سوسيولوجيا العمل الأهلي والبلدي
محددات التكامل وعناصر التباعد
نموذج طرابلس
د. عبد الغني عماد
أستاذ في الجامعة اللبنانية
معهد العلوم الإجتماعية
تصاعد الإهتمام على مستوى العالم في الآونة الأخيرة بدور الجمعيات والهيئات الأهلية غير الحكومية ، وقد حظي دورها التنموي بإهتمام خاص في دول العالم الثالث ، الذي تعتبر التنمية التحدي الأساسي بالنسبة له وتعتبر الجمعيات الأهلية عموماًَ وسائط إجتماعية للتغيير الإجتماعي ، وهي على الرغم من أهميتها في مجتمعاتنا لا تزال تعاني من معوقات كبيرة تمنعها من أن تكون إطارافعالاً لتحقيق التنمية والمشاركة والتكامل .
ولكي يقوم العمل الأهلي بهذا الدور لا بد من تحديد معالمه وآلياته ومعوقات تطوره ، وتقديم قراءة نقدية لتجربته طيلة المراحل الماضية وهذا ما تطمح اليه هذه الدراسة .
ولا شك ان تقاليد العمل المشترك في المجالات التنموية والإجتماعية والسياسية لا تزال متواضعة في مجتمعاتنا ، بل إننا نفتقر الى الخبرة والتجربة في هذا المجال ، إذ لم نقل أننا نفتقر الى الإرادة والقناعة بالعمل المشترك وأهمية المشاركة والتكامل كفعل جماعي يتخطى حدود التكوينات التنظيمية المتناثرة في زوايا المجتمع .
كيف يمكن بناء هذه القناعة ومراكمة الخبرة والتجربة ؟ كيف يمكن تدعيم أواصر التعاون بين التنظيمات الأهلية وشركائها في مؤسسات الخدمة العامة البلدية؟ وكلاهما خرج من رحم المجتمعات الأهلية سواء بالإنتخاب او بالتجمع والتكتل في أطر العمل الطوعي ؟ ومعاً يستهدفان تقديم الخدمات التنموية والإجتماعية ويتنافسان على نفس الساحة بدل أن يتكاملا في شبكات من العمل الذي يتيح تبادل الخبرات وإغناء التجربة ومضاعفة الخدمات .
ما هي الشروط الموضوعية لإزالة الإلتباس وتشكيل أرضية تفاهم ورأسمال ثقة يحددان مجالات التخصص وضوابط التعاون أولاً ، ويرسيان ثانياً تقاليد جديدة للتخطيط والعمل المشترك ؟
هذه التساؤلات الإشكالية تشكل خلفية الدراسة التي تعتمد طرابلس كإطار تحليل ميداني , وهي تعتمد من الناحية المنهجية على مقاربتين أساسيتين :
أ- المقاربة الوظيفية Functional approach
ب- المقاربة البنيوية Structural approach
وقد إعتمدت الدراسة مقابلات وإستمارة إستبيان في نموذجين متشابهين لكل من البلديات والجمعيات تم ملؤها وفرزها بمساعدة فريق من طلاب الجامعة اللبنانية ـ معهد العلوم الإجتماعية في الفرع الثالث ، فضلاً عن قراءة تحليلية للأساس القانوني وظروف نشأة العمل الأهلي في المجتمع الطرابلسي .
أولا : في الأساس القانوني للعمل الأهلي والبلدي :
في المفهوم القانوني تعرف البلدية بأنها : ” إدارة محلية تقوم ، ضمن نطاقها بممارسة الصلاحيات التي يخولها إياها القانون ” . وصلاحياتها تشمل كل عمل ذي طابع او منفعة عامة ، وقد إعتمد المشترع منحى واضحاً في توسيع هذه الصلاحيات على قاعدة الشمول بحيث عددّها ” على سبيل المثال وليس على سبيل الحصر ” بهدف عدم التضييق وإنسجاماً مع توسيع الدور .
والقانون يرسم ملامح الدور التنموي الذي يمكن للبلدية ان تلعبه ، بدءاً من تحديد معدلات الرسوم ووضع دفاتر الشروط لصفقات اللوازم والأشغال والخدمات، وصولاً الى برامج الأشغال والتجميل والتنظيفات والشؤون الصحية ومشاريع المياه والإنارة وتخطيط الطرق وتقويمها وتوسيعها وإنشاء الحدائق والساحات العامة ووضع تصاميم البلدة ، والمخطط التوجيهي العام بالتعاون مع التنظيم المدني ، فضلاً عن إنشاء الأسواق والمنتزهات والملاعب والمتاحف والمستشفيات والمستوصفات والملاجئ والمكتبات والمساكن الشعبية ، وكافة عناصر البنية التحتية .
وهناك المزيد من الصلاحيات بحيث يستطيع المجلس البلدي أن ينشئ او يدير مباشرة او بالواسطة المدارس الرسمية ودور الحضانة ، والمدارس المهنية ، والمساكن الشعبية والمستشفيات والمصحات ودور السينما والمسارح وغيرها ، إضافة الى مراقبة سير المرافق العامة وإعداد تقارير عن سير العمل فيها الى الإدارات المعينة .
المشكلة أن التطبيق العملي أفرغ هذا القانون من مضمونه ، فالحكومات المتعاقبة والسياسيون المهيمنون كانوا دائماً متخوفين من قيام مجالس بلدية قوية ، ولعل ذلك ما يبرر تعطيل الإنتخابات البلدية وتأجيلها المتكرر ، فمنذ الإستقلال لم تجر سوى ثلاث عمليات إنتخابية بلدية ( 1953 و 1963 و1998 ) أي بمعدل دورة كل 18 سنة ، في حين صدرت ثمانية قوانين بلدية وعشرة قوانين اومراسيم لتنظيم العمل البلدي ، أي بمعدل مرسوم كل أربع سنوات تقريباً . وهذا ما يعكس غياب الإستقرار التشريعي فيما يتعلق بالبلديات ، ويبرر ضعف تقاليد العمل البلدي وتبعيته ، وهيمنة القائمقامين والمحافظين على نصف عدد البلديات تقريباً .
ويشكو العديد من رؤساء البلديات من أن الإستقلالية التي أعطاها القانون للبلدية سلبت منها في التطبيق العملي من قبل السلطة المركزية فالرئيس السابق لبلدية طرابلس يقول انه في العودة الى المواد 59 وحتى62 ضمناً ، نجد ان 6 أنواع من القرارات تصبح نافذة دون تصديق ، و 10 تحتاج الى تصديق القائمقام و 6 تحتاج الى تصديق المحافظ ، و 11 لا تصبح نافذة إلا بعد تصديق الوزير . ويمكن الإستشهاد بالعديد من المعاملات التي غرقت في غياهب الإدارة المركزية رغم الحاجة الملحة اليها ولدى رؤساء البلديات قصص وأمثلة ومعاملات عديدة قضت سنوات دون أن يتم الإفراج عنها . هذا الواقع يدعو الى إعادة تقويم التجربة التطبيقية للبلديات والتي لا يزال عملها بطيئاً على العموم وفيه الكثير من الشوائب وغياب القدرة على المشاركة الفعالة في إطلاق العملية التنموية ، وهو أمر يعيده أغلب رؤساء البلديات الى تلك الرقابة الروتينية الغليظة لإدارة مركزية متخلفة ومهترئة وبيروقراطية ، وهي تهمة الرد عليها ياتي منها ، ذلك أن البلديات كأجهزة وإدارات ينطبق عليها هذا التوصيف الذي يتخذه الموظفون في أجهزة الرقابة مبرراً لما يجري من إعاقات وعرقلات .
في الخلاصة ليس المطلوب أن تصبح البلدية إدارة مستقلة عن الدولة ، ولا المطلوب تذويب ” الإدارة ذات الشخصية المعنوية ” للبلدية ، كي تصبح ملحقة بالأجهزة المركزية ، وبالتالي تجويف إستقلالياتها المالية والقانونية ، والنابعة بالدرجة الأولى من كونها إدارة محلية منتخبة وإطاراً للمشاركة من قبل المجتمع المحلي في إدارة شؤونه ومصالحه المباشرة . ولا حل بتقديري لهذه المشكلة الا بإطلاق مشروع اللامركزية الإدارية الموسعة الذي نصّت عليه وثيقة الوفاق الوطني والتي صدقها مجلس النواب في جلسته الشهيرة في القليعات بتاريخ 15/11/1989 .
