تراث طرابلس

Categories
من علماء طرابلس

يوسف العُشّ (1911 – 1967م): عَلَم من أعلام مدينة الميناء

يوسف العُشّ (1911 – 1967م): عَلَم من أعلام مدينة الميناء

الدكتور عمر تدمري

 

قبل أكثر من أربعين عاماً من الآن، اقتنيتُ كتاباً بالفرنسية عن المكتبات العربية في الشام ومصر خلال العصر الوسيط، لمؤلّفه الدكتور “يوسف العش” وكان أحد المراجع التي اعتمدتُها في إعداد أطروحتي لنيل درجة “الدكتوراه”. ولم أكن أدري أن المؤلف من مدينة الميناء، خصوصاً وأن الكتاب مطبوع في دمشق عام 1967، وليس في مقدمة الكتاب ما يشير الى مكان ولادة مؤلفه، أو نبذة تعريف به، وكذلك الحال في كتاب آخر له تضمّه مكتبتي، وهو “فهرس مخطوطات التاريخ وملحقاته في دار الكتب الظاهرية بدمشق” مطبوع سنة 1947، وكتاب ثالث بعنوان: “تقييد العلم” للخطيب البغدادي، حيث نشره محققاً، مع مقدمة له تناول فيها أثر الأجيال المتتابعة في التدوين، وقد طُبِع بدمشق سنة 1949، وله كتب أخرى وأبحاث أكثرها مطبوع بدمشق، بحيث يظن المرء أنه دمشقي من مواليد دمشق.

ويشاء الله تعالى أن أدعَى قبل سنوات قليلة لإلقاء محاضرة في “مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث بدبي” عن تجربتي في تحقيق كتب التراث، وأن يقدِّم لي المركز مجموعة كتب من إصداراته، ومن بينها كتاب بعنوان: “دُور الكتب العربية العامة وشبه العامة لبلاد العراق والشام ومصر في العصر الوسيط، للدكتور العش، وهو بالعربية، ترجمه عن الطبعة الفرنسية: نزار أباظة ومحمد صباغ، وصدر في بيروت عن دار الفكر المعاصر 1991، وفي الكتاب ترجمة للمؤلّف كتبها ابنه الدكتور “صفوان العش” ومنه عرفتُ أن المؤلف رحمه الله – هو من مواليد مدينة الميناء، ولم يسبق لأحد من الباحثين ان عرّف به أو ترجم له، مع أنه من العلماء الأعلام الذين أنجبتهم الميناء في القرن الماضي.

وقد كتب الدكتور “صفوان العش” عن أبيه الدكتور “يوسف” فقال:

ولد -رحمه الله – في منطقة الميناء من طرابلس الشام عام 1329هـ/1911م. وكان الإبن الاكبر لأب متوسط الحال يعمل بالتجارة، ثم غادر أهله بطرابلس وهو ما زال صغيراً، ناجين بأنفسهم من مدافع السفن التي أخذت تضرب السواحل اللبنانية خلال الحرب العالمية الأولى، فتوجهوا منها الى مدينة حمص، ثم الى حلب حيث أسس فيها والده تجارته بالمواد الغذائية، وجنى من ورائها أرباحاً.

وفي حلب تلقى والدي تعليمه الثانوي وحصل على (البكالوريا) الأولى سنة 1348هـ/ 1929م. ثم سافر الى دمشق، فدرس في المدرسة السلطانية (مكتب عنبر) وحصل منها على البكالوريا الثانية بتفوق سنة 1350هـ/1931م.

فأوفدته فرنسا للدراسة في جامعة (السوربون)، وأمضى في باريس ثلاث سنوات ونيفاً اكتسب خلالها ثقافة غربية، واطلع على حضارة الغرب وعلومه، ونال بعدها درجة (الليسانس) في الآداب عام 1353هـ/1934م. وحصل أيضاً على شهادة في تنظيم دُور الكتب في مدرسة الشروط بباريس.

ولما عاد الى دمشق عُيّن مديراً لدار الكتب الوطنية الظاهرية عام 1354هـ/1935م. فقام بتنظيمها أحسن تنظيم. وقد حدّثني بعض من يعمل فيها الآن (أي بعد أكثر من خمسين عاماً) ان نظام التصنيف والحفظ الذي وضعه لها ما زال متَّبعاً فيها بخطوطه الرئيسية كلها.

وكان في المدة التي تولى فيها الظاهرية يشارك العلماء والأدباء مجالسهم ومنها جلسة الثلاثاء الأسبوعية التي كانت تعقد في منزل الاستاذ “محمد كُرد علي” رئيس المجمع العلمي آنذاك. كما تعرف الى العديد من الأدباء والسياسيين الذين كانوا في تلك الفترة.

وفي عام 1360هـ/1941م. اقترن بالآنسة سلام كبارة (إحدى قريبات والدته من طرابلس)، ورزق منها بولدين وبنت، وكانت له خير رفيق حملت عنه همَّ تربية أولاده ورعايتهم، فتفرغ الى العلم والبحث وهو مطمئن البال على بيته.

وتشاء الأقدار ان يتعرف في دمشق على القانوني الكبير الأستاذ عبد الرزاق السنهوري، فيمضي معه ومع صديق طفولته الأستاذ “صلاح الدين نجيب باقي” أوقاتاً طويلة يتباحثون في أوضاع العالم العربي. وقد سعى له الأستاذ السنهوري من أجل العمل في جامعة الدول العربية، فانتُدب إلى اللجنة الثقافية فيها. وعمل أميناً للجنة، ومديراً لمعهد المخطوطات، وهو الذي اقترح إنشاءه ووضع خطّته 1366- 1370هـ/1946-1950م. كما كان أميناً للمؤتمر الثقافي العربي الأول في الاسكندرية، والثاني في بيت مري (بلبنان). وشارك في أعمال لجنة الترجمة باليونيسكو، وانتُدب ممثلاً لجامعة الدول العربية فيها.

هيّأتْ (ليوسف العُشْ) إقامتُه في عاصمة الكِنانة مدة تقارب خمس سنوات، فرصةً طيبةً للإجتماع بالكثير من أدباء مصر ومفكّريها، وكان من أصدقائه في تلك الفترة: أحمد أمين، طه حسين، وساطع الحصري وغيرهم. كما استمرت صداقتُه مع الأستاذ السنهوري بعد عودته الى مصر.

