تراث طرابلس

Categories
من علماء طرابلس

الشيخ محمد صلاح الدين كباره

الشيخ محمد صلاح الدين كباره

الاستاذ معتز مطرجي

 

   لم يحظَ كتابٌ في تاريخ البشرية بمثل ما حظي به القرآن الكريم من عناية ورعاية، كذلك في جمعه وحفظه ودراسة لغته وتذوق بلاغته وحسن روايته وقصصه.

وقراءة القرآن الكريم تعتبر فناً قديماً منذ عهد النبوة وهي مستمرة بالتواصل.

وورد عن الإمام الغزالي ما يلي: وتلاوة القرآن حق تلاوته هو أن يشترك فيه اللسان والعقل والقلب، فاللسان يرتّل والعقل يترجم والقلب يتعظ. وجاء عن الصحابي عبد الله بن مسعود قوله: جوَِّدوا القرآن وزيِّنوه بأحسن الأصوات واعربوه فإنه عربي والله يحب أن يُعرب به.

وكان الشيخ محمد صلاح الدين كبارة يقبل على قراءة القرآن بهدى هذه المعاني   مع موهبة في الصوت وحسن في الآداء، وكان الحافِظ العالِم بالقراءات الأربع عشرة، المجوّد، يعطي الحرف حقه في مخرجه، ويراعي لغة العرب من حيث قواعدهم في تدقيق المدقق وتفخيم المفخم وبالصيغة المتلقاة من أئمة القراءات المتواترة عن السيرة النبوية العربية الشريفة.

وكان الشيخ محمد صلاح الدين كان أبصر النور سنة 1921 في زقاق منور قريب من الجامع المنصوري الكبير وبعد خطوات من الرفاعية والعطارين من أحياء طرابلس التراثية العريقة، التي كانت تموج بكتل المؤمنين من العلماء والفقهاء وحفظة كتاب الله الكريم.

نشأ وترعرع في كنف والده الشيخ محمد علي يوسف كبارة أحد كبار المنشدين ومن أصحاب الصوت الجميل وضمن أسرة إيمانية كريمة.

تلقى مترجمُنا الجليل تعليمه الابتدائي في القسم الشرعي بدار التربية والتعليم الإسلامية، وحفظ القرآن على يد الحافظ الشهير الشيخ نصوح البارودي، ثم غادر الى القاهرة سنة 1941 متابعاً علومه الدينية في الأزهر الشريف، فأخذ القراءات على طريقة الشاطبيه والدّرة على يد شيخ المقارئ المصرية عامر بن السيد عثمان.

بعد عودته من مصر ونيله شهادة التجويد والقراءات هنّأه العلاّمة الشيخ عبد الكريم عويضه وأرّخ عودته على حساب الجمّل بهذه الأبيات:

يا ابن العلى المرتضى كبارة قد عدتَ من مصر بعودٍ أحمدِ

أتقنتَ آياتِ الكتاب بحفظه وجمعتَهُ عن خير هادٍ مرشدِ

أثنوا على الفيحاء فيك فأرّخوا حازت طرابلس ثناً بمحمد

في مطلع شبابه زاحم كبار المقرئين في مصر، فعيّنْته وزارة الأوقاف الإسلامية قارئاً في مسجد الفتح في سراي عابدين. وفي الأربعينات من القرن الماضي تعاقد مع الإذاعة الفلسطينية بالقدس، وتردد صوتُه الرخيم في أرجاء المسجد الأقصى المبارك، وقام بتسجيل قراءات مباركة للإذاعة الفلسطينية والأردنية كانت غاية في جمال الصوت وحسن الأداء، كما طاف في أنحاء العالم الاسلامي ولبّى دعوات رسمية في مكة المكرمة والدروس الدينية الحسنية في المغرب، واتحاد قراء العالم الاسلامي في باكستان، وكان عضواً في لجنة التحكيم الدولية في مسابقة القرآن الكريم في ليبيا وقام أثناءها بتسجيل المصحف المرتّل، ودُعي الى إيران وقرأ في مساجد اسطنبول وأنقرة وازمير.

وجاء في كتاب آثار طرابلس الإسلامية للأستاذ الدكتور عمر تدمري صفحات عن حياة شيخنا الجليل ومما ورد:

وفي سنة 1967 عاد الى مصر لتسجيل وطبع أسطوانات للقرآن والأذان والتسابيح، وحضرتُ معه أمسية في المعهد العالي للموسيقى العربية، وأنشد عدّة قصائد من مقامات مختلفة، كان يطلبها منه أساتذة المعهد وكبار الموسيقيين، وبينهم رئيس المعهد مصطفى نصر، فأجاد ونال الإعجاب التام، وحصل على شهادة من المعهد بأدائه وبراعته في الأنغام بدرجة امتياز.

كان عارفوه يستمتعون بطيب حديثه، وحسن معشره، ويتلمسون وقع كلماته الساحرة على الآذان، ولازال صوتُه العذب الشجي يتردد في مسمعي،وأدرك بين الآية والآية مبلغ الفقدان والخسارة والغياب، ولا يصيب القلب والعقل والأذن سوى الحسرة والصمت على غيابه، وقد أكرمه الله وتوفاه في العشر الأخير من رمضان سنة 1420 هجرية الموافق له آخر يوم من سنة 1999 ميلادية في خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم وفيه أُدخل الجنة وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة ألا يوم الجمعة كما ورد في الحديث الشريف، ومن الصدف المباركة أن رفوفاً من الحمام كانت تواكب جنازته في السماء الى مثواه الأخير، وقد رأيتُها بأم العين.

رحم الله الشيخ محمد صلاح الدين كبارة شيخاً مؤمناً وحافظاً للذكر عاملاً فيه وله.

 

Categories
من علماء طرابلس

الشيخ عبد الرحمن الصوفي

الشيخ عبد الرحمن الصوفي

 

                                                              معتز مطرجي

 

     كان الشيخ عبد الرحمن مالئ عصره، بحضور مترع بالخصوبة والتألق في اللغة والشعر وعلم المنطق، فهو كثير في واحد، فمن أية جهة أقبلت عليه ترى منه المعرفة والأصالة والإلتزام الصارم بمذهب السنة والجماعة.

من هنا كان مترجمنا صاحب مدرسة على صعيد اللغة والشعر، وتعلقه بالطريقة الصوفية، وحسبي أن أشير في هذا الصدد الى مراسلاته الشعرية مع كبار أدباء عصره لا سيما صاحب كتاب طوق الحمامة وكاتب الامير بشير الشهابي عنيت به الشيخ ناصيف اليازجي، إذ قال في قصيدة:

بلغت مقاماً لم تنله الأوائل وحزت كمالاً تبتغيه الأفاضل

ولست براءٍ غير فضلك يرتجى لكل ملم فيه تدمى الصياقل

ولولاك لم تدر العلوم بأنها تجل وإن قد بان منها دلائل

الى أن يقول:

ويقصر باع الدهر عن وصف سيد له جُمعت في المكرمات الفضائل

إمام الهدى ارسلت للناس قائداً وهل غيركم يرجى وأنت المناهل

وكل مرام للأنام بغيركم له الليل وجه والنجوم أوافل

ورد عليها اليازجي بأبيات مدح فيها براعته وجودته، قال في مطلعها:

منازل عُسفان فدتكِ المنازلُ أراجعةٌ تلك الليالي الأوائل

وفي تقريظ لرواية المؤرخ جرجي ينّي “نكت العهود” قال:

نفيس لآل النيرات الثواقب تنظم عقداً في نحور الكواعب

وأسفر صبحاً جوهري نظامه ولاح كبدر التمّ فوق ترايب

بديع معانٍ نبهتنا رموزه على حسنه والحسن أعظم جاذب

تميس به تيهاً نشاوى وتنثني الى جرجي العلياء سامي المراتب

هو الدّرة الغرّاء والسدّة التي تمسذَك في أذيالها كل خاطب

   ولد الشيخ عبد الرحمن الصوفي الزيلعي سنة 1220 هـ الموافق لسنة 1805م على وجه التقريب، في مدينة طرابلس ونشأ وترعرع فيها، وتلقى دروسه على يد مشايخها، ثم سافر الى مصر، وبعدها عاد الى طرابلس وعيّن مدرساً للغة العربية في المدرسة الوطنية التي تأسست سنة 1294ه، وتخرج عليه عدد من الطلبة الذين أصبحوا فيما بعد من أصحاب المناصب الدينية والأدبية، ومنهم كما ذكر المؤرخ عبد الله نوفل عمه الشاعر والأديب أنيس بن عبد الله بك نوفل، ولما أقفلت المدرسة دخل سلك موظفي الحكومة وتقلد منصب القضاء في عدد من المدن العربية، ثم تولى إدارة الاوقاف الاسلامية في طرابلس. ويبدو من سيرة مترجمنا كما ورد في المصادر، أنه كان ينتمي للطريقة الصوفية القادريه، وكان يمنح الإجازات ويصادق على الإجازات الممنوحة لعدد من أتباع الطريقة، ومنها تلك التي منحها الشيخ إعرابي الزيلعي للشيخ علي حماده سنة 1842، كما هو مدون على نص تلك الإجازة، وقام بجمع أدعية الطريقة القادرية وأضاف إليها منظومة بأسماء الله الحسنى، ثم منظومة الإستغاثة وهي من 46 صفحة بالحجم الصغير أولها بعد الإستعاذة والبسملة: “الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن” وهي صلوات مرتبة على حروف المعجم.

عاش الشيخ عبد الرحمن الصوفي في القرن التاسع عشر ونال عدداً من الإطراءات لدوره الديني والإجتماعي، ومات مخلفاً ولده الشيخ ظهير الصوفي الذي كان أحد كتبة المحكمة الشرعية سنة 1918 عندما كانت برئاسة الشيخ منير المقدم، ولم يؤرخ أحد لسنة وفاته. رحمه الله.

 

 

Categories
من علماء طرابلس

محمد بن إبراهيم الحسيني

 محمد بن إبراهيم الحسيني

1273 هـ/ 1857 م – 1359 هـ / 1940 م

بقلم د. محمود حمد سليمان

 

هو الشيخ العلاّمة محمد بن إبراهيم بن بكري بن مصطفى بن عبدالله سبط الواقف لمسجد القرطائية بطرابلس الشام : قرطائي بك. الحسيني ، والمنتهي نسباً بالحسين بن علي بن أبي طالب ، رضوان الله عليهم. وأسرة آل الحسيني بطرابلس من الأسر العريقة في المدينة ، وقد عرفت عبر التاريخ ، ليس  بنسبها إلى الدوحة النبوية الشريفة فحسب ، وإنما أيضاً بالتقوى والعلم والإيمان والتمسك بالقيم والمثل وفضائل النفس ومكارم الأخلاق .. وهي صفات ومواصفات تجسدت أكثر ما تجسدت في هذا العلاّمة المفكر ، الفقيه ، المحدث ، المفسّر ، المؤرّخ الفيلسوف … والذي أنفق حياته كلها جهاداً في سبيل نهضة أمته ووحدتها وحريتها … وله من الإسهامات ما لا يُعدّ ولا يُحصى … وان كان الدهر قد عاكسه وقذف به إلى غياهب الإهمال والنسيان حتى ليكاد أن يكون من المغمورين لولا قلة من المؤرخين الذين ترجموا له بشكل مختصر إذ حجبتهم عنه ستائر الظلم الذي لازمه طوال حياته .. وحتى بعد وفاته . وُلد محمد في محلة ” المهاترة ” من طربلس ، وهي من الأحياء الشعبية المحرومة ، وفيها بقي إلى أن وافته المنية .. دون أن يطرأ على حياته أي تعديل يذكر من الناحية المادية الإجتماعية .. فهو من أسرة فقيرة إذ كان والده خياطاً يُعيل عائلته من عرق جبينه .. ورغم ذلك فقد لبّى هذا الوالد نداء السلطان عبد المجيد عندما أعلن النفير العام في الحرب ضد روسية القيصرية ، فتطوع في جيش المجاهدين   وخاض تلك الحرب حتى نهايتها .

