تراث طرابلس

Categories
دراسات في تاريخ طرابلس وحاضرها

النظام المدرسي العثماني في القرن الثامن عشر

النظام المدرسي العثماني في القرن الثامن عشر
الأطر والثقافة والمحددات

نموذج بحثي من خلال سجلات محكمة طرابلس الشرعية

الدكتور عبد الغني عماد
استاذ في الجامعة اللبنانية

بحث قدم في المؤتمر الدولي حول نظام التعليم في شرقي المتوسط بين العصرين المملوكي والعثماني بتنظيم من الجامعة اللبنانية – كلية الآداب الفرع الثالث والمعهد الألماني للأبحاث الشرقية في طرابلس – مبنى الجامعة اللبنانية – قاعة عباس علم الدين بين 13 و 15 تشرين الثاني 2008.
النظام المدرسي العثماني في القرن الثامن عشر
الأطر والثقافة والمحددات
نموذج بحثي من خلال سجلات محكمة طرابلس الشرعية

لقد كان هناك ترابط مهم بين النظام المدرسي العثماني وبين الأجهزة الدينية والتعليمية والقضائية. وكانت التراتبية داخل النظام المدرسي تنعكس على الأجهزة الدينية بحيث يحصل المتخرجون على درجات تبعاً للمراحل التي قطعوها في الدراسة. ويمكن القول إن جسم المؤسسة الدينية الرئيس يتكون من ثلاث فئات: القضاة والمفتين والمدرسين.

Categories
دراسات في تاريخ طرابلس وحاضرها

الحرف الطرابلسية وسوسيولوجيا العلاقة بين المسلمين والمسيحيين

الحرف الطرابلسية
وسوسيولوجيا العلاقة بين المسلمين والمسيحيين

الدكتور عبد الغني عماد

لعبت الطوائف الحرفية دوراً أساسياً في مجتمع المدينة ، ومنذ وقت مبكر أدرك الباحثون أهمية الكتابة في هذا الموضوع ، لكن ندرة المصادر ومحدوديتها كانت عائقاً أساسياً أمام التعمق في دراسة هذه الظاهرة ، وخاصة في طرابلس . ومع ذلك سوف تحاول هذه الدراسة أن تقدم معطياتها بالاستناد إلى عدة مصادر ، وأبرزها سجلات محكمة طرابلس الشرعية ، لكي تلقي الأضواء على واقع هذه الحرف من خلال رصد العلاقة بين المسلمين والمسيحيين من أبناء الحرف وتجار السوق .

Categories
Uncategorized

العادات الاجتماعية في طرابلس بين الانقطاع والاستمرار

العادات الاجتماعية في طرابلس بين الانقطاع والاستمرار

الدكتور عبد الغني عماد
استاذ في معهد العلوم الاجتماعية
الجامعة اللبنانية

يتخطى مفهوم العادة الاجتماعية مسألة التكرار لسلوكيات معينة أو النشاط اللاشعوري والناتج عن تكرار فعل ما اجتماعياً كان أم فردياً وبلا شك فإن العادات الجماعية هي بطبيعتها استجابة ثابتة نسبياً ومتغيرة تبعاً لذلك، لانها تستجيب في الزمان والمكان لحاجة اجتماعية يمكن ان تصبح مع الممارسة مستقلة عن الزمان والمكان وإن وجدت في البداية ضمنهما.