وكان لهذه الصداقة أثر خاص في نفسه، إذ أُعجِب به باحثاً مفكراً عميق النظرة، بعيد الأفق. وكان لحياته في مصر أثرٌ في تعميق إيمانه بالوحدة العربية وترسيخ حبّه لها، وأعدّ خلال إقامته هناك، وبعد سفرات عديدة الى أوروبا، الرسالة الأولى للدكتوراه وموضوعها (تاريخ دور الكتب العربية في العراق والشام ومصر عبر العصر الوسيط وأثرها في نشأة المدارس)، وهو موضوع اضطر من أجله ان يراجع كل أبحاث التاريخ العربي الإسلامي لجمع مادته، وزار لهذا الغرض دُور الكتب في سوريا ولبنان وتركيا وفيينا وباريس ومصر، واطلع على نحو من ثلاثة آلاف مخطوط، وقرأ أكثر من ثمان مئة مجلّد مطبوع.

واعترضه في تحضير الرسالة الأساسية للدكتوراه موضوع نشأة الكتب والكتابة، فاضطر الى نشر كتاب عن هذا الموضوع بعنوان (تقييد العلم) للخطيب البغدادي، وهو في تاريخ نشأة العلم وكتابته، وقدّم للكتاب بمقدِّمة واسعة بيَّن فيها تاريخ تلك النشأة، والكتاب موضوع الرسالة الثانية للدكتوراه (دكتوراه الدولة في الآداب) التي نال درجتها عام 1369هـ/1949م. من جامعة (السوربون) بدرجة مشرِّف جداً مع كتاب تهنئة من لجنة المناقشة، وهذا تقدير لا يناله إلا قليلون وفي حالات نادرة.

رجع الى دمشق عام 1370هـ/1950م. فعُيِّن أميناً للجامعة السورية، ثم انتُدِب لإدارة الإذاعة السورية، لكنه لم يبقَ طويلاً في هذا المنصب الذي ضايقه وشغل فكره. وأذكر أنه حدّثني مرة عن سبب تركه الإذاعة بهذه السرعة بأن أحد رؤسائه أَمَرَه شفوياً بطرد موظف من العمل، فرفض، ما لم يصله أمر خطي، لأنه لا يستحق الطرد، فخُيِّر بين إقالته أو إقالة الموظف، فقدّم استقالته على الفور. والغريب أن الموظف لم يعلم بما حدث.

إنتقل من الإذاعة الى الجامعة السورية، فشغل فيها منصب أمين الجامعة بين عامي 1950-1955م. وعُيِّن أستاذاً في كلية الشرعية، فعميداً لها عام 1964م. وفي تلك الأثناء أعيد الى الجامعة الليبية في بنغازي بمهمة تنسيق مكتبتها في العام الدراسي 1960-1961م.

وكان منذ عودته الى دمشق عام 1370هـ/1950م. يدور في ذهنه مسألة أخذت من وقته الكثير، وأصبحت شُغلَه الشاغل، وهوايتَه التي ملكت عليه نفسه، والتي جعل يسهر من أجلها الليالي يُمضيها في الدراسة والحساب والكتابة، كانت تلك محاولته تفسير نشوء الحضارات وتقدم الأمم والدورات التاريخية للشعوب، وحاول أن يفسر ذلك على أساس ان نشاط الشعوب مرتبط بالنشاط الشعاعي للشمس التي لولاها لما وُجِدت حياة على الأرض، فعاد إلى علوم الفيزياء والرياضيات والجيولوجيا والفلك وعلم الإنسان ليربط بين طباع الإنسان وزُمره الدموية والشعوب والدورات الفلكية للشمس. وكتب عدداً من البحوث حول الموضوع. كما قام بجولة في أوروبا بين عامي 1957-1958م. حاضر فيها في عدد من الجامعات ومراكز البحوث، باسطاً فكرته تلك، فانقسم العلماء بين مؤيِّد ومعارض. وكان شرح النظرية صعباً، لأنها لا تتناول علماً واحداً، بل عدداً من العلوم، فيصعب لذلك على صاحب الاختصاص الواحد ان يستوعبها بمجملها.

وما زالت هذه الفكرة تشغل ذهنه وتستهلك وقته، وكم كنتُ أستيقظ في الصباح الباكر لأجده على مكتبه ما انفكّ يطالع أو يحسب أو يكتب. ولقد حدّت النظرية من نشاطه الأدبي وعمله في التاريخ، مع أنها كانت تمدّه أحياناً بسعادة عظيمة، إذ اعتقد أنه شرح واحدة من أهم المعضلات التاريخية شرحاً علمياً منطقياً. فجمع بين التاريخ والعلم على صعيد واحد.

وقد أثقلت عليه نظريته، لأنه احتاج من أجلها الى الخوض في علوم جديدة والوقوف أمام عقبات يصعب تجاوزها.

وما أسرع ما أصيب بذبحة صدرية لم تُمهله وتوفي على أثرها في 1387هـ/ 11 نيسان (إبريل) 1967م.

من آثار الدكتور يوسف العُش عدة كتب بين تأليف وترجمة وتحقيق منها:

– تصنيف العلوم والمعارف (طُبِع بدمشق 1937) وهو أول كتاب عربي صُنِّفت فيه العلوم بطريقة منطقية تستقي من تصنيف “أوغست كونت” للعلوم.

– قصة عبقريّ (طُبِع في القاهرة 1943 في سلسلة “إقرأ” رقم 42) تحدّث فيه عن الخليل بن أحمد الفراهيدي، وقد وصفه قائلاً: “بهذا العقل، وذلك الخلق كان يتهيأ للخليل من الوقت والفراغ وصفاء الذهن ما يسعفه بالإبداع والخلق”. كان يطلق فكره للأشياء المحيطة به، يحاول استخراج كُنهها والوصول الى حقيقتها، يحاول أن يستخرج منها أصولاً تجمع في قانون موحَّد تلك الظواهر المتضاربة المتشبعة، وذلك شأن المبدعين.

و”الفراهيدي” عالم نحوي لغوي، وهو أول من استخرج علم العروض، وحصّن به أشعار العرب. توفي في سنة 170هـ/786م.

