تراث طرابلس

Categories
من علماء طرابلس

الشيخ علي العمري

 

الشيخ علي العمري

 

الدكتور عمر تدمري

 

    صاحب الكرامات الباهرة التي شهد له بها أهل طرابلس بإجماعهم، واعتبر اشهر أولياء عصره وأكثرهم كراماتٍ وخوارق عاداتٍ، وله المناقب المأثورة التي تواترت رواياتها على ألسنة الثقات من المعاصرين وعايشوا تلك الكرامات التي جرت له في اللاذقية و بغداد واستانبول وبيروت وطرابلس منذ صباه، وهو دون العشرين من عمره.
ومن المصادفات الطيبة أنه ولد في عهد السلطان العثماني عبد الحميد الأول، وتوفي في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، فكان حميداً في ولادته وفي وفاته.

قد أطال الله بعمره فعاش مئة وثلاثة وعشرين عاماً ليطول أمد كراماته ويشيع خيرها وينتشر ذكرها. وهو طلب في إحدى خلواته بجامع “البرطاسي” بطرابلس أن يمنحه الله تعالى حالة الظهور، فأجيب الى ذلك، وانتشرت كراماته واذيعت بين الملأ حتى أضحى أكثر الناس ظهوراً، وأكثرهم ذكراً في طرابلس، بل في بلاد الشام كلها. ورحل الى بغداد لزيارة ضريح سلطان الأولياء الشيخ عبد القادر الجيلاني، فسار ماشياً على قدميه فزار الضريح وقرأ عنده ما تيسّر من القرآن، وعاد الى طرابلس ماشياً، وروى له الشيخ يوسف النبهاني عشرات الكرامات في كتابه”جامع كرامات الأولياء”. وعنه ينقل الشيخ محمد كامل البابا في كتابه الخاص بعنوان “كرامات الشيخ علي العمري” ، ومن ذلك: مداواة رجل مريض بإطلاق الرصاص عليه وشفاؤه في الحال، وحمله حصاناً والصعود به 74 درجة.

وإملاء كيس فارغ بالنقود أمام جمع غفير، وتحويل قطرات من ماء البحر الى دراهم، وضرب الجدار بالقدح والتصاقه به، وحلق شعر إنسان بعود صغير من القش، وفتح الأبواب المقفلة بالحديد بمجرد لمسها، وإحضار فاكهة الشتاء بالصيف وفاكهة الصيف بالشتاء، وكتابته العربية والفارسية وهو أمي لم يتعلم الكتابة في حياته، وقوته وهو في التسعين من عمره بحيث لم يستطع اثنان من اقوياء المدينة أن يحركاه من مكانه وكأنه صخرة عظيمة.

أكتسب محبة الناس واحترامهم على إختلاف طوائفهم، وكان موقراً من الكبار والصغار، وإذا خرج من بيته خف اليه الناس مسلمين ونصارى لتقبيل يديه وخدمته والتبرك به.

كانت كلمته مسموعة مطاعة لدى كبار المسؤولين في بلده يسرعون لتلبية طلباته بمجرد الإشارة مع كرمه الزائد وجوده على الفقراء والمحتاجين، وكان ينفق مما يضعه زائروه تحت سجادته من غير حساب، وعندما مات لم يترك شيئاً يذكر من المال رغم كثرة العطايا التي كانت تأتيه.

وعندما شيّع جثمانه الى مقبرته المعروفة باسمه في ظاهر باب التبانة مشى جميع أهل طرابلس من مسلمين ونصارى خلف نعشه يبكونه ويودعونه بالدموع.

لقد كان الشيخ علي العمري رحمه الله، ملء السمع والبصر في حياته وبعد مماته لعدة عقود، والناس تتداول كراماته ومناقبه وأعماله الخارقة، حتى نوه به الباحثان رفيق التميمي ومحمد بهجة في كتابهما الشهير “ولاية بيروت” بل تحدث عنه العالم الجليل الشيخ “محمد رشيد رضا” في كتابه “المنار والأزهر”.

وبجوار ضريح الشيخ العمري دفن علامة طرابلس في عصره الشيخ محمد بن إبراهيم الحسيني الطرابلسي السندروسي، المتوفى سنة 1359هـ/ 1940 م.

 

 

Categories
من علماء طرابلس

الشيخ كمال الدين الادهمي

الشيخ كمال الدين الادهمي

 

الأستاذ معتز مطرجي

 

      كان الشيخ الوقور كمال الادهمي منهوماً بقراءة القرآن، يحفظه ويقيم حدوده، تتلمذ على يد نخبة من علماء طرابلس، فأخذ عنهم العلوم الشرعية والعقلية، انكب على الدرس والمطالعة وأولع بلغة الضاد، فغرف من ينابيعها ولم يرتو، نظم الشعر وبرع فيه، وجارى كبار الشعراء، فخمّس لامية ابن الورى، أرخ لشيوخ الفيحاء الذين عاصرهم، اجتهد بالتأليف حتى بلغت كتبه الخمسين، وصفه استاذه العلامة الشيخ عبد الكريم عويضة رحمه الله واعتبره احد النوابغ. نصبوه خطيباً لأكبر جوامع الاستانة ومدرساً للغة العربية في مدارس دار الخلافة باستنبول.

هو ابو عبد الرحيم محمد كمال الدين ابن الحاج محمد بن عبد القادر علي الحسيني الادهمي، ولد في طرابلس سنة 1878 م ، ودخل المدارس التي كانت قائمة في ذلك الحين، فتعلم فيها ما كان يدرس من علوم وفنون ولغات، وقرأ على مدرسي الجامع المنصوري الكبير لا سيما العلامتين الشيخ عبد الكريم عويضة والشيخ عبد اللطيف نشابة، وقرأ على غيرهم في طرابلس والبصرة ومكة واستنبول والقاهرة، ثم دخل سلك التعليم في الدولة العثمانية وكان مدرساً في المدارس السلطانية، وانتدب عضواً في عدة لجان بوزارة المعارف، وعندما تبدل شكل الحكومة العثمانية وجاء كمال اتاتورك جردوه من مناصبه وأداروا له ظهر المجن، واخرجوه من الاراضي التركية تعصباً لانتمائه العربي، فهضموا حقوقه وضيعوا عليه خدمة خمس عشرة سنة.

