ذكرى المولد النبوي: عادات اندثرت وأخرى "صمدت"
لطالما كان لذكرى المولد النبوي الشريف في طرابلس وقع خاص، اذ تعتبر في الادبيات الشعبية عيداً دينياً يوازي عيدي الفطر والاضحى. ولذلك يسميها الناس "عيد المولد". ويعزز هذا الاتجاه اعتبار يوم المولد عطلة رسمية في دوائر الدولة. وقد رافقت هذه الذكرى في الماضي أجواء احتفالية خاصة، وممارسات شعبية، صار أغلبها جزءاً من الماضي، فيما لا تزال الذكرى تحتفظ ببعض "الرهجة" حتى ايامنا هذه.وقد تحدثت "التمدن" الى أمين الفتوى في طرابلس الشيخ محمد إمام حول معاني الذكرى، ومدى صحة الروايات المنسوجة حول احداث المولد.
اشار إمام بداية الى ان يوم المولد النبوي "ليس عيداً بالمفهوم الشرعي، الذي لاينطبق الا على يومي الفطر والاضحى، بل هو مناسبة يتذكر فيها المسلمون نبيهم، ويندفعون بعمل فطري نحو اقامة الزينة، وتوزيع الطعام، والاجتماع على تلاوة سيرته (صلى الله عليه وسلم)"، منبهاً الى "عدم خلط هذه الممارسات بالعمل العبادي الذي له أركانه وشعائره وشروطه، ولكنه نوع من الفرح المسموح به شرعاً وعقلاً.
حقائق ممزوجة بالاساطير
وقد درجت العادة، خاصة فيما مضى، ان تعقد مجالس تتلى فيها اجزاء من كتب كانت تسمى "الموالد" واشهرها كتاب يسمى "مولد العروس"، ويتخلل تلك الجلسات طقوس معينة سيأتي الحديث عنها في سياق لاحق.
فيما يخص هذه الكتب، ميّز إمام بين توجهين اساسيين: "كتب السيرة، وكتب المولد: ففي الفئة الاولى، تبرز سيرة ابن هشام، حيث سردت السيرة النبوية باسلوب علمي وعبارة ادبية راقية. اما كتب المولد على الخصوص، فاكثرها فيها الكثير من المبالغات والاخبار التي لم تثبت، والتفاصيل التي يغلب عليها عدم الدقة، ويتعذر التحقق من ثبوتها بحسب قواعد مصطلح علم الحديث".
وفيما يخص الاختلاف بين المذاهب الاسلامية حول تحديد موعد الولادة الشريفة، فقد ارجعه إمام الى "مجرد الاختلاف في الروايات الواردة ليس اكثر". جدير بالذكر في هذا المقام ان المسلمين السنّة يحتفلون بالمولد النبوي في الثاني عشر من شهر ربيع الاول الهجري، فيما يحتفل به المسلمون الشيعة في السابع عشر منه.
ولا تقتصر قراءة "المولد" على يوم الذكرى او ليلتها، بل يعمد الكثير من الناس الى هذا الامر لأسباب عدة: وفاء لنذر، احتفالاً بمولود، او لمناسبة نجاح في امتحان.. ضمن هذا السياق، لا يرى إمام حرجاً في هذا الامر "شرط ان تكون النية، ان يبتغي صاحب المناسبة الاجر من خلال الصدقات التي يقدمها، اما ربط قراءة المولد بالحفلات، او غيرها فليست واردة شرعاً".
كان يا مكان
وعلى ذكر العادات التي درج عليها الناس، فقد كانت لذكرى المولد في طرابلس ممارسات وأجواء خاصة، لا تزال مختزنة في الذاكرة الشعبية لدى أبناء المدينة المتقدمين في السن نسبياً. فقد روى هؤلاء بعضاً مما كان يصاحب هذا اليوم وليلته من أجواء ينتمي بعضها الى الدين، فيما يستمد بعضها الآخر"شرعيته" من كونه موروثاً شعبياً.
وأول هذه الممارسات ما كان يعرف بحفلات "الذكر"، التي تعقد في "زوايا" مشايخ الطرق الصوفية في المدينة وابرزهم الشيخ سلمان البارودي الذي كان منزله في سوق العطارين، يضم قاعات كبيرة تعقد فيها حفلات تستخدم فيها المزاهر، وسط حضور"الفتلة المولوية" التي تذكر الله، وتصلي على النبي، بطريقة تثير الحماسة في الحاضرين، فيندفعون بدورهم ويرددون "الله.. الله.."، ولا يلبث ان ينسجم الحاضرون جميعهم مع حركات "المولوية" فيتراقصون مثلهم وسط شعور عارم بالفرح، كل هذا وسط فصل تام بين النساء والرجال.