– الخطيب البغدادي مؤرخ بغداد ومحدّثها (طُبع بدمشق سنة 1945). درس فيه شخصيته، وعرّف بنتاجه العلمي، وهو ألّف أكثر من 60 كتاباً، من أشهرها كتاب “تاريخ بغداد” (14 مجلداً). وهو توفي سنة 463هـ/1071م.

– تقييد العلم: وهو تحقيق للخطيب البغدادي طبِع بدمشق 1949م. وهو أهم كتاب في العربية تناول فيه الخطيب البغدادي تاريخ تدوين الحديث، وقد قدم للتحقيق الأستاذ الكبير أحمد أمين، وجاء في كلمته عن المحقق ما يلي: “عرفت الاستاذ يوسف العُش شاباً ممتلئاً نشاطاً، مخلصاً للعلم، جاداً في البحث وراء الحق، لم تمنعه ثقافته الغربية أن يصرف أطول زمنه نابشاً في الكتب الشرقية، مسلِّطاً ضوء المنهج الذي اكتسبه في الغرب على التراث العظيم الذي خلّفه لنا الشرق.
– فهرس مخطوطات التاريخ وملحقاته في دار الكتب الظاهرية (طُبِع بدمشق 1947م).
– الدولة العربية وسقوطها ترجمة لكتاب “يوليوس فلهاوزن” (طبع بدمشق 1956م).
– الدولة الاموية والأحداث التي سبقتها ومهدت لها (طُبع بدمشق 1965م) إبتدأ فيه من فتنة عثمان رضي الله عنه، وحاول أن يكشف عن العوامل التي وجهت تيار الحوادث.

– الحضارة الاسلامية: بحث قدمه بالفرنسية لمنظمة اليونيسكو تحت عنوان:

La Civilisation musulumane expliquée à la lumière du monotheisme

دور الكتب العربية بالفرنسية (طُبع بدمشق 1976م)

وفي هذا الكتاب أفرد المؤلف الدكتور العُش نحو خمس صفحات عن “دار العلم” بطرابلس. وان من عوامل إزدهارها في نهاية القرن الخامس الهجري (11م) غنى المدينة بزراعتها، وغناها بحِرَفيّيها وصناعة أقمشة الصوف والحرير والكتان، بالإضافة الى معمل لصناعة الورق أسهم في نشر الكتب، وبالتالي في الثقافة. ويتناول بعد ذلك مجيء “أبي العلاء المعري” للدراسة في طرابلس، وينقل عن ابن أبي طيئ” روايته عن كيفية إحراق الصليبيين للمكتبة بدار العلم عند احتلالهم للمدينة عام 502هـ/1109م. ثم يذكر اسم اثنين ممن تولوا النظر على “دار العلم” هما: الحسين بن بشر بن علي الطرابلسي المعروف بالقاضي، والقاضي أبو الفضل بن أبي دوح، وينقل عن ابن العديم الحلبي قوله إن جلال الملك ابن عمار أنشأ دار العلم عام 472هـ/1080م أي بعد 24 سنة من وفاة “أبي العلاء” وهو ينفي وجود “دار العلم” قبل التاريخ المذكور. وقد أخطأ في ذلك.
فهو ذكر أولاً ان القاضي ابن بشر الطرابلسي كان ناظراً على دار العلم. ونحن نعرف ان ابن بشر امتدحه الشاعر عبد المحسن الصوري المتوفّى سنة 419هـ 1028م في ديوانه، وهذا يعني ان “دار العلم” كانت موجودة ومعروفة بهذا الاسم.

وبعودتنا الى نص “ابن العديم الحلبي” نجده يقول ان جلال الملك ابن عمار (جدد دار العلم) ولم يقل (أنشأ) وبين اللفظين فارق كبير كما لا يخفى. وهذا يؤكد وجود الدار قبل جلال الملك، ونظراً لازدياد عدد الكتب فيها وكثرة الأساتذة وطلبة العلم فيها قام بتوسيعها وتجديد بنائها في السنة المذكورة أعلاه حسب نص رواية “ابن العديم”.

أما القاضي “ابن أبي دوح” ففي اسمه تحريف، فهو على الصواب “ابن أبي روح” بالراء وليس بالدال.
ومن الأخطاء الأخرى في كتاب الدكتور العش – رحمه الله، قوله بما نصّه:.. الحسين بن بشر بن علي الطرابلسي المعروف بالقاضي. ذكره بن أبي طي، وقال: كان صاحب دار العلم بطرابلس أدبياً، وصنّف كتاباً في الخطب يباهي بها خطب ابن نُباته، وله مناظرة مع الخطيب البغدادي
ذكرها الكراجكي وقال: حُكم له على الخطيب بالتقدم في العلم.

وكانت هذه المناظرة في شهر شعبان من عام 462هـ/1069م. عندما دخل الخطيب طرابلس، أي قبل افتتاح دار العلم.

ان القارئ العادي سيقرأ هذا النص، ويسلم به لأنه لا يملك أدوات المناقشة، ولا ناصية التحقيق العلمي.
ومكمن الخطأ أو الغلط – هو ان الكراجكي هو الذي ذكر المناظرة بين ابن بشر الطرابلسي والخطيب البغدادي، وان تاريخ المناظرة في شهر شعبان من عام 462هـ/ 1069م.

ويقول طالب العمل وخادمه، كاتب هذه السطور، ان الكراجكي هو “أبو الفتح محمد بن علي بن عثمان الخيمي” من كبار علماء الشيعة، ألّف في الفقه، وعلم الكلام والحكمة، والطب، والفلك، والرياضيات، بأقسامها، وأقام بطرابلس وقتاً طويلاً، وألّف لأمراء بني عمار، وألّف لأمراء صيدا وصور، وله عشرات المصنّفات أحصيناها في موسوعتنا عن العلماء والأعلام في تاريخ لبنان وساحل الشام.

وقد أجمعت المصادر على وفاته بمدينة صور في عام 449هـ.

فكيف يذكر المناظرة التي جرت بطرابلس بعد وفاته بثلاثة عشر عاماً.

وبالعودة الى المصادر القديمة الأساسية، وجدنا ان الخطيب البغدادي دخل طرابلس أولاً عام 447هـ. والمرجّح لدينا إن المناظرة جرت آنذاك.