عاد الى طرابلس وعيّن اماماً في جامع التل واشتهر بإطالته في صلاة العشاء فأرسل اليه استاذه الشيخ عويضة هذه الابيات:

وقالوا: كمال قد أطال صلاته صلاة العشا بالناس في جامع التل

فقلت لهم: حاشا يطيل زيادة على قدر ما قد صح عن اشرف الرسل

فأمَّ وخفف يا كمال مراعياً فذلك عنوان على الفضل والعقل

وقد أجابه الشيخ كمال بأبيات لم نقف عليها كما ذكر الدكتور عمر تدمري في موسوعته.

سافر الشيخ كمال الى مصر سنة 1925 واستخدمته الحكومة المصرية في قسم المحفوظات التاريخية بديوان جلالة ملك مصر والسودان، ومنح الجنسية المصرية بعد عشر سنوات.

وعلى ضوء بصره المودع في مشكاة قلبه، اضطر الى الاقلال من مخالطته للناس إلاما تدعو الحاجة اليه، وقد استفادت المكتبة الاسلامية من عزلته هذه فيما ألف من جملة من الكتب الكثيرة في مختلف المواضيع ولسان حاله يقول:

حال الفتى لا يلزم اختباره

إن الجواد عينه فراره

وفي تخميسة جارى فيها أمير الشعراء أحمد شوقي والشيخ عبد الغني الرافعي عندما حاكا ميمية الشاعر المصري البوصيري الذي اشتهر بقصيدة البردى، فخمس مترجماً قائلاً:

أما والهوى لولا لهيبٌ بأضلعي

يثور ولا تطفيه زفرات أدمعي

لما كنت الا في المحبة مدّعي

ولا كان وجدي وجدَ صبَّ مُولّعِ

وفي تقريظ لاحد كتب الشيخ كمال، نظم ابو المعالي الشيخ عبد الكريم عويضة هذه الابيات:

قد قام تلميذنا عنا باحسن ما

نقوم نحن به من خدمة الدين

وفي الدعاية للقرآن ما طلبت

من الاجادة في جمعٍ وتبيين

فجاء نوراً على نور مؤلفه

هذا بما فيه من درسٍ وتلقين

فإننا في اشد الاحتياج له

لا سيما صاح في ذا الوقت والحين

جزى الاله كمال الدين مكرمة

له بها خير تثبيت وتمكين

وذكر الدكتور هشام نشابة في مجلة تاريخ العرب والعالم في معرض بحثه “طرابلس مدينة الآثار والعلماء” ان لديه مخطوطة يحفظها للشيخ كمال يترجم فيها عشرين عالماً عاصرهم وتلقى العلم عنهم، ويتابع فيقول: هو خير من أرخ لعلماء طرابلس.

رحل كمال الادهمي سنة 1951 في القاهرة بعد ان قضى خمس عشرة سنة تاركاً وراءه كماً ثميناً من الابحاث والتوجيه في الوعظ والارشاد تترجم عن قدر علمه وتعبر عن درجة معرفته وفرغ فيها وسعه واجتهاده.

لقد تأصل مترجمنا في طرابلس وعانق الاستانة وشغف حباً بالقاهرة، انه عابر في الحياة ظمئ للعلم.

 

 

Categories
من علماء طرابلس

الشيخ عبد الحميد الخطيب

الشيخ عبد الحميد الخطيب

 

الأستاذ معتز مطرجي

 

   الخطيب في اللغة إمام الجامع الذي يقوم بالخطابة فيه، والخطابة فن ادبي نثري غايته التأثير والاقناع، وللشيخ عبد الحميد الخطيب اسم على مسمى.

كان إماماً في علوم اللغة والدين، عُرف بفصاحة اللسان وبلاغة البيان، ومنطق الكلام الحسن، هو الحجّاج بمعنى صاحب الحجّة القوية والوضوح في اظهار المقصود، يُفصح لسانه عن كُنه ما في قلبه، وجاء في الحديث الشريف: إن من البيان لسحراً، ويعني ان بعض البيان يعمل عمل السحر لشدة فعله في سامعه وسرعة قبول القلب له كما جاء في لسان العرب. وقديماً قيل: أعطوني لسان خطيب واحد وخذوا ألف مقاتل، ومترجمنا كان من الفهم والذكاء ما جعله يتمتع بكل هذه الصفات.

الى جانب ذلك ذكرت المصادر التاريخية انه كان ذا عقل راجح وأخلاق سمحة وعلم غزير،سريع الخاطر في نظم الشعر، لا يتكلف ولا يتصنع في أجواء من العفوية الجذابة، ازهري الدراسة صوفي شاذلي الطريقة، وصفه العلامة الشيخ حسين الجسر بالمرشد الكامل وبمربي المريدين في مشيخة سجادة علي أبو الحسن الشاذلي الذي ينتهي نسبه الى الحسن بن علي بن ابي طالب رضي الله عنهم. ولد عبدالحميد أبن الشيخ يوسف بن اسماعيل الخطيب في طرابلس سنة 1848، وأخذ علومه الأولى على مشايخها، ثم توجه الى الأزهر الشريف حيث أتم دراسته في علوم اللغة والفقه، وعاد الى مسقط رأسه ليقيم حلقات التدريس حيث تخرج على يده كثيرون أصبحوا فيما بعد من العلماء ومن أصحاب المناصب الدينية في المدينة منهم اخوه الشيخ محي الدين الخطيب الذي تولى التدريس والخطابة في جامع الاويسية القريب من قلعة طرابلس.

