتب عن نهر أبو علي والمجتمع الطرابلسي الذي كان يسكن ويعمل على ضفتيه.
تأليف : محمد السويسي
28 كانون الأول 2012
السيد فؤاد طرابلسي
كانت القهوة لدى معظم سكان طرابلس في القرن الماضي كما هي اليوم، السائل المفضل لاحتسائه صباح كل يوم ومسائه وبعد الغداء. إلا أن محلات بيع القهوة المطحونة لم تكن متوفرة كما هي اليوم في مخازن المواد الغذائية والبقالين والسوبرماركت في كل حي وشارع، بل كانت هناك محلات متخصصة لبيعها موزعة في مختلف أحياء المدينة حيث كانت تعمد إلى تحميص حبوب القهوة الخضراء أمام وداخل محلاتها ضمن أوعية إسطوانية كبيرة من الحديد مثبتة على موقد من نار الفحم يقلبها صاحبها دائرياً ببرمها من مسكة متصلة بها لفترة من الوقت إلى أن تنضج وتصبح بلون بني قاتم أقرب إلى السواد، ثم يفرغها في وعاء معدني إلى أن تبرد ليعمد بعدها إلى طحن قسم منها في مطحنة كهربائية بعلو متر تقريباً عن الأرض مع فوهة واسعة مخروطية الشكل يضع فيها حبوب القهوة المحمصة لتخرج مطحونة من طرفها، ضمن وعاء نحاسي يضعه أمامه على الطاولة ليبيع منه للزبائن حاجتها التي تتراوح في أغلب الأحيان بين ربع أوقية وأوقية. وكان سعر الكيلوغرام من البن وقتذاك هو خمس ليرات لبنانية كحد أقصى.
إلا أن العديد من العائلات كن يفضلن شراء حبوب القهوة الخضراء أو المحمصة لتصنيعها وطحنها في بيوتهن خوفاً من الغش وللتأكد من سلامة القهوة، ولم يكن ليفعل ذلك إلا الذواقة للبن.
أوقاف طرابلس وغاياتها الإنسانية
الدكتور عمر تدمري
تمثل مدينة طرابلس واحدةً من مدن بلاد الشام التي كثرت فيها الأوقاف الإسلامية على اختلاف أنواعها ووظائفها وغاياتها الانسانية السامية، من أوقاف ذرية وخاصة، وأوقاف خيرية عامة، تعود منافعها على المجتمع المدني بمختلف النواحي التي تعزز وحدته وألفته وتماسكه، إذ يبتغي الواقفون، كل حسب نواياه، تحقيق غاية نبيلة نحو أهل مدينته الذين هم حلقة في مجموع الأمة.
وتظهر وظائف الأوقاف في النواحي الداعمة للجهاد، ببناء القلاع والحصون والأبراج والأسوار، وشحنها بالمجاهدين والمرابطين، وتوفير أنواع السلاح للدفاع ومقاومة الغزاة، وهذا ما نجده في الأراضي والبساتين والعقارات، ودُور الصناعة، من معاصر الزيت، والمصابن، والطواحين، وغيرها من الموقوفات العمرانية لصالح قلعة طرابلس، والأبراج الدفاعية التي كانت تنتشر على ساحل البحر بين رأس الميناء ومصب نهر أبي علي، وهي ستة أبراج والبرج القائم خارج الباب الغربي للجامع المنصوري الكبير.
المقاهي بين الماضي والحاضر
الدكتور حازم فنج
من الأخطاء الشائعة لغوياً تسمية المقهى “قهوة” بين عامة الناس، والسؤال: هل لأن الشراب الأساسي الذي كان يقدَّم فيها هو القهوة؟
كانت المقاهي في القرن الماضي، وفي طرابلس خاصةً محصورة بين مقاهٍ داخل المدينة القديمة وبين مقاهٍ خارجها. اشتهرت طرابلس داخلياً بعدة مقاهٍ أهمها “مقهى موسى” والمقاهي المجاورة له، وكانت بالماضي على حدود البلد الخارجية قرب باب الحدادين ولا تزال مشهورة، يؤمها أهل المنطقة ويأتيها شباب البلد من حين لآخر، خصوصاً في شهر رمضان حيث يقدم إلى جانب الشاي والقهوة الكعك الآتي من الأفران المجاورة. وكان لمقهى “العيوني” داخل الأسواق بداية شارع العطارين، شهرته الخاصة، ففيه كانت تقام مزادات الضمان لحدائق طرابلس التي كان يديرها أبو حازم المطرجي المشهور “بقمبازه” الفضي وطربوشه القصير، وكانت القهوة والشاي والأركيلة أهم ما كان يقدَّم في تلك المقاهي.