    تلقى محمد علومه في المدرسة الإعدادية في طرابلس ، وكانت من المدارس الحكومية التي يقتصر التعليم فيها على المرحلة  الإبتدائية فقط وما بعد ذلك ، فقد كان على الطالب أن يتابع تحصيلة في المدارس الخاصة ، إذ لم تكن الدولة قد افتتحت ثانويات لها في طرابلس كما في غيرها من مدن بلاد الشام والمناطق العربية الأخرى ، وكان التعويض عن ذلك يتم في التكايا والكتاتيب المنتشرة على أيدي العلماء في مساجد المدينة الرئيسة وحولها ..

وهكذا تتلمذ الحسيني على الشيخ عبد الله البركة والشيخ محمود منقارة والشيخ أمين سلطان في العلوم العصرية : الأدبية والشرعية والنظرية ، وعلى الدكتور مصطفى الحكيم في علوم : الطب والرياضيات والطبيعيات ، وهو الطبيب الذي كان قد تخرج في قصر العيني بمصر ، والذي يعتبر من أوائل الأطباء بطرابلس الذين عملوا بشهادة رسمية .

عام 1293 هـ . وقد بلغ التاسعة عشر من عمره ، ارتحل الحسيني إلى مصر ملتحقاً بالأزهر متتلمذاً على الشيخ حسن الطويل المالكي وعلى الشيخ عبد الرحمن شربيتي ، والشيخ سالم البولاق ، ثم الشيخ عبد القادر الرافعي ، وهذا الأخير هو طرابلسي أيضاً وقد صار مفتياً للديار المصرية ومن المدرسين البارزين في الأزهر في حينه ..

ولم تكن حظوة الحسيني جيدة بتتلمذه على هؤلاء الأعلام الكبار وحسب ، وإنما أيضاً نالته حظوة أخرى تركت أثرها اعميق في فكره ونهجه وثقافته .. تمثلت بلقائه بفيلسوف الشرق في عصره السيد جمال الدين الأفغاني الذي كان مقيماً في مصر آنذاك .. وإليه يسعى الساعون من طلبة الأزهر وغيره .. وإذ كان الأفغاني موسوعة علمية وثقافية قائمة بذاتها ، فقد غرف منه الحسيني ما استطاع من معارف ومناهج في شتى أنواع العلوم : الدينية والدنيوية . على أن الأهم من كل ذلك ما اقتبسه من الأفغاني من آراء وأفكار نهضوية وإصلاحية .. ولعل خطوته إكتملت أيضاً بزمالته لطائفة كبيرة من العلما الكبار في مصر والأزهر ومن مختلف أنحاء العالم العربي والإسلامي .. ومن بين هؤلاء : الإمام محمد عبده ، والشيخ محمد رشيد رضا ، والشيخ بخيت ، وسعد زغلول والشيخ حبيب العبيدي من العراق ، والشيخ سليم البخاري الدمشقي والشيوخ عبد الله الجزار ، وإبراهيم القيسي، وراغب التميمي وشاكر الخماش ، وكلهم فلسطينيون .. بالإضافة إلى ثلة من أعلام طرابلس وعلمائها ، منهم : عبد اللطيف الرافعي ، ومحمد حسين ، وعبد الرزاق الرافعي ، ومحمود الرافعي ، وغيرهم .

بقي الحسيني في الأزهر مدة سنتين ثم رجع إلى طرابلس قبل أن يتم دروسه وذلك بسبب سوء وضعه المادي ، وغائلة الفقر التي لحقت به إلى مصر .. وهو يصف لتلميذه التركي علي بهرام سوء تلك الحال فيقول ما حرفيته : ” كنا نشحذ من بيت البكري لنأكل .. حتى في بعض الأحيان كان يفطر الزيتون ثم يضع ماءً على بزر الزيتونات التي يأكلها في النهار حتى يغمص الخبز مع الماء مساءً .. ويتعشّى على هذه الصورة ” .

ولكنه في طرابلس لم يتوقف عن متابعة تحصيله العلمي ولا سيما العلوم الشرعية منها ، فتتلمذ من جديد على كبار علمائها ومنهم العالم الكبير أبو المحاسن القاوقجي الذي زوَّجه إبنته وتوسم فيه مكانه علمية مرموقة ثم حصل على إجازات عدد من العلماء الكبار يومذاك ، وراح يمارس التدريس مجاناً ويتابع في الوقت نفسه المطالعة والإطلاع على كل ما يقع تحت بصره من كتب ومؤلفات في مختلف العلوم .. حتى صار من المؤهلين ليكون مساعداً أو كاتباً لأحد القضاة فأشار عليه بعضهم بالتوجه إلى الآستانة إذ منها وحدها يصدر القرار . وهكذا توجه إلى هناك ومكث فيها شهرين أو ثلاثة .. ولكن دون جدوى . حتى إنه تمكن برفقة الشيخ أحمد وفاء ، من الدخول إلى مقر الشيخ ” أبو الهدى الصيادي ” الذي كان يُعتبر الساعد الأيمن للسلطان عبد الحميد في بلاد الشام .. يقول الحسيني : ” دخلنا وسلمنا عليه فلم يُجِبْ .. وجلسنا قليلاً فلا مَنْ يسألنا ماذا تريدون .. فخرجنا  من عنده كما دخلنا ، لاسؤال ولا جواب .. أبت نفسيتنا أن تتنذلل بعدما رأينا ما رأيناه ..” ويروي أنه في هذه المرحلة أيضاً ، وبينما كان جالساً في مقر المشيخة الإسلامية إذ تُليت فتوى صادرة عن شيخ الإسلام فوجد فيها الحسيني مخالفة للشريعة فانتفض قائلاً : هذه الفتوى غلط .. فنظر إليه الجالسون بغيظ وذهول لإعتراضه على فتوى صادرة من المشيخة الإسلامية لكنه أصر على موقفه مفنّداً لهم وجه الخطأ ومستشهداً بالأدلّة والقرائن من كتب الفقه المعتمدة والمسلَّم بصحتها .. واحتدم الجدال بينه وبينهم .. إلى أن ناداه أحد كتاب المجلس جانباً ونصحه بالرحيل عن الآستانة حالاً : لكي لا يصيبك سوء من جرأتك على المشيخة وإن كنت على حق .. ” وهكذا غادر الحسيني مسرعاً بعد أن اقترض أجرة السفر من بعض أصدقاء والده السادة ” عنكليس ” ، كما يذكر .

عاد إلى طرابلس ليتابع من جديد تحصيله الذاتي والتدريس الخصوصي المجاني ، إلى أن سنحت الفرصة ، وابتسم له الدهر عندما قام الزعيم العكاري محمد باشا المحمد ببناء مدرسة في قرية مشحة بعكار ، وعيِّن أستاذاً لها الشيخ محمد الحسيني بإيعاز من الشيخ عبد الله الزعبي ( من قرية حيزوق المجاورة لمشحة ) والمشهور بالتقوى وبالكرامات ، والذي كان قد تعرّف على الحسيني ، وتوقّع له مكانة مرموقة . ومن هذه المدرسة بدأت إشعاعات الحسيني الدينية والعلمية والفكرية والتربوية تنطلق في كل الإتجاهات ، وتخترق مواقع الظلم والظلام في كل الأنحاء والمجالات .. فتوافد الطلاب من كل المناطق والعائلات ، بما فيها طلاب طرابلسييون لحقوا به إلى عكار ، وقصده العلماء بما سمعوا عنه أو قرأوا له من كتابات ودراسات كان يدفع بها للخطاطين ، أو يمليها على طلابه .. ولقد تيسّر لنا الإطلاع على العديد منها بأقلام تلاميذه .. ولعله في هذه المرحلة بدأ بكتابة تفسيره للقرآن الكريم ، وهو أهم مؤلفاته على الإطلاق ..

بقي الشيخ الحسيني في مشحة ست سنوات متوالية أمضاها في التعليم والتعلّم أيضاً ، وذلك بتتلمذه على قاضي عكار يومذاك ، العالم والفقيه الكبير سعيد اليمني ، وبالمواظبة على القراءة والمطالعة ، سيما بعد أن أهدى السلطان عبد الحميد هذه المدرسة التي سميت                بالـ ” الحميدية ” ، مكتبة ضخمة فيها أمّهات الكتب العربية ، وأهم المصادر والمراجع . ولا تزال المدرسة الحميدية عامرة إلى اليوم ، بعد أن قام الشيخ عبدالقادر محمد الزعبي(رئيس دائرة الأوقاف لاحقاً) بترميمها من جديد عام 1980م. وتوسعتها، جامعاً لها التبرعات من مختلف الأنحاء والجهات، ومستصدراً قراراً بذلك من مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد الذي حوَّل له مبلغ ستين ألف ليرة لبنانية هو ما تبقَّى من وقفية هذه المدرسة في ميزانية الأوقاف الإسلامية يومذاك..

أما لماذا غادرها الحسيني بعد ست سنوات من تأسيسها ، فذلك حصل عندما توفي الشيخ عبد الله الزعبي الذي كان يشكل غطاءً هاماً للحسيني في مواجهته للشعوذات وأدعياء التصوف ، وما أدخلوه على الإسلام من شعائر وطقوس وممارسات ليست منه في شيء .. مما كان يجعله في نزاع دائم معهم ، بعدما أحسّوا أنهم في خطر على مصالحهم بالتفاف الناس حوله وتأييدهم له .. أضف إلى ذلك أن السلطات الحاكمة في المنطقة كانت على حذر شديد منه .. لا سيما بعدما لمست بوضوح مجانبته للحكّام وعدم الإهتمام بهم .. وكأنه في عالم وهم في عالم آخر . وهكذا ما إن حصلت وفاة الزعبي ، حتى قام الحسيني بغسله وتكفينه بنفسه بمساعدة  تلميذه عبد الفتاح الشهال ، ثم تشييعه الى مثواه الأخير ومغادرة مشحة فوراً عائداً الى طرابلس .

      كانت شهرة الحسيني قد سبقته الى مسقط رأسه ، هذه المرة ، ففتحت له المدينة أبواب مدارسها الخاصة والحكومية ، وكذلك أبواب مساجدها وكتاتيبها .. حتى كان المسجد يضيق بطلابه الذين قد يصل عددهم الى 400 طالب عدا عن المستمعين من خلال النوافذ خارج المسجد . ليس هذا فحسب  بل لقد اتخذ العلاّمة الحسيني من ” مقهى التل العليا ” في وسط المدينة مقراً له بعد صلاة العشاء ، فكان الناس يتحملقون حوله كل سهرة ، وهم يستمعون لشروحاته في التفسير والحديث النبوي والفقه ، وحتى في اللغة والأدب والتاريخ والفلسفة ، وغير ذلك . وقد يكون من بين الحاضرين لدروسه ، أمير اللواء ، ومتصرف المدينة ، وكبار المسؤولين والأعيان من مدنيين وعسكريين .