ويروى أن محمد باشا المحمد قام بإنشاء مكتبة ومدرسة في قرية مشحة العكارية تعزيزاً لنشر دور العلم والتربية، فنظم قصيدة في مدحه، هذا مطلعها:

أماناً فارس العليا الأمانْ

جوادك لا يرد له عنان

اذا جردت ماضي العزم يوماً

فما أحد يقوم له سنان

ملكت الفضل في جدٍّ وجد

فَخَرْتَ السبْق في يوم الرهان

وكم مشكاة فكرك قد أضاءت

فاظهرت الحقائق للعيان

خيال الوهم ليس له مجال

بآراءٍ بكم يوم الطعان

روى عن خلقكم زهر الروابي

كما روت البحار عن الجُمان

ومنها:

بناء تم مبناه وفيه

صباح الفتح للطلاب بان

وداعي اليمن أرّخه لبر

محمد المحمّد خير بان

وله آثار أدبية واشعار رقيقة كما ذكر المؤرخ الدكتور عمر تدمري في موسوعته

الاسلامية، منها تقريظ لكتاب الشيخ مصطفى وهيب البارودي كتبه شعراً سنه 1315 وعنوانه: “خلاصة البهجة في سيرة صادق اللهجة” منها:

منازل سعدى كم لها من طريقة

وأقربها وصلاً خلاصة بهجة

حوت سيرة المخصوص من فضل ربّه

بما لم يحزه غيره من خليقة

نبيّ على افعاله عكف الهدى

وفي محكم الآيات صادق لهجة

عليه صلاة ليس يدرك كُنهها

وآل كرام كل وقت ولحظة

 

 

 

Categories
من علماء طرابلس

المجاهدة عائشة البشناتية

المجاهدة عائشة البشناتية

 

الأستاذ معتز مطرجي

 

    هي القائدة الرائدة في المقاومة الطرابلسية، أخت الرجال في العزة والعنفوان، شخصية فريدة كما نطقت بها الروايات الصحيحة مستقاةً من الكتب النزيهة ذات الحيدة الامينة، التي رسمت لها صورة تتراءى لنا مشرقة زاهية.

فهي ليست بمجهولة المكانة لكن يجب ان تبحث عن أخبارها في كتب الأولين، لأن ما كتب عنها قليل نظراً لما قامت به من أدوار وأفعال، ولا يحتار الباحث عن تاريخها ليحكم لها او عليها، لان ما يقرأه يروقه وينجذب اليه.

لقد أحببت ان أخصص هذه الزاوية اليوم وأكتب عن هذه البطلة لحاجتنا الى أمثالها من النساء والرجال على السواء، لان ما آلت اليه أحوالنا مهين ومعيب ولا يشرفنا ان نكون أحياء في هذا العصر، فأين اليوم من الأمس؟

كانت عائشة البشناتية من أنبل القادة وأحشم النساء، مشهودة المواقف في البسالة والجرأة والإقدام، كان فيها اعتداد بنفسها كبير، وذكاء عظيم وحصافة، ومهارة وكياسة عالية، ذات غزو وإبلاء، وصاحبة عزم مُبيّت على الإقتصاص من الغاصبين، تتقدم كتائب الرجال وترسم الخطط دفاعاً وهجوماً، وبذلك صار إسمها المفزع المرعد لدى الاعداء المتربصين.

هي عائشة بنت حرب بن وليد من قبيلة بني ضُمره، المعروفة بالبشناتية نسبة الى بشناتا، القرية التي تقع في أعالي جبال الضنية، وبشناتا في اللغة كما يقول الدكتور أنيس فريحة محل الصخور الشاهقة المعلقة والقمم المسننّة، وضُمرة من القبائل العربية التي تعود بجذورها الى عدنان جد القبائل الشمالية، عاش قسم منها في أريحا بفلسطين ومنهم الاديب القاصّ يوسف ابو ضمرة.

ولدت في طرابلس وعاشت في القرن الثالث عشر أيام حكم المماليك كانت تلبس ملابس الرجال وتتقلد السلاح وتركب الخيل، وتقصد الساحل لقطع الطريق على قوات الفرنجة، ويوماً خرجت للتصدي للأعداء أثناء حصارهم الظاهرية او الزاهرية في طرابلس واشتبكت معهم وقتلت مئتي جندي منهم في الطريق المعروفة اليوم بشارع المئتين. وذكر المؤرخ الدكتور عمر تدمري ان ضريح عائشة البشناتية كان يتخذ مزاراً ومتنزهاً لأهل طرابلس حيث يقع بظاهر المدينة في حارة النصارى، وقد أزيل في النصف الأول من هذا القرن وضمت أرضه الى مدرسة الطليان. اما المؤرخ الشيخ كامل البابا فيقول: “ان عائشة كانت حارسة لباب البلد الذي كان بقرب قبرها الى جانب سبعة من الشهداء، ولها ذكر بالتاريخ عظيم ووقائع مع الافرنج تكاد لا تصدق، يعاونها أخوها حسن، وقلعتها بقرب بشناتا لم تزل قائمة، وقد مثلت مهاجمتها لقلعة طرابلس بالسينما لبضعة سنين خلت”.

ويروى ان الشيخ عبد الكريم عويضة جلس قرب ضريح عائشة يبكي نحيباً عندما همّ العمال بهدم مقامها بغية إحداث بناء جديد لمالكيه الجدد. ورد اسم عائشة البشناتية في السيرة الشعبية للملك الظاهر بيبرس الذي اشتهر بحروبه ضد الفرنجة والمغول، والذي أسر لويس التاسع في معركة المنصورة، وزعمت بعض المصادر ان بيبرس قبل رجوعه الى مصر وانتهاء حصاره لطرابلس تزوج من الأميرة عائشة.

وجاء في أخبار التاريخ ان شقيقها حسن البشناتي طارد البرنس بوهيمند السادس امير طرابلس في الممر القائم بين القلعة وزقاق الرمانة وأمسك به وضرب عنقه وجاء برأسه على درعه وقدمه الى الظاهر بيبرس، وكان ذلك في 8 شباط من العام 1274م.

عائشة البشناتية، أحبها العامة، لمكانتها النضالية، لأنها كانت تنازل من رَفَعَ الراية غاصباً وشهر السيف محتلاً، وما كانت تخرج للقتال لتكثر مالاً وتبني جاهاً، وإنما خرجت للدفاع عن المقدسات واسترجاع حق مغتصب، كانت ذات كرّ وفرّ، وهذا أمر محبب الى نفسها حيث تشم غبار المعارك وتعدّها مجال الفوز دنيا وآخره.