بعض العادات مفيد للحياة الاجتماعية ويؤدي الى تعزيز وحدة المجتمع وتقوية الروابط بين أفراده، وبعضها سلبي يشيع الإحباط والفرقة. ويلعب حجم المجتمعات وانعزالها وصرامة النظام العائلي فيها، دوراً فاعلاً في تقوية سلطة العادات الجماعية. ومع ذلك فالعادات الجماعية قابلة للتطور والخروج على قوالبها الجامدة والقديمة فقد انتقلت الاشكال الاجتماعية من البساطة الى التعقيد، وتطور نظام الأسرة من حيث الوظيفة والنطاق، وتقدمت اساليب جديدة استخدم فيها الانسان التكنولوجيا الحديثة، وتفاعل القديم والحديث مما أدى الى موت عادات قديمة ونشوء عادات جديدة، أو الى تعديل في طبيعة هذه العادات التي تتجه شيئاً فشيئاً الى التكيف مع المستجدات.
ما الذي يميز طرابلس الفيحاء في هذا الشأن؟ وهي المدينة العريقة التي غناها الشعراء والرحالة العرب والأعاجم وقالوا فيها أطيب الكلمات ونظموا لها أحلى القصائد، حتى قال عنها أبو الطيب المتنبي الذي زارها في القرن العاشر الميلادي:
أكارمٌ حسد الأرض السماءُ بهم            وقصّرت كل مصرٍ عن طرابلس
ولأن التاريخ لا يملك أحد أن يطوي صفحاته، وهو في طرابلس حاضر بقوة، فالكتابة في مجاله، خاصة عندما يراد تناول جوانب من الحياة الاجتماعية وعاداتها، ليست بالأمر السهل. ومما يزيد الأمر صعوبة أن يكون حجم الكتابة محدداً. ومع ذلك سنحاول في هذه الصفحات القليلة الإضاءة بشكل مكثف على جوانب من الحياة الإجتماعية لهذه المدينة العريقة.
– عادات السوق وتقاليد الحرف: الحياة اليومية المعاشة وعلاقات الناس ومعاملاتها في السوق والتجارة والعمل هي مصنع دائم للكثير من العادات الاجتماعية الأوسع والأكثر رسوخاً من غيرها.
والسوق والحرف الطرابلسية زخرت بالكثير من هذه العادات، ولا يزال حتى الآن يتناقل الطرابلسيون أمثلة ونماذج منها بفخر يدل على عمق التضامن الاجتماعي الذي يربط أهل السوق، ومنها العادة التي كانت سائدة حين يستفتح التاجر الطرابلسي، أي يبيع سلعة صباحاً ثم يعلم ان جاره لم يستفتح بعد، أي لم يبع شيئاً، فيطلب من الشاري الثاني الذي يقصده ن يتجه لجاره ويشتري منه ليستفتح كما استفتح هو.
هذا السلوك يروى اليوم بحسرة نظراً لأن مثل هذه العادات قد ضمرت، ويروى ايضاً للدلالة على عمق اخلاقية التضامن الاجتماعي التي سادت في السوق الطرابلسي قديماً والتي لم يقض عليها قانون المنافسة الاقتصادي.
كانت الحرف والصنائع في طرابلس تنتظم في “طوائف” أو “أصناف” حرفية حسب تعابير وتوصيف وثائق المحكمة الشرعية في المرحلة العثمانية. كان لكل منها شيخ يتم اختياره من قبل معلمي الطائفة الحرفية، ويقر اختياره القاضي الشرعي الذي يصدر حجة شرعية بذلك.  وللحرف جميعاً شيخ مشايخ في المدينة ونقيب وجاويش يختارهما مشايخ الحرف. وقد نشرت العديد من الوثائق والتفاصيل حول هذا الموضوع في كتابي “مجتمع طرابلس في زمن التحولات العثمانية” والصادر عن دار الإنشاء مطلع العام الحالي.
وبالرغم من أن كل طائفة حرفية كانت مستقلة عن غيرها، إلا أن بعض الحرف ارتبطت مع بعضها في مصالح معينة وأعمال مشتركة، هذه الحرف كانت تتفق على تنصيب “أخي بابا” او كما يسمى أحياناً “شيخ السبعة” وذلك للتنسيق فيما بينها والحؤول دون وقوع الخلافات. وشيخ السبعة هذا، بالإضافة طبعاً الى شيخ مشايخ الحرف كان له مكانة هامة في المرحلة العثمانية في طرابلس وكان الى حد ما منصباً تتوارثه عائلات محددة، وكان دائماً ما يعزز ترشيحه أن يكون “صحيح النسب بين الأشراف”.
والسادة ألشراف في طرابلس كان لهم نقابة ونقيب يصدر مرسوم تعيينه من الأستانة، ومهمته تحصين النسب الشريف ومعالجة المشاكل التي تعترضهم وتأكيد صحة الأنساب. وبالتالي عندما يكون شيخ مشايخ الحرف او شيخ السبعة من النسب الشريف، فهذا يساعده بشكل إضافي للقيام بدور الشيخ المصلح بحيث يكون لحكمه في خلاف ما قوة ترجيحية.