      يروي تلميذه وهيب بارودي ، أنه كان يعطي ستة عشر درساً في اليوم ، وقد يبصق في نهايتها دماً من شدة التعب والإرهاق ، متنقلاً بين بهو الجامع المنصوري الكبير ومدارس القرطائية والدبها والطحان والسقرائية وعلي الوتار وجامع محمود بك ، وغيرها …

      على أن دائرة الإقبال عليه اتسعت هذه المرة لتشمل طلاباً من مختلف أنحاء سورية ولبنان وفلسطين وفدوا الى طرابلس سعياً وراء الحسيني وعلمه ، ومنهم طلاب من مختلف الأديان والمذاهب المسيحية والإسلامية في مقهى التل العليا التي كانت ملتقى الجميع .

      وبذلك صار العلاّمة الحسيني مدرسة متنقلة أينما حلّ أو ارتحل  ومن على يديه تخرّج علماء كبار وأعلام أفذاذ حملوا المشعل من بعده  نذكر منهم : مفتي الجيش العثماني الرابع علي شيخ العرب ، والمفتي محمد رشيد ميقاتي ، والمفتي كاظم ميقاتي ، والمفتي منير ملك ، ومفتي عكار خالد الحاج كيلاني ، وقاضي اللاذقية عبد القادر نور الله ( من جبلة ) والعلماء شفيق ملك ، وهيب بارودي ، سعيد طنبوزه الحسيني  جميل عدره ، خير الدين الأفيوني ، بهيج الخطيب ، زهدي يكن .. وغيرهم .

      ولقد وفد عليه بطرابلس للتفقّه ، والغرف من علمه ، علماء كثر  منهم : مفتي فلسطين محمد أمين الحسيني ، مفتي بيروت توفيق خالد  الشيخ الكتاني من دمشق ، الشيخ بدر الدين الحسيني ، الشيخ عبد الحميد العطّار ، وكلاهما من دمشق أيضاً ، ثم الشيخ الكتاني الكبير من المغرب العربي ، وقد أجازه الحسيني بالحديث النبوي .

وتُقدِّم لنا المخطوطات التي بين أيدينا أن عدة علماء من أوروبة زاروا العلاّمة الحسيني في طرابلس للمذاكرة والمناقشة ، ومنهم ” موسبو  بوتور ” وكان مفتشاً للمعارف في المفوضية الفرنسية ، وأحد مدرّسي الحقوق في جامعة السوربون ، والمارشال ” دسيري ” ، وغيرهم .

بقي الحسيني مواظباً على التدريس خمسة وعشرين عاماً في طرابلس ، كانت كافية لتطبق شهرته الآفاق ، كما رأينا . ولكنها ، في الوقت نفسه ، كانت كافية لتوغر عليه صدر الحاسدين وصدر السلطات الحاكمة التركية ، ثم الفرنسية لاحقاً ، كما سنرى .

ولعل الدور الذي لعبه الشيخ عبد الله الزعبي في مشحة ، لعبه أيضاً مع الحسيني بطرابلس الشيخ علي العمري الذي كان يعتبر عند عامة الناس وليّاً من الأولياء ، وصاحب كرامات لا سبيل الى إنكارها . فقد كان العمري يشكّل غطاءً شعبياً كبيراً للحسيني ، ومن أشد المعجبين به ، وكان يقول عنه : ” إن الحسيني يبيع الجواهر في سوق الفحم … ” في إشارة الى كثافة الجهل الذي يعمّ البيئات الشعبية في تلك المرحلة .. والدور التنويري الذي يقوم به الحسيني .

وإذ توفي الشيخ العمري عام 1321هـ. فإن الحسيني اعتزل التدريس ، ولم يمكث بعده طويلاً ، إذ استقال عام 1325 هـ .. مثابراً على جلسات الوعظ والإرشاد والتوعية في المقاهي والأماكن العامة   ولا سيما منها مقهى التل العليا .. ومنصرفاً في الوقت نفسه الى إعطاء وقت أطول للكتابة والتأليف والرد على الفتاوى في مختلف الموضوعات التي تطرح عليه . وفي الوقت نفسه ، فقد وزّع تلاميذه على مختلف المساجد في المدينة أئمة وخطباء ومدرّسين ، وكان هو يشرف عليهم ويدير حركتهم .

إننا ، ومن خلال الوثائق والمخطوطات نتبين أن العلاّمة الحسيني كان مصرّاً على التدريس والتعليم عن قصد وعن تصميم عنيد ، ولا سيما بعد عودته من مصر ، التي التقى فيها بالأفغاني ، وبالعديد من مفكّري النهضة والإصلاح يومذاك ، على أنه خطّ لنفسه خطاً جهادياً متميّزاً في ظروف ما قبل وما بعد الحرب العالمية الأولى .

أدرك الحسيني أن الجهل والأميّة هما علّة العلل في تلك المرحلة . وإذا كان الوعي هو الحل ، فإن الوعي لا يتحقق إلا بالعلم وتخليص الناس من الترهات والشعوذات والسخافات التي كانت متفشية على نطاق واسع . لذلك كان يدرك أن العمل في هذا المجال له الأولوية على كل ما عداه ، لأنه معالجة جذرية للأسباب التي تترتب عليها النتائج لاحقاً . ولهذا ، وفور عودته من مصر ، شنّها حرباً شرسة على الطرق الصوفية ومفاهيمها الخاطئة ، وممارساتها المتناقضة مع جوهر الإسلام الحنيف ولكن دون أن يصطدم بشكلٍ مباشر بهذه الفرق . فيفشل في تحقيق أهدافه ، وهو في بداية الطريق . وعليه ، فقد انتسب لبعض هذه الفرق وتلقّن العهد الخفيّ ( كما يسمّونه ) عام 1307هـ. على يد الولي الكبير الشيخ مصطفى الصوفيوي من صوفيا ، والمدفون في دمشق ، ثم بعد ذلك سلك الطريقة القادرية على يد الشيخ عبد الفتاح الزعبي فالطريقة النقشبندية على يد الشيخ عمر الحالومي ، والشيخ مصطفى الصوفيوي ، كما قلنا . ولكنه في معظم الأحيان كان يلجأ الى الشيخ العمري عندما يتمادى حساده ، أو يحاول المتنفذون التطاول عليه ، مما شكّل له حماية شعبية ، ومظلة داعمة ، ولا سيما من كبار رجال التصوّف في طرابلس وعكار ، بعد أن استطاع السيطرة على لباب هؤلاء الشيوخ ، وكسب ثقتهم ودعمهم ، ليس في مواجهة المتضررين من إقبال الطلاب عليه فقط ، وإنما أيضاً في مواجهة ذوي الشأن والحكام الذين كانوا ينظرون الى حركته وشعبيته المتزايدة  بعين الشك والريبة .

من الناحية السياسية والفكرية ، فقد كان الحسيني يعرف بدقة ما يريد . إذ تُقدّم لنا الوثائق أنه كان يناهض حركة التتريك ، وما تجرّه على العرب والمسلمين من مخاطر وتحديات على العروبة والإسلام ولكنه في الوقت نفسه ، كان يدرك أنه يمشي في حقل ألغام ، وعليه أن يكون حذراً وحكيماً في مرحلة كانت التحديات الدولية كبيرة جداً بكل ما فيها من تناقضات ومخاطر وظروف . فهو كان يعي أن رفع سقف المعارضة في وجه الدولة العثمانية ، سيصبّ في مصلحة الغرب ومشاريعه الاستعمارية التي برزت في مصر والسودان والمغرب العربي وصارت تستهدف الحجاز والعراق وبلاد الشام في تلك المرحلة . ولذلك كان يقول دائماً : ” لو لم أكن عاقلاً ، لتدهورت مثل سقراط ” . على أنه كان يفصح بآرائه السياسية والفكرية لخاصّة تلاميذه ، ومنهم محمد رشيد ميقاتي الذي طلب منه أن يكتب ذلك ويُبقيه سراً قبل أن يوافيه الأجل فأجابه الحسيني : ” لقد فعلت ذلك وأودعته لدى صهري واصف بارودي وأوصيته بالنشر بعد وفاتي ” . غير أن البارودي لم ينشر شيئاً بعد ذلك ، ربما لظروف أحاطت به هو الآخر .

وإذ كان هو يتجنّب الوقوع في فخّ الغرب ومكائده ، فإنه أيضاً لم يماليء الأتراك ، أو يتعامل معهم بشكلٍ مباشر . فإن مؤلّفاته ، ونوعية الموضوعات التي يكتبها ، تؤكد لنا أنه كان يشنّ الحرب في اتجاهين وفي وقت واحد . ولذلك فقد أفتى بصحّة إسلام الدروز والعلويين والشيعة ، وببطلان تحريم بعض أرباب المذاهب تزويج بناتهم لغير أهل مذهبهم ، معتبراً ذلك ” عقيدة فاسدة ” ، محتجاً عليهم بالقرآن الكريم الذي يرخّص بالزواج بامرأة مسيحية أو يهودية .. ثم أرسل هذه الفتوى بواسطة جابر أفندي عباس الى عصبة الأمم ، فتُليت فيها ، وسجّلت في محاضرها ، وعليه فهو عمل على تحصين الوحدة الوطنية الشعبية داخل لبنان ، فشنّها حرباً على الطائفية والمذهبية في سلسلةٍ من الفتاوى والدراسات الهادفة الى وأد الفتن والعصبيات التي يستخدمها المستعمرون سبيلاً الى تحقيق مخططاتهم ، وهو يتجنّب في الوقت ذاته ، ممالأة الحكّام ، رغم الظروف الصعبة التي يحياها . 

لقد أعطى الحسيني للمحيطين به ، وربما للأجيال كلها ، دروساً في عزّة النفس والترفّع عن الدنايا والمفاسد والنفاق والتملّق ، بما يجعله من علماء الأمّة الأفذاذ في هذا المجال .

ففي البداية ، وبعد عودته من مصر ، رفض الانصياع لقانون التجنيد الإجباري في الجيش التركي ، ولم يلتحق . وإذ أجبره الفقر على السعي لتأمين قوته ، والحصول على حقه في وظيفة تقيه العوز والحاجة فإنه ، وبعد أن صار من كبار العلماء ، صار الحكّام يسعون لخطب ودّه ورضاه . غير أنه لم ينحنِ أمام إغراء أو كسب شخصي يتناقض فيه مع رضى الله ومصالح شعبه ، دون أن يخشى في الله لومة لائم . فقد رفض قبول منصب ” شيخ الإسلام ” ( الموازي لمنصب السلطان ) في عهد الاتحاد والترقّي قبيل الحرب العالمية الأولى ، حتى إذا حاول عام 1332 هـ / 1913م. طباعة تفسيره للقرآن الكريم ، فقد منعته الرقابة من ذلك مشترطين عليه القبول بمنصب المشيخة . ولكنه استمر في الرفض واستمروا هم في المنع . فعادوا إليه ثانية يعرضون طباعة خمسة آلاف نسخة من التفسير ويشترونها منه بمبلغ خمسة آلاف ليرة ذهبية ، بمعدل ليرة ذهبية للنسخة الواحدة ، ولكنه أبى أيضاً .

