تراث طرابلس

Categories
Uncategorized

مجتمع النهر في طرابلس 3

مجتمع النهر في طرابلس (3)

مقاهي النهر

   المقهى هو حيز اللهو والراحة والتسلية. ولقد حفل مجتمع النهر بالمقاهي فكان لكل محلة مقهاها. ولكن ينبغي التمييز بأن «المقهى النهري» هو المتداخل مباشرة مع النهر وبالذات المبني على ضفافه أو بجواره. ومن أشهر مقاهي مجتمع النهر: مقهى البحصة، خبيني، جهير، الصيادين، الدباغة.

1-  مقهى البحصة:

     يعتبر «مقهى البحصة» من أشهر مقاهي طرابلس عامة ومجتمع النهر خاصة. يفصل بينه وبين النهر مباشرة طريق مرصوف بالحجارة الكلسية الكبيرة، عرض الطريق حوالي 10 أمتار (وكان من أجمل الطرقات في طرابلس). وللمقهى نظامان صيفي وشتائي. المقهى الصيفي كان حديقة واسعة تظللها الأشجار وبالذات الكينا والفلفل (أنقرضت من طرابلس) لها مزايا الرائحة في الورق والثمر. وأشتهرت حديقة المقهى بورودها ونباتاتها الدائمة أو الموسمية. ومن الدائمة: الورد والياسمين والتمر حنه. ومن الموسمية: الأضاليا والزنبق بعدة ألوان. وللمقهى مصلى في منتصف جهته الشرقية ويرتفع حوالي متر عن الأرض ويصعد إليه بثلاث درجات وله وظيفة ثانية إذ يستخدم كمسرح صيفي أحياناً.

الطاولات منتشرة في أرجاء الحديقة وهي من الحديد المشغول باليد وسطحها من الرخام الموزاييك الملون والكراسي من خيزران دمشق.

المشروبات صيفاً: قهوة وشاي وزهورات وشرابات عصير الليمون المعروف بالليموناضة والتمر هندي وفيما بعد حلت إلى جانبها المشروبات الغازية. ومن تقديمات المقهى التي اختص واشتهر بها «النارجيلة». ودوام المقهى كل النهار وجزء من الليل حتى موعد صلاة العشاء.
ومن ألعابه: طاولة الزهر والدمينو وفيما بعد ورق اللعب. أما المقهى الشتوي فمبناه يحتوي مسرحاً واسعاً وكواليسه كناية عن مغارة كبيرة قسمت إلى غرف داخلية وقد استقدم فرقاً عربية مسرحية وغنائية.

Categories
Uncategorized

المركز الثقافي للحوار والدراسات

تأسس المركز الثقافي للحوار والدراسات في 21 كانون الثاني 2009 في لبنان كإطار جامع للطاقات الفكرية الهادفة الى تعزيز ثقافة الحوار والعيش الواحد والتسامح في المجتمع اللبناني.

من أهدافه:
1 – تعزيز حركة المجتمع المدني بإتجاه تفعيل وحدته وتمتين قيم الديمقراطية والمساواة والعدالة والحرية فيه عبر الندوات والمؤتمرات ووسائل الإعلام كافة.
2 – العمل على حفظ الإرث الثقافي والتاريخي والوثائقي وأرشفة وتوثيق المهمل منه وإبراز أهميته في الذاكرة المجتمعية.
3 – ترجمة الأعمال الفكرية البارزة والتي تخدم أهداف الجمعية إلى العربية وإلى اللغات الأجنبية لوضعها بين يدي الطلاب والباحثين المختصين بما يخدم هذه الأهداف.
4 – تنظيم أبحاث ونشاطات وورش عمل ودراسات تربوية وتنموية وإحصائية واستطلاعات رأي تستهدف تقديم توصيات إلى الجهات المعنية لتحسين أداء المؤسسات والمرافق العامة.
5 – إنشاء مكتبة عامة وذات طابع متخصص تتضمن قسماً للأطفال وقسماً تربوياً.
6 – إصدار نشرات تثقيفية وكتيبات للتوعية إنطلاقاً من أهداف الجمعية وبما يخدم أهدافها العامة.

Categories
Uncategorized

من نحن

مشروع إحياء التراث الوثائقي والثقافي
لمدينة طرابلس

لا يمكن قراءة التاريخ عموماً دون الرجوع الى الوثائق التي هي بمثابة الشواهد على أحداثه ومساراته ومحطاته. ولا يمكن بالتالي تصور تاريخ البشرية من دون مثل هذه الوثائق والمستندات.

ولقد تركت لنا العصور المتعاقبة أثاراً مكتوبة ومخطوطات مختلفة الأهمية ومتنوعة الشكل، وبالطبع متفاوتة المصداقية، غير ان المهم منها، والذي درج على تسميته بـ “الوثائق” بقي المرجع الأكثر ركوناً إليه من قبل المؤرخين والدارسين والباحثين.

وإذا كان البعض يعتبر “الوثيقة” مرآة للتاريخ، والبعض الآخر يرى فيها نبض حركة الجماعة أو الفرد في حقبة غابرة، فإن افتقارنا إلى وثائق كافية عن مراحل معينة من تاريخ مجتمعاتنا ضاعف من أهمية الوثائق النادرة والمتوفرة، أو التي لا يزال يعثر عليها بين الحين والآخر. وفي هذا السياق أنشئت المراكز والمعاهد المتخصصة، وشكلت فرق البحث والخبراء للتحقيق والعناية بهذه الكنوز المعرفية، وكان هذا الاهتمام سمة من سمات عصرنا الراهن، لا سيما بعد ظهور الأمم المتحدة ومنظماتها التابعة المتخصصة، ومنها تحديداً تلك المعنية بمجتمع المعلومات، وبالحفاظ على التراث الإنساني.

ولا جدال في أن تطور تكنولوجيا الاتصال وثورة المعلومات أكسبت الوثائق التاريخية قيمة جديدة، فهي بقيت تمثل ما يمكن اعتباره “النوع المعلوماتي الأصيل” مقابل “الكم المعلوماتي المتواتر” الذي يصعب التحقق منه بسبب سرعة انتشاره إلى درجة يصبح معها أحياناً من المسلمات المعرفية. لذلك فأن عالم التراث الوثائقي تتمتع به عادةً قلة من الباحثين والمعنيين بصون التراث وحفظه لكي يكون أداة حاسمة تجلو صورة الماضي، في قضايا قد تكون محط خلاف ونزاع في الحاضر، وربما في المستقبل.