شيخ الحرفة كان يتم اختياره من كبار الحرفيين الذين كان يطلق عليهم لقب “أستاذ” أو “أوسطى” أو “معلم”، وبعده في المرتبة المهنية في الحرفة يأتي “الصانع”. وكان هؤلاء يشكلون العدد الأكبر في الحرف عامة، وبعدهم يأتي “الاجراء”. هذا التراتب لم يكن عشوائياً، بل كان يخضع لنظام دقيق يجري وفقه الترقي من مرتبة الى أخرى. الترقي الحرفي كان هو المكافأة العظيمة التي ينتظرها الأجير لينتقل الى مصاف الصانع ثم المعلم. وكان شائعاً قول “لسّا ما حلّه، دبساته مراق” أي ان هذا الأجير أو الصانع لا يزال بحاجة للمزيد من التأهيل والتدريب والخبرة قبل ترشيحه للترقية.
مرحلة الأجير كانت تسمى بلغة اهل الحرفة “أخذ اليد” فيها يتم التدريب الأولي. وعندما يصبح الأجير مؤهلاً للترقي الى مرتبة الصانع يجري الاستعداد من قبل شيخ الحرفة لما يسمى “الشدّ” وهو احتفال يتضمن طقوس وأصول وتقاليد، كانت سائدة في غالبية المدن الإسلامية كان المشدود أي الأجير يعاهد في هذا الاحتفال أباه في الكار – اي المهنة مقسماً أمام شيخ الحرفة وجميع زملائه والصنّاع ومعلمي الحرفة بقوله: “أعاهدك بعهد الله ورسوله إني لا اخون الكار ولا أغش الصنعة بشيء”. فالمحافظة على اسرار المهنة والجودة في الصناعة وعدم الغش كانت من أهم مقومات الحرفي في     ذلك الزمان. أما احتفال “الشدّ” للصانع فكان يتميز بأن يسمي أباه بالكار، الذي يتقدم ليربط له المحزم أو المئزر، ويأخذ منه العهد، ثم يعرض بعضاً من عمله وانتاجه الحرفي أمام معلمي وصنّاع الحرفة كلهم، ويطلب من الحاضرين فحص هذا الانتاج ويستمع الى اي اعتراض لترقيته ويكون القرار النهائي لشيخ الحرفة بالطبع بعد عملية “الشدّ” ينتقل الحاضرون في نفس اليوم، أو في اليوم التالي الى ما يسمى “التمليحة” حيث تقام وليمة يرافقها الاحتفال والاغاني بهذه المناسبة التي يحلم بها كل أجير وصانع. إنها بالفعل احتفال تخرّج لا تزال سائدة وشائعة وإن اختلفت بعض اشكالها وخاصة في المؤسسات التربوية والحرفية والنقابية.
اللافت في تقاليد وعادات السوق أساليب القصاص التي كانت سائدة لردع محاولات الغش أو التلاعب بجودة المنتج، ويمكن حصرها بثلاثة أنواع:
1 – أن يطرد من يخون حرفته أو يغش بها ويمنع عليه العمل فيها نهائياً أو جزئياً، ويجري تعميم ذلك على جميع معلمي الحرفة.
2 – ان يشهرّ به بين الناس ويعلن انه غشاش من خلال عرض نماذج من انتاجه المغشوش في السوق بحيث يصبح عبرة لغيره.
3 – إقفال الدكان والذي كان يتم بقرار من شيخ الحرفة، ولا يمكن إعادة فتحه إلا برضاء الشيخ وأهل الحرفة بعد أخذ التعهدات عليه، وهذا الاجراء كان يسمى “التسمير” أي اغلاق الدكان بالمسامير، وكثيراً ما طبق على القصابين.
لكل حرفة أساليب قصاص متدرجة خاصة بها، فمنهم من كان يفرض على الغشاش إقامة وليمة لأهل الحرفة تعادل الجزاء النقدي، ومنهم من كان يقصّ خصلة من شعر رأسه، وكان هناك أيضاً ما يسمى “التجريص” وهو أقساها، حيث يركب المذنب حماراً بالمقلوب، ويسخّم وجهه بالسواد وآلة وآلة الغش تعلق على صدره ويدار به في السواق.
بلغ عدد الحرف في طرابلس حسب المسح الذي قمنا به لعينة من وثائق المحكمة الشرعية أواخر القرن الثامن عشر أكثر من مئة حرفة، نشرنا جدولاً إحصائياً بها في كتابنا السابق ذكره. أما في دمشق فقد قارب عدد الحرف وفق مسح مشابه قام به المؤرخ عبد الكريم رافق 163 حرفة. وقد تميزت الأسواق عموماً بالاختصاص المهني والتمركز الجغرافي الذي يجمع أهل الحرفة أو المهنة الواحدة في مكان واحد، هو السوق أو الخان. وهذا الميل لتجمع أهل الحرفة أو المهنة الواحدة في مكان واحد، هو ميزة تقليدية لتنظيم العمل في المدينة الإسلامية بشكل عام، فالعطارون والأساكفة وتجار الأقمشة والخياطون والصاغة وغيرهم تجدهم ينتظمون في أسواق خاصة بهم، تجمعهم روابط التضامن والتنافس على الجودة في نفس الوقت.
في طرابلس أحصينا 27 سوقاً و40 خاناً
في حلب كان هناك 77 سوقاً و100 خان
في دمشق كان هناك 45 سوقاً و57 خاناً