وفي أثناء الحرب الأولى ، رفض أيضاً منصب قاضي القضاة في الآستانة ، كما رفض قرار جمال باشا بتعيينه مديراً في الكلية الإصلاحية في القدس ، وكان الرفض يومها يعني معاداة الدولة ، وبالتالي الموت شنقاً أو إعداماً . ولكن مكانته كانت تحول دون ذلك ، وربما تدخل عارفيه من الأتراك والعرب على حدّ سواء ، وفي طليعة هؤلاء ، والي طرابلس عزمي باشا .

أما بعد الحرب الأولى ، وإمساك الفرنسيين بالسلطة ، فقد رفض اقتراحهم بتولّي منصب الإفتاء بطرابلس ، ثم منصب قاضي القضاة في بيروت لإدارة شؤون المسلمين في لبنان وسورية ، فعادوا بإغراء جديد هو عبارة عن خمسين ألف ليرة ذهباً ، وطباعة 25 ألف نسخة من التفسير ، ولكنه رفض أيضاً ، واستمروا هم في منعه من طباعة أي كتاب له . فتدخل رئيس الكلية الأميركية ببيروت ( الجامعة الأميركية اليوم ) ، عارضاً طباعة التفسير على نفقته ، ولكن الحسيني رفض أيضاً حتى إذا استفسر بعضهم عن عدم قبوله ، أجابهم الحسيني : ” لا أحب أن أسوّد صحيفتي أمام التاريخ الإسلامي ، لكي لا يقال عني أنني قبلت أن تطبع تفسيري أمة غير أمتي . ومع الأسف ، لم يُقدم من أمتي أحد لطبع هذا التفسير ” .

ورداً على أحدهم قال الحسيني : ” يقول عليه الصلاة والسلام :                ” اللهم لا تجعل لفاجر عليَّ يداً فيحبه قلبي ، فإذا قبلت ذلك منهم ، فلست لئيماً ، فأضطر  لخدمتهم ، ولذلك أرفضها ، فلا يمكن أن تقبل إحساناً ثم تستهر بفاعله . ولقد بقي هذا التفسير مخطوطاً ، بعد أن أخفاه الحسيني  ووزّعه على المخلصين من تلاميذه ، ربما لإحساسه أن الفرنسيين سيحاولون مصادرته . ثم حيكت عنه إشاعات عديدة ، فمن قائل أنه أُرسل الى حيدر آباد من الباكستان لطباعته هناك .. الى قائل أنه أُرسل الى مفتي فلسطين المجاهد محمد أمين الحسيني ، إذ كانت فلسطين تحت الانتداب البريطاني . لكن الحقيقة أن تلاميذه أعادوا جمعه من جديد . ولم يُعرف ذلك إلا بعد مرور أكثر من خمسين سنة على وفاة صاحبه ولا يزال الى اليوم بدون طباعة .

الى ذلك ، فقد رفض الحسيني مبلغ ألف ليرة ذهباً عرضها عليه أحد وجهاء طرابلس في زمانه ، هو السيد نسيم  خلاط ، ليستعين بها على قضاء حوائجه ، فرفضها أيضاً ، متمسكاً بمبادئه التي كان يرددها دائماً ، والتي مؤداها أن الفقر مع عزّة النفس أفضل من المال مع التذلّل والمداراة ، وكثيراً ما كان يقول : ” لو علم الأغنياء ما نحن عليه من الغبطة ، لقاتلونا عليها بسيوفهم ” .

وبقدر ما كان الحسيني يرفض شهوة المال ، واعتباره هاجساً  بقدر ما كان يرفض السلطة الظالمة ، أو التملّق لها ، أو الخشية منها ولذلك كان شعاره الدائم : ” نِعمَ الحاكم على باب العالِم ، وبِئسَ العالم على باب الحاكم ” . حتى أن المندوب السامي الفرنسي على سورية ولبنان الجنرال غورو أرسل له خبراً قال له فيه : ” إن مركزي يمنعني أن أزورك ، وأنت كذلك مثلي ” ، ما يعني أن الحسيني كان قد امتنع عن زيارته ، وأن الجنرال غورو قد تفهّم موقفه ، فأبدى له العذر والإحترام.

ويُروى عنه أن أحد المتنفذين سأله مرة : قيل لي أنه يجب أن تملأ الضاد الفم في لفظها عند تلاوة القرآن الكريم ، وأنا لم أستطع ذلك ، فهل يُبطل ذلك صلاتي ؟ إنني أخشى الله . فنظر الحسيني الى السائل بحدّة ساخرة وقال : وعليَّ أنا يا فلان بيك ؟! أتبلع المسلّة ولا تبالي ، ثم تتحرّج من وخز إبرة ؟! أتجد الحرج في كيفية لفظ الضاد في ما تزعم أنها صلاة ، ولا تتحرّج من سلبك الناس أنت وأتباعك ، ومن هتكٍ لأعراضهم . إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وأنت لا تنتهي   على الرغم من هذه الشيبة عن جرائمك ، فتقتل النفس التي حرّم الله وتنهب الناس في أموالهم ، وتوري المجرمين وتحميهم ، ثم تظن أن هذه الحركات التي تقوم بها هي صلاة لله . وما إن اشتد غضب الشيخ ، حتى كان الرجل قد توارى عن الأنظار …

وإذا كان الحسيني قد ابتعد عن الحكام وأصحاب السلطة بكل عزّة وكبرياء ، ودون خوف أو وجل ، فإنه لم يكن بعيداً أبداً عن رجال الثورات وأصحاب الحركات التحررية . فهو كان في دمشق ، بعد أن وصلها الأمير فيصل ، الذي التقى به ، وتشاورا في نهاية الحرب العالمية الأولى . وحصل له حادث مؤلم عندما انكسرت فخذه إثر سقطة من على سلّم المنزل الذي كان يقيم فيه . فأمر الأمير فيصل له بسيارة أوصلته الى طرابلس . وهو كان على تواصل مع العروبيين في مدينته ولا سيما منهم الدكتور عبد اللطيف البيسار ، والزعيم عبد الحميد كرامي وفي مختلف بلاد الشام ، ولا سيما منهم المجاهد محمد أمين الحسيني الذي اجتمع به مراراً بطرابلس ، وتبادلا الآراء ووجهات النظر ، وربما وسائل الدعم والمناصرة ، كما تقول الوثائق والمخطوطات التي بين أيدينا .

إزاء التيار الشعبي الذي التفّ حول الحسيني ، ومنهم العلماء والطلاب ، كان لا بد أن يكون هناك متضررون وبعض المتوجسين خيفة من هذا الالتفاف ، ولا سيما من المستعمرين وأتباع السلطة وأزلامها . فكثر حساده والطاعنون في فكره الإصلاحي وحركته الناشئة ، بعيداً من السلطة وفلكها . يدلنا على ذلك  حادثتين :

الأولى : عندما تقدم منه رجل يدعى الحاج علي الكيالي ، وأطلق عليه الرصاص وهو في الطريق الى مقهى التل العليا بين المغرب والعشاء ، ولكن الرصاصة لم تنفجر ، قضاءً وقدراً ، ولاذ الكيالي بالفرار دون أن يعرفه أحد ، حتى إذا مات الحسيني بعد ذلك بسنوات وأمام ردة الفعل الشعبية العارمة على وفاته ، فقد تقدم الرجل واعترف أمام الجثمان بفعلته قائلاً : ” لقد أرسلني فلان الفلاني لأقتلك ، غير أن الرصاصة لم تنطلق . ولكن الذاكرين لهذه الحادثة ( وهم تلاميذه ) لم يذكروا من هو فلان الفلاني هذا .

وأما الحادثة الثانية ، فقد حصلت مع تلميذ الحسيني الشيخ عبد الوهاب ساري الذي كان يشرح الحديث النبوي في أحد المساجد          ” واحمرّت ” عيون بعض المستمعين منه وقالوا عنه : كافر . فجاء الشيخ عبد الوهاب مغتاظاً وهو يشكو الأمر الى الحسيني ، الذي أجابه : ” منذ خمسين سنة وأنا أتمتع بلقب كافر ولم أغضب منهم ، وأنت تغتاظ من مرة واحدة . إن هؤلاء الأقوام لا يجتمعون إلا على الدجالين الضالين عن الحق ” .

ولعلّنا نستطيع أن نتلمّس منهجه الفكري الإصلاحي من خلال مؤلفاته التي بين أيدينا ، ومن خلال ما جمعه عنه تلاميذه من أفكار وآراء ووقائع . فمنذ ما يقارب المئة عام ، أطلق الحسيني فكرة الدعوة الى مؤتمر إسلامي شامل ، على أن يعقبها مؤتمر عالمي للأديان كافة يتم فيه معالجة المشاكل والقضايا الإنسانية المستفحلة . وإذ هو كان في إحدى محاضراته يكرّر ضرورة نهضة الأمة العربية ووحدتها وحريتها سأله أحد الحاضرين : لماذا تكرّر ” الأمة العربية ” ولا تقول المسلمين . فأجابه الحسيني فوراً : إن التابع يتبع المتبوع ، في إشارةٍ واضحة الى أن قيادة المسلمين يجب أن تكون في العرب ، وهي إشارة كانت تكلّف صاحبها في زمن الأتراك حياته شنقاً أو سجناً أو إعداماً .

أما رأيه بالأزهر ، فلم يكن يختلف عن رأي الأفغاني ومحمد عبده وضرورة إصلاحه ليقوم بالدور المطلوب منه ، فهو يقارن بين جامعة الأزهر وجامعة السوربون فيقول : إن السوربون ، وإن لم يكن أتى بالفضيلة ، فإنه عمل شيئاً في الاجتماع واستخدام الطبيعة . أما الأزهر فلا هذا ولا ذاك ، رغم أن الثاني قبل الأول بمئات السنين .

ولقد ضخّ الحسيني روحاً جديدة في مناهج الفلسفة وعلم النفس وغير ذلك. ولنلاحظ قوله : ” الأعمال تُبنى على الآراء ، والآراء تُبنى على المعتقدات ، والمعتقدات تبنى على المزاج العقلي .. الأعمال قربان وعمل صالح ونفع مجتمع . والفترة الانتقالية لها تأثيرات في جميع أنحاء الاجتماع في الدين والاقتصاد والسياسية والعلم . الدعوة الى الدين اليوم تُكسب بصورتها . من أجل ذلك لا ترى في الداعين صدق توجه إليه  ولا سلوكاً في وجهته صحيحة . اللباس جلد الضأن ، والقلب قلب ذئب أقسم الله تعالى في الحديث القدسي أنه يتيح على هؤلاء فتنة تدع الحليم حيراناً ، وقد برّ بقسمه .. ” .

فإذا عرفنا أن الحسيني صرّح بذلك في عهد الأتراك ، وقبل الحرب الأولى ، فإننا نلمس إدراكه أن الأمة العربية ومعها العالم الاسلامي ، كانا ، برأيه ، في مرحلة انتقالية ، وأن موقفه من الدولة العثمانية كان موقفاً معارضاً إذ لم تنطلِ عليه مزاعمها الدينية وادعاؤها أنها حامية الدين ، وأنها تستمد شرعيتها من الإسلام وشريعته .