مشروع إحياء التراث الوثائقي والثقافي لمدينة طرابلس:
لا شك أن طرابلس مدينة عريقة بتاريخها وآثارها التي لا تزال، رغم كل ما أصابها من إهمال وتخريب، ناطقة ومعبرة عن دور حضاري فاعل لعبته على مدى أجيال وحقب تاريخية مديدة. فطرابلس تشكل منجماً غنياً من الناحية الوثائقية والأثرية والتاريخية، فيه من الحضارة والعراقة ما يحفزّ أقلام الباحثين إلى المزيد من البحث والتدقيق لكشف هذه الكنوز الوثائقية المبعثرة هنا وهناك.

وكم عانى الباحثون من أبناء طرابلس، ومن العلماء الذين أحبوا طرابلس من بلدان شتى عربية وأجنبية، كم عانى هؤلاء من مشقة البحث عن المراجع والمصادر الأصلية الخاصة بطرابلس، هذه الوثائق المبعثرة في عواصم شتى، بين استامبول والقاهرة، إلى باريس ولندن، بل حتى في قلب المدينة، هي أيضاً مبعثرة في مواقع شتى، وإن وجدت فهي تفتقر إلى الحد الأدنى من التوثيق والفهرسة والأرشفة الدقيقة والصحيحة، الأمر الذي يعرقل ويحدّ من إطلاق الدراسات الجادة حول تاريخ طرابلس ودورها الحضاري بشكل واسع.
لهذه الأسباب تلاقت جهود المركز الثقافي للحوار والدراسات مع الدور الطليعي الذي تقوم به جمعية العزم والسعادة الاجتماعية على المستوى التنموي في مدينة طرابلس لإطلاق مشروع إحياء الإرث الوثائقي.

– الأهداف العامة للمشروع:
جمع الوثائق الطرابلسية، وتحريرها وفهرستها، وتصنيفها بعد أرشفتها، ووضعها بتصرف الباحثين الشباب وتنظيم مؤتمرات وندوات وحلقات بحث علمية حول تاريخ طرابلس الحديث على أساسها. ومن ثم نشر هذه الوثائق والدراسات لكي تكون مرجعاً بتصرف مراكز الأبحاث والباحثين في العالمين العربي والإسلامي من خلال طبعها بشكل يليق بتاريخ المدينة، وحفظها على أقراص مدمجة لتسهيل التعامل معها وفق أحدث الطرق المعلوماتية وبما يحفظها من التلف والضياع.
إن مشروع إحياء الإرث الوثائقي يتطلع إلى إنشاء مركز يحفظ ذاكرة طرابلس الثقافية والحضارية وهو يستهدف في خطته كمرحلة أولى:
– فهرسة وتبويب سجلات المحكمة الشرعية والتي تتضمن آلاف الوثائق والتي تبدأ منذ العام 1666م. وهي لا تزال كمخطوطات “مادة خام” في غالبيتها لم تتعرض للدراسة والفهرسة والتبويب، الأمر الذي يجعل من استفادة الباحثين فيها أمراً صعب المنال.
– تجميع وأرشفة وفهرسة الوثائق الخاصة بطرابلس والموجودة في مركز الوثائق والمحفوظات في اسطمبول، وهي وثائق على درجة عالية من الأهمية، نظراً لما توفره من معلومات حول تاريخ المدينة الاقتصادي والسياسي والإداري.
– جمع وترجمة مراسلات القناصل الفرنسيين والانكليز وغيرهم الذين كانوا في طرابلس والموجودة في بعض العواصم الأوروبية.
– العمل على جمع الوثائق والمحفوظات الموجودة في بيوت العائلات الطرابلسية ومكتبات أبنائها والمتعلقة بما تركه علماء طرابلس من آثار ومخطوطات وكتابات، وتحقيقها ونشرها، وهي كثيرة ولا تزال حبيسة هذه البيوت نظراً لعدم توفر الثقة عند هذه العائلات من جهة، وعدم وجود المؤسسات الأكاديمية والمهنية المختصة لتحقيقها والحفاظ عليها.
– نشر المخطوطات أو المطبوعات النادرة لعلماء وأدباء ومؤلفي طرابلس والتي لم تعد متوافرة للباحثين وأصبحت بالتالي كإرث ثقافي عرضة للنسيان والضياع.
– طباعة ونشر الدراسات الجامعية وأطروحات الدكتوراه التي تتعلق بتاريخ طرابلس وواقعها الراهن والتي تتمتع بالمواصفات العلمية والأكاديمية وتتفق بالتالي مع أهداف المركز.
– إنشاء مكتبة عامة متخصصة تتضمن كل ما كتب عن طرابلس، ومتابعة ما يكتب عنها من أبحاث ودراسات تتعلق بتاريخها وواقعها الراهن، بحيث تصبح هذه المكتبة مقصداً لكل الباحثين الذين يهدرون الكثير من أوقاتهم بحثاً عن المصادر والمراجع المبعثرة. هذا إن وجدوها.
– ترجمة الكتب الهامة التي ألفها الرحالة والباحثون الأجانب عن طرابلس ونشرها لكي تكون بتصرف الباحثين والطلاب.
– إصدار مجلة دورية تتضمن دراسات موثقة ومتنوعة تتضمن محاور تتناول مواضيع جديدة حول مدينة طرابلس من حيث التاريخ والعادات والدور الحضاري، والواقع الحالي في جانبه التنموي والثقافي والاجتماعي. وهي مجلة نتطلع لكي تكون إضافة نوعية تعتمد كمرجع أكاديمي في مجالها، لذلك سوف تكون مجلة محكّمة يشرف عليها نخبة من المتخصصين والأكاديميين.
إننا في المركز الثقافي للحوار والدراسات إذ نطلق مشروع إحياء التراث الوثائقي والثقافي لمدينة طرابلس فإننا نستهدف من هذا المشروع حفظ تراث المدينة الثقافي وصيانة ذاكرتها المدينية، وتجميع مخطوطات أبنائها وإنتاجهم الفكري والعلمي على مدى الأجيال، وحفظ وثائق المدينة وتراثها الغني، وإعادة الاعتبار إليه من خلال أرشفته وتحقيقه وفهرسته، ووضعه بتصرف أبنائها والباحثين من العالمين العربي والإسلامي فضلاً عن الباحثين والعلماء الغربيين، وذلك في مركز ثقافي حديث وكبير يليق بمدينة طرابلس التي كانت يوماً دار العلم والعلماء والتي نتطلع بشوق إلى إحياء دورها هذا من جديد.