توزعت الأسواق والخانات في طرابلس على خمسة أحياء أساسية (باب الحديد – الناعورة – النوري – التربيعة – باب التبانة) حسب التقسيم العثماني للأحياء في ذلك الحين. من الواضح ان هذه الأحياء المركزية كانت تشكل قلب المدينة الذي يضج بالحركة الدائمة. ومن أبرز القضايا التي تكشفت لنا الخطأ الشائع حول مكان سوق العطارين في طرابلس، حيث يعتقد كثيرون ان مكانه كان بالأساس ملاصقاً أو قريباً من الجامع المنصوري الكبير، أكبر مساجد المدينة، أي المسجد الجامع في منطقة النوري، نظراً لبقاء العديد من دكاكين العطارة في هذه المنطقة حتى أواسط القرن الحالي. لكن سجلات القرن الثامن عشر، توضح بعد التدقيق ببعض وثائقها ان سوق العطارين كان قائماً قرب بركة الملاحة وقريباً من جامع العطار وهو مكان بعيد عن منطقة النوري (انظر سجل رقم 10/ص84 وسجل رقم 28/ص70).
كانت الحرفة توّرث الى الأبناء والأحفاد والأقرباء وتبقى أسرارها بينهم حتى أصبحت بعض العائلات تعرف نسبة الى حرفتها (الصباغ – الدباغ – العقاد – النجار – الطحان – المنجد – الخياط – الدلال – الدمرجي – اللبابيدي – الكيال…) كانت الدكاكين في السوق مفتوحة ومتلاصقة، كان هناك ترابط عائلي في ممارسة المهنة والحرفة الواحدة، وكان وقتها يكفي أن يضع صاحب الدكان حاجزاً خشبياً أو كرسياً على بابه، عند تركه له لقضاء حاجة أو عند الذهاب الى مسجد الحي القريب، وهو آمن على ماله ورزقه لوجود جار او قريب بجانبه. كان الكل يعرف بأفراح الكل ويشارك فيها، والكل يساند الكل في الأحزان والمصائب.
واللافت هو العلاقة الوطيدة التي ربطت الحرف بالطرق الصوفية والتي كانت شائعة حتى وقت قريب في بداية القرن المنصرم. كان اخي باب أو شيخ السبعة في طرابلس مثلاً، شيخاً للطريقة الخلوتية، وكان بنفس الوقت من السادة الأشراف، ومن عائلة اعتادت أن يشغل ابناؤها منصب نقيب السادة الأشراف، وهو في ذلك الوقت، كان السيد ابراهيم البركة بن عبد الصمد (انظر سجل رقم 3/ص132). كان للنسب الشريف والانتساب لإحدى الطرق الصوفية ميزة تفاضلية في تولي المناصب الحرفية، وهو ما يدل على قوة التواصل بين الشأن الديني ومتطلبات الحياة المعاشة واليومية.
– الاحتفالات والأعياد الدينية: التدين سمة بارزة من سمات طرابلس الفيحاء، فهي ما زالت على الرغم من التطورات التي دخلت على حياتها تتصف بالمدينة المحافظة لحرصها على طابعها الايماني الاسلامي، وبنيتها العائلية، ومرافقها الحرفية التقليدية التي كانت، ولا يزال بعضها ناشطاً في أسواقها داخل المدينة القديمة التي لا تزال محافظة على بنيتها الأساسية بشكل عام.
ويتميز شهر رمضان المبارك في طرابلس بأنه شهر العبادات التي يحرص أهل المدينة على أدائها، بحيث يترك هذا اثراً واضحاً على حركتها وعلاقات اهلها ببعضهم. تبدأ الاستعدادات لاستقبال هذا الشهر منذ شهر شعبان المعظم، فتنتشر الزينات في السواق والحارات وعلى المساجد والزوايا. وكان أهل المدينة يستعدون لاثبات هلال غرة شهر رمضان بالتوجه نحو البحر أو التلال العالية ليتبينوا الهلال وهو ما عرف اصطلاحاً باسم (إستبانة شهر رمضان) وليس سيبانة كما هو شائع.
تحرص العائلة الطرابلسية على الاجتماع وتبادل الزيارات والافطارات المشتركة وتوثيق عرى صلات الرحم كمظهر من مظاهر المحبة والتآلف والتكاتف. وتنتشر بشكل واسع في هذا الشهر عادة “التساكب” أو “المساكبة” حيث يتبادل الأهل والجيران أطباق الطعام المختلفة. ويزداد في هذا الشهر المبارك التزاور والسهرات الرمضانية والاكثار من عمل الخيرات. ومن أهم الليالي الرمضانية ليلة القدر التي كانت تقام باحتفال مهيب في الجامع المنصوري الكبير بحضور المفتي والوالي والعلماء وأبناء المدينة، وأصبحت فيما بعد تقام في مختلف مساجد المدينة.
تحرص العائلة الطرابلسية في هذا الشهر المبارك على تأدية زكاة أموالها للفقراء والمعوزين، بالإضافة طبعاً الى أداء زكاة الفطر قبل صلاة العيد.