إن كتابه المخطوط : ” رسالة في تطبيق المبادئ الدينية على قواعد الاجتماع ” ، يعتبر كتاباً فريداً من نوعه في هذا المجال ، لما ضخَّ فيه الحسيني من آراء ومناقشات وتحليلات عكست كلها نظريته ونظرته الى قراءة دينية معاصرة ، انطلاقاً من الثوابت في الأديان السماوية كافة   بل وفي مذاهبها أيضاً ربطاً بقواعد علم الاجتماع الحديث والمعاصر . ومن أقواله اللافتة في مثل ذلك الزمن ، قوله : ” نحن والغربييون على إفراط وتفريط ، وكلا الأمرين إن دام فشل . الغربييون أفرطوا والشرقييون فرّطوا . ويشرح ذلك بأمثلة منها : إن السفور ليس هو المطلوب ، وأن التزمت ليس هو المرغوب ، لأن الحاجة اليوم تقتضي وجود ممرضات ومعلمات وطبيبات ، وأن السيدة عائشة كانت تخدم المجاهدين في الإسلام .

أما في تفسير القرآن ، فقد اعتمد الحسيني منهجية متميّزة عن التفاسير الأخرى ، إذ كان يعمد الى وضع مقدمة لتفسير السورة ، يحدد فيها الغايات والأهداف الأساسية في هذه السورة ، ويختم باستنتاج الخلاصات والعبر ، ربطاً بالمقدمة ، وما بينهما شرح للألفاظ والمعاني والدلالات ، لا يخلو من منطق قوي وحجج دامغة ، وآثار معاصرة   بكل ما في المعاصرة من علوم وفلسفات وتطورات ، جعلته يبرهن على ما في القرآن من عظمة وإعجاز وبيان ، وغير ذلك . على أن أسلوب الحسيني في التفسير ومنهجه ، يدعونا الى القول أنه قراءة جديدة ومعاصرة للإسلام ، انطلاقاً من روح العصر ومستجداته ، أكدت ما في القرآن من سبق ومن صلاحية لكل العصور والدهور .

خلاصة القول ، إن الشيخ محمد الحسيني نابغة من نوابغ العرب في القرن العشرين الميلادي ، حتى لقد قال له الوالي التركي عزمي باشا يوماً : ” كنتُ أنّى توجهتُ في أوروبة ، أقولُ لمن ألقاه : إن لدينا في الشرق ” فولتير ” جديداً ، هو أنتَ ، فلِمَ لا تفعل مثلما فعل فولتير ؟ ! فأجابه الحسيني باسماً : ثق أنه لو كانت أمتي كأمة فولتير ، لحقّقتُ بالإيمان والدين أضعاف ما حقّقه فولتير بالإلحاد والشك !! ” .

ومما لا شك فيه أن الحسيني عندما كان يجيب ، كانت تمر في ذهنه صور التجزئة والظلم والاستعمار والجهل والأمية والتخلّف .. هذه الأمراض  التي أنفق عمره وهو يجاهد في سبيل التخلّص منها ، الى أن وافته المنية ، بعد مرض عضال ، عام 1359 هـ / 1940م .

رحل الحسيني مجاهداً على طريق الحرية والوحدة والعدالة ، بعد أن ترك تراثاً ضخماً من المؤلفات النفيسة التي لم ينشر منها إلا النذر القليل في حياته . فهل كان واثقاً أنها ستبقى تنتقل بأيدٍ أمينة حتى ترى النور ولو بعد حين ؟؟

ما نستطيع تأكيده أن الحسيني كان واثقاً كل الثقة بربه أولاً ، ثم بشعبه ثانياً ، وحسبك بربٍ هو العليم الحكيم ، وهو على كل شيء قدير . وحسبك بأمةٍ كانت خير أمةٍ أُخرجت للناس .

 

آثـــاره

ترك العلاّمة الحسيني العديد من المؤلّفات والخطب والدراسات في مختلف الشؤون الدينية والفكرية والفلسفية ، وغيرها . وما استطعنا الحصول عليه ، هو عدد كبير من المخطوطات بخطه ، أو بخط تلاميذه . وأهم ذلك :

      تفسير الحسيني . مخطوط كبير . وقد طبع منه الجزء الأول ، حتى نهاية سورة البقرة . مطبعة الحضارة ، طرابلس الشام ، 1332 هـ .

      فريدة الأُصول ، وهو أرجوزة في الفقه الحنفي . صدرت عن مطبعة البلاغة ، طرابلس الشام ، لا.ت. .

      شيوخ في الأجسام ، أطفال في العقول : مخطوط . وهي في التفسير والحديث والأحكام .

      مجموعة الرسائل بين الحسيني من جهة ، ومحمد عبده ورشيد رضا من جهة أخرى ، وهي في التفسير والتأويل .

      رسالة في ” تطبيق المبادئ الدينية على قواعد الإجتماع ” . مخطوط .

      رسالة ” مفصّل علم التوحيد “  . مخطوط .

      الرد على الخوري جرجس صفير في التجسيد والإسلام والمسيحية . مخطوط .

      رسالة في المقولات العشر . مخطوط .

      مجمل أوليّات النحو . مخطوط

      أنواع الحياة والتربية . مخطوط .

بالإضافة الى مجموعة من الخطب والآراء والمناظرات ، وأغلبها بأقلام تلاميذه ومستمعيه ، وفي مختلف الشؤون الدينية والدنيوية .

 

المصادر والمراجع

      بهرام ، علي غالب : حياة الشيخ محمد الحسيني . مخطوط ، ضمّه واصف بارودي الى آثار ومؤلفات الشيخ الحسيني .

      الجندي ، أدهم : أعلام الأدب والفن . طبع بدمشق ، 1954م .

      الزركلي ، خير الدين : الأعلام . الطبعة الثانية عشرة ، ثمانية مجلدات ، دار العلم للملايين ، بيروت ، 1997 .

      ساري ، عبد الوهاب : رسائل عن الحسيني . مخطوط ، ضمّه واصف بارودي الى آثار ومؤلفات الحسيني .

      سليمان ، محمود حمد : علماء طرابلس وشعراؤها . دار مكتبة الإيمان ، طرابلس ، الشام ، 1424 هـ – 2003م.

      المراغي ، أبو الوفاء : فهرس المكتبة الأزهرية . ستة مجلدات ، طبع بمصر ، 1952م.

      ميقاتي ، محمد رشيد : أجوبة عن حياة الشيخ محمد الحسيني . مخطوط ضمّه واصف بارودي الى آثار ومؤلفات الحسيني .

      نوفل ، عبد الله : تراجم علماء طرابلس وأدبائها . مكتبة السائح ، طرابلس ، 1984م.

 

 

 

 

 

 

 

 

Categories
من علماء طرابلس

رشيد رضا والمسألة العربية

رشيد رضا والمسألة العربية

 

     بقلم الدكتور أنيس الأبيض

 

نشأة رشيد رضا .

       قبل أن نستعرض موقف السيد رشيد رضا من المسألة العربية ، لا بد أن نعرّج ، ولو بشكلٍ موجز ، على مسيرته . فهو مؤسس وصاحب مجلة المنار وتفسيره وغيرها من الآثار . فقد عاش نحو من سبعين سنة  ، كانت حافلة بالأحداث والأعمال ، وما قيل عن هذه السيرة ، أو ظهر بشأنها ، لا يتجاوز نطاق الإجمال . فهي تكمن في أمرين : أحدهما فطري ، وهو الاستعداد الذي يتوافر له من كمال الخلقة ، واعتدال المزاج ، وحسن الوراثة للوالدين والأجداد . وثانيهما مكتسب ، وهو التربية والتعليم النافع . وقد اجتمع هذان الأمران في شخص محمد رشيد رضا ، إذ هو سليل بيت عربي إسلامي عريق ، يتحدّر من نسل الحسين بن عليّ بن أبي طالب ، ويستمد بالتالي الشرف والسيادة من انتمائه الى العترّة النبوية الشريفة [1] .

       ولنسمعه يحدّثنا عن بيئته وبيته : ” ولدت ونشأت في قرية تسمى القلمون على شاطئ البحر المتوسط من جبل لبنان . تبعد عن مدينة طرابلس الشام زهاء ثلاثة أميال ، وكان جميع أهل هذه القرية من السادة الأشراف المتواترين النسب . وأهل بيئتنا ممتازون ، ويعرفون بأنهم أهل العلم والإرشاد والرياسة ويلقبون بالمشايخ للتمييز ” [2] .

       في هذه البلدة – القلمون ، ولد محمد رشيد رضا في العام 1282 هـ / 1865 م ، وتوفي العام 1354 هـ / 1935م . فلا غرابة في أن يكون السيد الإمام قد اصطبغ بصبغة ذلك الوسط الديني الصافي ، وأن تكون تلك الطبيعة التي ترعرع في أحضانها ، قد فرغت فيه الشيء الكثير مما أغدقته على بلدته ، فجاء شامخ الرأس كجبال القلمون ، صلباً في دينه وعقيدته كصخورها ، فيّاضاً في علمه ، كذلك البحر الزاخر . الذي كان يجلس على شاطئه في ريعان شبابه   فكان أن طلب العلم بالإخلاص ، وتوجيه الإرادة ليكمل به نفسه ويؤهلها للإصلاح الديني والإجتماعي ، حتى أصبح من أشجع دعاته وأشدهم جرأةً في مواطن الحق على الحكّام والعلماء [3] .

       ويعرّج رشيد رضا في سيرته للحديث عن أساتذته الذين تخرّج عليهم ، فيشير الى أنه قد تخرّج في العلوم العربية والشرعية العقلية على الشيخ حسين الجسر ، الذي يصفه بأنه كان له إلمام واسع بالعلوم العصرية . وكان كاتباً وشاعراً عصرياً يكتب وينظم في كل موضوع بعبارة سهلة  . كما كان من أساتذته الشيخ محمود نشابه ، والشيخ عبد الغني الرافعي ، والشيخ محمد القاوقجي كما يذكر بعض من طلبة العلم الذين عاش معهم ، كالعالم الأديب الشيخ عبد القادر المغربي ، وسعيد كرامه ، وعبد الغني الأدهمي ، والشيخ عبد المجيد المغربي والشيخ محمد الحسيني [4] .

 

هجرته الى مصر .

       لخّص رشيد رضا ترجمة سيرته وما انتهى إليه في وطنه من تربية وتعليم استقلالي ، وآثار قلمية وشهرة علمية وأدبية وقناعة بضرورة السفر للإستزادة من العلم والإختيار ، حتى يتمكن من مواصلة خدمة دينه وأمته : ” عزمت على الهجرة الى مصر ، لما فيها من حرية العمل واللسان والقلم ، ومن مناهل العلم العذبة الموارد ، ومن طرق النشر الكثيرة المصادر … ” [5] .

       أتيحت للسيد الإمام ، وبعد صدور العدد الأول من المنار ، في الثاني والعشرين من شوال 1315 / 1898 ، نشر آرائه الإصلاحية الدينية والإجتماعية والسياسية ، فكان أن جال قلمه في كل القضايا التي تخص العالمين العربي والإسلامي ، بدءًا بموقفه من الانقلاب العثماني ، مروراً بالوثائق الرسمية للمسألة العربية ، وملاحظاته على الرسائل المتبادلة بين مكماهون والشريف حسين وانخراطه الفاعل في المؤتمرات التي عقدت آنذاك ، كالمؤتمر السوري العام الذي عقد في أوائل سنة 1919 ، وسائر المؤتمرات الأخرى . وتطرّقه الى وضع الخلافة أو الإمامة العظمى ، ورأيه في الثورة السورية والحركة الوهابية ، وموقفه المتميّز من الحركة الصهيونية وعملها لاحتلال فلسطين وسائر البلاد .