اما الجمعيات في لبنان فلا يزال المرجع القانوني لها قانون الجمعيات العثماني الصادر عام 1909 . وهذا القانون لم يفرق بين الجمعيات الإجتماعية كالأندية والروابط غير السياسية وبين الأحزاب السياسية ، رغم الفوارق البنيوية في تركيبة وأهداف كل منهما . ومع ذلك يبقى هذا القانون المرجعية المعمول بها حتى الآن لتحديد الجمعية الإجتماعية وتنظيم العمل الأهلي .
وقد أشارت المادة الأولى منه بوضوح الى ان الجمعية هي مجموعة من الأشخاص تألفت لتوحيد معلوماتهم او مساعيهم بصورة دائمة ولغرض لا يقصد به إقتسام الربح . وهذا التعريف يحدد ثلاثة أمور :
1- إن الجمعية هي تجمع منظم لايهدف الى الربح الخاص .
2- الجمعية لها صيغة الديمومة وليست تجمعاً عابراً لا نظام له .
3- الجمعية لها شخصية معنوية مستقلة عن شخصية أعضائها . وعن هذه الشخصية ينشأ بالتالي حقوق وواجبات .
اما لجهة غايات الجمعية فإن القانون لم يحددها إيجاباً ، وهذا يعني ان غايات الجمعية يمكن أن تطال جميع الميادين الحياتية ما عدا الأهداف الممنوعة والتي هي مخالفة للقواميم والآداب العامة أو تلك التي تخل بالأمن .
القانون إذاً لا يتضمن تصنيفاً للجمعيات ، وهذا مصدر الإلتباس القائم والمفضي الى غياب التخصص في عمل الجمعيات . في كل الأحوال هناك تصنيفات سائدة عملياً ، تعتمد نوع الخدمات أساساً لها ( تربوية ، صحية ، رياضية ، ثقافية .. ) او تعتمد الإنتماء الإقليمي او الطائفي او العائلي او الجنسي.
ثانياً : في المصطلحات والمفاهيم والدلالات السوسيولوجية :
التعريف القانوني للعمل الأهلي لا يشتمل على البعد السوسيولوجي ، ولعل المقاربة المعروفة والمتداولة تميل الى تعريف العمل الأهلي بإستخدام المعيار الوظيفي Functional criteria بإعتباره جهات او هيئات تؤدي خدمات إجتماعية او تهتم بالرعاية الإجتماعية ، وفي هذا السياق جاء التعريف المبسط للبنك الدولي بإستخدام مصطلح ” التنظيمات غير الحكومية ” لوصف العمل الأهلي بإعتبارها ” مؤسسات وجماعات متنوعة الإهتمامات ، إما مستقلة كلياً أو جزئياً عن الحكومات ، وتتسم بالعمل الإنساني والتعاوني وليس لديها أهداف تجارية ” (1)
1- the World Bank ” Involving NGOS in bank supported activities operational directive/1989,p.1-6
سنستخدم في الدراسة مصطلح ” العمل الأهلي ” ، إلا أنه لا بد من الإشارة الى ان هناك تسميات عديدة لهذا القطاع ، منها ” المنظمات غير الحكومية ” وهي تبدو غير مقبولة لدى بعض المثقفين ، حيث توحي بأن الحكومات هي مركز المجتمع ، والجمعيات الأهلية ليست اكثر من ملحقات ، وعليه يفضل بعضهم مصطلح “القطاع الثالث ” . وعربياً فإن تسمية ” المنظمات الأهلية” لا تحظى بالقبول أيضاً ، وخاصة بين علماء الإجتماع ، فهي تمثل صورة لنمط إنتاج قديم ، ياخذ بثنائية العائلة او القبيلة / الدولة ، ويتجاهل وجود تنظيم إجتماعي إسمه المجتمع المدني .
وإذا كان تعريف البنك الدولي قاصرا ، فالأمم المتحدة تجنبت الإلتزام بتعريف صارم لعمل التنظيمات غير الحكومية سواء في الشمال او الجنوب او على المستويات الدولية والإقليمية ، وإقترحت بدلاً منه قواسم مشتركة يمكن ان تحدد عمل ” القطاع الثالث ” ومكانته ، وهي :
التكافل (solidarity) والعدل الإجتماعي (social justice ) ومن خلال هذا المنظور يتصف هذا القطاع بأنه :
– منظمات متمحورة حول خدمة الجماعات community based .
– لها رؤية إنمائية محددة .
– مهتمة بتحسين أوضاع الفئات التي تتجاوزها او تضرها التوجهات الإنمائية.
– يتحدد عملها في حقول المشروعات الإنمائية ، الطوارئ ، إعادة التأهيل ، وكذلك ثقافة التنمية والدفاع عن الحقوق الإقتصادية والإجتماعية
اما من الناحية العملية فإن الهدف يتحدد أساساً في مساعدة المواطنين كي يكونوا أقل إعتماداً على الدولة ، واكثر وعياً وتمكيناً more empowered مما يوصلهم الى حالة الإعتماد على الذات ونحن في هذه الدراسة نتبنى هذا المنظور .
أما في الأبعاد السوسيولوجية فنجد مقاربة اكثر شمولية ، فهي تعتبر ” القطاع الثالث ” أو العمل الأهلي نمط من أنماط المشاركة في الحياة الإجتماعية والخدمية والسياسية والثقافية ، بما يمثله كأحد هياكل الإدماج السياسي والإجتماعي ، حيث يتم من خلاله التدريب الفردي والجماعي على الإستفادة من الخبرات والمعارف ووضعها موضع التطبيق تحقيقاً للنفع العام .
وتذهب العلوم السياسية الإجتماعية الى تعريف الحياة الجمعياتية بأنها سلطة مضادة تضمن لقوى المجتمع السياسية والإجتماعية قنوات المشاركة والإندماج والتعبير المستقل عن السلطة . إنها تمثل بالفعل قوة ثالثة تتولى مهمة التوسط بين مجالين مستقلين ، وربما متناقضين ، السلطة من جهة ، وما يمكن ان نسميه “المجتمع الأهلي ” في سيرورته نحو التكوّن كمجتمع مدني من جهة أخرى . والجمعيات في هذا الإطار ، إذ هي شكل من أشكال التنظيم الإجتماعي ، هي لبّ المجتمع وعموده الفقري , يتدرّب الأفراد من خلالها على المشاركة والتعبير عن ذواتهم ومصالحهم .
وهذا ما أكد عليه ماكس فيبر (1920-1864 )عالم الإجتماع الألماني الشهير والمتخصص في التنظيمات ، حين أكد على الجانب الطوعي والتطوعي وعلى القبول الحر بالنشاط الجمعياتي كتعبير عن فعاليات المجتمع المدني أو الأهلي .
والعمل البلدي في جوهره أيضاً نمط من أنماط المشاركة الأهلية والأدماج الإجتماعي الذي يستهدف تنظيم الخدمات والمرافق الخدمية والتنموية ، لكن إشكاليته أنه جزء من السلطة ، لكنه جزء غير مباشر ، انه يقع في منطقة وسطى ورمادية بين العمل الأهلي ومؤسسات السلطة الرسمية . وكلاهما ، أي العمل البلدي والجمعياتي ينهض بثلاث وظائف :
1- وظيفة الإدماج والمشاركة وهي تحقق التوازن الإجتماعي وإدماج الأفراد في الحياة العامة عن طريق التدريب على العمل التطوعي .
2- وظيفة التسيير وتحمل المسؤولية التي إكتسب من خلالها الأفراد الخبرة والتجربة على مهمة التسيير المالي والإداري وحتى السياسي في بعده الإجتماعي .
3- الوظيفة التعبيرية والتي يكتسبها الأفراد من خلال إنخراطهم في الدفاع والتعبير عن قضاياهم بالعمل الجماعي بما يؤمن تكامل الطاقات وتكيفها مع الحياة العامة .