وفي العشر الأواخر من رمضان تشهد أحياء المدينة نشاطاً ملحوظاً حيث تجول فرقة مشاعل وطبول تعرف بـ”الوداع” في الأحياء، إيذاناً بنهاية الشهر، حيث تجمع بعض المال لتوزيعه على المسحراتية الذين كانوا يطوفون طيلة الشهر في مختلف الأحياء لإيقاظ الصائمين للسحور. والجمعة الأخيرة من رمضان تتميز دائماً بنكهة خاصة، حيث يقام إثر صلاة الجمعة مباشرة تلاوة “ختم البخاري” في جامع طينال مع أناشيد وموشحات وأدعية وابتهالات تستمر حتى صلاة العصر، يشارك فيها مجموعة من أفاضل العلماء والمنشدين، وهي عادة لا تزال سائدة حتى اليوم. تبدأ بعدها الاستعدادات لاستقبال عيد الفطر السعيد، حيث تقام صلاة العيد في الجامع المنصوري الكبير بحضور المفتي ورجال الدولة يتقبلون بعدها التهاني حيث يبارك أهل المدينة ويعايد بعضهم بعضاً، لتبدأ بعدها زيارة الجبانة حيث تتلى لروح أموات العائلة قراءات من القرآن الكريم والدعاء لهم، ثم يزور الأبناء كبار العائلة ويتم تبادل الزيارات طيلة أيام العيد، وتنصب في بعض الساحات الألعاب والمراجيح ومختلف وسائل الترفيه والتسلية للأطفال لكي يعيشوا بهجة العيد. وهي بهجة تتكرر في عيد الأضحى غير ان توزيع لحوم الأضاحي على الفقراء، وانتظار عودة الحجاج بلهفة من الحجاز يضفي على هذا العيد نكهة خاصة. وكان ولا يزال يسبق عودة الحجاج تزيين الأحياء وإعداد العدة اللازمة لاستقبالهم باحتفالات وابتهالات كانت تعيشها المدينة والحجاج على مدار أسابيع عدة.
اما ذكرى المولد النبوي الشريف فكان له في طرابلس وقع مميز، حيث تزين الأسواق ويفرش السجاد والأقمشة وتوزع الحلوى والليموناضة في الشوارع والأحياء على المارة، وتجوب شوارع المدينة مواكب الطرق الصوفية، فضلاً عن مواكب وعراضات اصبح غالبيتها اليوم مجرد ذكرى.
ويترافق مع كل عيد وذكرى واحتفال أنواع معينة من الطعام والحلويات الطرابلسية والتي اشتهرت في المشرق العربي بطيبها ودسامته وحسن صناعتها التي يبرع فيها اهل المدينة، ولا تزال العائلة الطرابلسية تحرض على تحضيرها في هذه المناسبات، بحيث أصبحت جزءاً من الممارسة المصاحبة للاحتفال بالمناسبة.
– عالم التسلية والترفيه: كان له ايضاً عادات ارتبطت غالبيتها بطبيعة المدينة وموقعها، فعلى ضفتي النهر انتشرت المقاهي المختلفة، منها مقهى البحصة، حيث كان الكراكيزي يقيم حفلات خيال الظل المسرحية، أو كما تسمى في طرابلس (كركوز وعيواظ) وهي أسماء الشخصيات المستخدمة في هذا المسرح بالإضافة الى مقهى “جهير” على الضفة اليسرى من النهر، ومقهى “خبيني” على الضفة اليمنى في محلة السويقة، ومقهى الصيادين عند نهاية جسر اللحامين وغيرهم، وعند مصب النهر (منطقة برج رأس النهر) كانت تقام السيارين، خصوصاً في أربعة أيوب، وهي مناسبة مرتبطة بقصة النبي أيوب الذي عندما برأ من المرض نزل الماء واغتسل، لهذا، وتيمناً به، يحتفل الطرابلسيون في ذكرى شفائه، والسيران في اللهجة الطرابلسية، هو النزهة التي تقام على شواطئ البحر أو في بساتين الليمون والزيتون، حيث تجتمع العائلات لتتمتع بجمال الطبيعة وتتناول الأطعمة المختلفة، وكانت العادة أن لا يقترب أحد من مجلس العائلة الأخرى حفظاً لحرمتها وخصوصيتها في الطبيعة.
كانت ضفاف مجرى نهر “أبو علي” مقصد الأهالي أيضاً حيث بساتين الليمون في منطقة المرجة، خصوصاً في فصل الربيع، حيث تصبح المنطقة قطعة من الجمال تفوح فيها رائحة زهر الليمون الزكية، ويصبح التنزه أو السيران، ويقال له أيضاً في طرابلس “التنيرز”، وهي كلمة فارسية الأصل من نيروز، أي عيد الربيع، عادة جماعية يمارسها أهل المدينة كباراً وصغاراً، أما سيارين الصيف فكانت في الغالب على شاطئ البحر في منطقة راس النهر، والكازخانه ورأس الصخر وابو حلقة في البحصاص، وعين البرج في المنية. أما سيران رمضان فكان أيضاً له نكهة جماعية خاصة ومميزة كونه يسبق الشهر الكريم بما يشبه الاحتفال بقدومه.