إنطلاق المرحلة الأولى من المشروع:
إننا والحمد لله، وفي سبيل هذا الهدف الحضاري، وفقنا وبالتعاون مع جمعية العزم والسعادة الاجتماعية، في إطلاق المرحلة الأولى من المشروع بتاريخ 1/7/2008 والتي تستهدف العمل على فهرسة وتبويب سجلات محكمة طرابلس الشرعية والتي تغطي وثائقها قسماً من القرن السابع عشر فضلاً عن القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وتحتوي على آلاف الوثائق الهامة والتي تعتبر سجلا يوميا لحياة الطرابلسيين في تلك المراحل، وهو العمل الذي سوف يترافق مع سلسلة من الندوات والمؤتمرات والحلقات النقاشية حول هذه الوثائق يشارك فيها نخبة من الباحثين المختصين.

لماذا هذه الوثائق وما أهميتها؟
يتضمن أرشيف المحكمة الشرعية في طرابلس العائد للمراحل العثمانية مئة وأربع سجلات تحمل الأرقام من 1 إلى 119 بالإضافة إلى سجلين غير مرقمين. وقد فقد بعض هذه السجلات ولم يتبقَ سوى 104 سجلات، وذلك بسبب الحريق الذي تعرضت له السرايا ودار المحكمة في طرابلس سنة 1976. ويومها تداعت بعض شخصيات المدينة لإنقاذ ما أمكن من هذه الوثائق التي حفظت أكثر من ثلاثة قرون، وكادت يد العبث ان تذهب بها في يوم مجنون من أيام الحرب عام 1976. وبمبادرة من الحاج فضل المقدم رحمه الله تشكلت رابطة لإحياء الإرث الفكري في المدينة عام 1982 أخذت على عاتقها بث الدعوة للحفاظ على هذه الوثائق، وتم حينها تصوير هذه الوثائق، فوضعت نسخة منها في كلية الآداب والعلوم الإنسانية ونسخة ثانية في معهد العلوم الإجتماعية وثالثة في مركز رابطة إحياء التراث الفكري في طرابلس بإنتظار أن يتم تبويبها وفهرستها نظراً لما تتضمنه من ثروة علمية وتاريخية لا غنى عنها للباحثين في تاريخ المدينة.
ومنذ ذلك الحين، وعدا المحاولات الفردية الجادة للإستفادة من هذه الوثائق والتي كانت تصطدم دائماً بغياب الفهرسة والتبويب اللازمين لتسهيل مهمة الباحثين، لم يتم القيام بأي محاولة مؤسساتية أو أكاديمية مدروسة لتنظيم وفهرسة وتبويب هذه الوثائق التاريخية التي لا تزال تشكل مادة أولية كمخطوطات تتضمن ثروة من المعلومات حول طرابلس بكل معنى الكلمة.

ما أهمية هذه الوثائق؟
يعود أقدم ما بقي من سجلات محكمة طرابلس الشرعية إلى العام 1077 هـ/1666 م، وكانت طرابلس في ذلك الوقت لا تزال مركزاً لولاية قبل أن تصبح في القرن الثامن عشر تابعة لولاية دمشق ولولاية عكا في فترة من فترات القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر.
والمخطوطات التي تتضمنها السجلات، متفاوتة في عدد صفحاتها وإن كان الأغلب يدور حول الـ 300 صفحة، وهي كتبت بالمداد الأسود، وبخطوط مختلفة، أكثرها جميل ومقروء، ومتنوع بين الخط الرقعي، والديواني، والنسخي، والثلث.

تتضمن المخطوطات والوثائق مواضيع شتّى جرى تسجيلها حسب ورودها إلى قلم المحكمة حينها دون أي تصنيف يتعلّق بموضوعاتها فهي متداخلة وغير مبوبة، وبالتالي يجد القارئ لهذه المخطوطات وثائق تتعلق بالنواحي الإقتصادية والتجارية، والأسواق، والمهن، والحرف، ومستوى المعيشة، كما يجد مخطوطات لها علاقة بالعادات والتقاليد والحياة اليومية للطرابلسيين، وبالعلاقات بين سكان المدينة وأوضاع المسيحيين واليهود إجتماعياً وإقتصادياً وقانونياً، وعلاقة الأهالي بالتجار الأجانب، وكل ما يتعلق بالأوقاف، والحياة العائلية من طلاق وزواج وإرث، إلى مسائل التعيينات والوظائف الدينية والإدارية والعسكرية، والعائلات، ومشايخ الطرق الصوفية، وعلاقة طرابلس بمحيطها الريفي وتطور هذه العلاقة…الخ

لا شك أن هذه المعلومات تفتح مجالات جديدة للباحثين والطلاب لإعادة قراءة التاريخ الإجتماعي والإقتصادي والسياسي، وتفتح المجال لدراسات متفرعة عن هذه المواضيع مثل: الإدارة-الألقاب، الأسماء-الثقافة-الوظائف-الأشراف-تراجم الإعلام…

لقد بدأ الإهتمام بالوثائق والمخطوطات الموجودة في المحاكم الشرعية في دمشق وحلب والقاهرة وعمان منذ زمن، ونظمت العديد من المؤتمرات في سبيل الإستفادة منها، وما تمتلكه طرابلس من مخطوطات ومن ثروة في هذا المجال يضاهي ما هو موجود في تلك العواصم.