فلنتخذ سيرتها منارة تضيء طريقنا.

Categories
من علماء طرابلس

الشيخ عبد اللطيف نشابة

الشيخ عبد اللطيف نشابة

 

الأستاذ معتز مطرجي

 

       علم من الاعلام، له قدم راسخة في شتى العلوم، فقيه ناصح، محدث لبق وخطيب مفوه، اديب وشاعر ، نظم الشعر على مختلف الضروب، ودوّن قصائده في ديوان مخطوط، حفظ القرآن الكريم في وقت مبكر.

وصفه معاصروه بصاحب الاخلاق العالية، والقيم الرفيعة، والتواضع الجمّ، وكانت سيرته على نمط السلف الصالح، كما كان صبيح الوجه، حنطي اللون، معتدل القامة، يضع على رأسه عمامة بيضاء.

ولد عبد اللطيف بن محمود عبد الدائم نشّابة في طرابلس سنة 1825م على وجه التقريب، وعاش بكنف ابيه الشيخ محمود عبد الدائم العالم الجليل الذي تتلمذ على يديه في دروسه الأولى، ثم ارسله الى الأزهر الشريف لمتابعة دراسته في كافة العلوم. وآل نشابه من العائلات الطرابلسية المعروفة، كانت في الأصل تنسب الى الجدّ الشيخ عبد الدائم، ثم اشتهرت بالاسم الذي تعرف به الآن: نشّابه، لأسباب من الجدير ذكرها، فقد كان جدّ صاحب الترجمة وكيلاً للأزهرالشريف، وكانت ترد عليه الاسئلة الدينية والدنيوية بكثرة، ويجيب السائل بسرعة البرق كالنشاب من غير تلكؤ أو ابطاء، فاطلقوا عليه لقب ( نشّابه)، وعائلة عبد الدائم نشابه حسينية الأصول كما ذكر المؤرخ الدكتور عمر تدمري.

بعد عودته من الأزهر الشريف ووفاة ابيه تولى التدريس في الجامع المنصوري بموجب قرار من السلطات العثمانية ، وعيّن في الوقت نفسه مفتشاً في المعارف بطرابلس وجوارها، وكان ذلك في عهد المتصرف عزمي بك الذي بنى المستشفى على رابية ابي سمراء والتي تستخدم الآن مأوى للعجزة والمسنين، وهو الذي أمر بشق الشارع العامر المعروف باسمه.

لمترجمنا تقريظ على قصيدة ” نزهة العقول” للشيخ عبدالقادر الادهمي الحسيني قال فيه:

هذي جواهر آثار منظمة            قد صاغها للبرايا جوهر الكلم

ونزهة لعقول الهائمين لل           ذكرى معالم طه سيد الامم

هذا النظام نظام الادهمي ولا        نظام من هام في وعد وفي قثم

حباه مولاه ما يرجوه من املٍ       دنيا وأخرى لما يبديه من حكم

بجاه طه واصحاب وعترته        اهل الهدى والعلا والمجد والكرم

عليه أوفى صلاة الله دائمة          طول المدى مع سلام وافرالعظم

 

ومن الذي درسوا عليه عدد وافر من العلماء ومنهم :

الشيخ جميل عدره، الشيخ خالد العمادي، الشيخ لبيب مراد، والشيخ عبد الرحمن عاصم رضا، وكان من خواص تلاميذه الحاج حسني اديب عبد الواحد. وفي موسوعة علماء المسلمين للدكتور تدمري ذكرعن مترجمنا ما يلي:

“جاء على شاهد ضريحه انه توفي في 20 ربيع الثاني سنة 1315 هـ وكتب عليه: هذا مقام العالم الجليل العارف بالله تعالى سيدي عبد اللطيف ابن الشيخ محمود عبدالدائم الشهير بنشابه، قدس الله روحه ونوّر ضريحه، وكتب هذه الأبيات:
كنت عبد اللطيف في الفيحاء

قمر العلم كامل الاضواء

كنت يا ابن المحمود قولاً وفعلاً في بنيها نشّابة العلماء

قد ورثت العلوم عنه وحقاً

كان في العلم وارث الانبياء

وبك الجامع الكبير تباهى

وهو يثني عليك خير ثناء

قلت مذ فزت بالمكارم أرّخ

حاز عبد اللطيف اهنى الرضاء

توفي الشيخ عبد اللطيف سنة1897 م

وجرى له تشييع كبير عبّر فيه طلابه ومحبوه عن تقديرهم له، وكرمته الدوله العثمانيه باحتفال ضخم، كما رثاه كبار العلماء كالشيخ ابي المحاسن القاوقجي والشيخ عبد الكريم عويضة وغيرهما. رحمهم الله جميعاً.

 