ومن عادات التسلية والترفيه أيضاً ما كان سائداً وسط النساء، وأهمها عادة “الاستقبال”، حيث تحدد كل سيدة أو كما يقال “تربط” يوماً في الأسبوع او الشهر، حسب امكانياتها ووضعها الاجتماعي، تستقبل فيه زوارها بدون خبر، وكذلك “الصبحيات والعصريات والسهريات” كلها كانت تتم وفق نمطية محددة تنتظم من خلالها العلاقات الاجتماعية بين العائلات. أما الرجال فكان “المنزول”، هو المضافة البيتية التي يستقبلون فيها زوارهم. كانت هناك منازيل مفتوحة لبعض الأعيان والوجهاء، لها مداخلها الخاصة والمحايدة عن المدخل الرئيسي للبيت العائلي، صيانة لحرمة المنزل.
كان أيضاً للحمامات العامة في طرابلس عاداتها وتقاليدها، فقد كانت هناك أيام مخصصة للنساء وخرى للرجال، وقد ظلت هذه الحمامات والتي تعتبر منشآت رائعة الجمال، ولا تزال بغالبيتها قائمة تحتاج الى ترميم وتأهيل تلعب دوراً هاماً في المجتمع الطرابلسي، على الرغم من أن بيوتاً كثيرة أصبح يتوفر فيها كل مستلزمات الاستحمام المنزلي، إلا أن الحمامات العامة بقيت مقصداً للنزهة والترفيه والاجتماع، بل أن بعض المناسبات (حمام العروس) كانت تتم باحتفالية عائلية. استخدمت الحمامات أيضاً للسيران حيث كانت العائلات الميسورة تحجز الحمام لها ولضيوفها، حيث يقضون الوقت بعد الاستحمام في القسم الخارجي من الحمام حول البركة، حيث تقدم أنواع الأطعمة والشراب والفاكهة، ويقدم بعض العازفين والمغنين ألواناً من الطرب والغناء.
في اشهر الصيف الحار كانت بعض العائلات تنتقل للاصطياف فيما يسمى “المناطر” المبنية على مشارف أبي سمراء أو القبة، هرباً من الرطوبة وللتنعم بهواء الزيتون ومروج الليمون، والمناطر عبارة عن بيوت خشبية بحجم طابق أو طابقين تبنى فوق جسور خشبية وترفع عن الأرض، أما السقف فكان على شاكلة السقوف القرميدية الهرمية.
في طرابلس أيضاً كانت الداية شخصية مميزة، لم يقتصر دورها على التوليد، فهي كانت ناشطة في تدبير الزيجات، والاستقبالات وحتى في مناسبات الموت، كما في الحمامات أيام الأعراس وغيرها، بل ايضاً كمعالجة للكثير من ألأمراض النسائية وفق وصفات العطارين ووفق ما اكتسبته من خبرة في هذا المجال.
ومن العادات الاحتفالية ذات الطابع الاجتماعي، الأعراس التي كان يهتم لها الكبير والصغير وكان لها تقاليدها واصولها حسب الوضع الاجتماعي للعائلة، فالمصاهرة في طرابلس كان لها شروط واصول وأعراف، وكانت مناسبة “الختمية” أيضاً مميزة، وهي تتم عندما ينتهي الطفل من حفظ “جزء عمّ” من القرآن الكريم والذي كان يتم تعليمه في الكتاتيب للصبيان او الخوجايات للبنات. كذلك كانت مناسبة “الطهور” للاولاد، أي ختان الصبيان، والتي كانت تتم بين عمر الأربع أو السبع سنوات كانت مناسبة للاحتفال، حيث يلبس الطفل ثوباً أبيض، في الغالب مصنوع من قماش الأطلس، ويركب على ظهر حصان، يتقدمه حملة المكابس والتي يختلف عددها باختلاف غنى العائلة، وتزين بالزهور وقطع الذهب المهداة بالمناسبة من الأهل والأقارب والأصدقاء، ويتم التجوال به في الحي مع “عراضة” يختلف حجمها حسب مستوى العائلة الاجتماعي، في هذه العراضة يجري استعراض ألعاب السيف والترس وفرق الطرق الصوفية، والولد في وسطها جالس على “المكبس”، وهو كرسي من الخيزران ترصف فوقه بقج القماش المقصب حتى علو ظهره، وبعد التجوال والعراضة يعود الجميع الى المنزل حيث تجرى له حينها عملية الختان.
لكل من هذه الاحتفالات تقاليدها وأعرافها وأصولها، حيث كان ينتقد أشد الانتقاد من ينتهكها أو يتجاوزها، وكان يترافق مع كل منها دائماً أنواع محددة من الأطعمة والحلويات والهدايا، وهي تختلف من حيث عدد المشاركين ونوعية الاحتفال باختلاف الامكانيات المادية للعائلة.
هذه بعضاً من صور الحياة الاجتماعية التي كانت سائدة قبل دخوله مؤثرات العصر الحديث، بعضاً منها لا يزال مستمراً بصورة ما، وبعضها أصبح مجرد ذكرى يتناقلها الآباء ويتذكرونها كحكايا قديمة ينقلونها لجيل جديد إنقطع عن ممارستها متجهاً نحو صناعة “حكاياته” الخاصة والجديدة.