إن الباحث يقف فعلاً مذهولاً أمام جبل المعلومات والمعطيات المتضمنة في هذه المخطوطات التي تنتمي إلى الماضي الذي هو ماضينا، وبالتالي فإن معرفة الماضي التاريخي بشكل موضوعي تقود إلى فهم الحاضر، كما تنير آفاق المستقبل. لكن الماضي أو التاريخ ليس الأحداث الكبرى، بل الحياة اليومية المتواصلة عبر الزمن، والمتبدلة عبر التراكمات والمؤثرات المتداخلة، بل والمنقطعة عبر الإنعطافات الحاسمة. والإطلالة على كل ذلك ليست مهمة سهلة، فمهمة المؤرخ الإجتماعي والباحث الإجتماعي تتعدى وصف الأحداث إلى إستخراج تسلسلها المنطقي، وإعادة إنشاء صورة الماضي بأبعادها المتنوعة، وتحديد درجات حضور هذا الماضي في حاضرنا. وهذه مهمة تستدعي الجهد النقدي المُدقّق فضلاً عن التأريخي المُحقّق. إن هذه المخطوطات إلى جانب غيرها من التواريخ والمخطوطات الأهلية والوثائق الدبلوماسية وكتب الرحالة والرحلات المبعثرة هنا وهناك، يمكنها جميعاً أن تصحح نظرتنا إلى الماضي والحاضر بأبعاده المختلفة.

ولا يمكن أن نفعل شيئاً إذا ما بقيت هذه المخطوطات كماً متراكماً لا حياة فيها، لذلك كان هذا المشروع البداية والمنطلق لإحياء التراث الوثائقي والثقافي في المدينة. والذي أردنا من خلاله إتمام الفهرسة والتبويب وفق أحدث التقنيات وبإشراف فريق عمل أكاديمي متخصص ومدرب لكي تصبح المادة التاريخية المتضمنة في هذه المخطوطات بتصرف الباحثين والطلاب في طرابلس والعالم العربي والإسلامي، والتي سوف تعرض نتائجها تباعاً عبر حلقات نقاشية وندوات علمية ومؤتمرات متخصصة ومطبوعات متنوعة.

إن جهوداً كثيرة بذلت، وهي بلا شك مقدرة ومشكورة، للحفاظ على الإرث الثقافي في مظاهره الخارجية، كالأبنية التاريخية والمباني الأثرية الهامة، كالمساجد والكنائس والأسواق والخانات والحمامات والقلاع وغيرها، وهي على أهميتها وضرورة إستمراريتها وتطويرها، إلاّ أنها لا يجب أن تنسينا أن التراث الثقافي لا يختزل بمظاهره خارجية فقط، بل من حق هذا التراث علينا، أن نخرج كنوزه المدفونة ومخطوطاته المبعثرة، وأن نقوم بتحقيقها وجمعها وتبويبها وفهرستها وتقديمها في صورة علمية تليق بالفيحاء، وبما يجعل المباني الأثرية تتكامل مع المعاني الثقافية، والمظاهر الخارجية ناطقة بالمضامين الوثائقية والفكرية، فيحتضن الحجر ما أنتجه البشر من فكر وثقافة وأنماط حياة. هكذا تتكامل المباني والمعاني، والمظاهر والجواهر، وهذا هو البعد الحضاري لمشروع إحياء الإرث الوثائقي والثقافي لمدينة طرابلس.

إن انطلاق المرحلة الأولى يعني أنه لا يزال أمامنا مراحل أخرى تنتظر المزيد من الجهد والعمل، إلاّ أن إنطلاق هذه المرحلة من المشروع بالتعاون مع جمعية العزم والسعادة الإجتماعية يشكل حافزاً قوياً لنا الى المزيد من العمل والتعاون مع مثقفي طرابلس وفعالياتها وعائلاتها لانجاح هذا المشروع الحضاري الذي يحفظ تراث طرابلس الثقافي والوثائقي، فالمدن التي لا تحافظ على تاريخها وتراثها لا تستطيع أن تبني حاضرها ومستقبلها بجدارة.

المشرف على المشروع
ورئيس المركز الثقافي للحوار والدراسات
العميد الدكتور عبد الغني عماد

Categories
Uncategorized

العادات الاجتماعية في طرابلس بين الانقطاع والاستمرار

العادات الاجتماعية في طرابلس بين الانقطاع والاستمرار

الدكتور عبد الغني عماد
استاذ في معهد العلوم الاجتماعية
الجامعة اللبنانية

يتخطى مفهوم العادة الاجتماعية مسألة التكرار لسلوكيات معينة أو النشاط اللاشعوري والناتج عن تكرار فعل ما اجتماعياً كان أم فردياً وبلا شك فإن العادات الجماعية هي بطبيعتها استجابة ثابتة نسبياً ومتغيرة تبعاً لذلك، لانها تستجيب في الزمان والمكان لحاجة اجتماعية يمكن ان تصبح مع الممارسة مستقلة عن الزمان والمكان وإن وجدت في البداية ضمنهما.