Categories
من علماء طرابلس

أحمد مرحبا وسينما “حلوان بلاس” بطرابلس

أحمد مرحبا وسينما “حلوان بلاس” بطرابلس

الدكتور عمر تدمري

 بدأ إنتاج الأفلام الناطقة، ووصل إلى طرابلس أول فيلم إلى سينما “حلوان بلاس” بصحبة مهندس فني فرنسي، أقام بطرابلس بضعة أيام كان يدير فيها آلة العرض، ثم سافر إلى بلده. وكان الشاب النبيه أحمد مرحبا لم يبلغ الخامسة والعشرين من عمره (ولد سنة 1909) يتردد إلى تلك الدار لمشاهدة الفيلم مع غيره من أبناء البلد. وفي اليوم التالي لسفر المهندس الفرنسي امتلأت قاعة السينما بالرواد، وحان موعد عرض الفيلم، ففوجئ الجميع بأن أحداً لا يعرف إدارة آلة العرض، وحصل هرج ومرج في القاعة، وطال الانتظار، وارتفع صوت الجمهور الغاضب، وكاد الغاضبون أن يحطموا المقاعد، حتى اضطر صاحب الدار إلى ردّ ثمن تذاكر الدخول لأصحابها، وتكرر الأمر نفسه في اليوم التالي، وامتد الحال إلى أيام أخرى. وكان صاحب الدار يتميز غيظاً لما يتعرض له من خسارة مالية، ولعدم معرفته بكيفية إدارة آله العرض. وفيما كان على ذلك الحال أتاه الشاب الألمعي وطلب منه أن يسمح له برؤية آلة العرض علّه يعرف كيف تعمل، فانتهره صاحب الدار أولاً وأبدى استهجانه واعتقد أنه يستهزئ به وهو في شدة غليانه من الغيظ، ثم تردد في أن يسمح له بذلك بعد إلحاحه، ولم يجد حلاً لمعضلته سوى النزول عند طلب الشاب، وسمح له بالدخول إلى غرفة العرض، وراح الشاب يتفحص الجهاز ويمعن النظر والفكر فيه لبعض الوقت، وتوصل بذكائه إلى معرفة سر الآلة وأدارها بنجاح وسط ذهول صاحب السينما ودهشته، وكاد يطير من الفرحة حيث بات بإمكانه تعويض خسائره، ولكن كان عليه أن يضمن وجود هذا الشاب عند كل عرض ليتولى إدارة الفيلم، وهنا كان لا بد من إجراء عقد بين الطرفين، وبعد التفاوض جرى تحرير عقد يتعهد فيه الشاب “أحمد مرحبا” بتشغيل آلة السينما في المواعيد التي تعينها له إدارة السينما، ولا يحق له أن يعمل عند غيره مدة سنة كاملة. بدءاً من اول نيسان 1933، على أن يدفع صاحب الدار له مبلغ 20 ليرة سورية في الشهر. وتضمن العقد بنوداً جزائية بحق الطرفين، وكفالة فريق ثالث.
فكان الفريق الأول يتمثل بالحاج عوض طبيعات مدير إدارة سينما حلوان بلاس.

والفريق الثاني هو أحمد عبد القادر مرحبا.

والفريق الثالث هو الكفيل عبد اللطيف جندح التاجر الطرابلسي.

وبعد إتمام العقد كلّف مدير السينما عوض طبيعات منادياً يدور في أسواق طرابلس وشوارعها معلناً عن موعد العرض الجديد للسينما بعد توقفها. وفي اليوم المحدد امتلأت القاعة بالمشاهدين، وما إن بدأ العرض حتى ضجّت السينما بالتصفيق والهتاف، وانفرجت أسارير مديرها وغمرته الفرحة، وأثبت أحمد مرحبا ابن طرابلس أنه واحد من ثلة شبابها النابهين وعباقرتها الأفذاذ الذين تفاخر بهم مدى الأجيال والعصور.

 

 

Categories
من علماء طرابلس

الشيخ محمود منقارة

الشيخ محمود منقارة

 

 

الأستاذ معتز مطرجي

 

    هو واحد من هؤلاء الشيوخ الكبار ورجال الدين الكبار، الذين عملوا سنين في خدمة الشرع الشريف وسط أبناء الفيحاء، ومع إختلاف العهود خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وأوائل القرن العشرين، لم يلتفت أحد الى حفظ تراث هؤلاء الرجال كاملاً، اللهم إلا من محاولات فردية خجولة لقلة من أبناء هؤلاء العلماء، هذا التراث الذي هو ثمرة جهد فكري في البحث والعطاء لمدينة العلم والعلماء.

ولا أغالي إذا قلت ان الشيخ محمود رجل دين شمولي في علمه وفكره كما في سلوكه وحياته، ثابر وتسامى وسار في طريق الحقيقة ووصل، وغلبت إجتهاداته الفقهية على ما عداها، الى جانب مساهماته الأدبية والاجتماعية، واشتراكه مع علماء عصره في محاولة بناء الانسان المسلم على أسس روحية سليمة، وذلك بالرجوع الى الأصول والمناهل، في حين أخفق العالم الآخر في هذا المضمار لإعتماده على البناء المادي للانسان وإهمال الروحي.

وفي رحلة قام بها الأديب المصري محمد عبد الجواد القاياتي الى طرابلس سنة 1885 يقول في كتابه “نفحة البشام في رحلة الشام” ما يلي: وجاءنا للسلام جملة من العلماء الاعلام والامراء الفخام منهم: الشيخ حسين أفندي الجسر، نجل العالم العامل والولي الواصل الشيخ محمد الجسر الذي اشتهر في البلاد الشامية بالكرامات الواضحة والاعمال الصالحة الى ان يقول: وكذلك حضرنا مجلس الذكر في بيت الشيخ عبد الرزاق أمام ضريح والده الشيخ محمود الرافعي، ومنهم المرشد الشهير والاستاذ الكبير أستاذنا الشيخ محمد القاوقجي، فإنه تنزل وجاءنا زائراً على ضعف قواه وعظم تقواه وتقدمه في السن وبعد منزله، ومنهم الشيخ محمود منقارة وأخوه، وهما من أهل العلم والفضل مشتغلان بالقراءة والتعليم في مدرسة من مدارس البلدة العامرة بالعلماء والطلبة، فإن مدارس طرابلس بالنسبة لغيرها من باقي مدن الشام ما عدا دمشق، معمورة مأهولة بأهل العلم، فترى غالبهم مختصاً بمدرسة لجلوسه وقراءته وتعليمه واجتماعه على إخوانه وأفدانه زيادة على اشتراكه مع أهل العلم في الجامع الكبير. وممن زارنا من أعيان طرابلس حسن أفندي كرامه أخو مفتي أفندي طرابلس حالاً.
ويذكر المؤرخ الدكتور عمر تدمري في كتابه آثار طرابلس الاسلامية ما يلي: اتخذ الشيخ محمود الصايغ دكاناً صغيراً في سوق العطارين، كان مجمعاً علمياً يتردد عليه علماء طرابلس ومفتيها وشيوخها حتى صار منتدى لهم، وكان الدكان يضيق بالشيوخ الذين تجمعهم المحبة للحاج محمود ومنهم الشيخ محمود منقارة الذي كان ضخم الجسم، يأتي من التبانة الى دكان الصايغ وهو يتصبب عرقاً في الصيف، فيجد الدكان وقد أغلق بشبكة من الخيطان مما يدل على عدم وجود صاحبه فيسرع الجيران ويرفعون ليدخل الشيخ ويجلس، وكانت كل المحلات عندما يغيب اصحابها يستعملون هذه الشبكة الخفيفة البسيطة، وهذا ان دل على شيء فإنه يدل على الامان والثقة.
ولد الشيخ محمود عبد القادر منقارة في طرابلس، ولم يؤرخ أحدٌ لسنة ولادته، ولكن معاصريه يقولون أنه عاش أكثر من مئة سنة، وكانت وفاته سنة 1932. تلقى علومه على يد الشيخ محمود نشابه ثم إلتحق بالأزهر الشريف وبرع بعلم الفقه، وتولى الإمامة والتدريس في جامع العطار، وكان من طلابه ابن خالته الشيخ محي الدين الخطيب وغيره.
ومترجمنا ينتمي الى أسرة منقارة المعروفة التي تعود بأصولها الى آل العطار في دمشق وقدوم جدهم الأعلى كان في القرن السادس عشر. ويقول معالي الدكتور سامي منقارة أنهم جاؤوا من بلدة قارة قرب النبك بين حمص ودمشق ودمجت (من) مع (قاره) فكانت منقاره، وكان الحاج عبد الله أول من قدم طرابلس يتعاطى التجارة، وأعجبته المدينة فسكن فيها وتزوج فتاة طرابلسية وتلبسه اللقب، في حين ان سميه أحمد سامي منقارة وهو الجد الأقرب كان محافظاً لجزيرة أرواد زمن العثمانيين وأصيب بالملاريا وتوفي ودفن هناك.