رحم الله الدكتور يوسف العُش، وتحية لمدينة الميناء التي أنجبته، وهو يستحق التكريم.

Categories
من علماء طرابلس

الأستاذ درويش التدمري

الأستاذ درويش التدمري

الأستاذ معتز مطرجي

المربي القدير والشاعر المجيد، معلم اللغة العربية وآدابها على امتداد خمسين سنة، هو في ذاكرة طرابلس وفي ذاكرة طلابه الكثر بكلية التربية والتعليم، هؤلاء الطلاب الذين تبوّأوا المناصب العالية والمراكز الرفيعة، وأصبحوا أعلاماً في مجتمعاتهم، لقد اصطلح طلابُه على تسميته بعاشق اللغة العربية الحريص على تراثها، لأنها إحدى وسائل وحدة العرب التي نادى بها، وقال ان الوطن العربي وحدة لا يتجزأ، وكان ينتقل في دروسه من أطر المجتمع الطرابلسي المحدود الى أفق الوطن العربي الممدود، فقد عاش طرابلسياً عربياً بأصله مهما انقسمت العروبة الى أصليْها الكبيرين قحطان وعدنان، وهو عربي مسلم مهما توزعت العروبة وتشتتت وتفرّقت في هذه الأيام الرديئة وانقسم الوطن العربي الى دول ودويلات وإمارات ومشيخات وما دون ذلك، فالعروبة عنده إيمان وعقيدة، والسبيل إليها يكون عن طريق التربية والتعليم والايمان برسالات السماء. دروسه في الأدب العربي مليئة بالعبر والمعاني، يروي النوادر والطرائف وغُر القصائد من الشعر العربي، يلقيها بأسلوبه الممتع، فيجذب إليه أسماع طلابه، وهو شديد الإعجاب بأبي العلاء المعري ونزار قباني في الوقت الذي عارض بعض قصائدهما.
ولد درويش جميل التدمري بطرابلس سنة 1901 وهو حفيد العلامة الشيخ درويش التدمري الذي عاش في القرن الثاني عشر الهجري، وآل التدمري قدماء العهد في طرابلس ورد ذكر أحدهم في كتاب “التحفة النابلسية في الرحلة الطرابلسية” لعلاّمة عصره الشيخ عبد الغني النابلسي، والتدمري منسوبة الى تدمر الشام وهو النطق الآرامي لكلمة تتمر العربية، ومعناها بلد التمر والنخل، والنسبة تدل على قدوم هذه الأسرة من تدمر. تلقّى دروسه الأولى في مدارس طرابلس وأنهى الثانوية في المدرسة السلطانية ثم رحل الى مصر، فدرس آداب العربية في الجامعة المصرية.
وجاء في ديوان الشعر الشمالي الذي أصدره المجلس الثقافي للبنان الشمالي سنة 1996 ان أكثر شعر درويش التدمري في الوطنيات والغزل والرثاء، وكلها ضاع إلا بعض الأبيات الحاضرة في أذهان طلابه، وقد توفي سنة 1982.
وفي حفل التأبين الكبير الذي أقيم لزميله أستاذ التاريخ في كلية التربية والتعليم فؤاد الولي نظم قصيدة طويلة هذا بعض منها:

قدرٌ أرادك يا فؤادُ مُعلّماً فجنيتَ ما أدمى الفؤادَ وحطّما
هذا سبيلٌ بالمكارهِ حافِلٌ كم هدَّ أجساداً وهَشّمَ أَعظُماَ
هذا سبيلُ ذوي الرسالاتِ الألى لاقوا كما لاقيتَ أنتَ وأعظَمَا
خمسون حَولاً في الهدايةِ عشتَها ما إن شكوتَ وأنتَ تمضغُ عَلقما
للواردين جعلتَ نفسك مَنهلاً أعظم به من مَنهلٍ شربَ الظّمَا
ونهضتَ بالأجيالِ تبني مَجدهُم بَدراً يُضيءُ هُدىً وعقلاً مُلهما

الى أن يقول:
يا واهبَ النُّورين: نور حياتهِ وضياءِ عينيه لخيرِ بني الحمى
لو كنت في بلدٍ يُعزّزُ أهلُهُ قدرَ المعلمِ قلّدُوكَ الأنجماَ
لكنها الأقدارُ يجري حُكمُها أبداً بما شاء الإلهُ وقسّما
حسبي وحسبكَ يا زميلي إننا ذُقنا الأذى وإباؤنا لم يثلما

ويختم بهذين البيتين:
إني أكادُ أراكَ في دار الرضى ولسانُ حالكَ راح يهتفُ مُرغَمَا
إن رُمتَ عن ذُلّ السؤالِ تجافياً فاربأ بنفسِكَ أن تعيشَ مُعلما

نٌشرت في جريدة البيان بتاريخ 23 أيار 2012

Categories
من علماء طرابلس

الشيخ محيي الدين الخطيب

 

الشيخ محيي الدين الخطيب

الأستاذ معتز مطرجي

 

مصباح إسلامي طرابلسي أنار طريق التائهين الضالين، أنار عقولهم وفتّح بصائرهم وأنعش قلوبهم، وصفه الاستاذ الدكتور عمر تدمري في موسوعته الإسلامية بالشيخ الفاضل، العالم، المدرّس، الفقيه، المحدث.