بعض العادات مفيد للحياة الاجتماعية ويؤدي الى تعزيز وحدة المجتمع وتقوية الروابط بين أفراده، وبعضها سلبي يشيع الإحباط والفرقة. ويلعب حجم المجتمعات وانعزالها وصرامة النظام العائلي فيها، دوراً فاعلاً في تقوية سلطة العادات الجماعية. ومع ذلك فالعادات الجماعية قابلة للتطور والخروج على قوالبها الجامدة والقديمة فقد انتقلت الاشكال الاجتماعية من البساطة الى التعقيد، وتطور نظام الأسرة من حيث الوظيفة والنطاق، وتقدمت اساليب جديدة استخدم فيها الانسان التكنولوجيا الحديثة، وتفاعل القديم والحديث مما أدى الى موت عادات قديمة ونشوء عادات جديدة، أو الى تعديل في طبيعة هذه العادات التي تتجه شيئاً فشيئاً الى التكيف مع المستجدات.
ما الذي يميز طرابلس الفيحاء في هذا الشأن؟ وهي المدينة العريقة التي غناها الشعراء والرحالة العرب والأعاجم وقالوا فيها أطيب الكلمات ونظموا لها أحلى القصائد، حتى قال عنها أبو الطيب المتنبي الذي زارها في القرن العاشر الميلادي:
أكارمٌ حسد الأرض السماءُ بهم            وقصّرت كل مصرٍ عن طرابلس
ولأن التاريخ لا يملك أحد أن يطوي صفحاته، وهو في طرابلس حاضر بقوة، فالكتابة في مجاله، خاصة عندما يراد تناول جوانب من الحياة الاجتماعية وعاداتها، ليست بالأمر السهل. ومما يزيد الأمر صعوبة أن يكون حجم الكتابة محدداً. ومع ذلك سنحاول في هذه الصفحات القليلة الإضاءة بشكل مكثف على جوانب من الحياة الإجتماعية لهذه المدينة العريقة.
– عادات السوق وتقاليد الحرف: الحياة اليومية المعاشة وعلاقات الناس ومعاملاتها في السوق والتجارة والعمل هي مصنع دائم للكثير من العادات الاجتماعية الأوسع والأكثر رسوخاً من غيرها.
والسوق والحرف الطرابلسية زخرت بالكثير من هذه العادات، ولا يزال حتى الآن يتناقل الطرابلسيون أمثلة ونماذج منها بفخر يدل على عمق التضامن الاجتماعي الذي يربط أهل السوق، ومنها العادة التي كانت سائدة حين يستفتح التاجر الطرابلسي، أي يبيع سلعة صباحاً ثم يعلم ان جاره لم يستفتح بعد، أي لم يبع شيئاً، فيطلب من الشاري الثاني الذي يقصده ن يتجه لجاره ويشتري منه ليستفتح كما استفتح هو.
هذا السلوك يروى اليوم بحسرة نظراً لأن مثل هذه العادات قد ضمرت، ويروى ايضاً للدلالة على عمق اخلاقية التضامن الاجتماعي التي سادت في السوق الطرابلسي قديماً والتي لم يقض عليها قانون المنافسة الاقتصادي.
كانت الحرف والصنائع في طرابلس تنتظم في “طوائف” أو “أصناف” حرفية حسب تعابير وتوصيف وثائق المحكمة الشرعية في المرحلة العثمانية. كان لكل منها شيخ يتم اختياره من قبل معلمي الطائفة الحرفية، ويقر اختياره القاضي الشرعي الذي يصدر حجة شرعية بذلك.  وللحرف جميعاً شيخ مشايخ في المدينة ونقيب وجاويش يختارهما مشايخ الحرف. وقد نشرت العديد من الوثائق والتفاصيل حول هذا الموضوع في كتابي “مجتمع طرابلس في زمن التحولات العثمانية” والصادر عن دار الإنشاء مطلع العام الحالي.
وبالرغم من أن كل طائفة حرفية كانت مستقلة عن غيرها، إلا أن بعض الحرف ارتبطت مع بعضها في مصالح معينة وأعمال مشتركة، هذه الحرف كانت تتفق على تنصيب “أخي بابا” او كما يسمى أحياناً “شيخ السبعة” وذلك للتنسيق فيما بينها والحؤول دون وقوع الخلافات. وشيخ السبعة هذا، بالإضافة طبعاً الى شيخ مشايخ الحرف كان له مكانة هامة في المرحلة العثمانية في طرابلس وكان الى حد ما منصباً تتوارثه عائلات محددة، وكان دائماً ما يعزز ترشيحه أن يكون “صحيح النسب بين الأشراف”.
والسادة ألشراف في طرابلس كان لهم نقابة ونقيب يصدر مرسوم تعيينه من الأستانة، ومهمته تحصين النسب الشريف ومعالجة المشاكل التي تعترضهم وتأكيد صحة الأنساب. وبالتالي عندما يكون شيخ مشايخ الحرف او شيخ السبعة من النسب الشريف، فهذا يساعده بشكل إضافي للقيام بدور الشيخ المصلح بحيث يكون لحكمه في خلاف ما قوة ترجيحية.
شيخ الحرفة كان يتم اختياره من كبار الحرفيين الذين كان يطلق عليهم لقب “أستاذ” أو “أوسطى” أو “معلم”، وبعده في المرتبة المهنية في الحرفة يأتي “الصانع”. وكان هؤلاء يشكلون العدد الأكبر في الحرف عامة، وبعدهم يأتي “الاجراء”. هذا التراتب لم يكن عشوائياً، بل كان يخضع لنظام دقيق يجري وفقه الترقي من مرتبة الى أخرى. الترقي الحرفي كان هو المكافأة العظيمة التي ينتظرها الأجير لينتقل الى مصاف الصانع ثم المعلم. وكان شائعاً قول “لسّا ما حلّه، دبساته مراق” أي ان هذا الأجير أو الصانع لا يزال بحاجة للمزيد من التأهيل والتدريب والخبرة قبل ترشيحه للترقية.