ثالثاً : في تقاليد العمل الأهلي ومرجعياته :
ولعله من المفيد الإشارة الى أن تقاليد العمل الأهلي ليست طارئة على حياة المجتمعات المحلية العربية ، التي ساد في أريافها وحواضرها نسيج من التجمعات والإطارات الخدمية والإجتماعية ذات الطابع الأهلي ، فكانت المدارس والكتاتيب والزوايا والمساجد وتجمعات العمل الخيري ذات الخلفية الدينية ، بل وحتى مؤسسة الأوقاف بحد ذاتها هي ذات طبيعة أهلية ، وهي مؤسسة راسخة الجذور وعميقة التأثير في المجتمعات العربية والإسلامية . لقد حققت هذه الإطارات والتجمعات قدراً من الإستقلالية التنظيمية النسبية عن السلطة المركزية طيلة المرحلتين الأموية والعباسية وصولاً الى المرحلة العثمانية .
وإستمر تأثيرها في المرحلة الإستعمارية ولا يزال في ظل الدولة الوطنية , وهي كانت تقوى حضوراً وتأثيراً حين تغيب سلطة الدولة المركزية او تضعف ، وخاصة في الحواضر والمدن الكبرى ، وهي شملت حتى الحرف التقليدية التي كان لها تنظيماتها وتقاليدها الأهلية شبه المعممة في المدن . في كل الأحوال من الثابت ان تقليد العمل الأهلي لم يكن في المجتمعات المحلية العربية مناهضاً للدولة المركزية ، ذلك انه نشأ بالتفاعل مع المعتقد الديني ، وكان له دور تكاملي على المستوى الإجتماعي والسياسي ، فالعقيدة الدينية كانت هي الموّجه والمرجع العملي لكل من تقاليد العمل الأهلي والسياسي . ولم يخل الأمر من توتر في بعض المراحل سعت فيها السلطة لإستتباع هذه الإطارات والتجمعات .
ومهما تكن العلاقة بالدولة ، فقد شكلت هذه الأطر نموذجاً لمجتمع مصغر ، ينهض بأعباء عجزت الدولة السلطانية عن النهوض بها او لم تتفرغ لإنجازها ، ولعل ذلك ما أدى الى ضرب من التعايش بين نوعين من المجتمعات : واحد تقوده الدولة وتتحكم فيه ، وآخر يتحرك في فضاء إكتسب نوعاً من الإستقلالية النسبية في إطار العقيدة او الإيديولوجيا الدينية الناظمة لحركة المجتمع ، يؤمن من خلالها خدمات العلاج والتعليم والغذاء ويعزز أواصر التضامن الإجتماعي ، بعيداً عن مفهوم ” الأجرة ” الذي كان دخيلاً على الحضارة العربية الإسلامية ، حيث لم يكن التصدي للتدريس او معالجة المرضى في الماريستانات يخضع لنظام ” الأجرة ” مثلما هو الآن. لذلك نهضت تلك الإطارات بدور الوسيط بين المجتمعات الأهلية والسلطة المركزية , معتمدة بذلك على تمويل مؤسسات الأوقاف الغنية ، وتلك كانت مظاهر بارزة في كل من القاهرة وإستامبول ودمشق وبدرجة اقل في كل المدن والحواضر الأسلامية .
لقد ساعدت هذه الأطر والتجمعات الأهلية على تعزيز فرص المشاركة والحوار والشورى في زمن لم تكن الهياكل التمثيلية قد شقت طريقها بعد ، والأمثلة على ذلك كثيرة . لذلك تخطت هذه الأطر والتجمعات في مراحل معينة الدور الخيري والديني لتؤسس أرضية لعملية إدماج سياسي وإجتماعي ، ولترسي بذور منابر التكوين السياسي والإيديولوجي ، ولتلعب دوراً مؤثراً في تعبئة الرأي العام في مواجهة قضايا عامة شكلت تحديات كبيرة أمام المجتمع ، كالإحتلال الأجنبي .
فشاركت هذه الإطارات التي تحولت الى جمعيات ، في بناء الوعي الوطني والقومي، وتأكيد هوية الإنتماء العربي إبان المرحلة الإستعمارية ، وبالتالي شهدت الحياة الأهلية تحولاً بارزاً لبعض الجمعيات من الفضاء الديني والخيري الى المجال السياسي والوطني ، وإنخرط بعضها في النضال السياسي وإن حافظت في أدائها على طابعها وجذورها الدينية .
وشهدت مرحلة مابعد الإستعمار إعادة ترتيب للمجتمع الأهلي بما يتلاءم مع المتطلبات الإيديولوجية للدولة الوطنية ، فالديناميات السياسية في هذه المرحلة كانت تتطلب تأسيس شرعية جديدة هي شرعية دولة الإستقلال ، لذلك عملت النخب الوطنية على تدعيم حضور الدولة ونشر سلطانها ، وإكسابها أدوات العمل القانونية والردعية ، وعليه تمت دولنة المجتمع ، أي إحتكار أنماط تعبير المجتمع عن ذاته وطريقة ضبطه لإحتياجاته . ولعل هذا ما شجع النخب الجديدة على مراجعة أشكال تعبير المجتمع ، ووسائط التنظيم والوساطة السياسية من خلال المنظمات الشعبية والجمعيات والروابط المهنية والنقابية .
لقد تلازمت دولنة المجتمع في مرحلة ما بعد الإستعمار وبناء المؤسسات الرسمية للدولة الوطنية ، مع محاولات إستتباع مؤسسات المجتمع الإهلي المستقلة ودمجها في المؤسسة الإيديولوجية للدولة وخاصة في الأنظمة الأحادية السياسية ، وإذا ما إستثنينا بعض النماذج العربية كالنموذج اللبناني مثلاً نجد سياقاً من نوع آخر ، فدولة الإستقلال تميزت بعلاقات مشوبة بالحذر والخوف و حتى الشك من قبل المنظمات الأهلية وكافة قطاعات المجتمع المحلي وتحديداً الإسلامي بنموذجه الطرابلسي ، وهو حذر وخوف يعود في أصوله الى بدايات القرن عندما تفككت أواصل الدولة العثمانية إثر الحرب العالمية الأولى ، وإنهار بعدها الحلم بالدولة العربية مع الهيمنة المباشرة للإستعمار الفرنسي .
ومما زاد في هذه العلاقة الملتبسة بين طرابلس والدولة ، إعلان لبنان الكبير بداية العشرينات ، فمشروع الدولة المعلنة في ظل الرعاية الفرنسية سعى لإخضاع المدينة العروبية المتمردة لتتخلى عن مناصرتها للسياسة الفيصيلية آنذاك ومناهضتها للدولة ” اللبنانية ” الوليدة . هذه العلاقة إتسمت دوماً بالسلبية ، ورافقها الشك والهواجس والصراعات المتتالية، مع الأجهزة الأمنية الرسمية ، منذ رفض طرابلس لإعلان الدستور عام 1926 الى مناصرتها للثورة العربية مروراً بإضراب ال 36 يوماً عام 1936 وثورة 1958 ضد حكم الرئيس كميل شمعون ، وبينها مواجهات صغيرة وفرعية عديدة رسخت تقاليد المعارضة الشعبية للدولة ، تحولت معها الازمة الضيقة والدروب الداخلية والأسواق ، الى هوامش مستقلة وبؤر شبه مغلقة على الدولة تصلّب فيها مفهوم الممانعة الذي نشأت في سياقه المنظمات والجمعيات وحتى الأحزاب ، بل سايرته وسارت في ركابه الزعامة المحلية التقليدية ، والتي شاركت على الدوام في تركيبة السلطة ، لكن من موقعها الملتبس في إنتماءها الى تاريخ مناهض للدولة ، وواقع يجذبها الى المشاركة في فوائد الإلتحاق بركبها .
في هذا السياق لازم طرابلس المتمردة شعور بالغبن ، رغم ان بعض ابنائها تبوأ مراكز عليا ، ومناصب رسمية ، شاركت بفعالية في الحكم ،إلا أن هذا الشعور لم يتبدد وأخذ طريقه الى الترسخ في الذهنية المحلية ، وهو كان يتغذى ويتعزز من خلال الإهمال المتراكم والحرمان شبه المتعمد للمدينة في كافة العهود والحكومات المتعاقبة . خوف متبادل وترصد متواز بين الدولة والمدينة ، أنتج علاقة ملتبسة تمت ترجمتها بالإهمال والحرمان الفاضح لكل أوجه الحياة فيها . في سياقه نشأت الجمعيات والمنظمات الأهلية ، ودخلت في هذا التجاذب ، فبقيت على هامش السلطة ولم تنجح في الإستفادة من إمكانياتها الرسمية لتفعيل خدماتها وعطاءاتها .