الشيخ محيي الدين الخطيب سار على درب أستاذه علامة الفيحاء ابن المحاسن القاوقجي، وأخذ عنه وعن العلماء عبد الحميد الخطيب ومحمود نشابه ودرويش التدمري وغيرهم علومه الأولى، ولما كان لديه شغف كبير للحصول على المزيد من العلوم، سافر الى أرض الكنانة لينهل من شيوخ الأزهر الشريف ما يطيب له من علوم الدين واللغة ويتزود بالثقافة العامة، ولم تكن عيناه مبهورتين بأضواء القاهرة ولا بقشور الحياة، وهو الذي نما وترعرع في بيئة دينية محافظة، إنما كان يشغل فكره وعقله المعرفة والثقافة والتقرب من العمل بأوامر الله واجتناب نواهيه، ليعود الى أهله وبلده حاملاً معه كل ما يستطيع أن يختزنه في ذاكرته ووجدانه من حسن تنفيذ الشريعة السمحاء، ليعم الوئام والعدل بين الخلق، فدُعي لاستلام مديرية المدرسة الحميدية في مشحة عكار، تم تولى التدريس في الجمعية الخيرية الاسلامية، كما في عدد من مساجد طرابلس، وعيِّن مدرساً وخطيباً في جامع الاويسية القريب من قلعة طرابلس، وقد أظهر في كل هذه المهام التي أسندت إليه الاسلوب السلس والاطلاع الواسع في العلوم الفقهية والأحاديث وتفسير القرآن الكريم وآداب اللغة العربية من نحو وصرف وبلاغة ونظم وكتب الصوفية، لاسيما حكم ابن عطاء الله الاسكندراني صاحب الطريقة الشاذلية.

وخلال فترة التدريس تتلمذ على يديه عدد وافر من المشايخ الذين أصبحوا فيما بعد من أعلام المدينه منهم: الشيخ عبد القادر الشلبي المجاور في المدينة المنورة ونزيل مقبرة بقيع الفرقد، والشيخ محمد أمين عز الدين، والشيخ عارف المولوي، ومفتي اللاذقية نور الدين الامام، ومفتي عكار خالد الكيلاني، ومفتي طرابلس رامز الملك وغيرهم كثير.

ترك مترجمنا في أصول الفقه كتاباً مطولاً وعدة رسائل صغيرة في الفرائض والتوحيد والوقف وغير ذلك.

والشيخ محيي الدين بن يوسف بن اسماعيل الخطيب هو من مواليد طرابلس سنة 1865 وينتمي الى أسرة معروفة اشتهر منها رجال عُرِفوا بالبراعة ورسوخ القدم في العلم منهم الشيخ عبد القادر نزيل المدينة المنورة والشيخ عبد الحميد الاديب العالم والمربي الفاضل، والقاضي رشاد الخطيب.

انتقل الشيخ محيي الدين الى جوار ربه سنة 1954 بعد حياة حافلة بالتقى والورع وخدمة الدين، وقد تيسّر له أداء فريضة الحج مرتين، وشيّعته طرابلس بمأتم مهيب مشى خلف نعشه كبار العلماء والمشايخ ورجالات الفيحاء، وقد رثاه مؤرِّخاً وفاته سماحة الشيخ عبد الكريم عويضة بهذه الأبيات:

مأتمٌ في الأرض عرسٌ في السماء

خطب محيي الدين قُطب الاتقياءِ

فجع الدهر به دين الهدى

فجرت عيناه سُحُباً بالدماءِ

وعليه ذابت الأرواح من

أمة الهادي إمام الأنبياءِ

نشر العلم بفيحاء الحمى

عاطر النشر خليقاً بالثناءِ

ولذا الاملاك نادت أرّحوا

مرحباً أهلاً بشيخ العلماءِ

رحمه الله وأجزل ثوابه.

Categories
دراسات في تاريخ طرابلس وحاضرها

الشيخ محيي الدين الخطيب

 

الشيخ محيي الدين الخطيب

الأستاذ معتز مطرجي

 

مصباح إسلامي طرابلسي أنار طريق التائهين الضالين، أنار عقولهم وفتّح بصائرهم وأنعش قلوبهم، وصفه الاستاذ الدكتور عمر تدمري في موسوعته الإسلامية بالشيخ الفاضل، العالم، المدرّس، الفقيه، المحدث.

الشيخ محيي الدين الخطيب سار على درب أستاذه علامة الفيحاء ابن المحاسن القاوقجي، وأخذ عنه وعن العلماء عبد الحميد الخطيب ومحمود نشابه ودرويش التدمري وغيرهم علومه الأولى، ولما كان لديه شغف كبير للحصول على المزيد من العلوم، سافر الى أرض الكنانة لينهل من شيوخ الأزهر الشريف ما يطيب له من علوم الدين واللغة ويتزود بالثقافة العامة، ولم تكن عيناه مبهورتين بأضواء القاهرة ولا بقشور الحياة، وهو الذي نما وترعرع في بيئة دينية محافظة، إنما كان يشغل فكره وعقله المعرفة والثقافة والتقرب من العمل بأوامر الله واجتناب نواهيه، ليعود الى أهله وبلده حاملاً معه كل ما يستطيع أن يختزنه في ذاكرته ووجدانه من حسن تنفيذ الشريعة السمحاء، ليعم الوئام والعدل بين الخلق، فدُعي لاستلام مديرية المدرسة الحميدية في مشحة عكار، تم تولى التدريس في الجمعية الخيرية الاسلامية، كما في عدد من مساجد طرابلس، وعيِّن مدرساً وخطيباً في جامع الاويسية القريب من قلعة طرابلس، وقد أظهر في كل هذه المهام التي أسندت إليه الاسلوب السلس والاطلاع الواسع في العلوم الفقهية والأحاديث وتفسير القرآن الكريم وآداب اللغة العربية من نحو وصرف وبلاغة ونظم وكتب الصوفية، لاسيما حكم ابن عطاء الله الاسكندراني صاحب الطريقة الشاذلية.

وخلال فترة التدريس تتلمذ على يديه عدد وافر من المشايخ الذين أصبحوا فيما بعد من أعلام المدينه منهم: الشيخ عبد القادر الشلبي المجاور في المدينة المنورة ونزيل مقبرة بقيع الفرقد، والشيخ محمد أمين عز الدين، والشيخ عارف المولوي، ومفتي اللاذقية نور الدين الامام، ومفتي عكار خالد الكيلاني، ومفتي طرابلس رامز الملك وغيرهم كثير.

ترك مترجمنا في أصول الفقه كتاباً مطولاً وعدة رسائل صغيرة في الفرائض والتوحيد والوقف وغير ذلك.

والشيخ محيي الدين بن يوسف بن اسماعيل الخطيب هو من مواليد طرابلس سنة 1865 وينتمي الى أسرة معروفة اشتهر منها رجال عُرِفوا بالبراعة ورسوخ القدم في العلم منهم الشيخ عبد القادر نزيل المدينة المنورة والشيخ عبد الحميد الاديب العالم والمربي الفاضل، والقاضي رشاد الخطيب.