 

المسألة العربية عند رشيد رضا .

       تولّدت عند رشيد رضا قناعة مفادها أن العرب بأغلبيتهم الساحقة كانوا غير ميالين الى الإنفصال عن جسم الدولة العثمانية ، رغم شعورهم بالنقمة وعدم الرضى عن المساوئ الناتجة عن تصرفات الحكام في الولايات والأقاليم  ، بل كانوا يطالبون بإلحاح بالإصلاح الإداري والسياسي والعسكري والإقتصادي ويصرّون على التماسك العربي – التركي في وجه أطماع الدول الغربية في ممتلكات الدولة العثمانية . على أن صفاء النوايا العربية ، وولائهم لدولة الخلافة في فترة حكم الاتحاديين ، لم ينسِ رشيد رضا موقف الاتحاديين من المسألة العربية . فبعد أن اتهمهم بإضاعة ثلثي المملكة العثمانية ، وجميع الولايات العربية ومعظم الجزر البحرية ، شنَّ عليهم هجوماً عنيفاً ، واتهمهم بإفساد الجيش العثماني والتفريق بين العناصر المكوّنة له ، وإضاعة الأموال . وأنهم عمدوا لتأسيس بعض الجرائد العربية في عاصمة الدولة الأستانة ، غرضها التفريق بين العرب وغشّهم ومخادعتهم ، وتحقير مصلحتهم ، وإيقاع الشقاق بين مسلمي سوريا والنصارى منهم ، بالرغم من معرفتهم أن أواصر التآخي والوفاق قد شدت المسلمين والنصارى في بيروت . وأجمع الطرفان على أن يكونوا يداً واحدة في طلب الإصلاح لبلادهم ، وهذا ما لا يطيقه الإتحاديون . ويعتقد رشيد رضا أن تعريض البلاد العربية لاستيلاء أوروبا عليها ، أخف على قلوب الإتحاديين وأدنى في سياستهم ، من اتفاق أهلها وصلاح حالهم[6].

       ويناشد رشيد رضا عقلاء البلاد السورية من المسلمين والنصارى   ليعتبروا بهذا الآخاء ، فيزدادوا استمساكاً بحبل الوفاق والتآلف الذي وفقهم الله له وأن يعني كتّاب المسلمين منهم خاصة برد كل كلام يكتب لإفساد ذات بينهم بإسم الإسلام ، وبتحريك نعرة العصبية الدينية ، فإن هذا الإفساد مخالف لهدي الإسلام .

       هذا الحرص الذي أبداه رشيد رضا على ضرورة تعاون أبناء البلاد السورية ، جعله يوجّه نداءً الى مسلمي سوريا بضرورة التعاون مع أبناء جنسهم من النصارى ، رافضاً أساليب منتحلي الدعوة الى قيام الجامعة الإسلامية الذين يستدلون بالآيات القرآنية ، ولا يعقلون مدلولاتها . إذ أن بينهم ممن يلفظ بالدعوة الى الجامعة الإسلامية ، دون أن يعرف حقيقة دعوة الإسلام ، فلا يصلي ولا يصوم . وأمثال هؤلاء أبرع في فن التجارة والدين ” فلا تغتروا بما يقولون ، ولا بما يكتبون . ورب كلمة حق أريد بها باطل ” . لذلك كان إصراره على ضرورة اتفاق أبناء الجنس والوطن على كل ما فيه المصلحة المشتركة التي تجمع المسلمين والنصارى على قاعدة المنار الذهبية ” نتعاون فيما نشترك فيه ، ويعذر بعضها بعضاً فيما يختلف فيه ، ونحن متفقون في اللغة ، وفي مصالح البلاد الزراعية والصناعية والتجارية والإجتماعية ، فنتعاون على ذلك بغاية الإخلاص ويعذر بعضنا بعضاً في أمر الدين”[7] .

       أما موقفه من المسألة العربية ، فلقد ظهر من خلال نقاط عدة أبرزها :

1.    موقفه الإصلاحي غير الطائفي ، وتثمينه لأهمية العنصر العربي في جسم الدولة العثمانية .

2.    ميله الى الوحدة العربية في إطار الوحدة الإسلامية .

3.    موقفه من القضية اللبنانية ، واهتمامه بالقضية الفلسطينية .

يرى رشيد رشا أن العصبية الجنسية في ذلك العصر ، قد دخلت في طور سياسي جديد ، وذلك بسبب السياسة التي اتبعها الاتحاديون . فالأستانة بسياسة حكومتها وإدارتها بعد الدستور ، وسياسة جرائدها ، قد كوّنت هذا الشعور ، وجعلته حياً نامياً ، وينفي عند العرب صفة التعصّب الحبشي والعرقي ، إذ أنهم آخر الأجناس شعوراً بها ، لأن سوادهم الأعظم مسلمون ، لا يكادون يشعرون بغير الجنسية الدينية . ويتهم الاتحاديون بأنهم وراء هذه السياسة الجديدة التي ظهرت في العاصمة ، وهي أن العصبية الجنسية نافعة أو ضرورية ليرتقي كل جنس ، وأنه يمكن الجميع بينها وبين الوحدة العثمانية ، ولا سيما الوحدة بين العرب والترك من العثمانيين ، وأنه يجب على كل جنس أن يُرقّي نفسه من غير أن يضر غيره ، أو يحول دون الوحدة العثمانية .

       ولا يرى السيد الإمام إحراجاً في الجهر بانتسابه العربي ، فنراه يكتب في مقال عن المسألة العربية قائلاً : إني عربي مسلم ، أو مسلم عربي . فأنا قرشي علوي من ذرية محمد النبي العربي الذي ينتهي نسبه الشريف الى اسماعيل بن ابراهيم عليهم الصلاة والسلام . فإسلامي مقارن في التاريخ لعربيتي … فأنا أخٌ في الدين لألوف الألوف من المسلمين من العرب وغير العرب ، وأخٌ في الجنس لألوف الألوف من العرب المسلمين وغير المسلمين [8] .

       هذا التوافق بين مصالح العرب والمسلمين ، دفع رشيد رضا للتطلّع الى نهضة العرب ومستقبلهم ، دون أن يكون ذلك متعارضاً مع مصلحة الدين ، وبعيداً أن يكون في هذا الموقف تعصباً للجنس العربي الذي ينتسب إليه .

       من هنا يرى أن في خدمة جنسه العربي خدمة لدينه ، وهذا ما يفسّر دعوته وإعلانه أن مصلحة العرب والمسلمين في أن يكون للعرب دولة . ويرى أن السبب في ضعف الأمة الإسلامية ، يعود الى ضعف مزايا أمة العرب ولغتها وإهمال معظم شريعتها . وكل ذلك لعدم وجود دولة مستقلة [9].

       إن هذا المنحى الذي سلكه رشيد رضا في المزج بين مصلحة العرب والمسلمين ، دفعه للعمل على نهضة العرب ، مبيّناً أهمية العلاقة بين مسلمي ومسيحيي العرب في آنٍ معاً . كما شدّد على ضرورة اتفاق الشعوب العربية فيما بينهم على اختلاف مذاهبهم ودينهم . كما أصرَّ على أهمية اتفاق المسلمين والنصارى في داخل الوطن السوري ، خاصةً أن السوريين كانوا سبّاقين في وعيهم بأن يكون لهم وطن خاص بهم ، معلوم الحدود والمصالح . وأهله مكوّنون من أصحاب ملل ومذاهب يرجعون في أكثريتهم الى فريقين : مسلمين ومسيحيين حيث يتوقف عمران البلاد وتطورها على تعاون الفريقين .

       ويصرّ رشيد رضا على ضرورة التعاون بين أبناء الأمة العربية الواحدة . وكانت تشده روابط قوية بعدد كبير من النهضويين المسيحيين ، بل إنه ذهب الى حد القبول برئاسة أحدهم الذي انخرط فيه ، وهو الاتحاد السوري الذي ترأسه ميشال لطف الله .

       من هنا ، وجدنا حرصه على ضرورة التعامل مع المسيحيين العرب   بدليل إصراره على مشاركتهم في كل جمعية أو حزب سياسي ، كجمعية الشورى العثمانية ، وغيرها من الجمعيات والأحزاب . بل نجده يرد على جرجي زيدان في كتابه ” التمدن الإسلامي ” ، ص 39 ، نافياً الخلط بين العروبة والإسلام  مميزاً بينهما ، دون أن يجد التعارض في ذلك .

عمله في سبيل الوحدة العربية في نطاق الوحدة الإسلامية .

       من خلال متابعة النهج الإصلاحي الذي سار عليه رشيد رضا ، نراه يدعو العرب الى التمسك باللغة العربية ، ويستنهض الهمم العربية ضمن الهمم العثمانية ولم يتعدى تجاهه حدود المطالبة بتحسين أوضاع الولايات العربية ، دون أن يصل الى حد المطالبة بالاستقلال والتخلي عن وحدة الدولة العلية .

       من هنا ظهرت رغبة رشيد رشا واضحة في الإصلاح ، ومحاولة رأب الصدع ، وتلافي الانشقاق بين العنصرين العربي والتركي ، وحرصه على تفنبد ادعاء كل من الفريقين بالأفضلية على الآخر ، لقناعته بوجوب تجاوز هذه الاختلافات ، لما تشكله من خطورة على وحدة الدولة العلية ، ولاعتقاده بحسن التجاوب عند المسؤولين في عاصمة الدولة الأستانة . وكان حريصاً في كل ما كتبه حول هذا الموضوع على ضرورة نبذ فكرة التباعد والتنابذ بين الفريقين .

       وبالرغم من دعوته هذه ، نراه لا يخفي قلقه تجاه سياسة الاتحاديين في العاصمة ، ضده العناصر العربية ، حيث عزل العرب عن وظائفهم ، وشكا من ضعف اللغة العربية ، وإحلال التركية مكانها في الدوائر الرسمية وفي الكشوفات التجارية في الولايات العربية . ومع ذلك ، فلقد بقي يدعو الى تقوية الأمة الإسلامية ، عن طريق تقوية العناصر المكوّنة لها ، وخاصةً العنصر العربي فيها لما له من فضل في تطور الدولة العثمانية عسكرياً وثقافياً وسياسياً .

       ونراه يقول : ” … يجب على كل بلد أو ولاية عثمانية ، أن تعنى بترقية نفسها بالعلم والثروة ، لتكون عضواً قوياً عاملاً في بنية الأمة ، لا لأجل انفراد أهلها بنفسهم ، أو اعتصامهم بأبناء جنسهم ، فإن الأمم المستقلة في أحكامها المختلفة في لغاتها ومذاهبها ومواقفها ، يتحد بعضها ببعض ليقوى الجميع بالمحالفة … فكيف تضعف الشعوب العثمانية نفسها وهي أمة واحدة [10] .