وفي نفس السياق نشات المؤسسة البلدية التي كانت ولا تزال محط صراع لتقاسم النفوذ والهيمنة بين قوى المدينة وفعالياتها وبين محاولات الدولة للهيمنة عليها والحد من إستقلالياتها وعرقلة إنجازاتها وأعمالها حين تكون القوى التقليدية المهيمنة عليها في موقع المعارضة لمن يتولى الحكم والحكومة . هكذا عاشت المدينة تجاذباً مزّق منظومة عملها وبنيتها الأهلية ، وعطل إمكانيات تطورها وإندماجها الإجتماعي وتواصلها مع المحيط ومع مؤسسة الدولة من جهة أخرى .
رابعاً : طرابلس وإشكالية العمل الأهلي والبلدي :
ولإستكشاف محددات التكامل وعناصر التباعد بين مختلف أطر العمل الجماعي المحلي شملت الدراسة الميدانية عينة من النشطاء ورؤساء الجمعيات وأعضاء المجالس البلدية في طرابلس والميناء بلغ عددها سبعين جمعية وفعالية . تم جمع المعطيات منهم بواسطة مقابلات إستخدمت فيها إستمارة غالبية أسئلتها مغلقة ، عمدنا من خلالها الى تفكيك العمل الأهلي لجهة أسلوب العمل وآلياته ومعوقاته وهيكلياته . وأبرز ما توصلت اليه الدراسة هو التالي :
أ- على صعيد وعي أهمية العمل المشترك : تبين أن نسبة الرضى عن الإنجازات منخفضة عند الفئتين . فقد صرح ( 24 % ) من الجمعيات أنهم راضون عما أنجزوه حتى الآن ، في حين لم يتجاوز الرضى ( 8 % ) عند عينة أعضاء المجلس البلدي . اما الوعي بأهمية التعاون فكان مرتفعاً تمثل بـ (88 % ) عند الجمعيات و (96 % ) عند البلديات . اما عن المحاولات الجدية المبذولة للتعاون فكانت ( 63 % ) عند الجمعيات و ( 81 % ) عند البلديات في المقابل إعتبر (44 % ) من الجمعيات أن تجربة العمل المشترك ناجحة مقابل ( 65 % ) من العينة البلدية.
اما الذهنية المهيمنة في نظرة كل منهما للآخر فتتأسس على مجموعة من الإنطباعات السلبية المتبادلة . فقد إعتبر ( 26 % ) من الجمعيات أن العمل البلدي غير فعال و (15 % ) إعتبره سيئاً و(15 % ) إعتبره خاضعاً لرغبة الرئيس ومصالحه و (3 % ) فقط إعتبره متعاوناً ، مقابل (7 % ) إعتبره فاقداً للثقة الأهلية . أما عينة البلدية فاعتبر (15 % ) منها أن الجمعيات غير فاعلة و (23 % ) إعتبرها مسيسة و (6 % ) إعتبرها غير متعاونة و (17%) إعتبرها نفعية ومصلحية و(9 % ) إعتبرها خاضعة لرغبات مؤسسيها.
في تحليل الإستجابات لاحظنا أن التحفظ والإمتناع عن الإجابة حاز نسبة عالية ( 49 % ) في العينة البلدية و (55 % ) عند الجمعيات مما يؤشر لغلبة الإعتبارات والحسابات فيما يتعلق بكل منهما .
وعند السؤال عن أسباب عدم التعاون إكتفى ( 7 % ) من عينة الجمعيات بالقول لغياب الجدية و(8 % ) لغياب القناعة بجدوى التعاون و ( 4 % ) لغياب الإمكانات عند الطرفين . وعما إذا كان هناك خطط مستقبلية للتعاون صرح (56 % ) من الجمعيات بالإيجاب مقابل (58 % ) من العينة البلدية . ويمكن تفسير ذلك بالمبادرة التي قام بها إتحاد بلديات الفيحاء خلال هذا العام ، فقد دعا حوالي 160 جمعية ، إستجاب منها نحو 65 جمعية لتوقيع إتفاق تعاون مع الإتحاد ، وهو إتفاق ينص على :
– السعي لتحقيق تبادل وتبادل طرق إدارة وتنظيم العمل التطوعي والبلدي بوسائل أكثر كفاءة وشفافية وفاعلية .
– خلق شبكة علاقات محلية ودولية تخدم مصلحة كافة المؤسسات المتعاونة عبر التنسيق والتعاون .
– إعتماد الشورى والتبادلية في وضع روزنامة خطة تنموية لمدن إتحاد الفيحاء . ويتضمن إتفاق التعاون ستة بنود تتحدث عن كيفية إعتماد المشاريع والتعهد بتقديم الدعم المادي والمعنوي لها بما يحقق الأهداف المشتركة .
أما عن ماهية المشاريع والأهداف المشتركة المزمع تنفيذها مستقبلاً فكانت الإستجابات متنوعة، مما يدل على غياب الرؤية المشتركة والتخطيط والبرمجة لهذه المشاريع . و جاءت على الشكل التالي : ( حملات الصحة المدرسية ، تقديم المساعدات المادية للمحتاجين ، الإنشطة الثقافية والتوعية الإجتماعية ) وهذه العناوين هي التي تكررت أكثر من غيرها ، وعدا ذلك جاءت الإستجابات مشتتة مثل ( مشاريع للمعاقين ، تنظيم السير ، حدائق ، مخيمات صيفية ، دورات تدريب وتقوية ، تأهيل المشردين ، الكتاب المدرسي ، دعم الرياضة ، تأهيل الآثار … )
وإنعكس الإنقسام السياسي في المدينة على تقييم الجمعيات لأداء البلدية لجهة دعمها أنشطة الجمعيات فأعتبر ( 44 % ) البلدية مقصرة مقابل ( 42 % ) إعتبرها غير مقصرة وإمتنع الباقي عن الإجابة . وحين السؤال عن أبرز الأنشطة التي تقاعست البلدية عن دعمها رفضت غالبية الجمعيات الإستجابة ، والأقلية قدمت أجوبة شديدة العمومية .
ب- اما ابرز معوقات المجلس البلدي فتمثلت حسب العينة البلدية بعدد من الأسباب( 56 % ) منها أعادها لتسييس المشاريع والخدمات مع غلبة واضحة لهذا الأمر في بلدية طرابلس بلغت (71 % ) . في حين اعتبر( 45 % ) من العينة غياب التعاون مع هيئات المجتمع المحلي معوقاً مهماً ، مقابل (93 % ) أعاد ذلك لقلة الإمكانيات و ( 84 % ) لضعف كفاءة الجهاز الإداري و (80 % ) لعدم تعاون المواطن و (30 % ) لغياب المصداقية والشفافية في المجلس البلدي و (20 % ) للصراعات والتكتلات في المجالس البلدية و (38 %) لغياب المبادرة والشلل في الإجتماعات .
من الواضح إن قلة الإمكانيات وضعف كفاءة الجهاز الإداري وعدم تعاون المواطن ، معوقات تحتل المرتبة الأولى، وتتميز بلدية طرابلس بتسييس المشاريع والخدمات، في المقابل تتفوق بلدية الميناء بمسألة الشلل وغياب المبادرة والتعاون مع المجتمع المحلي .
وعند السؤال عن مسالة قلة الإمكانيات أجابت غالبية العينة أنها تعرضت للدرس في إجتماعات المجلس البلدي . اما عن نتائج الدراسة فجاءت الإستجابات مفتوحة على الشكل التالي :
– لا شيء سوى التشدد بتحصيل الرسوم البلدية .
– تفعيل الإدارة بغية إدراج أسماء المكلفين الجدد .
– وقف الهدر وتوجيه وترشيد الصرف .
– متابعة الحكومة لتحصيل الأموال المستحقة .
– تطبيق مشروع اللامركزية الإدارية .
– توعية المواطن وتعزيز الثقة مع المجتمع .