انتقل الشيخ محيي الدين الى جوار ربه سنة 1954 بعد حياة حافلة بالتقى والورع وخدمة الدين، وقد تيسّر له أداء فريضة الحج مرتين، وشيّعته طرابلس بمأتم مهيب مشى خلف نعشه كبار العلماء والمشايخ ورجالات الفيحاء، وقد رثاه مؤرِّخاً وفاته سماحة الشيخ عبد الكريم عويضة بهذه الأبيات:

مأتمٌ في الأرض عرسٌ في السماء

خطب محيي الدين قُطب الاتقياءِ

فجع الدهر به دين الهدى

فجرت عيناه سُحُباً بالدماءِ

وعليه ذابت الأرواح من

أمة الهادي إمام الأنبياءِ

نشر العلم بفيحاء الحمى

عاطر النشر خليقاً بالثناءِ

ولذا الاملاك نادت أرّحوا

مرحباً أهلاً بشيخ العلماءِ

رحمه الله وأجزل ثوابه.

Categories
دراسات في تاريخ طرابلس وحاضرها

26 نيسان يوم أغّر في تاريخ طرابلس الفيحاء 2/2



26 نيسان يوم أغّر في تاريخ طرابلس الفيحاء 2/2

بقلم الدكتور عمر تدمري

وإذا كان قد قُدِّر لإمارة الرّها أن تتحرر على يد الملك الشهيد نور الدين زنكي، وأن ينتصر الناصر صلاح الدين الأيوبي على جيوش ملوك أوروبا في موقعة حطّين ويحرر بيت المقدس، وأن يقوم الملك الظاهر بيبرس باسترداد انطاكية وفتح البلاد التابعة لها، فإن طرابلس ظلت عاصية أمام هجمات المسلمين، فقاومت عماد الدين زنكي، وابنه الشهيد نور الدين، والناصر صلاح الدين، وأخاه الملك العادل الأيوبي، والظاهر بيبرس، حتى قيّض الله لها السلطان المنصور قلاوون، سلطان دولة المماليك، فكان موعد تحريرها معه وعلى يديه، حيث خرج بجيشه من القاهرة إلى دمشق، وبها تجمعت الجيوش من مختلف أنحاء بلاد الشام، وانضم الى جيشه النظامي آلاف المتطوعة المغاربة النازحين من الأندلس. خرج من دمشق الى طرابلس في فصل الشتاء، والثلوج تكسو الجبال المشرفة على المدينة، ففاجأ الصليبيين ورابط عند مرتفع القبة، التي عُرفت بقبة النصر منذ ذلك التاريخ تمجيداً للفاتح العظيم، وضرب حصاره على الفرنج مدة 33 يوماً، وقذف الفرنج بالمنجنيقات، ونقب الجُدر والأسوار واقتحمها تحت غطاء من عشرات آلاف السهام والدبابات الخشبية الثقيلة والأنابيب التي تقذف النار الملتهبة، الى أن فرّ بعض القادة الفرنج في البحر إلى الجزر أمام الميناء، وقُتل بعضهم، وأُسر آخرون، وخاض المماليك عباب البحر بخيولهم وبعضهم سباحةً إلى جزيرة البقر، حيث فرّ الصليبيون إليها، وتّم دحر الفرنج في يوم 26 نيسان سنة 1289، وسقطت في هذا اليوم قاعدة الإمارة الفرنجية التي أقيمت على أرض مدينتنا العربية الإسلامية بغياً وعدواناً، وعادت طرابلس منذ ذلك التاريخ ثغراً ورباطاً للعرب والمسلمين، وكان يوم 26 نيسان يوم تحرير طرابلس من الاحتلال الفرنجي الأوروبي، ويوم تأسيس المدينة المملوكية التي تفخر بمساجدها ومدارسها وحمّاماتها وخاناتها وأبراجها وسُبُل مياهها وقصورها وأسواقها وساحاتها ونقوشها وزخارفها. وقد خفقت قلوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها فرحاً وابتهاحاً بفتح طرابلس وعودتها إلى المسلمين، فأقيمت الاحتفالات والزينات في كل بلاد المسلمين.

وبفتح طرابلس تيسّر فتح آخر معاقل الغزاة الفرنج في عكا وصور وصيدا وبيروت، وتم طردهم من ديار الشام بعد سنتين 1291م.

وكان من حق الفاتح العظيم القائد المجاهد المنصور قلاوون أن يخلَّد اسمه على أهم معالم طرابلس المملوكية، فكان أن أطلق ابنه على الجامع الكبير الذي أمر ببنائه، لقب أبيه الذي اشتهر به، وأصبح (الجامع المنصوري الكبير) وتمجيداً لجهاده ودوره في تحرير طرابلس. وحريّ بنا ونحن نستقرئ هذا التاريخ المجيد ونستعيد ذكرى هذه الموقعة الحاسمة، أن نتذكّرها ونرّسخ قيمها في نفوس أبنائنا وأجيالنا، ليقرأوا تاريخ مدينتهم العريق بالنضال والجهاد والحضارة.

وكما تحررت طرابلس الحبيبة من الغزاة بعد أكثر من 180 عاماً من الاحتلال الآثم، وكما تطهرت الرّها وبيت المقدس من الفرنج بعد احتلال دام نحو مئتي عام. فإن الله تعالى سينصر جنده المجاهدين أبطال الحجارة والمقاومة الإسلامية، ويحقق الله على أيديهم النصر بتحرير فلسطين وتطهير بيت المقدس والحرم القدسي الشريف، وليس ذلك على الله بعزيز “ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله ألا إن نصر الله قريب”.

إن أهم درس يمكن أن يستفاد من الذكرى – الحدث هو أن الحق في النهاية لا بد ان ينتصر، وان فترات القهر في حياة الأمم والشعوب لا بد أن تنتهي، وان اليأس ينبغي أن لا يدخل القلوب المؤمنة. فها هي انتفاضة الأقصى في فلسطين المحتلة تقضّ مضاجع الصهاينة وأعوانهم، ولا بد أن تعود فلسطين عربية كما أعادها صلاح الدين، وكما تحررت طرابلس فستتحرر القدس بإذن الله ولو بعد حين.