رحم الله الشيخ محمود الذي ترك لنا زاداً أخلاقياً كبيراً، فقد كان يؤمن بأن الدين حسن المعاملة، وكل من عرف الشيخ الفاضل يفاخر بهذه المعرفة، وأهل طرابلس كانوا يفخرون بأبنهم وشيخهم وبانتمائه الى هذا البلد.

 

Categories
من علماء طرابلس

الشيخ منير الملك

الشيخ منير ملك 

الأستاذ معتز مطرجي

 

    من أحاديث العرب: لا حسد إلا في اثنين، رجل آتاه الله القرآن، فهو يتلوه آناء الليل والنهار، ورجل آتاه الله ملكة الخطابة وفصاحة اللسان ويعظ في الناس.

ومن الأقوال المأثورة: رحم الله عبداً قصر من لفظه، ورشق الأرض بلحظة، ووعى القول بحفظه.

والشيخ منير رحمه الله هو من هؤلاء الرجال، الذي اتصف بهذه الصفات.

لقد نضجت ثقافة مترجمنا الدينية والأدبية في ظل المجالس التي كان يحضرها في الجامع المنصوري الكبير لا سيما مجالس العلامة الشيخ محمد ابراهيم الحسيني، بحيث غدت واحات فكرية وأدبية ومدارس يتثقف فيها طالب العلم، ويتهذب فيها من رغب، وتشتد فيها عناية من يشترك، فيعظم حظه في المعرفة ويزداد علمه سعة وعمقاً. وكان لتلك المجالس تأثيراتها البالغة والمهمة.

الشيخ منير الملك، رجل الدين العالم، والأديب النثري الناظم، والصوفي التقي الذاكر، والخطيب البليغ صاحب البيان، والصحافي الناقد اللاذع، ورجل الشهامة والإغاثة والأخلاق.

ولد في طرابلس سنة 1884 وأخذ العلم عن مشايخها وقصد عاصمة الخلافة العثمانية وهو في العشرين من عمره لدراسة الحقوق، ومكث فيها ثلاث سنوات، عاد بعدها إلى طرابلس لممارسة مهنة المحاماة، ثم أصدر جريدة “المدلل” لتكون منبراً لآرائه في شؤون الإصلاح الديني والاجتماعي والسياسي، وقد انتشرت انتشاراً واسعاً خصوصاً بعد تصديه للعلامة الشيخ عبد القادر المغربي، وشن الحملات العنيفة عليه لدعوته إلى سفور المرأة، متابعاً في ذلك خطى قاسم أمين في مصر ولمعارضته لسياسة السلطان عبد الحميد.

شارك مترجمنا في الحياة السياسية قبل الحرب العالمية الأولى وكان في صلب الأحداث العامة، فلما أعلن الفرنسيون دولة لبنان الكبير عارض بشدة انضمام طرابلس اليها وطالب بالالتحاق بالوحدة السورية في عريضة وجهها بتاريخ 14 أيار 1913 إلى رئيس المجلس النيابي يوسف نمور بإسم “الأمة الطرابلسية” تحمل توقيعه وتواقيع ثلاثة من وجهاء طرابلس هم: حسين عويضة، أحمد الرافعي وعبد اللطيف سلطان، حسبما جاء في وثائق المؤتمر العربي الأول سنة 1913. وبعد الحرب ترك المحاماة والصحافة وعُيّن مديراً للأحوال الشخصية في عكار وصافيتا، ثم نائباً للإفتاء في طرابلس، ورئيساً للمجلسين العلمي والإداري لأوقاف طرابلس الإسلامية، وإماماً للجامع الكبير في الميناء، وقد اتخذ من هذا الجامع زاوية للطريقة المولوية التي نال الإجازة فيها، فكان يربي المريدين ويشرف على حلقات الذكر التي كانت تقام في الجامع، ولعل أشهر هذه الحلقات هي التي كانت تقام في السابع والعشرين من شهر رمضان، حيث يصادف ليلة القدر، وهي ذكرى نزول الوحي على الرسول الكريم، عليه أفضل الصلاة والتسليم، كما جاء في موسوعة علماء المسلمين للمؤرخ الدكتور عمر تدمري.