ورغم أهمية بعض هذه الإجابات ، إلا انه يلاحظ عموميتها وإكتفاؤها بالحلول التقليدية في مثل هذه الحالات ، وغياب الخطط البلدية كالسعي لإشتراك المجتمع المدني وهيئاته ونقاباته وممثليه للإستفادة من مختلف مصادر التمويل المحلي والعربي والدولي . علماً أن بعضها قد تم الإتفاق معه لتمويل مشاريع محددة ، والمطلوب تفعيل هذا الإتجاه والبحث عن مصادر تمويلية أخرى وتفعيل التنفيذ وفق خطط وبرامج واضحة ومحددة .
ويوضح رئيس إتحاد بلديات الفيحاء أن احد المعوقات البنيوية الكبرى تتمثل في نسبة الشواغر الضخمة في الدوائر المختلفة وخاصة في الوظائف الإدارية القيادية والتي تصل الى ( 64 % ) ، وهي التي تعطل إمكانية تطوير وتحديث البنى الإدارية والفنية للبلدية ، وفي الميناء هناك (14) موظفاً يعملون من أصل (64) وهو ما ينعكس تخلفاً وتباطؤاً وتردياً في نوعية الخدمات البلدية . والشكوى أيضاً تشمل التأخر في دفع مستحقات البلديات من أموال الصندوق البلدي المستقل وعلاوة ال (10%) من فواتير الهاتف والماء والكهرباء ، رغم نص المرسوم 1917 والقانون 60/88 الذي يحدد مهلاً واضحة لدفع هذ المستحقات ( اقصاها شهر أيلول من كل سنة ) وكل 3 أشهر بالنسبة لعلاوة ال ( 10 % ) .
ج- أما أبرز المعوقات البنيوية للعمل الأهلي فتتمثل بعدد من المؤشرات نوجزها على الشكل التالي :
1- الحجم الإقتصادي للجمعيات : مثل قياس هذا الجانب صعوبة بالغة لهذه الدراسة وذلك لعدم توفر البيانات عند الغالبية ، إضافة الى تواضع التقنيات المحاسبية ، وإمتناع البعض . لذلك إكتفت الدراسة بهدف متواضع هو معرفة حجم الموازنة بإعتبارها تمثل الواردات والنفقات الجارية ، غير أن هذا الهدف المتواضع إصطدم أيضاً بمقاومة المبحوثين . ويشير ماحصلنا عليه ان (24 % ) من الجمعيات يعمل بموازنة أقل من (3000 ) دولار أميركي سنوياً و(19 % ) يعمل بموازنة تتراوح بين ( 3000 و 6000 ) دولار أميركي و (29 %) يعمل بموازنة بين (6000و 10000 ) دولار و(7 % ) بما يفوق ال (10 ) آلاف دولار والباقي إمتنع عن الإجابة . ومع الشك بصحة البيانات المقدمة ، فالنتائج تشير الى ضعف القدرة الإقتصادية للجمعيات ، وهو ما يتطلب منها إحداث نقلة نوعية وكمية في الحجم الإقتصادي لها إذا كانت تريد أن تفعّل دورها في المجتمع المحلي .
2- الهيكل المؤسسي والإداري : لوحظ إرتفاع نسبة الذكور عن الإناث على مستوى اللجان المختصة بإتخاذ القرار ، حيث لم تزد نسبة الإناث في المجالس الإدارية عن ( 15%) اما في الأعمال التنفيذية المدفوعة الأجر فترتفع بشكل ملحوظ لتصل الى (60 % ) مما يعكس النمط العام لعمالة المرأة في مجتمعنا ، والذي يرتكز في الأعمال التنفيذية والمكتبية والتربوية . اما في عضوية الجمعيات العمومية والعمل التطوعي فهي لم تتجاوز (33% ) . وبينت الدراسة وجود توتر وصراعات بين الموظفين والمتطوعين على الأقل في 35 % من الجمعيات ، على الرغم من أن الملاحظة الميدانية تعطي إنطباعاً بان النسبة أعلى من ذلك بكثير . وهو ما ينعكس سلباً على التناغم والإنسجام بين العاملين ويضعف بالتالي فاعلية و كفاءة الأداء .
3- الديموقراطية داخل الجمعيات : وقد تبنت الدراسة عدداً من المؤشرات لقياس الممارسة الديموقراطية ، أهمها الطريقة التي يشغل بها المسؤولون مناصبهم ، ومعدل التداول في مراكز إتخاذ القرار ، وعدد إجتماعات مجالس الإدارة والجمعيات العمومية . وقد أشارت غالبية الجمعيات ( 90 % ) الى سيادة أسلوب الإنتخاب بالنسبة لمجلس الإدارة والرئيس ، مع وجود نسبة من الأعضاء المعينين من قبل الجهات الممولة أو المهيمنة على الجمعية . على أن أسلوب الإنتخاب لا يعني بالضرورة وجود أسس ديموقراطية حقيقية. فكثيراً ما يكون الإنتخاب شكلياً، بحيث يؤدي الى التمديد او التجديد لنفس المسؤولين لسنوات طويلة ، مما أدى الى إرتباط بعض الجمعيات بأسماء رؤسائها ، وهوما يمكن ان نسميه بظاهرة ” شخصنة الجمعيات” . وقد تبين أن (80% ) من الجمعيات قام على رئاستها من واحد الى 3 رؤساء منذ نشاتها . وبربط عدد الرؤساء بعمر الجمعية تبين أن هناك إرتفاعاً ملحوظاً لمتوسط عدد السنوات التي يقضيها الرؤساء وأعضاء مجالس الإدارة ، (15 سنة و 12 سنةعلى التوالي) وأظهر التدقيق الدور الهامشي الذي تلعبه الجمعيات العمومية ، وهي الإدارة المركزية للديموقراطية في الجمعيات ، مما يجعل آلية إتخاذ القرار حكراً على الرئيس وبعض الأعضاء. هذه الملاحظات تظهر أن الممارسة الديموقراطية داخل الجمعيات لا تزال ترفاً يمارس على المستوى الشكلي والفولكلوري .
4- العلاقات والتفاعلات : رصدت الدراسة علاقة الجمعيات بالدولة وبالجهات الأجنبية والعربية الممولة وبالفئات المستهدفة . وتبين ان (80% ) اعتبر القانون الرسمي الذي ينظم عملها جيداً ويوفر الإستقلالية. ولاحظنا ان الجهات الرسمية والجمعيات تتعامل مع القانون بطريقة وظيفية حيث تتمسك الدولة بحرفيته او تتغاضى عنه ” حسب العلاقة مع الجمعية ” او بحسب الجهة الراعية ، والجمعيات تلجأ الى الثغرات الموجودة في القانون او الى العلاقات الشخصية بذوي النفوذ ، وصرح ( 40 % ) من الجمعيات بوجود علاقة مع وزارات رسمية ( صحة ، تربية، شؤون … ) . وبشكل عام لوحظ غياب النظرة النقدية ، فقد كانت الإستجابات أكثر تحفظاً وهي تأثرت بدرجة العلاقة الوظيفية مع الدولة ، مما يؤشر لوجود ثقافة نفعية في هذا المجال .
اما العلاقة مع الجهات الخارجية فيلاحظ فيها التركيز على المشروعات التي يمكن تقييمها كمياً وتظهر نتائجها بسرعة ، مع تواضع الإهتمام ببناء قدرات الجمعية ، بل أن بعضها يمارس نوعاً من الوصاية . وبلغت نسبة التعامل مع المنظمات الأجنبية ( 35 % ) مع إنخفاض ملحوظ لنسبة التعامل مع الجهات العربية ( 20 % ) مقارنة بالأجنبية . وتبين أن التمويل هو أهم أشكال التعاون ( 30% ) ولوحظ أن بعض الهيئات عمد الى تعيين موظفين من طرفه بنسبة تتراوح بين (20 – 30 % ) الى جانب الإشتراط بشراء التجهيزات من دولها حتى ولو كانت أقل تكلفة بدول أخرى . ومع ذلك إعتبرت الجمعيات العلاقة تتميز بالندّية والتكافؤ (30% )
اما العلاقة مع الفئات المستهدفة فقد لوحظ أنها تتسم بالوصاية من قبل الجمعيات ، بل وبنظرة فوقية لا تثق بقدرات الفئات المستهدفة على تحديد إحتياجاتها لإنخفاض وعيها ، مما يعني إحتكار الجمعية للوعي والمعرفة وبالتالي لصنع القرار ، وتكريس دور الفئات المستهدفة كمتلقية للمساعدة فقط . ويرجع شكل هذه العلاقة الى الخلفية التراثية للعمل الإهلي والذي إرتبط بفعل الخير والإحسان . كما يرتبط ذلك بغلبة الوظيفة الخدمية والرعائية على الوظيفة التنموية والتعبوية والتدريبية .