نُشرت في جريدة البيان بتاريخ 25 نيسان 2012

Categories
دراسات في تاريخ طرابلس وحاضرها

26 نيسان يوم أغرّ في تاريخ طرابلس الفيحاء


26 نيسان يوم أغرّ في تاريخ طرابلس الفيحاء
بقلم الدكتور عمر تدمري

يصادف يوم الخميس الواقع في 26 نيسان من هذا العام، يوم تحرير مدينة طرابلس من الغزاة الإفرنج واستردادها، وإعادة بناء المدينة المملوكية بآثارها الإسلامية التي لا يزال أكثرها قائماً حتى الآن، عنواناً لحضارة الأمة الإسلامية وتراثها العمراني العريق. وبهذه المناسبة المجيدة، يجدر بأبناء الفيحاء ان يتوقفوا قليلاً أمام هذا الحدث التاريخي الجليل في مسيرة مدينتهم، ويستقرئوا وقائع النضال والصمود والجهاد التي خاضها أجدادُهم، ورابطوا وجاهدوا في الله حق جهاده، ليرفعوا كلمة الحق والدين، ويذودوا عن ديارهم ضد المستعمر الأجنبي الغاصب.
لقد جاءت الحملات – المعروفة في الكتب بالحملات الصليبية – من كافة أنحاء أوروبا والعالم الغربي في القرن الخامس الهجري – الحادي عشر الميلادي، تحت ستار من الدين وحماية الأماكن المقدّسة، ولكنها في حقيقة الأمر كانت تخفي أطباع ملوك الإفرنج في استعمار بلاد المشرق العربي الإسلامي، والسيطرة على خيراته، والتحكم في موقعه الإستراتيجي، واستغل الإفرنج إنشقاق العالم الإسلامي في ذلك الوقت بين السلاجقة الأتراك في العراق، والفاطميين في مصر، وقيام إمارات صغيرة في أنحاء بلاد الشام، فقام ملوك أوروبا كلهم بحملاتهم الصليبية، براً وبحراً، واحتلوا سواحل بلاد الشام كلها، وأقاموا إمارات لاتينية تخضع لهم من إنطاكية والرّها شمالاً، حتى بيت المقدس وأراضي مصر والأردن جنوباً، أي ما يزيد على مساحة فلسطين المحتلة الآن من الصهاينة عشرات المرات. وكانت طرابلس في ظل أمرائها من بني عمار قاعدة إمارةٍ مستقلة على هذا الساحل تمتد من نواحي اللاذقية شمالاً، حتى جونية وجسر المعاملتين، جنوباً، وتنعم بخيراتٍ اقتصادية، وازدهار في التجارة والصناعة والزراعة والعمران، وحياة ثقافية وفكرية وعلمية قلّ نظيرها في التاريخ، حتى أشاد المؤرخون الثقات بعظيم ثروتها فقالوا إنها من أعظم البلاد تجارة وأغناها ثروة، وهي تفخر بدار العلم ومكتبتها الكبرى التي كانت تحتوي على ثلاثة ملايين مخطوطة، وهي تفوق مكتبات الخلفاء في بغداد والقاهرة وقرطبة مجتمعة. ولقد وقفت طرابلس صامدة في وجه الغزاة عشر سنوات (492 – 502هـ/1099-1109م) وعانى أهلها من الحصار الطويل حتى افتقر الأغنياء، وأكل الناس الجيف والكلاب، وتخاذل الفاطميون عن نصرتهم، وتجمعت أساطيل الفرنج لحصار المدينة من البحر، وضيّقوا الخناق عليها من البر، ومنعوا وصول الغذاء والمساعدة من البلاد القريبة، حتى سقطت المدينة بأيديهم، فدمّروا معالمها، وأحرقوا مكتبتها بأمرٍ من قائدهم (برتراند) فضاع على الإنسانية كنزٌ هائلٌ من التراث والعلوم المدونة في المخطوطات النادرة المكتوبة بماء الذهب وبخطوط مؤلفيها، ورزحت طرابلس تحت حكم الغزاة الأوروبيون أكثر من 180 عاماً، وعمل الغزاة على تغيير معالمها العربية والاسلامية، فنشروا نظمهم وقوانينهم، وعملوا على فرض لغاتهم الغربية وعاداتهم، وكذلك فعلوا في كل المدن والبلاد التي احتلوها في الشرق العربي الإسلامي.
ولأهمية موقع طرابلس الإستراتيجي، ودورها التاريخي على ساحل الشام، فقد اتخذ منها الصليبيون عاصمة لإحدى إماراتهم اللاتينية بعد إمارة إنطاكية وإمارة الرها، ومملكة بيت المقدس.
نٌشرت في جريدة البيان بتاريخ 18 نيسان 2012

Categories
دراسات في تاريخ طرابلس وحاضرها

في “جُمعاه وأحده”، في “جادات لهوه” وفي “سور مدينته الوهمي”

في “جُمعاه وأحده”، في “جادات لهوه” وفي “سور مدينته الوهمي”

د. خالد زيادة مسكونٌ بمدينةٍ عاصيةٍ على الموت!

بقلم: سحر الأسمر

مدخل/الرواية كنصٍ مفتوح!

يقول أدونيس: “كتبٌ كثيرة للقراءة. لكن أفضِّلُ أن أنام على أن أقرأ كتاباً لا يوقظني”[1]. فكل كتاب، حسب أدونيس، قراءة، وخصوصية قراءته هي وحدها التي تجعله طاقة متحركة وفعّالة. هي وحدها التي تُسافر بما تقرأه في مجهولات الوجود، فتحوّل صمت الكتاب إلى نُطق وثباته إلى أجنحةٍ تطيرُ في جميع الجهات[2]….

تجدها كاملة في مراجعات كتب ضمن خانة المركز الثقافي للحوار والدراسات

 


[1] – أدونيس/ رأس اللغة جسم الصحراء- دار الساقي- بيروت ط1، 2008، ص213.

[2] – أدونيس/ المرجع السابق ص61.