مرحلة الأجير كانت تسمى بلغة اهل الحرفة “أخذ اليد” فيها يتم التدريب الأولي. وعندما يصبح الأجير مؤهلاً للترقي الى مرتبة الصانع يجري الاستعداد من قبل شيخ الحرفة لما يسمى “الشدّ” وهو احتفال يتضمن طقوس وأصول وتقاليد، كانت سائدة في غالبية المدن الإسلامية كان المشدود أي الأجير يعاهد في هذا الاحتفال أباه في الكار – اي المهنة مقسماً أمام شيخ الحرفة وجميع زملائه والصنّاع ومعلمي الحرفة بقوله: “أعاهدك بعهد الله ورسوله إني لا اخون الكار ولا أغش الصنعة بشيء”. فالمحافظة على اسرار المهنة والجودة في الصناعة وعدم الغش كانت من أهم مقومات الحرفي في     ذلك الزمان. أما احتفال “الشدّ” للصانع فكان يتميز بأن يسمي أباه بالكار، الذي يتقدم ليربط له المحزم أو المئزر، ويأخذ منه العهد، ثم يعرض بعضاً من عمله وانتاجه الحرفي أمام معلمي وصنّاع الحرفة كلهم، ويطلب من الحاضرين فحص هذا الانتاج ويستمع الى اي اعتراض لترقيته ويكون القرار النهائي لشيخ الحرفة بالطبع بعد عملية “الشدّ” ينتقل الحاضرون في نفس اليوم، أو في اليوم التالي الى ما يسمى “التمليحة” حيث تقام وليمة يرافقها الاحتفال والاغاني بهذه المناسبة التي يحلم بها كل أجير وصانع. إنها بالفعل احتفال تخرّج لا تزال سائدة وشائعة وإن اختلفت بعض اشكالها وخاصة في المؤسسات التربوية والحرفية والنقابية.
اللافت في تقاليد وعادات السوق أساليب القصاص التي كانت سائدة لردع محاولات الغش أو التلاعب بجودة المنتج، ويمكن حصرها بثلاثة أنواع:
1 – أن يطرد من يخون حرفته أو يغش بها ويمنع عليه العمل فيها نهائياً أو جزئياً، ويجري تعميم ذلك على جميع معلمي الحرفة.
2 – ان يشهرّ به بين الناس ويعلن انه غشاش من خلال عرض نماذج من انتاجه المغشوش في السوق بحيث يصبح عبرة لغيره.
3 – إقفال الدكان والذي كان يتم بقرار من شيخ الحرفة، ولا يمكن إعادة فتحه إلا برضاء الشيخ وأهل الحرفة بعد أخذ التعهدات عليه، وهذا الاجراء كان يسمى “التسمير” أي اغلاق الدكان بالمسامير، وكثيراً ما طبق على القصابين.
لكل حرفة أساليب قصاص متدرجة خاصة بها، فمنهم من كان يفرض على الغشاش إقامة وليمة لأهل الحرفة تعادل الجزاء النقدي، ومنهم من كان يقصّ خصلة من شعر رأسه، وكان هناك أيضاً ما يسمى “التجريص” وهو أقساها، حيث يركب المذنب حماراً بالمقلوب، ويسخّم وجهه بالسواد وآلة وآلة الغش تعلق على صدره ويدار به في السواق.
بلغ عدد الحرف في طرابلس حسب المسح الذي قمنا به لعينة من وثائق المحكمة الشرعية أواخر القرن الثامن عشر أكثر من مئة حرفة، نشرنا جدولاً إحصائياً بها في كتابنا السابق ذكره. أما في دمشق فقد قارب عدد الحرف وفق مسح مشابه قام به المؤرخ عبد الكريم رافق 163 حرفة. وقد تميزت الأسواق عموماً بالاختصاص المهني والتمركز الجغرافي الذي يجمع أهل الحرفة أو المهنة الواحدة في مكان واحد، هو السوق أو الخان. وهذا الميل لتجمع أهل الحرفة أو المهنة الواحدة في مكان واحد، هو ميزة تقليدية لتنظيم العمل في المدينة الإسلامية بشكل عام، فالعطارون والأساكفة وتجار الأقمشة والخياطون والصاغة وغيرهم تجدهم ينتظمون في أسواق خاصة بهم، تجمعهم روابط التضامن والتنافس على الجودة في نفس الوقت.
في طرابلس أحصينا 27 سوقاً و40 خاناً
في حلب كان هناك 77 سوقاً و100 خان
في دمشق كان هناك 45 سوقاً و57 خاناً
توزعت الأسواق والخانات في طرابلس على خمسة أحياء أساسية (باب الحديد – الناعورة – النوري – التربيعة – باب التبانة) حسب التقسيم العثماني للأحياء في ذلك الحين. من الواضح ان هذه الأحياء المركزية كانت تشكل قلب المدينة الذي يضج بالحركة الدائمة. ومن أبرز القضايا التي تكشفت لنا الخطأ الشائع حول مكان سوق العطارين في طرابلس، حيث يعتقد كثيرون ان مكانه كان بالأساس ملاصقاً أو قريباً من الجامع المنصوري الكبير، أكبر مساجد المدينة، أي المسجد الجامع في منطقة النوري، نظراً لبقاء العديد من دكاكين العطارة في هذه المنطقة حتى أواسط القرن الحالي. لكن سجلات القرن الثامن عشر، توضح بعد التدقيق ببعض وثائقها ان سوق العطارين كان قائماً قرب بركة الملاحة وقريباً من جامع العطار وهو مكان بعيد عن منطقة النوري (انظر سجل رقم 10/ص84 وسجل رقم 28/ص70).
كانت الحرفة توّرث الى الأبناء والأحفاد والأقرباء وتبقى أسرارها بينهم حتى أصبحت بعض العائلات تعرف نسبة الى حرفتها (الصباغ – الدباغ – العقاد – النجار – الطحان – المنجد – الخياط – الدلال – الدمرجي – اللبابيدي – الكيال…) كانت الدكاكين في السوق مفتوحة ومتلاصقة، كان هناك ترابط عائلي في ممارسة المهنة والحرفة الواحدة، وكان وقتها يكفي أن يضع صاحب الدكان حاجزاً خشبياً أو كرسياً على بابه، عند تركه له لقضاء حاجة أو عند الذهاب الى مسجد الحي القريب، وهو آمن على ماله ورزقه لوجود جار او قريب بجانبه. كان الكل يعرف بأفراح الكل ويشارك فيها، والكل يساند الكل في الأحزان والمصائب.
واللافت هو العلاقة الوطيدة التي ربطت الحرف بالطرق الصوفية والتي كانت شائعة حتى وقت قريب في بداية القرن المنصرم. كان اخي باب أو شيخ السبعة في طرابلس مثلاً، شيخاً للطريقة الخلوتية، وكان بنفس الوقت من السادة الأشراف، ومن عائلة اعتادت أن يشغل ابناؤها منصب نقيب السادة الأشراف، وهو في ذلك الوقت، كان السيد ابراهيم البركة بن عبد الصمد (انظر سجل رقم 3/ص132). كان للنسب الشريف والانتساب لإحدى الطرق الصوفية ميزة تفاضلية في تولي المناصب الحرفية، وهو ما يدل على قوة التواصل بين الشأن الديني ومتطلبات الحياة المعاشة واليومية.