5 – إشكالية التمويل و هي من أبرز الصعوبات فقد إمتنع ( 60% ) من العينة عن الإستجابة ، و يرجع ذلك إلى عدم التبلور الإداري و المؤسسي و إلى قصور القدرات المحاسبية و الفنية ، و بسبب الإتجاه إلى إخفاء المعلومات من قبل الجمعيات و الجهات المانحة. و تنقسم بشكل عام مصادر التمويل إلى ذاتية و رسمية و خارجية.
المصادر الذاتية تتمثل في إشتراكات الأعضاء و عائد الأنشطة و منتجات الجمعية و التبرعات و الهبات غير المشروطة المحلية ، و لوحظ أن حجمها لا يعتد به رغم أن (80% ) من العينة صرح بأنه من أهم المصادر ، فضلاً عن إرتباط هذا المصدر بالوازع الديني الخيري حيث تذهب معظم التبرعات إلى جمعيات المساعدات و الرعاية الصحية و الإجتماعية و ليس إلى الجهود التنموية.
أما مصادر التمويل الرسمية فهي أيضاً متدنية و بلغت ( 15% ) من العينة على الرغم من إقرار ( 40% ) من العينة بوجود علاقة مع وزارات رسمية . أما القطاع الخاص فمساهمته غير متبلورة و تقتصر على بعض رجال الأعمال كأفراد و كفاعلي خير بنسبة ( 30% ) من حجم المصادر الواردة كتبرعات .
أما في إطار التمويل الخارجي فأظهرت الدراسة إنخفاض عدد الجمعيات المستفيدة من التمويل العربي ( 15% ) مقارنة بالتمويل الأجنبي (20% ) ، مع ملاحظة أن الحصول على التمويل الأجنبي العربي ما زال مطلباً لحوالي (60%) من العينة ، علماً أن غالبية الجمعيات تعلم بوجود مصادر تمويل خارجية لكنها لا تعرف كيفية الإستفادة و الإتصال بهذه الجهات ، و عبرت عن حاجتها لوسيط أو مراجع ترشدها إلى ذلك .
و تطرح مسألة التمويل مسألة أخرى هي المحاسبية ( accountability ) ، و من له حق بالمحاسبة . هل هذا الحق للدولة ؟ أم للمانحين ؟ أم لأعضاء الجمعية العمومية ؟ أم للمجتمع ممثلاً بالفئات المستفيدة ؟ والإجابة على هذا السؤال تحسم توجهات و مستقبل العمل الأهلي و تأثيره في التغيير الإجتماعي .
6- الأداء ، والإحتياجات ، من أبرز المميزات المفترضة في العمل الأهلي أنه أكثر حركية و تعبيراً عن ثقافة المجتمع من العمل الإداري الرسمي . لذلك حاولنا إستكشاف النقص في آليات عمل الجمعيات و الخبرات التي تحتاجها بما يؤدي إلى تحسين الأداء بشكل عام . وقد بينت الدراسة أن التصريح بالحاجة إلى الخبرات مثل نسبة مرتفعة ( 65% ) و هذا ما يفسر بداية وعي بأهميتها . إلا أن الرؤية لهذه الخبرات لا تزال بسيطة . و ميدانياً لوحظ القصور الكبير في المهارات الإدارية ، فإعداد التقارير المنتظمة للمتابعة و التقويم وفق خطة معدة سلفاً بلغ ( 35% ) . في المقابل اعتبر (55%) من الجمعيات أنهم نجحوا في تحقيق خطتهم للعام الفائت بنسبة ( 75% ) . أما الفشل في الجوانب فتمت إحالته إلى محدودية التمويل و الإمكانات .
و اظهرت النتائج غياب القدرة عند الغالبية في تحديد حجم الفئات المستهدفة أو المستفيدة . فقد صرح ( 55% ) من العينة أنهم لا يجدون صعوبة في الوصول إلى الفئات المستهدفة و (65% ) بأن حجم الفئات المستفيدة يقل عن 3 آلاف شخص ، و صرح ( 80% ) أنهم يعملون حيث تغيب الدولة ، أما عن الفعالية فيرى ( 85% ) أن جمعيتهم فعالة .
7- إشكالية التطوع : لا شك أن التطوع هو أحد تعبيرات التطور السياسي و الثقافي للمجتمع الذي يشجع على المشاركة و يحترم مبادرات الأفراد . و قد تبين رغم غياب الدقة في الإستجابات أن هذه المشكلة موجودة بحدة عند غالبية الجمعيات ، و لوحظ وجود علاقة بين حدة المشكلة و طبيعة الجمعية فهي تقل فهي تقل عند الجمعيات الدينية الطابع ، حيث يقبل الأفراد على التطوع بإعتباره واجباً دينياً و عملاً يتقربون به إلى الله . كما تنخفض المشكلة عند الجمعيات الشبابية و ترتفع عند الجمعيات النسائية . و يعود سبب نقص المتطوعين حسب غالبية الجمعيات إلى كثرة الأعباء ، و تفضيل العمل بأجر و إنخفاض قيمة العمل التطوعي ، بالإضافة إلى العادات و التقاليد بالنسبة للإناث . و بينت الدراسة إنخفاض قيمة العمل التطوعي بشكل عام عند الذكور، رغم غلبة تمثيلهم في المجالس الإدارية . و قد أكد ( 65%) من العينة أن نقص المتطوعين يؤثر سلباً على تحقيق أهداف الجمعية . و تنوعت المقترحات لتشجيع العمل التطوعي بدءاً بالتوعية بأهميته ، و تكريم المتطوعين معنوياً ، إلى منح حوافز مالية رمزية ، وصولاً إلى غرس قيم التطوع في الناشئة .
نخلص في الملاحظات الختامية إلى أن هناك فورة أكثر منها صحوة ، في مجال العمل الأهلي ، و أنه رغم هذه الفورة فالعمل الأهلي لا يزال يتحرك ضمن آليات و شروط و علاقات و تفاعلات مجتمعية تقليدية تؤثر على فعاليته و تعوق من قدرته على الإنطلاق . و إن هذا القطاع ينشط فقط في إطار دوره الرعائي و الخدمي و الخيري ، و هو دور لا بد من تخطيه لتأسيس دور تنموي يشارك و يسهم في عملية التغيير الإجتماعي ، و بالتالي في تغيير التوازنات و شبكة العلاقات و التفاعلات التقليدية و الأهلية . و يمكن تصنيف أبرز المعوقات وفق العناوين التالية :
1- معوقات بنيوية : و هي تواجه غالبية الجمعيات و التي إنحصرت عضويتها على عدد أو ” فئة ” محدودة ، بالتالي بات الإنتساب إليها غير مرغوب أو غير متيسر . و في كلتا الحالتين نتج عن ذلك أن أصيبت هذه الجمعيات ” بفقر الدم ” الذي حرمها من طاقات جديدة و مجددة .
2- معوقات قيادية تتمثل في مشكلة الشخصنة و الإفتقار إلى الثقافة الديموقراطية التي تكفل تجديد النخب و الهياكل التنظيمية ، و بالتالي تحقيق مبدأ تداول المسؤولية و تفعيل مبدأ المحاسبة و المراقبة و المساءلة من قبل الأعضاء ، بحيث أصبحت بعض هذه الجمعيات إرثاً و ملكاً خاصاً لبعض الأفراد و عائلاتهم .
3- معوقات مادية و لوجيستية : حيث تفتقر الغالبية إلى البنى الأساسية و المستلزمات الضرورية لمباشرة العمل ، إذ لم تكن موالية لجهة رسمية أو جهة ممولة ، حيث تفتقر إلى المقرات و الأدوات اللازمة لتطوير أداء العمل المنوط بها.
4- معوقات عملانية و غياب البرامج : و هي من أولويات العمل الجماعي و ضرورياته ، فمن خلالها يبتعد عن المزاجية و الفردية ، و ينضبط في إستراتيجية عمل مستقبلي ، تنتظم في إطارها جهود و طاقات ، و تتراكم حولها خبرات و تتكامل عطاءات و مشاريع ، بدلاً من أن تتضارب و تهدر في جهود لا طائل منها.