رمضان عبر السنين
إعداد معتز مطرجي
رمضان الشهر التاسع من شهور السنة، وفق التقويم الهجري، سمِّي بهذا الإسم عام 412م على وجه التقريب، وذلك في عهد كلاب بن مرّة، الجدّ الخامس للرسول عليه الصلاة والسلام، واشتق اسمه من الرمض، وهو حر الحجارة من شدة حر الشمس، ويقول بعض العلماء: ان شهر رمضان مأخوذ من رمض الصائم يرمض إذا حرّ جوفه من شدة العطش، وقد فُرض الصوم المسلمين في السنة الثانية من الهجرة وكان الرسول يتعبد فيه بغار حراء حتى قبل البعثة الشريفة.
وكان المشهد الرمضاني في طرابلس خلال منتصف القرن الماضي ينبض بالتقوى ويشرق بالبهجة ويعكس تراث المجتمع الطرابلسي، وهو مشهد يجمع بين الصوم والصلاة وحلقات الدرس والذكر وقراءة القرآن، وكانت المساجد تعمر بالوعّاظ منذ صلاة الظهر لا سيما في الجامع المنصوري الكبير مع العلماء الشيخ عبد الكريم عويضة والشيخ صلاح الدين أبو علي مبعوث الأزهر الشريف، ثم بعد العصر مع الشيخ فؤاد اشراقية ومع حفظة القرآن الكريم في غرفة الأثر الشريف للتلاوة والختمية. ولا أدري ماذا أصاب الدنيا وماذا دهى الناس في هذه الأيام، فلم تعد الاحتفالات بمقدم رمضان كما كانت تشيع فيها الفرحة المشوبة بالحنين الى عصور الورع، كما عرفناها ونحن في سن مبكرة، وقليل من الناس استطاع ان يحتفظ بعادة الاحتفالات القديمة… فأين ما نصنعه اليوم مما شهدناه ونحن صغار…
ومن ناحية أخرى ارتبط شهر رمضان عند الكثير من الناس بموائد الطعام الدسمة الفاخرة المتنوعة التي جذبت انتباه من خالَطَ أهل المدينة أو جاورهم. وقد ينطبق هذا على أكثر المدن العربية والاسلامية، واللافت عند بعض الرحالة ان اليونانيين حتى وقت قريب كانوا يطلقون على موائدهم الفخمة اسم رمضان.
وفي كتب المؤرخين نصوص تفصيلية عن الاحتفالات بشهر رمضان في العصور السابقة والتواصل بين الحكام والناس، ففي الدولة الفاطمية كانت الاحتفالات من أهم دعائم سياسة السلطة تجاه المصريين، ربما كان القصد منها المبالغة في في إظهار عظمة الدولة الشيعية في عيون رعاياها السنّة، وربما كانت الدولة الفاطمية تتصرف بمنطق حكومات الاقلية على حد تعبيرنا المعاصر.
وكان للخليفة في مصر عدة مواكب دينية عظيمة في رمضان منها موكب رؤية الهلال والذي ألغاه القائد العسكري جوهر الصقلي المرسل من قبل المعز بدين الله من تونس لاحتلال مصر، لأن الفاطميين كانوا يعتمدون على حساب شهر رمضان ثلاثين يوماً، وكان لإلغاء الصقلي موكب الاستطلاع أن أغضب أهل مصر لأن لموكب رؤية الهلال ترتيبات كبيرة معقدة ألفها المصريون، ففيه يخرج الخليفة بثيابه الفخمة المزركشة، وعلى رأسه التاج الشريف، والدرة اليتيمة على جبهته، متقلداً بالسيف العربي، وقضيب الملك بيده ومعه الوزراء وكبار رجال حاشيته وعسكره، وفي أوائل العسكر ومتقدميه والي القاهرة ذاهباً وعائداً لفسح الطريق وتسيير من يقف… ويسير الموكب بصحبة الموسيقى من باب القصر، ويدور ول جزء من سور القاهرة، كما كان خلفاء الدولة الفاطمية يخرجون بمواكب أيام الجمع، فالجمعة الثالثة بالجامع الأزهر، في حين كانت الجمعة الرابعة بالفسطاط العاصمة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية في ذلك الزمان، والتي كان أهلها يكرهون الفاطميين.
شهر رمضان المبارك أيام نادرة ومتكررة في حساب السنين، وهو شهر لا مثيل له في أي تقويم لأية أمة من أمم الارض، يجيء كل سنة في موعد مختلف عن الموعد السابق أو اللاحق، لكنه يجيء. وشهر رمضان مدهش حقاً فقد يأتي في قيظ الصيف أو في برد الشتاء أو في أيام الربيع أو الخريف. وكل عام وأنتم ورمضان بخير.
نشرت في جريدة البيان بتاريخ 25 تموز 2012