ومن طريف ما يذكره بعض كبار السن في هذا المجال «ان قراءة المولد كانت لدى بعض المشايخ «صنعة» يكتسب منها رزقه، فيدعى الى الحفلات الخاصة، ويطلب اليه الانشاد مقابل اجر معين، اما حفلات الذكر فغالباً ما كانت تنقلب الى حفلات «طرب»، خصوصاً بعد انهاء تلاوة المولد، فيحلّ العود محل المزهر، وتحل الموشحات والمواويل مكان المدائح والاناشيد".
وعلى الصعيد الشعبي، كانت اسواق طرابلس تزين بزينة خاصة ويفرش في ازقتها السجاد احتفالاً.
ومما يذكره الناس حول أجواء الاسواق «ان بركة الملاحة في طرابلس كانت تملأ بـ «الليموناضة» ليشرب منها المارة، ويعمد بعض اصحاب المحلات الى توزيع المأكولات والمشروبات مجاناً «عن روح النبي» كما يقولون، خاصة «الحبوب» وهي تحلية طرابلسية معروفة، اضافة الى الرز بالحليب، والقهوة..» ولم تكن قراءة قصة المولد النبوي حكراً على الزوايا المعروفة، بل كانت تقرأ ايضاً في البيوت ليلة المولد، «حيث يوزّع التمر والفواكه على الحاضرين ولقراءة السيرة في البيوت طقوس مصاحبة، اذ يقف جميع الحاضرين عند مقاطع معينة، ويشربون من ماء كانوا قد وضعوه وسط الجلسة، وقرأوا عليه من «بَرَكَة المولد» كما يسمونها، ويعودون لمتابعة القراءة».
اضافة الى هذه الممارسات الاحتفالية، كانت تقام جولات للاثر الشريف المحفوظ في المسجد المنصوري الكبير، في شوارع المدينة في ذكرى المولد. والاثر الشريف عبارة عن عدد من شعرات الرسول يحتفظ بها داخل غرفة خاصة. ويذكر بعض اهل المدينة ايضاً ان «النوبات» وهي فرق مؤلفة بشكل اساسي من طبول، وصناجات، وحملة رايات كانت تجوب شوارع المدينة ايضاً عازفة ايقاعات مختلفة تعبّر عن هوية كل فرقة، لتنهي جولتها في المساجد، وسط التصفيق والصلاة على النبي من قبل الحاضرين.
وفي الجانب الانساني من الذكرى، يروي بعض «قدماء طرابلس»، «ان الناس كانت تتبادل توزيع الاطعمة فيما بينها، خاصة أكلة تعرف بـ «القمحية» والارز بالحليب، اضافة الى ما يكون أهل البيت قد طبخوه لانفسهم، فيوزعون قسماً منه على جيرانهم».
المولد في ايامنا
بالعودة من رحلة الماضي الى الزمان الحالي، فقد احتفظت بعض مظاهر الاحتفال بذكرى المولد بحضورها، وان بشكل معدّل، فيما اختفت بعض هذه الممارسات تماماً من حياة الطرابلسيين.
فقد حلّت الحفلات الانشادية التي يستعان فيها بفرق للمديح، محل حفلات الذكر التي سبق الحديث عنها، اذ اصبحت الجمعيات والهيئات الدينية تقيم سهرات خطابية يتحدث فيها الخطباء عن مزايا الرسول، وسيرته والعبر التي ينبغي ان تستخلص منها في واقعنا، ويتخلل ذلك اناشيد تعدّ خصيصاً للمناسبة، معظمها من الموروث الشعبي على غرار «صلوا عليه وسلموا تسليما» اضافة الى كلمات يكتبها شعراء محدثون.
كما لا يزال بعض الباعة، لا سيما في الحارات الصغيرة، يخصصون جزءاً من بضاعتهم لتوزيعه بالمجان خلال هذا اليوم، دون نسيان توزيع بعض الجمعيات لقطع من الحلوى في المساجد والبيوت، واقامة «حواجز المحبة» على الطرقات لهذه الغاية. ولكن تبقى السمة الابرز ليوم المولد حالياً، هي اولئك الشباب الذين يوزعون عصير الفواكه على المارة، وقد اعدوه مسبقاً ضمن اوعية من النحاس او الالمنيوم ليحافظ على برودته لاطول فترة ممكنة.
وهكذا، فقد احتفظت ذكرى المولد ببعض وهجها في طرابلس رغم تقادم الزمن، فيما قضى تسارع ايقاع الحياة، وتغير اهتمامات الناس على الكثير من العادات التي استحقت معها لقب «عيد المولد»، والتي لا تزال حاضرة في كثير من الدول العربية المجاورة.
عن جريدة التمدن الطرابلسية في 15 اذار 2010
ليس عيداً