5- معوقات تأهيلية : تتمثل في غياب الكادر البشري المدرب و المؤهل وفق مجالات التخصص . و يبرز بوضوح غياب الأطر الآيلة إلى تبادل الخبرات و التجارب . فالعلاقات على مستوى الجمعيات و الدولة ، و بين بعضها البعض ، تسودها الريبة و عدم الثقة ، فضلاً عن عدم القناعة بجدوى التدريب ووجود مكان للتوتر و اللاثقة .
6- معوقات تمويلية : وهي كما نفترض الإشكالية المشتركة التي تعاني منها كل أطر العمل الأهلي و البلدي ، و أبرز أسبابه تعود لغياب الثقة المتبادلة أو سعي الجهات الممولة للهيمنة ، سواء كانت هذه الجهات رسمية أو خارجية . و لعل تحليل المعوقات يساهم في تحديد بعض العناوين التي ترسم شروطاًَ لنجاح العمل الأهلي و البلدي و هي :
– الفاعلية و القدرة على التأثير في أنماط حياة الفئات المستهدفة .
– وضوح البرامج و الإستراتيجيات .
– إحترام التخصص و الكفاءة و الأهلية في العنصر البشري .
– الشفافية و فتح باب المساءلة و المحاسبة
– المحاسبة الديموقراطية بما يفتح باب المشاركة الحقيقية في الهياكل التنظيمية لأطر العمل الأهلي .
– المصداقية و تتمثل في ردم الفجوة بين القول و الفعل
– الأداء الجيد و المنظم و القدرة على الإقناع و كسب المتطوعين .
– الشمولية من حيث الإحاطة المبرمجة و العلمية بالأهداف .
خامساً : نحو رؤية إستراتيجية لتفعيل العمل الأهلي و البلدي والنهوض بالمدينة :
لا بد للعمل الأهلي والبلدي من أن يتم تفعيله ، فالواقع الراهن محزن ، وعملية التفعيل لن تكون مثمرة ما لم تكن متجهة نحو أهداف وأولويات تستهدف النهوض بالمدينة . إن الطاقات المبعثرة ستكون جهداً ضائعاً ما لم تتوجه نحو أهداف محددة ووفق أولويات نابعة من ” رؤية ” إستراتيجية ترسم دوراً يمكن لطرابلس ان تتبوأه وموقعاً يمكن ان تشغله وتنافس فيه بجدارة . هذا الدور وهذا الموقع يجب أن يمثل المجال الحركي لغالبية أطر العمل الأهلي ، وهو لا يمكن ان يقوم الا بتنسيق تام مع العمل التنموي البلدي .
اما لماذا رؤية إستراتيجية ؟ وما علاقتها بتفعيل العمل الأهلي والبلدي ؟ والجواب يمكن صياغته بسؤال ايضاً : وهل يمكن تفعيل العمل البلدي والأهلي دون ان يكون له أهداف واضحة ودون ان يستهدف تحقيق منجزات مادية ملموسة؟ وفي الحقيقة لا قيمة لأية منجزات ما لم تكن نابعة من ” رؤية ” إستراتيجية تستهدف النهوض بالمدينة نحو دور ووظيفة متميزة على مستوى الوطن أولاً والمحيط الجغرافي ثانياً ، على ضوء ذلك يمكن تصور برامج و أولويات ترسم الأهداف العامة لعملية النهوض بالمدينة ، بحيث تشارك بتنفيذها في إيقاع متناسق ، كل أطر العمل الأهلي والبلدي ، وهو أمر لا يزال مبهماً ومفقوداً اليوم .
بناء على ذلك نتساءل هل طرابلس اليوم هي مدينة صناعية يمكنها أن تنافس ؟ ام هي مدينة تجارية ؟ أم زراعية ؟ أم هي مدينة خدمات وتسلية وترفيه تشكل بؤرة إستقطاب لمجالها الطبيعي ؟ بالطبع لا ينطبق أي من هذه التوصيفات عليها بغض النظر عن طموحات البعض وتمنياتهم . وما لم تحدد وظيفة المدينة ودورها وموقعها ، سوف يبقى العمل الأهلي والبلدي يسير بلا هدى ولا ” رؤية ” ، وسوف تهدر الطاقات وتضيع الجهود .
طرابلس بإتفاق الغالبية تملك ما لا تملكه أي مدينة في لبنان ، وهو ذلك الماضي المتجسد بالمدينة القديمة التي تؤلف بكليتها نظاماً إستقطابياً فريداً ، لما تتضمنه من منشآت أثرية متكاملة تشكل متحفاً تاريخياً ضخماً ، لا يعبر فقط عن هوية المدينة القديمة بل يشكل رأسمالاً ضخماً يجب إستثماره ، وهو أمر إذا ماتم يمكنه أن يرسم معالم الدور المستقبلي الذي يجب بلورته ، في هذا المعنى فإن الإستثمار الحقيقي هو إعادة احياء المدينة القديمة وتأهيلها وإنقاذ منشآتها وأسواقها، وخانا تها ومدارسها وجوامعها وحمماتها و كنائسها و زواياها و أسبلتها ، و حرفها ، كما تفعل كل المدن التي لها تاريخ ، بل و حتى المدن التي ليس لها تاريخ عن طريق الإفتعال بل و التزييف أحياناً .
و ليس معنى ذلك طبعاً إهمال المرافق الحيوية و الخدماتية الضرورية من بنى تحتية وغيرها. بل المقصود وضع سياسة أولويات ، و هو أمر لا يمكن أن يتم بشكل موضوعي و علمي ، دون رؤية إستراتيجية لموقع و دور طرابلس المستقبلي . فإذا كنا نرى هذا الموقع و الدور في الصناعة أو الخدمات أو التجارة، فسوف تكون سياسة الأولويات مختلفة عما هي الحال لو كانت الرؤية الإستراتيجية تقوم على تنمية آثارها و تراثها و مواقعها و أسواقها و منشآتها العريقة ، لتشكل عنصر جذب و إستقطاب سياحي في عصر أصبحت السياحة فيه ، صناعة ثقيلة بكل معنى الكلمة . و كثيرة هي المدن التي نهجت هذا الطريق و إستطاعت أن تستثمر مقومات تميزها بفعالية ، و بالتالي أن تحفظ لنفسها موقعاً و دوراً في خريطة البلاد . و لا جدوى من أي خطة تنموية بلا رؤية إستراتيجية .
إن هكذا رؤية تحدد بدقة لآي نوع من المدن تنتمي طرابلس ، أو يمكنها أن تنتمي ، و من خلالها يمكن برمجة سياسة الأولويات لتنمية رصيدها ، و توجيه إمكانياتها الأهلية و الرسمية و البلدية ، نحو إقامة البنى التحتية اللازمة لإعادة تظهير عمران المدينة المملوكية ذات الطابع الفريد على الساحل المتوسطي .
تتكامل هذه الرؤية لمدينة طرابلس مع معطيات أخرى تتوفر فيها ، و تتمثل بقوة في إتساع قاعدة بعض الحرف فيها ، و بالتالي إستثمار المدينة في المجال و المحيط الذي تنتمي إليه ، كمرتكز و عاصمة حرفية لبعض الحرف و السلع و المنتوجات ، كالمفروشات و التجارة و الصابون و النحاسيات و الحلويات و الموالح …. و إرتكاز النشاط الإقتصادي في المدينة على مجموعة محدودة من الحرف ، هو في الحقيقة مسألة قديمة تعكس مجموعة علاقات موروثة لم تجد ظروفاً مؤاتية للتطور . و السبب في هذا يعود إلى طبيعة البنية الإجتماعية التقليدية المهيمنة ، حيث كانت الأصناف الحرفية ، حسب التسمية العثمانية ، يتم توارثها عائلياً ، بحيث تبقى ” الصنعة ” أو ” الكار ” سراً ثم ” إرثاً ” يتناقله الأبناء و الأحفاد ضمن حلقة شبه مغلقة . هذا الواقع أدى إلى تجذر عقلية تقوم على الإقتصاد العائلي الحرفي المتخصص و المغلق . هذه الحرف و إن تحولت بالإسم إلى ” مؤسسة ” فإنها بقيت تدار بذهنية ” الصنعة ” أو ” الحرفة ” . مما عرقل تطورها ، و أفقدها القدرة على المنافسة ، و بالتالي مراكمة و تجميع رأسمال ، و إعادة ضخه في عمليات متكاملة تؤدي لتأمين المزيد من فرص العمل من جهة و تطوير الإستثمارات الإقتصادية من جهة أخرى .