– الاحتفالات والأعياد الدينية: التدين سمة بارزة من سمات طرابلس الفيحاء، فهي ما زالت على الرغم من التطورات التي دخلت على حياتها تتصف بالمدينة المحافظة لحرصها على طابعها الايماني الاسلامي، وبنيتها العائلية، ومرافقها الحرفية التقليدية التي كانت، ولا يزال بعضها ناشطاً في أسواقها داخل المدينة القديمة التي لا تزال محافظة على بنيتها الأساسية بشكل عام.
ويتميز شهر رمضان المبارك في طرابلس بأنه شهر العبادات التي يحرص أهل المدينة على أدائها، بحيث يترك هذا اثراً واضحاً على حركتها وعلاقات اهلها ببعضهم. تبدأ الاستعدادات لاستقبال هذا الشهر منذ شهر شعبان المعظم، فتنتشر الزينات في السواق والحارات وعلى المساجد والزوايا. وكان أهل المدينة يستعدون لاثبات هلال غرة شهر رمضان بالتوجه نحو البحر أو التلال العالية ليتبينوا الهلال وهو ما عرف اصطلاحاً باسم (إستبانة شهر رمضان) وليس سيبانة كما هو شائع.
تحرص العائلة الطرابلسية على الاجتماع وتبادل الزيارات والافطارات المشتركة وتوثيق عرى صلات الرحم كمظهر من مظاهر المحبة والتآلف والتكاتف. وتنتشر بشكل واسع في هذا الشهر عادة “التساكب” أو “المساكبة” حيث يتبادل الأهل والجيران أطباق الطعام المختلفة. ويزداد في هذا الشهر المبارك التزاور والسهرات الرمضانية والاكثار من عمل الخيرات. ومن أهم الليالي الرمضانية ليلة القدر التي كانت تقام باحتفال مهيب في الجامع المنصوري الكبير بحضور المفتي والوالي والعلماء وأبناء المدينة، وأصبحت فيما بعد تقام في مختلف مساجد المدينة.
تحرص العائلة الطرابلسية في هذا الشهر المبارك على تأدية زكاة أموالها للفقراء والمعوزين، بالإضافة طبعاً الى أداء زكاة الفطر قبل صلاة العيد.
وفي العشر الأواخر من رمضان تشهد أحياء المدينة نشاطاً ملحوظاً حيث تجول فرقة مشاعل وطبول تعرف بـ”الوداع” في الأحياء، إيذاناً بنهاية الشهر، حيث تجمع بعض المال لتوزيعه على المسحراتية الذين كانوا يطوفون طيلة الشهر في مختلف الأحياء لإيقاظ الصائمين للسحور. والجمعة الأخيرة من رمضان تتميز دائماً بنكهة خاصة، حيث يقام إثر صلاة الجمعة مباشرة تلاوة “ختم البخاري” في جامع طينال مع أناشيد وموشحات وأدعية وابتهالات تستمر حتى صلاة العصر، يشارك فيها مجموعة من أفاضل العلماء والمنشدين، وهي عادة لا تزال سائدة حتى اليوم. تبدأ بعدها الاستعدادات لاستقبال عيد الفطر السعيد، حيث تقام صلاة العيد في الجامع المنصوري الكبير بحضور المفتي ورجال الدولة يتقبلون بعدها التهاني حيث يبارك أهل المدينة ويعايد بعضهم بعضاً، لتبدأ بعدها زيارة الجبانة حيث تتلى لروح أموات العائلة قراءات من القرآن الكريم والدعاء لهم، ثم يزور الأبناء كبار العائلة ويتم تبادل الزيارات طيلة أيام العيد، وتنصب في بعض الساحات الألعاب والمراجيح ومختلف وسائل الترفيه والتسلية للأطفال لكي يعيشوا بهجة العيد. وهي بهجة تتكرر في عيد الأضحى غير ان توزيع لحوم الأضاحي على الفقراء، وانتظار عودة الحجاج بلهفة من الحجاز يضفي على هذا العيد نكهة خاصة. وكان ولا يزال يسبق عودة الحجاج تزيين الأحياء وإعداد العدة اللازمة لاستقبالهم باحتفالات وابتهالات كانت تعيشها المدينة والحجاج على مدار أسابيع عدة.
اما ذكرى المولد النبوي الشريف فكان له في طرابلس وقع مميز، حيث تزين الأسواق ويفرش السجاد والأقمشة وتوزع الحلوى والليموناضة في الشوارع والأحياء على المارة، وتجوب شوارع المدينة مواكب الطرق الصوفية، فضلاً عن مواكب وعراضات اصبح غالبيتها اليوم مجرد ذكرى.
ويترافق مع كل عيد وذكرى واحتفال أنواع معينة من الطعام والحلويات الطرابلسية والتي اشتهرت في المشرق العربي بطيبها ودسامته وحسن صناعتها التي يبرع فيها اهل المدينة، ولا تزال العائلة الطرابلسية تحرض على تحضيرها في هذه المناسبات، بحيث أصبحت جزءاً من الممارسة المصاحبة للاحتفال بالمناسبة.
– عالم التسلية والترفيه: كان له ايضاً عادات ارتبطت غالبيتها بطبيعة المدينة وموقعها، فعلى ضفتي النهر انتشرت المقاهي المختلفة، منها مقهى البحصة، حيث كان الكراكيزي يقيم حفلات خيال الظل المسرحية، أو كما تسمى في طرابلس (كركوز وعيواظ) وهي أسماء الشخصيات المستخدمة في هذا المسرح بالإضافة الى مقهى “جهير” على الضفة اليسرى من النهر، ومقهى “خبيني” على الضفة اليمنى في محلة السويقة، ومقهى الصيادين عند نهاية جسر اللحامين وغيرهم، وعند مصب النهر (منطقة برج رأس النهر) كانت تقام السيارين، خصوصاً في أربعة أيوب، وهي مناسبة مرتبطة بقصة النبي أيوب الذي عندما برأ من المرض نزل الماء واغتسل، لهذا، وتيمناً به، يحتفل الطرابلسيون في ذكرى شفائه، والسيران في اللهجة الطرابلسية، هو النزهة التي تقام على شواطئ البحر أو في بساتين الليمون والزيتون، حيث تجتمع العائلات لتتمتع بجمال الطبيعة وتتناول الأطعمة المختلفة، وكانت العادة أن لا يقترب أحد من مجلس العائلة الأخرى حفظاً لحرمتها وخصوصيتها في الطبيعة.