 

Categories
دراسات في تاريخ طرابلس وحاضرها

بركة السمك في البداوي (جديد)

بركة السمك في البداوي

بقلم جومانة بغدادي

    اشتهرت البداوي منذ مئات السنين، ببركتها التي كان يعيش فيها أكثر من ستة آلاف سمكة تتغذى من مياه نبع يصب فيها، ثم يسقي نحو خمسمئة فدان من بساتين الليمون المحيطة بها. وتقع بلدة البداوي، شمالي مدينة طرابلس، وهي حي من احيائها، وتكاد تندمج معها، بعدما امتدّ البناء من طرابلس إلى البداوي ومن البداوي نحو طرابلس.

ولهذه البركة أسطورة غريبة يتناقلها الناس، وهي أن السمك المقدس الذي كان موجوداً فيها، ممنوع أكله، وإن من كان يصطاده يصاب بالمرض او بالتسمم اذا أكله.

ويروى أن إحدى الفرق العسكرية الأسترالية التي خيّمت في منطقة البداوي أيّام الحرب العالمية الثانية، اصطاد بعض افرادها عدداً من هذه الأسماك وحاولوا أكلها بعد قليها، فأصيبوا جميعاً بعوارض التسمم والهستيريا!

هذه الأساطير التي كانت تروى عن السمك المقدس، حفظته طوال مئات السنين من تعدي الانسان عليه، فكانت البركة مزاراً لا يقتصر على الطرابلسيين وحسب، بل كان يفد اليها الزوار من كل المناطق اللبنانية والعربية، بحيث يتسلى الزائر برمي «القضامة» وفتات الخبز إلى السمك لمشاهدة الآلاف منها كيف تتدافع وتتصارع لتحصل على حبة قضامة او قطعة خبز.

في مطلع السبعينيات، حفرت إدارة مصفاة طرابلس المجاورة للبركة، سبع آبار بالقرب منها، لمد المصفاة بالمياه، إضافة إلى عدد من الآبار الخاصة، الأمر الذي أثر على المياه المتدفقة على البركة، والتي ما لبثت أن انكفأت نحو الآبار التي حفرتها المصفاة، فنضبت المياه في البركة، ومات جميع السمك فيها…

وانتهت بذلك أسطورة السمك المقدس…

وحرمت المنطقة من الزوار الذين كانوا يأتون لمشاهدته.

زارها علامة دمشق الشيخ عبد الغني النابلسي وذكرها في رحلته الكبرى المسماة بالحقيقة والمجاز ونظم فيها أبياتاً حيث قال:

وبركة البداوي****بمائها تداوي

يسبح فيها سمك****يصلح للتداوي

وهو كثير فيها***لسرها السماوي

مولاه قد حماه****بغر شيخ ثاوي

هناك في جامعه***مقامه العلاوي

فان من يصيده*يمرض وهو الغاوي

وجربت مرارا*جميع ذي الدعاوي

بها طرابلوس*****لجنة تساوي

Categories
دراسات في تاريخ طرابلس وحاضرها

مبانٍ في ساحة الدفتردار آيلة للسقوط فوق رؤوس قاطنيها


مبانٍ في ساحة الدفتردار آيلة للسقوط فوق رؤوس قاطنيها… والبيّنة بالصور!

سكنها التاريخ ونبتت فيها أنياب الفقر وكانت يوماً بؤرة لـ”دولة القدور”

تحقيق: غصون العوض

كانت في يوم مقرّاً لـ”دولة المطلوبين”، وجد التاريخ لنفسه فيها مستقراً، إنها منطقة “ساحة الدفتار” (الدفتر دار)، مساحة تربّع الفقر بين جنباتها حتى استقرّ فيها دونما انسلاخ، ارتبط في وجدانها، فنبت للفقر أنيابٌ نهشت السلم الأهليّ متسلحاً بالجوع عبر حكايات عن مغامرات “سيّد” السبعينات، فرسمت بطلاً من ورق على هيئة ناصرٍ للمظلومين “أحمد القدّور”… ساحة الدفتردار وحاراتها تغصّ بصور زعامات المدينة والوطن بشكل ملفت، تحتضن تناقضاته، فيصمد الفقر فيها ولا يعرف سبيلاً للخروج منها.

عندما يصبح للفقر أنيابٌ تفترس مفهوم الدولة يقع المواطن فريسة هذا الواقع، يدخل المتقصّي لأحوال هذا الجزء من المدينة القديمة ليجد نفسه في متاهة مَنْ سكن زواريبها. هي منطقة تعيش في غربة عن وطن السياحة والإستثمار، لسان حالها مبانٍ تاريخيّة تنتظر دون أمل من يرمّمها، وقد أضحى معظمها آيلاً للسقوط، كما هو حال العقار الذي تعود ملكيته لحسين عنكليس ويقطن فيه المواطن رباح البش وأخاه وسبعة صغار هم قاب قوسين أو أدنى من وقوع كارثة حتمية، إذ أن جدران المنزل متفسخة بمسافة تتعدى عرض كف اليد، وستبيّن الصور المرفقة بالتقرير واقع المأساة، والبلدية كعادتها لا عين ترى ولا أذن تسمع.

Categories
دراسات في تاريخ طرابلس وحاضرها

ثقافة الوقفيات (جديد)

ثقافة الوقفيات

بقلم فلك مصطفى الرافعي

تعرَّفتُ على الوقفيات عبر تجربة شخصية أملتها عليّ نزوة من حبِّ الإستطلاع أن أكتشف مملكة سيدتي الوالدة -أطال الله بعمرها- والمعروف “بالمطبخ”. رمقت المساعدة بنظرة فيها الرضا والحذر عندما بادرت الأخيرة بغسل الأطباق والأقداح، وكان حذرها مصيباً، فسرعان ما هوت بعضها، وتشظّت الأرض بالزجاج المسفوح، ولم ينقذها من تأنيبها إلاّ صوت سيدي الوالد – يرحمه الله- ضاحكاً محاولاً إنهاء الإشكالية بطرفة قائلاً “لا بأس سأذهب إلى متولي الإناء المكسور” للتعويض عمّا تلف. وكانت ست الحبايب قد اعتادت على اجتهادات وفتاوى زوجها القاضي المتمرّس الذي يميل في الأوقات الحرجة لإعتماد أسلوب فكهٍ، لم أتبين ساعتها معاني المقولة حتى هبط الليل وانتظرت فراغه من تناول العشاء أسأله عما خالطني من إدراك ما قاله.