لقد تأصل شيخنا في فن الكتابة والخطابة، ويُذكر أنه أنشأ بعض الخطب وهو في مقتبل العمر، وكان كلامه فيها لا يخلو من الجزالة والصفاء في شيء، وتحدث معاصروه عنه وأفردوا الصفحات، وأهم ما يمكن أن يطالعنا في خطبه أنها كانت خطباً إرشادية تعليمية تثقيفية، نحا في صياغته وأسلوبه نحو من سبقه إلى هذا الفن الذي كان شائعاً معروفاً في عصور الازدهار وغدا فيه متألقاً، وكان يشعرنا أدبه أنه ذو قدرة في تأليف معانيه واختيار ألفاظه وفي التوصّل إلى أهدافه.

في سنة 1947 توفي الشيخ محمد منير الملك، عن عمر ناهز الثالثة والستين، وكان يوم وفاته مشهوداً في تاريخ طرابلس والميناء، فأقفلت المتاجر والمعاهد والمدارس أبوابها، وأقيم له مأتم حاشد وجنازة لم تشهد طرابلس مثيلاً لها، وتبارى الخطباء في رثائه، وفي مقدمتهم سماحة الشيخ عبد القادر عويضة الذي نظم هذه الأبيات وأرّخ بحساب الأرقام الشعرية (الجُمَل):

فُجع الإسلام بالبدر المنير ملك الإرشاد والفضل الكبيرْ

من به الفيحاء والمينا معاً بهُداه حازتا الخير الكثيرْ

طُرُق القوم عليه قد بكت وهو شيخ الكل بالدمع الغزيرْ

سارت الأملاك في مشهده ومشى فيه أمير ووزيرْ

وجنات الخُلد من تاريخه في سماها أشرق البدر المنيرْ

إن أقل ما يقال في الشيخ الجليل، هو أنه شغل أذهان العامة كما شغل أذهان

رجال الدين والعلم في وقته، لأنه كان يخاطب المشاعر والأفكار والقلوب

والعقول، ويصل إلى كل نقطة تفكير أو بقعة إحساس في الإنسان. رحمه الله

 

 

 

 

 

 

 

Categories
من علماء طرابلس

الشيخ محمد أمين عز الدين

الشيخ محمد أمين عز الدين

 

الأستاذ معتز مطرجي

 

   من الأقوال المأثورة: أن الإنسان لا يصير عالماً إلا بخمس: غريزة محتملة للعلم، وعناية تامة، وكفاية قائمة، واستنباط صحيح، ومعلم فصيح.

   وقد جمع مترجمُنا كل هذه الصفات وغدا مرجعاً للكثير من الأئمة ورجال الدين، فهو العلاّمة المحقق، والبحّاثة المدقِّق، والحافظ المحدث، الضليع في الفقه، البليغ في اللغة، المجيد في الشعر، المتحلّل من القيود، المتملّص من الأغلال ضمن النصوص الصريحة، والسنن الصحيحة، فتفتّح على الحياة الحديثة حتى وصفوه بالشيخ حسين الجسر، الذي أخذ عنه وانتفع بصحبته، وكان رحمه الله الى جانب ذلك يجيد لغته الأم مع اللغتين التركية والفرنسية.
ولد محمد أمين بن ابراهيم عز الدين في طرابلس، سنة 1874 ونشأ فيها، وتلقى علومه الدينية واللغوية على الشيخ محي الدين الخطيب، ثم دخل المدرسة الوطنية التي أسسها الشيخ حسين الجسر بتمويل من الثري غنوم آغا الضناوي، وعندما لمس أستاذُه النبوغ المبكر والألمعية الظاهرة، طلب من والده إرساله الى عاصمة الخلافة لدراسة الحقوق، فغادر الى الإستانة مصحوباً بتوصية من الشيخ الجسر الى شيخ الإسلام في استانبول، فأكرم هذا وفادته وأحسن رعايته، وخصص له منحة شهرية مقدارها خمس ليرات عثمانية، تقديراً وتشجيعاً له، كواحد من الأوائل في العلوم الدينية وخصوصاً في الفقه.

بعد تخرّجه من كلية الحقوق، عاد الى طرابلس ليفتح مكتب محاماة إستمر فيه الى أن تولّى منصب القضاء في أوائل عهد الإنتداب عام 1920، فكان أول قاضٍ طرابلسي بعد رحيل آخر قاضٍ تركي إنسحب مع من إنسحبوا من الموظفين الأتراك قبل دخول الفرنسيين طرابلس، واستمر الشيخ أمين في منصبه قاضياً حتى سنة 1936، حين تولى زمام القضاء الشرعي، الشيخ نديم الجسر، وقد تعاون الشيخ أمين خلال عمله، محامياً ثم قاضياً مع الشيخ محمد يمن الجسر رئيس مجلس الشيوخ اللبناني، ثم مجلس النواب والمرشح القوي لرئاسة الجمهورية، وكان تعاونهما وثيقاً لخدمة أبناء المدينة.

زاول الشيخ أمين التدريس بالمدارس الرسمية، وفي الجامع المنصوري الكبير وبمسجد السيد عبد الواحد المكناسي، وكان درسه مشغولاً بتفسير القرآن الكريم بطريقة محبَّبة وسهلة، وكانت حلقة درسه تغصُّ بالمصلين وطلبة العلم، كما ذكر الأستاذ الدكتور عمر تدمري في موسوعته “علماء المسلمين”، وعمل خطيباً في جامع الأويسية، كما تولّى رئاسة الجمعية الخيرية الإسلامية حوالي العشرين سنة، ومن أهم منجزاته خلالها، إنشاء القسم الشرعي التابع للجمعية في كلية التربية والتعليم الاسلامية، وقد عزّز منهجه فأدخل تدريس العلوم العصرية واللغة الفرنسية.

ترك الشيخ أمين مجموعة من المؤلفات الدينية وقصائد كثيرة لم تُجمع في ديوان. من كتبه المطبوعة:

1 – الأمان في مولد سيد ولد عدنان.