كانت ضفاف مجرى نهر “أبو علي” مقصد الأهالي أيضاً حيث بساتين الليمون في منطقة المرجة، خصوصاً في فصل الربيع، حيث تصبح المنطقة قطعة من الجمال تفوح فيها رائحة زهر الليمون الزكية، ويصبح التنزه أو السيران، ويقال له أيضاً في طرابلس “التنيرز”، وهي كلمة فارسية الأصل من نيروز، أي عيد الربيع، عادة جماعية يمارسها أهل المدينة كباراً وصغاراً، أما سيارين الصيف فكانت في الغالب على شاطئ البحر في منطقة راس النهر، والكازخانه ورأس الصخر وابو حلقة في البحصاص، وعين البرج في المنية. أما سيران رمضان فكان أيضاً له نكهة جماعية خاصة ومميزة كونه يسبق الشهر الكريم بما يشبه الاحتفال بقدومه.
ومن عادات التسلية والترفيه أيضاً ما كان سائداً وسط النساء، وأهمها عادة “الاستقبال”، حيث تحدد كل سيدة أو كما يقال “تربط” يوماً في الأسبوع او الشهر، حسب امكانياتها ووضعها الاجتماعي، تستقبل فيه زوارها بدون خبر، وكذلك “الصبحيات والعصريات والسهريات” كلها كانت تتم وفق نمطية محددة تنتظم من خلالها العلاقات الاجتماعية بين العائلات. أما الرجال فكان “المنزول”، هو المضافة البيتية التي يستقبلون فيها زوارهم. كانت هناك منازيل مفتوحة لبعض الأعيان والوجهاء، لها مداخلها الخاصة والمحايدة عن المدخل الرئيسي للبيت العائلي، صيانة لحرمة المنزل.
كان أيضاً للحمامات العامة في طرابلس عاداتها وتقاليدها، فقد كانت هناك أيام مخصصة للنساء وخرى للرجال، وقد ظلت هذه الحمامات والتي تعتبر منشآت رائعة الجمال، ولا تزال بغالبيتها قائمة تحتاج الى ترميم وتأهيل تلعب دوراً هاماً في المجتمع الطرابلسي، على الرغم من أن بيوتاً كثيرة أصبح يتوفر فيها كل مستلزمات الاستحمام المنزلي، إلا أن الحمامات العامة بقيت مقصداً للنزهة والترفيه والاجتماع، بل أن بعض المناسبات (حمام العروس) كانت تتم باحتفالية عائلية. استخدمت الحمامات أيضاً للسيران حيث كانت العائلات الميسورة تحجز الحمام لها ولضيوفها، حيث يقضون الوقت بعد الاستحمام في القسم الخارجي من الحمام حول البركة، حيث تقدم أنواع الأطعمة والشراب والفاكهة، ويقدم بعض العازفين والمغنين ألواناً من الطرب والغناء.
في اشهر الصيف الحار كانت بعض العائلات تنتقل للاصطياف فيما يسمى “المناطر” المبنية على مشارف أبي سمراء أو القبة، هرباً من الرطوبة وللتنعم بهواء الزيتون ومروج الليمون، والمناطر عبارة عن بيوت خشبية بحجم طابق أو طابقين تبنى فوق جسور خشبية وترفع عن الأرض، أما السقف فكان على شاكلة السقوف القرميدية الهرمية.
في طرابلس أيضاً كانت الداية شخصية مميزة، لم يقتصر دورها على التوليد، فهي كانت ناشطة في تدبير الزيجات، والاستقبالات وحتى في مناسبات الموت، كما في الحمامات أيام الأعراس وغيرها، بل ايضاً كمعالجة للكثير من ألأمراض النسائية وفق وصفات العطارين ووفق ما اكتسبته من خبرة في هذا المجال.
ومن العادات الاحتفالية ذات الطابع الاجتماعي، الأعراس التي كان يهتم لها الكبير والصغير وكان لها تقاليدها واصولها حسب الوضع الاجتماعي للعائلة، فالمصاهرة في طرابلس كان لها شروط واصول وأعراف، وكانت مناسبة “الختمية” أيضاً مميزة، وهي تتم عندما ينتهي الطفل من حفظ “جزء عمّ” من القرآن الكريم والذي كان يتم تعليمه في الكتاتيب للصبيان او الخوجايات للبنات. كذلك كانت مناسبة “الطهور” للاولاد، أي ختان الصبيان، والتي كانت تتم بين عمر الأربع أو السبع سنوات كانت مناسبة للاحتفال، حيث يلبس الطفل ثوباً أبيض، في الغالب مصنوع من قماش الأطلس، ويركب على ظهر حصان، يتقدمه حملة المكابس والتي يختلف عددها باختلاف غنى العائلة، وتزين بالزهور وقطع الذهب المهداة بالمناسبة من الأهل والأقارب والأصدقاء، ويتم التجوال به في الحي مع “عراضة” يختلف حجمها حسب مستوى العائلة الاجتماعي، في هذه العراضة يجري استعراض ألعاب السيف والترس وفرق الطرق الصوفية، والولد في وسطها جالس على “المكبس”، وهو كرسي من الخيزران ترصف فوقه بقج القماش المقصب حتى علو ظهره، وبعد التجوال والعراضة يعود الجميع الى المنزل حيث تجرى له حينها عملية الختان.
لكل من هذه الاحتفالات تقاليدها وأعرافها وأصولها، حيث كان ينتقد أشد الانتقاد من ينتهكها أو يتجاوزها، وكان يترافق مع كل منها دائماً أنواع محددة من الأطعمة والحلويات والهدايا، وهي تختلف من حيث عدد المشاركين ونوعية الاحتفال باختلاف الامكانيات المادية للعائلة.
هذه بعضاً من صور الحياة الاجتماعية التي كانت سائدة قبل دخوله مؤثرات العصر الحديث، بعضاً منها لا يزال مستمراً بصورة ما، وبعضها أصبح مجرد ذكرى يتناقلها الآباء ويتذكرونها كحكايا قديمة ينقلونها لجيل جديد إنقطع عن ممارستها متجهاً نحو صناعة “حكاياته” الخاصة والجديدة.