 

Categories
دراسات في تاريخ طرابلس وحاضرها

محلات طرابلس القديمة أسماؤها، سكانها، مواقعها من خلال الوثائق العثمانية

محلات طرابلس القديمة أسماؤها، سكانها، مواقعها من خلال الوثائق العثمانية
إعداد رويدا ياسر قاسم

إن مدينة طرابلس الشام كانت عاصمة ولاية على ساحل الشام، أو “لواء” كانت حدوده تمتد من جبلة ونواحيها شمالاً، حتى جبال العاقورة وبلاد جبيل جنوباً، فإن مجموعة كبيرة من الدفاتر والسجلات العثمانية تختص بها محفوظة في ذلك الأرشيف، وقد جرى فهرست البعض منها.
بعض هذه الدفاتر يتناول أسماء المحلات بطرابلس، وبالمقارنة بينها نجد إختلافاً واضحاً في أسماء عدة محلات حيث تبدلت بعض الأسماء القديمة وأخذت أسماء جديدة، كما طرأت أسماء محلات لم تكن موجودة من قبل، مثل : محلة المزابل، قبة النصر، محل الرمانة، ومحلة القواسير وغيرها .

Categories
دراسات في تاريخ طرابلس وحاضرها

دورالجمعيات في طرابلس: الاشكاليات والمعوقات

دورالجمعيات في طرابلس: الاشكاليات والمعوقات
الدكتور عبد الغني عماد- استاذ العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية 

تصاعد الإهتمام على مستوى العالم في  الآونة الأخيرة بدور الجمعيات والهيئات الأهلية غير الحكومية، وقد حظي دورها التنموي بإهتمام خاص في دول العالم الثالث ، الذي تعتبر التنمية التحدي الأساسي بالنسبة له وتعتبر الجمعيات الأهلية عموماًَ وسائط إجتماعية للتغيير الإجتماعي، وهي على الرغم من أهميتها في مجتمعاتنا لا تزال تعاني من معوقات كبيرة تمنعها من أن تكون إطارافعالاً لتحقيق التنمية والمشاركة والتكامل.