       من هنا نلاحظ أن السيد رشيد رضا كان متفهماً للواقع السياسي الذي كان يعيشه ، فالأمة العربية في خطر ، والأمة العثمانية في خطر . وبما أن الخطر مشترك ، فهو يدعو الى الوقوف والتنسيق معاً ، شرط الإحترام المتبادل ، وشرط أن تتم الوحدة العربية في نطاق الوحدة الإسلامية . وهكذا نرى أن موقف رشيد رضا في حالة قيام الدولة العربية ، وتحقيق الإصلاح في داخل الولايات العربية بقي مرتبطاً ، على أهمية آنذاك بالحفاظ على وحدة الدولة العثمانية والخوف عليها من التشتت والضياع ، والوقوع فريسة الأطماع الأوروبية التي كانت تتحيّن الفرص للإنقضاض على ممتلكات الدولة العثمانية ، واقتسامها . لذلك ظل يرفع شعار إصلاح العرب لأنفسهم ، لأن في هذا الإصلاح والرقي ، ضمانة لاستمرار وحدة الدولة العثمانية والحفاظ على تماسكها في وجه الرياح العاتية التي كانت تهب على مناطقها المتعددة ، وتنذرها بأوخم العواقب [11] .

 

موقف رشيد رضا من القضية اللبنانية .

       جال رشيد رضا في مختلف القضايا التي تخص العالم العربي آنذاك . من هنا وجدناه يعرّج في مناره على القضية اللبنانية ، متناولاً موقف المسلمين المسيحيين . فالمسلمون اللبنانيون يتعلّقون بالدولة العثمانية على أنها دولة إسلامية استمرارية ، ولكنهم بدأوا يتأففون من سياسة التتريك على أيدي الإتحاديين . أما المسيحيون ، فكانوا يريدون التخلّص من الحكم التركي ، ويريدون الاستقلال أو التبعية لدولة أوروبية  ، وخاصةً فرنسا . لكن رشيد رضا يدعو الجميع الى التماسك والتحابب والوقوف جنباً الى جنب ضد سياسة التتريك ، وضد سياسة الهيمنة الأوروبية . كما يتناول مبادئ ” جمعية النهضة اللبنانية ” بعنوان  ” من مبادئ النهضة اللبنانية ومنازعها ” المنشورة في جريدة الهدى التي كانت تصدر في نيويورك ، وقد تضمّنت هذه المبادئ ستة وأربعين بنداً ، تناولت وضع اللبنانيين في الداخل وفي الخارج ، ودعت الى الاستقلاق الموروث ، وغير ذلك من الأمور السياسية والاقتصادية والثقافية والإجتماعية التي تخص اللبنانيين .

       ويشير رشيد رضا للغلو في هذه الدعوة ، بحيث أنها باعدت بين أفراد المجتمع اللبناني من ناحية الانتماء العربي والعادات والتقاليد المشتركة ، ولغة الأم أي اللغة العربية [12] .

       وينصح اللبنانيين بعدم الإنسلاخ عن الأمة العربية وعن البلاد السورية في تلك الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد ، نظراً لتكالب الأعداء على ابتلاع المناطق العربية من قبل الغربيين ، ويطلب منهم الاعتدال ، والمقصود هنا جماعة النهضة اللبنانية . وفي هذا الصدد يقول : ” يظهر مما نشرنا ، ومما لم ينشر   مما يكتبه غلاة الدعوة اللبنانية ، أنهم يمنّون أنفسهم مما ليس في طاقتهم ، يعنون أنفسهم بأن يكونوا دولة قوية مستقلة تمام الاستقلال ، منفصلة عن جدتهم الأمة العربية ، وأمهم سوريا نفسها ، لا عن الدولة العثمانية فقط ، ولا يكون مثل هذا إلا لشعب حربي قوي . وكذلك تكثر أصحاب دعوة الاستقلال من ذكر قوة الجبل وامتناعه عن الفاتحين  ، وانتصاره على المصريين ، وإخراجهم جيش محمد علي الكبير من سوريا وردها الى الدولة ، والاسترسال في المبالغات [13] .

       أما في موضوع الخطر الصهيوني على البلاد العربية ، وإدراكاً منه بفداحة الخطر اليهودي الصهيوني على مستقبل فلسطين ، فإنه يناشد زعماء العرب  فيقول : ” يجب على زعماء العرب ، أهل البلاد أحد أمرين . إما عقد اتفاق مع زعماء الصهيونيين على الجمع بين مصلحة الفريقين في البلاد إن أمكن ، وهو ممكن قريب إذا دخلوا عليه من بابه ، وطلبوه بأسبابه ، وإما جمع قواهم كلها لمقاومة الصهيونيين بكل طرق المقاومة ، وأولها تأليف الجمعيات والشركات  وآخرها تأليف العصابات المسلحة التي تقاومهم بالقوة ، وهو ما تحدث به بعضهم على أن يكون أول ما يعمل ، وإنما الكي ، والكي آخر العلاج [14] .

       وهكذا بقي رشيد رضا حريصاً على وحدة العرب ، مسلمين ومسيحيين . من هنا كان تشديده على وجوب اتفاق السوريين من مسلمين ونصارى ، خاصةً بعد إعلان الأمير فيصل حكومته العربية في دمشق . ولهذا الغرض ، كتب عدة مقالات ، دعا فيها الى الاتفاق ، مشدداً على ضرورة التربية والتعليم ، عن طريق إنشاء مدارس وطنية ، جاعلاً في جانب منها مسجداً ، وفي جانب آخر كنيسة ، ولذلك لتربية الجيل الناشئ تربية دينية وطنية ، لأنه على الديانتين الإسلامية والمسيحية فضائل كافية ، وهي متفقة أو متقاربة على قاعدة المنار الذهبية  نتعاون ونشترك فيه ، ويعذر بعضنا بعضاً فيما نختلف فيه [15] .

 

 

                                                  


مراجع البحث

 


[1]  – أنيس الأبيض : رشيد رضا ، تاريخ وسيرة . جروس برس ، الطبعة الأولى 1993 ، ص 12 .

[2]  – رشيد رضا : المنار والأزهر ، ص 133 .

[3]  – أنيس الأبيض : المرجع السابق ، ص 12 .

[4]  – رشيد رضا : المصدر السابق ، ص 141 .

[5]  – رشيد رضا : المصدر نفسه ، ص 191 .

[6]  – رشيد رضا : المنار . ج4 ، م 16 ، ص 315 – 316 .

[7]  – رشيد رضا : المنار . ج2 ، م 17 ، ص 957 – 959 ، 1913م

[8]  – رشيد رضا : المنار . ج7 ، م17 ، ص 536 .

[9]  – رشيد رضا : المنار ، ج1 ، م.20 ، 1917 ، ص 34  .

[10]  – رشيد رضا : المنار ، ج12 ، م12 ، ص 921 .

[11]  – أنيس الأبيض : المرجع السابق ، ص 56 .

[12]  – رشيد رضا : المنار ، ج8 ، م17 ، ص 617 .

[13]  – رشيد رضا : المصدر نفسه ، ص 627 .

[14]  – رشيد رضا : المنار ، ج4 ، م 17 ، 1914 ، ص 320

[15]  – رشيد رضا : المنار ، ج8 ، م22 ، ص 617 – 619 .

Categories
من علماء طرابلس

منير المقدم

منير المقدم

 

  من مواليد طرابلس عام 1306 هـ/1888 م. تلقى علومه الأولى في مسقط رأسه، ثم انتقل الى القاهرة ليكمل تحصيله العلمي في الجامع الأزهر عام 1339 هـ/1920 م. وفي عام 1344 هـ/1925م تخرّج من هذا الجامع ليتولى قضاء صيدا الشرعي، ثم قضاء بيروت. ثم عين مستشاراً في المحكمة الشرعية. وفي عام 1384 هـ/1964 م. ولي القضاء الشرعي بطرابلس.

  توفي بطرابلس عام 1384 هـ/1964 م. له مآثر عديدة منها:

– بناء مسجد في بلدة بخعون في منطقة الضنية عام 1370 هـ/1950 م.

– استصلاح الأراضي في تلك البلدة وغرسها بالأشجار المثمرة.

– وهب مكتبة عامرة الى كلية التربية والتعليم الاسلامية بطرابلس. وقد ضمت الكتب النفيسة والثمينة التي تصلح مراجع للعلماء في العلوم الشرعية واللغة والتاريخ والقوانين.

– علاقاته الطيبة مع رجالات الفكر والسياسة والأدب منهم: رياض الصلح، الشيخ الغزالي، الشيخ العلايلي، الشيخ محمد الداعوق…

  لقد جمع القاضي منير أحسن مزايا العلماء والقضاة، لذلك أثنى عليه الجميع، وحمدوا حسن سيرته وعدله في قضائه وأحكامه[1].


[1]  – را: تدمري، موسوعة 3: 5/134؛ الزين، تاريخ طرابلس، ص 283.

Categories
من علماء طرابلس

مصطفى لطفي بن عبد الحميد بن مصطفى كرامي

مصطفى لطفي بن عبد الحميد بن مصطفى كرامي

 

  ولد بطرابلس عام 1250 هـ/1834 م وفيها تلقى علومه فتتلمذ على الشيخ محمود نشابة (ت1308 هـ/1890م) والشيخ محمد رشيد الميقاتي (ت1282 هـ/1865 م) وقد سلك عليه الطريقة الخلوتية. تولى منصب إفتاء الحنفية بطرابلس مدة حياته. كما كلفه قاضي طرابلس محمد منيب الهاشمي بإجراء الأحكام والنيابة عنه بمناسبة سفره وذلك يوم السبت 2 رمضان 1308 هـ/1890 م. كما قام الشيخ مصطفى لطفي بتعيين الشيخ اسماعيل بن أحمد الأحمدي الحافظ (1198- 1288 هـ/1783- 1871م) في منصب أمين الفتوى.

  وبعد وفاة المفتي مصطفى لطفي خلفه في هذا المنصب ولده رشيد وهو والد مفتي طرابلس وزعيمها عبد الحميد كرامي.

  كان مصطفى لطفي عالماً بالفقه والحديث، متواضعاً مع رفعة مقامه وثروته، دمث الأخلاق غيوراً تقياً، كريماً جواداً يستضيف في داره معظم زوار طرابلس. وله أياد خيرة في بناء المساجد وإنشاء المكتبات[1].


[1]  – را: تدمري، آثار طرابلس، ص 23؛ تدمري، تاريخ وآثار، ص 122 وص 131؛ تدمري، موسوعة 3: 5/119- 121؛ الميقاتي، الأثر الحميد، ص 12 و 69 و 80؛ نوفل، تراجم، ص 35 وص 137- 138؛ الحليمي، عبد الحميد كرامي، ص 22.

Categories
من علماء طرابلس

مصطفى بن كرامة

مصطفى بن كرامة

 

  مفتي الأحناف بطرابلس إبان رحلة المحاسني إلى هذه المدينة عام 1044 هـ/1624 م. وصفه ابن محاسن بقوله: “له عزة وكرامة، مشهوراً بالعلم والفضائل والحلم. وقد سمعت أن من جملة كتبه الموقوفة كتاب الذخيرة، فكتبت إليه هذين البيتين أطلبها على سبيل العيرة وهما من مجزؤ الكامل:

“يا عدة قد عدّه                أهل الفضائل للذخيرة

جُد لي وأسرع عاجلاً         واسمح بإرسالِ الذخيرة”

  فكان الجواب إرسالها[1].  


[1]  – ابن محاسن، المنازل المحاسنية، ص 78- 79.