2 – الأعمال والمصالح في أصول الأديان وشرائع العمران
ومن شعره الجيد هذا التخميس لقصيدة:

أنا واللهِ يا اخِلاّيا صبُّ ليس لي غير التواصل طِبُّ

بلّغوا الظاعنين أنّي مُحِبُّ عوّدوني الوصال والوصلُ عذبُ

ورموني بالصدّ والصَدُّ صعبُ

أتُراهم يدرون ما نابَ جسمي حين جَدّوا الثرى ومُعضَل سُقمي

يا بروحي أفديهمُ وبأُمي زعموا حين عاتبوا أنّ جُرحي

فرطُ حبي لهم وما ذاك ذنبُ

إن قلبي بهم شديد المراقي كاد بالحبّ أن يجُسَّ التراقي

هل يجوز الإعراض عن ذي اشتياقِ لا وحُسن الخضوع عند التلاقي

ما جزاءُ المحبّ إلا يُحَبُّ

مسيرة الشيخ محمد أمين عز الدين تلخِّص الحياة الدينية والاجتماعية في طرابلس، خلال نصف قرن، وفي أواخر عمره ضعف جسمُه واشتد ورعُه، وخفّ بصرُه وبقيت بصيرتُه، وكان قد سكن بيروت الى أن توفاه الله عام 1968 عن عمر يناهز الرابعة والتسعين.

Categories
من علماء طرابلس

الشيخ أنور المولوي

الشيخ أنور المولوي

الأستاذ معتز مطرجي

 

    مَنَحوه لقب صاحب الرشادة، والرشادة جمع رشاد، لكبر مهمته في إرشاد الناس والدعوة الى التمسك بالأصول والذود عن أهداب الدين، حمل تاج الصوفية، وملك ناصية المشيخة المولوية.

هو وريث مدرسة متصوفة أسسها في قونية التركية جلال الدين الرومي، أمدته تعلم المريدين والسالكين والإلمام بالتراث في ينابيعه الصافية، من هذه المدرسة خرج الشيخ أنور وتخرّج، فوظف كل ما تثقّفَه من معارف الصوفية في ريادته للطريقة المولوية.

كان رحمه الله عميق الإيمان، في داخله جذوة مشتعلة تجري وتبحث وتضيء الجهات، وفي نفسه تستغرق الأوراد والتضرعات والإبتهالات.

سكن في الأماكن المرتفعة بين الأشجار والأزهار وعرائش العنب، وعلى ضفة روافد قاديشا عندما كان لنهر أبي علي جمال مسراه البندقي تحت البيوت المملوكية القديمة، والتي وصفها علاّمة عصره الرحالة عبد الغني النابلسي كجنة النعيم وقال: “فيها من الماء اللطيف البارد الذي هو شفاء لكل قلب سقيم”، وسماها الرحالة الاوروبيون الذين زاروا طرابلس بتكية الدراويش.

ولد أنور بن فؤاد بن شاكر المولوي سنة 1901م ودرس على يد والده وعلى علماء الأسرة المولوية وعلى غيرهم كالشيخ عبد اللطيف العلمي والشيخ عبد الفتاح سلهب، وتنقّل في كتاتيب ومدارس المدينة، ليقضي بعدها فترة طويلة في مجاهدة النفس واتباع رياضة روحية مع مريدي الشيخ باقر جلبي شيخ تكية حلب ورئيس التكايا المولوية في العالم الاسلامي، فنال الإجازة في الطريقة وكان محط إعجاب مشايخه.

وعند وفاة شيخ التكية حسني المولوي سنة 1936 جرى تعيين الشيخ أنور، وأبلغ الشيخ باقرجلبي المفوض السامي الفرنسي بذلك وفقاً لقوانين التكايا المولوية، وصدر الأمر بالموافقة بتاريخ 11 أيار 1936، ولا يزال كتاب المفوضية العليا محفوظاً لدى أبناء الشيخ انور، وفي التاريخ عينه حصل الشيخ أنور على كتاب من دائرة الأوقاف الإسلامية يعهد اليه بتولي شؤون التكية المولوية بطرابلس واستلام أوقافها.

لقد إزدهرت المولوية أيام الشيخ أنور، وغصّ منزول التكية بالرواد من العلماء والأدباء ورجال السياسة، ونشط في إقامة حلقات الدرس والذكر بعد عصر كل يوم جمعة، ويذكر ان آخر حفل ذِكر جرى في عهد الشيخ أنور كان سنة 1948 بطلب من رئيس الحكومة وحضور أميرال البحرية البريطانية السيد هكسلي الذي صرّح بأن جده أوصاه بحضور حلقات المولوية، ويصف الشيخ محمد رشيد رضا في المنار إحدى حلقات الذكر التي حضرها، ورأى دراويش المولوية يلبسون الغلائل البيضاء الناصعة كجلابيب العرائس، يرقصون بها على نغمات الناي الشجية، ويدورون دوراناً فنياً سريعاً تنفرج به غلائلهم، فتكوّن دوائر متقاربة على أبعاد متناسبة، لا تطغى واحدة منها على الأخرى، ويمدون سواعدهم ويميلون أعناقهم ويمرون واحداً بعد آخر فيركعون لشيخهم ويقبّلون يده.

كان الشيخ انور كما كل مشايخ المولوية يلبس طربوشاً طويلاً من اللباد محاطاً بأسفله بشريط أخضر من القماش، يتدلى في نهايته حتى يصل طرفه الى الكتف، وكان يسمى هذا الطربوش (كولاه) ويعني طربوش الصوفية.

لقد نالت الفتلة المولوية وموسيقاها شهرة عالمية، يفد الى سماعها الناس من كل حدب وصوب، ذلك أن أكثر أصحاب الطرق الصوفية يرون ان حسن الصوت من صفات الكمال الإنساني، وأن النغمة الطيبة تروح عن القلوب المحترقة بنار محبة الإله، ويعتبرون ان للموسيقى تأثيراً سحرياً على النفس، فهي علاج لكثير من الأمراض، وهي وسيلة لترقيق الطباع، وكانوا يستعملون من الآلات الطربية الشبابة (الناي) ذلك ان صوت القصب في نظرتهم يوقظ في الانسان الهيام لأصله، ويستعمل أيضاً الدف وغيرها.