Categories
دراسات في تاريخ طرابلس وحاضرها

دور الكتاب المسيحيين

تنامي دور الكتّاب غير المسلمين
وتأثيره على المجتمع المحلي في أواخر القرن الثامن عشر

الدكتور عبد الغني عماد
أستاذ في الجامعة اللبنانية

على مستوى السلطنة شكل الكتّاب المجموعة النشطة ضمن الهيئة الحاكمة، فقد أمسكوا بفرعين في الديوان الهمايوني: المراسلات والخزينة. وكان عملهم يتميز بالتنظيم والدقة. ويعود ذلك الى كون الكتبة صنفاً حرفياً تنطبق عليه كل قواعد التنظيم الحرفي. فكل قسم منهم كان على رأسه معلم أو “خوجا” يعاونه عدد من “الخلفا”، الذين يعطون التوجيهات الى الكتبة ويشرفون على المتعلمين الجدد “الشاغرد”. والتعليم الذي كان يتلقاه التلميذ كان يشتمل على الفنون الخاصة بأهل حرفة القلم من خط وحساب وإنشاء، كما يشتمل على المعارف الإسلامية من فقه وأدب وتاريخ وجغرافيا، وكان العلماء يشرفون على هذا الجزء من تعليمهم.

Categories
دراسات في تاريخ طرابلس وحاضرها

سوسيولوجيا العمل الأهلي والبلدي

سوسيولوجيا العمل الأهلي والبلدي
محدودات التكامل وعناصر التباعد
نموذج طرابلس
د. عبد الغني عماد
أستاذ في الجامعة اللبنانية
معهد العلوم الإجتماعية

تصاعد الإهتمام على مستوى العالم في الآونة الأخيرة بدور الجمعيات والهيئات الأهلية غير الحكومية ، وقد حظي دورها التنموي بإهتمام خاص في دول العالم الثالث ، الذي تعتبر التنمية التحدي الأساسي بالنسبة له وتعتبر الجمعيات الأهلية عموماًَ وسائط إجتماعية للتغيير الإجتماعي ، وهي على الرغم من أهميتها في مجتمعاتنا لا تزال تعاني من معوقات كبيرة تمنعها من أن تكون إطارا فعالاً لتحقيق التنمية والمشاركة والتكامل .

Categories
دراسات في تاريخ طرابلس وحاضرها

طرابلس الفيحاء المعالم العمرانية والحضارية

طرابلس الفيحاء: المعالم العمرانية والحضارية

الدكتور عبد الغني عماد
استاذ في الجامعة اللبنانية

كان لمدينة طرابلس منذ الفتح العربي دور سياسي وحضاري واقتصادي وعسكري هام، جعلها تستحق لقب “مدينة العلماء والمجاهدين” وحمل أهلها لقب “حماة الثغور” بكل جدارة، شأنها في ذلك شأن أبرز الثغور العربية والاسلامية.
طرابلس التاريخ: اقترن تاريخ بنائها بتاريخ تشكيل مجلس الشورى الفينيقي، وهو حدث سياسي ضخم في العالم القديم. فقد اختارت ممالك صور وصيدا وأرواد موقعها ليكون حيادياً وتمثل كل منهم بمئة نائب وأقاموا مع عيالهم في مواقع ثلاثة متقاربة. وهكذا ظهرت المدن الثلاث “تريبوليس” والتي عرفت بداتية بـ: كايزا ومايزا ومحلاتا.

Categories
النشاطات والاخبار

انطلاق المرحلة الاولى

 إنطلاق المرحلة الأولى من المشروع:

وقد تم والحمد لله، إطلاق المرحلة الأولى من المشروع بتاريخ 1/7/2008 والتي تستهدف العمل على فهرسة وتبويب سجلات محكمة طرابلس الشرعية والتي تغطي وثائقها قسماً من القرن السابع عشر فضلاً عن القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وتحتوي على آلاف الوثائق الهامة والتي تعتبر سجلاً يومياً لحياة الطرابلسيين في تلك المراحل، وهو العمل الذي سوف يترافق مع سلسلة من الندوات والمؤتمرات والحلقات النقاشية حول هذه الوثائق يشارك فيها نخبة من الباحثين المختصين.