Categories
من علماء طرابلس

عبد الرحمن الصوفي

عبد الرحمن الصوفي

 

  ولد في طرابلس وتلقى فيها علومه الأولى، ثم سافر في شبابه إلى مصر ليتم التحصيل العلمي هناك. وبعد مدة رجع إلى مدينته بارعاً بالشعر والعربية، متقناً للمنطق وفنونه، درّس بالمدرسة الوطنية بطرابلس، فتخرّج عليه كثير من الطلبة منهم أنيس بن عبد الله نوفل.

  ولما أقفلت تلك المدرسة دخل عبد الرحمن في سلك موظفي الحكومة وتقلّد منصب القضاء في جهات مختلفة. وعين مدة مديراً لأوقاف طرابلس. توفي في مدينته. له مراسلات شعرية مع كبار شعراء عصره كالشيخ ناصيف اليازجي، فقد مدحه عبد الرحمن بقصيدة، فأجابه اليازجي بقصيدة أثنى فيها على براعته، وقال في مطلعها:

“منازل عسفان فدتك المنازل          أراجعة تلك الليالي الأوائل”.

Categories
من علماء طرابلس

مفيد بن أحمد بن اسماعيل شلق قاضي طرابلس

مفيد بن أحمد بن اسماعيل شلق قاضي طرابلس

 

  وآل شلق يتحدرون من أسرة يمنية عريقة، نزحت بعد الفتح الإسلامي إلى حوران فدمشق فلبنان حيث استقرت في العاقورة، من جرود بلاد جبيل. جدهم الأعلى مالك بن أبي الغيث، زعيم اليمنية، الذي أنجب أولاداً كثيرين منهم “سعد” الذي لقب بـ “شلق”. وقد اشتهر من هذه الأسرة العديد من رجالاتها لا سيما الصدر الأعظم “مصطفى باشا الشلق” ومحمد باشا الشلق والي طرابلس، بالإضافة إلى العديد من المعلمين والمؤلفين والشعراء والوزراء والوجهاء… كالمربي الكبير الدكتور علي وابنه الفضل وزير البريد والبرق والهاتف والدكتور حسن رئيس مجلس الخدمة المدنية وغيرهم.

  ولد صاحب الترجمة عام 1351 هـ/1932 م بقرية بدنايل قضاء الكورة، قرب طرابلس. تلقى دراسته الابتدائية في مدرسة المقاصد الخيرية الإسلامية بقريته، ثم التحق بالكلية الشرعية ببيروت عام 1367 هـ/1947 م حيث تابع دراسته المتوسطة والثانوية، ونال شهادتها عام 1373 هـ/1953 م. وخلال تلك السنوات كان القاضي مفيد الأول في صفه. ولما نال أعلى شهادة شرعية كانت تمنحها هذه الكلية، سافر إلى مصر لمتابعة التحصيل العالي في كلية الشريعة بالأزهر الشريف. وفي عام 1377 هـ/1957 م نال شهادة الأزهر العالية، ثم حاز الشهادة العالمية مع الإجازة في القضاء الشرعي عام 1379 هـ/1959 م من كلية الشريعة ذاتها. من أشهر مشايخه في لبنان: فهيم أبو عبية، الشهيد حسن خالد مفتي الجمهورية اللبنانية السابق، محمد المغربل، محمد علي الزعبي.

  وفي مصر درس على مشاهير علمائها ومشايخها: محمد العدوي، عبد الله المشد، محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر، محمد أبو زهرة، عبد الرزاق السنهوري، محمد يوسف موسى… ولما رجع إلى طرابلس عين مساعداً قضائياً في المحاكم الشرعية عام 1380 هـ/1960 م. ثم عين قاضياً شرعياً بطرابلس عام 1383 هـ/1963م. كما عين عضواً في المجلس الإداري لأوقاف طرابلس، وأعيد تعيينه عدة مرات. ومنذ عام 1397 هـ/1977 م ترأس لجنة بمسلمي الكورة والبترون والقلمون التابعة لدار الفتوى في الجمهورية اللبنانية. وتجدر الإشارة إلى أنه منذ وصوله إلى طرابلس عام 1377 هـ/1957 م وهو يمارس الخطابة والتدريس الديني، والوعظ والإرشاد في المساجد تطوعاً. وله العديد من الفتاوى والمقالات المنشورة في الصحف والمجلات، والكثير من الأحاديث المبثوثة عبر الإذاعة والتلفزيون. كل ذلك بإسلوب أدبي رفيع، ولغة فصحى، نظراً لتمكنه من ناصية اللغة، ومعرفته الدقيقة لمعاني الألفاظ والعبارات، فالقاضي كثير المطالعة ورواية الشعر. حج مرات عديدة.

  اشتهر القاضي مفيد بالإبتعاد عن كل ما يسيء إلى القضاء، فنفسه تأبى الهدايا، وتتعفف عن إجراء عقود الزواج، ولا يكاد يجري عقداً إلا بحكم القرابة أو الصداقة تطوعاً، ويرفض الوساطات والشفاعات والضغوطات في القضاء، فلا تأخذه في الله لومة لائم، يصدع بالحق والعدل… يترسم خطى قضاة الإسلام العادلين الذين كانوا مضرب المثل في العفة والصدق والإخلاص والجرأة والنزاهة والإستقامة والعدالة… ويربط في أحكامه بين الحكم الشرعي في القضية وبين علته، ويجري مقارنة مليئة بالتوجيه والنقد الإجتماعي. ويكاد يكون القاضي الشرعي الوحيد الذي يصوغ أحكامه القضائية بأسلوب الأديب الناقد الذي لا يغفل عن التنويه إلى ما يجري في مجتمعه من انحراف، سواء جاء من الحكام أو من السياسيين أو القضاة أو المتقاضين أو الوكلاء. لذلك فإن أحكامه جديرة بأن تكون موضع دراسة.

  – في بعض الدعاوى “إطاعة” يلجأ الزوج في بعض الأحيان إلى محاولة وضع زوجته في منزل حقير، إمعاناً منه في إذلالها، وتنفيراً لها حتى تتنازل عن مهرها. في مثل هذه الأحوال كان القاضي يصف البيت بالزنزانة، ويكشف احتيال الزوج.

– في قضايا النسب يبين القاضي مدى اهتمام الشريعة الإسلامية بهذه القضايا، لما يترتب على ثبوت النسب من أحكام شرعية تتعلق بالنفقة والإرث وحرمة المصاهرة. ويقارن بين دعوة نسب ولد لقيط وبين نظام التبني المرفوض في الشريعة الإسلامية (*ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله*) [الأحزاب 5].

  ويعرّج على ما قرره الفقهاء في هذا الصدد من أنه لو ادعى مسلم أن هذا الولد المجهول النسب هو عبده، وادعى نصراني أنه ولده يحكم به أنه ولد للنصراني، ولا يحكم بأنه عبد للمسلم، منوهاً بذلك إلى سماحة الإسلام في تحقيق الحرية.

– ومن خلال إصداره حكماً بالتفريق للشقاق والنزاع، يعتمد الضرر الأدبي وحده سبباً كافياً للتفريق بين الزوج وزوجته، ويعلل لذلك بالقول “إن الضرر الأدبي يكون أحياناً أشد إيلاماً على بعض النفوس المرهفة من الضرر المادي، وإلى ذلك يشير الله سبحانه بقوله (*والّئي تخافون نشوزهنّ فعظوهنّ واهجروهنّ في المضاجع واضربوهنّ*) [النساء 34] ضرباً غير مبرّح.

  فالآية الكريمة أعطت للزوج حق تأديب زوجته بالوسيلة الرادعة لعصيانها، دون زيادة، لأن الزيادة تجاوز، والتجاوز عدوان، والعدوان منهي عنه بقوله تعالى (*ولاتعتدوا إنّ الله لا يحبّ المعتدين*) [البقرة 190].

  وإن القاضي الملهم الذي تستقر في قلبه خشية الله تعالى يستطيع بضميره الحي، ووجدانه اليقظ، وإحساسه المرهف أن يضع الضابط المميز بين حد التأديب المشروع وبين حد العدوان الممنوع، على ضوء دراسته لنفسية كل من الزوجين، فما يكون وسيلة تأديب مشروع بالنسبة لإحداهن قد يكون عدواناً بالنسبة لغيرها، على النحو الذي ذهب إليه المفسرون الأقدمون للآية الكريمة.

– في أحكام التفريق يناصر القاضي مفيد المظلوم من الفريقين، ويكشف استغلال الظالم لصاحبه، ويفضح دسائسه ومؤامراته لتحقيق مآربه في التملص والتخلص من الحقوق المترتبة عليه نحو الفريق الثاني؛ خصوصاً إذا كان المستغل من أصحاب النفوذ أو من العائلات العريقة، أو من الذين أقسموا على بذل جهدهم في خدمة الإنسانية المعذبة، وتخفيف آلام البشر.

– في قضايا الإرث والطلاق… يحكم بما يمليه عليه الشرع الشريف، وبما يلاحظه بذكائه النادر، وحسن اطلاعه على حيثيات الدعاوى حتى يكشف التلاعب والإحتيال الذي تلجأ إليه بعض النفوس الضعيفة التي تظن أنها قد تخدع الحكام المستنيرين والقضاة الملهمين المخلصين الواعين. ففي قضية رجل طلّق زوجته بعد أن أنجب منها عدة أولاد. ثم تزوج هذا الرجل بأخرى وأنجب منها عدة أولاد أيضاً. ثم أصيب بمرض خبيث في الدماغ والرئتين، فأوكل أحد أبنائه من الأولى لتطليق زوجته الثانية وإعادة مطلقته. وبعد عشرة أيام من تلك العملية توفي الزوج. فاكتشف القاضي مفيد روائح المكر، وإشارات الخديعة من أجل حرمان الزوجة الثانية من الميراث، فحكم حكماً جريئاً لا يقف عند شكليات الإجراءات، بل يغوص إلى أعماق القضية، فحكم بصحة إعادة الزوجة الأولى، وبعدم طلاق الثانية وبميراث الإثنتين. وذيّل حكمه بأنه كان من الأفضل لهذا الرجل، وهو يتأهب للرحيل على درب الآخرة أن يوضع على صراط الله المستقيم، ونهجه القويم.

  ويعتبر القاضي مفيد من القضاة النادرين في تاريخ الفيحاء، فقد شهد له الأهالي بالتقى والورع والزهد والتعفف، والجرأة في الحق، ونظافة الكف واللسان، وحسن الطوية، والنفاذ إلى صميم القضايا، ومعرفة ما فيها من الخفايا. وبكلمة فقد حمدت سيرته، وارتاح المخلصون لأحكامه[1].


[1]  – مقابلة شخصية للدكتور علي شلق، ولفضيلة مفيد شلق، طرابلس 26/2/96.

Categories
من علماء طرابلس

مصطفى بن محمد سندروسي الطرابلسي

مصطفى بن محمد سندروسي الطرابلسي

 

  توفي والده أوائل شعبان 1177 هـ/1763 م فتقاسم مع أخيه عبد الواحد الوظائف التي كان يقوم بها والده، ومنها الخطابة والتدريس والإمامة والنظارة على بعض الأوقاف… اشتهر مصطفى بالخطابة والتدريس وبعلوم الحديث. وقبل عام 1210 هـ/1795 م ولي منصب الحاكم الشرعي بطرابلس[1].


[1]  – را: تدمري، موسوعة 3: 5/100- 101.