المسألة تتعلق بتخلف الذهنية الإقتصادية الطرابلسية ، وميلها الى الأنشطة الإقتصادية الريعية المأمونة ، وغيابها عن مواكبة المفاهيم الإدارية الجديدة التي تتطلب إستخداماً لتقنيات لم تكن معروفة سابقاً .
ان التخطيط لمستقبل المدينة يتطلب بتقديري التركيز على هذين المستويين وتامين مقومات الإنطلاق والتحديث والتأهيل اللازمة لهما ، وبدون ذلك تذهب الجهود في طريق التبعثر بعيداّ عن رؤية إستراتيجية ترسم ملامح المستقبل . ولا تدعي هذه الرؤية التي نقدمها الشمولية بقدر ماتطرح نفسها للنقاش بهدف الإغناء اوالتطوير والتعديل بل وحتى النقض .
إن التخطيط لمستقبل المدينة هو من صميم مهمات المجتمع الأهلي بكافة قطاعاته عبر أطره الجمعياتية والنقابية والبلدية ، واذا كان الأمر يتخطى امكاناتهم ويتعلق برؤية النظام اللبناني لموقع ودور المدينة في هذا ” الوطن ” ، وهي رؤية لا تزال ضبابية ، فيها الكثير من الإلتباس والحذر، وهو الذي أدى الى سياسة التهميش ، ووضع طرابلس في دائرة الحرمان والنسيان ، فإن هذا دافعاً قوياً لتصحيح هذا ” الإرث ” في التعامل الرسمي مع المدينة ، يتطلب الضغط لتعديل سياسات وأولويات الإنماء والإعمار لتنطلق من مبدأ الإنماء المتوازن الذي نص عليه إتفاق الطائف . على أن هذا لا يعفي أهل المدينة وفعالياتها وتياراتها من مسؤوليتهم تجاه الواقع المتردي ، بل يفرض عليهم تفعيل حركتهم وفق رؤية إستراتيجية واضحة وبعيدة عن الضبابية والديماغوجية .
– في أساليب العمل : ويقودنا التسلسل المنطقي للدراسة الى طرح رؤيةمتوازية لتطوير العمل الأهلي بحيث يرقى الى مستويات أفضل يستطيع من خلالها القيام بواجباته بصورة أفضل وفي إطار إستراتيجية ورؤية تتكامل فيها الجهود وتتلاقى على أهداف واضحة ومحددة. لذلك لابد من خطوات تندرج في إطار ” مأسسة ” العمل الأهلي وإبعاده عن الشخصانية ، ويصبح في هذا المجال ، من الأوليات تطوير إدارات كفؤة للعمل الأهلي ، وتحديث العقلية الإدارية بما يضمن تحقيق ما يلي :
1- ترسيخ مفهوم العمل الجماعي من خلال بناء وتشجيع فرق العمل كأساس لتنفيذ برامج وأهداف الجمعيات ، بما يحد من التوجه الفردي والمصالح الذاتية الضيقة لدى الأعضاء والذي يمثل عائقاً لإنطلاقة الجمعيات الأهلية.
2- التأكيد على الممارسة الديموقراطية داخل أطر العمل الأهلي ، إن من حيث مشاركة الأعضاء في تشخيص وتحليل المشكلات التي تواجه الجمعية وعملها , او لجهة مشاركتهم بإتخاذ القرارات بشكل جماعي ، بما يخلق لديهم شعوراً بالإنتماء وحافزاً متجدداً لمزيد من العطاء . إن الممارسة الديموقراطية تشكل حقلاً لتدريب الأعضاء على تحمل المسؤولية وتنمي داخلهم روح المبادرة والتي غالباً ما يفتقد اليها العمل الأهلي .
3- تنمية وتشجيع مهارات التفكير الإبتكاري والإبداعي في التخطيط والتنفيذ ، من خلال إعتمادطرق الإدارة بالمشاركة ” Management by participation” وهي أكثر أنواع الإدارة إتساقاُ مع مفهوم العمل الأهلي ، لإنها تساعد على التخلص التدريجي من الثقافة الإدارية التقليدية الموروثة لدى الأعضاء .
4- التشجيع على إعتماد أشكال التنظيمات الإدارية الأفقية الشبكية ، بدلاً من التنظيمات الهرمية المتفقة مع التسلسل السلطوي الرأسي ، لأنها أكثر إنسجاماً مع فكرة العمل الجماعي وديموقراطية الإداء الإداري وهي تتيح هامش حركة أكبر للأعضاء , الأمر الذي يحفزهم على المبادرة وتحمل المسؤولية .
5- تعزيز ما يعرف بمبدأ ” الرقابة الذاتية ” و ” تقييم الأداء المتبادل ” فالعمل الجماعي وروح الفريق والمشاركة الجماعية في إتخاذ القرارات من خلال إتصالات مفتوحة ، تخلق رقابة ذاتية لدى الأعضاء, بإعتبار روح المسؤولية المتولدة عن الإتفاق والمشاركة مع الآخرين . إن مفهوم ” الرقابة والتقييم المتبادل ” يعتبر إفرازاً ومكوناً طبيعياً لنظام الإدارة بالمشاركة ، وبالتالي فإن مفهوم الشفافية ، الذي كثر الحديث عنه سوف يكتسب مضموناً حقيقياً في ظل تطبيق هذا المبدأ .
6- إن مرونة الهيكل الإداري وديموقراطية الأداء ، تخلق بشكل تلقائي مناخاً افضل لتشجيع التطوع ، وبالتالي الإستجابة لمتطلبات المجتمع المحلي المحيط بالجمعية . وبصفة أخرى انه يتيح إمكانية مشاركة مواطني المجتمع المحلي أنفسهم في إدارة أعمال الجمعية وممارسة الرقابة على هذه الأعمال مباشرة ، وهذا ما يساعد على إكتساب الجمعية صفة المصداقية وبالتالي الشرعية الشعبية التي تساعد على إستمرارها ونموها .
7- تبني قضايا التمكين (Empowerment) والمناصرة advocacy لتأكيد مبدأ الدفاع عن الحقوق الإقتصادية والإجتماعية ، في إطار رؤية إسترتيجية متكاملة للتنمية تتبنى المنظورين ، بعيد المدى المعني بالعملية التنموية ، وقصير المدى المعني بتقديم الخدمات ، وبدون ذلك لا يمكن للبنى المجتمعية الأساسية ان تتغير بما يحقق العدل الإجتماعي .
8- تجاوز الإيدولوجيات ، بما يوفر ساحة للتفاعل والإحترام المتبادل لوجهات النظر من منطلق المداخل المختلفة Entry points وصولاً الى المقاربة الشاملة والإجماع على الأهداف المشتركة .
إن إسترتيجية التنمية المحلية بعناوينها العريضة ، لا يمكن تحقيقها إلا من خلال تناغم مشترك ، وإيقاع متناسق ، ينخرط فيه المجتمع ممثلاً بقواه الحية والنشطة والواعية للأهداف البعيدة ، والمدركة لأهمية دورها ومساهمتها ومبادرتها، والواثقة أن جهودها ستجد مكاناً لها في لوحة العملية التنموية ، المحلية منها والعامة . لذلك فإن تبصير وتعبئة المجتمع المحلي وقوى العمل الأهلي بالرؤية الإستراتيجية وإبراز أهميتها ، وخلق الأطر الحاضنة لمبادراتها ، من الأولويات الهامة للنجاح وإستمرار العطاء في الإتجاه الصحيح .
وطرابلس بقدر ما تحتاج الى طاقات ابنائها ومبادرتهم ، تحتاج لأن تكون هذه الطاقات والمبادرات في الطريق الصحيح نحو تحديث وتطوير العمل الأهلي ببعديه الجمعياتي والبلدي، بل نقول والنقابي والسياسي ، وكلما كان هذا الجهد نابعاً من رؤية إستراتيجية تتطلع نحو دور ووظيفة لمدينة تبحث عن موقع لها في هذا الوطن كطرابلس ، كانت هذه الجهود أكثر فعالية وتأثيراً .