تراث طرابلس

Categories
من علماء طرابلس

الصحافي رهيف الحاج

الصحافي رهيف الحاج

 

 

الأستاذ معتز مطرجي

 

    ابن صاحبة الجلالة، عكاري الأصل، طرابلسي المولد، نشأ وترعرع تحت سماء الفيحاء الصافية، وتفتحت عيناه على بلد الايمان والعروبة، كان رحمه الله يملك املاً وثاباً ويحمل احلام الشباب تحفزه عزيمة وارادة، عصامي فذ، بنى نفسه بنفسه واوجد كيانه الصحافي والاجتماعي بحنكته ورويته، دمث الاخلاق، شخصيته محببة للناس يلمسون في نفسه نزعات انسانية متألقة تكشف عن ارق خلجاتها والوانها، وعلى وجهه تشعر باطمئنان داخلي ينم عن سريرته الشفافة.

كان يقدس روابط الزمالة ويحترمها، ويرى أن من واجب الصحفيين أن يكونوا متحابين غير متنافرين يعملون في خدمة صاحبة الجلالة، وهي خدمة المجتمع والوطن بصدق وأمانه وجرأة باعتبار أن الصحافة سجل لا يُمحى من ذاكرة التاريخ لأنها شاهد على مدى الأوقات والأزمان ومراقب للوقائع والأحداث وهي احدى الوسائل التي سيطرت على عقول الرأي العام.

ولد محمد رهيف ابن الشيخ علي الحاج في طرابلس سنة 1914 في أحد الأسواق القديمة بمنطقة السويقة ورقم سجله 156، وأصوله من قرية الحاج بعكار.

درس بكتاتيب طرابلس وتعلم القراءه والكتابه والقرآن الكريم، ثم دخل المدرسة السلطانية، وترك المدرسة وأرسله أبوه الى أقارب له في فريتاون بافريقيا، وعندما لم يجد نفسه هناك رجع بعد سنة الى طرابلس لينكب على المطالعة وقراءة الكتب الأدبية والأجتماعية والثقافية واجتهد حتى نال نصيباً وافراً من العلم، واخذ يراسل الصحف في بيروت كما مارس الكتابة في جريدة الشباب لصاحبها الأديب سميح القصير، وتعاون مع صديق الصبا والشباب سميح البابا الذي دخل السلك الديبلوماسي وأصبح فيما بعد سفيراً.

تزوج مترجمنا من قريبته لكنه ترمل باكراً بعد أن انجبت له ولدين هما القابلة القانونية منى والعميد المتقاعد فاروق الحاج، ورفض من بعدها الزواج متفرغاً بكليته للعمل الصحفي والشأن العام.

في سنة 1937 بدأ مشواره مع الصحافة عندما حصل على امتياز لرخصة مطبوعة غير سياسية هي صوت الفيحاء، وواجه صعوبات عديدة، وعندما خالف قانون المطبوعات صدر عن رئيس الجمهورية بناء على اقتراح وزير الداخلية مرسوم بتوقيف الجريدة عن الصدور سنة 1944 وبعد معالجة أسباب توقيفها عاودت الصدور، وفي سنه 1949 اصبح مالكاً لامتياز جديد باسم صوت الفيحاء لكن بصيغة تسمح له بتعاطي الأمور السياسية، وكانت المنبر الحر الذي يوجه ويرشد وينصح ويدافع عن حقوق طرابلس ولبنان ويقف بكل جرأة وصلابة الى جانب القضايا العربية، ومن خلال مهنته الصحافية تعرف على معظم رؤساء الجمهورية والحكومة وأقام معهم علاقات وديه ولقاءات عديده، وخصوصاً دولة الرئيس رشيد كرامي الذي ربطته معه صداقة ومودة، وكان منزله على موعد شهري يجتمع فيه رجال السياسه والفكر والمجتمع يتشاورون فيما يخص شؤون وشجون طرابلس، كما اقام علاقات مع ملوك ورؤساء وامراء العرب.

وشغفه وحبه لمهنة الصحافة واندفاعه الى حلبتها جعلاه يتبنى تعليم اثنين من طلاب العلم حتى حصولهما على ليسانس صحافة، واحد تخرج من جامعة القاهرة والثاني من جامعة بيروت العربية واحدهما يمارس حتى اليوم عمله الصحفي.

وبعد معاناة مع المرض فاضت روحه الى بارئها في الخامس من شهر آذار من العام 1984 ،ونعته نقابتا الصحافة والمحررين، ورحل تاركاً وراءه السمعة الطيبه والأخلاق الرفيعة، وقد رثاه صديقه الشاعر عطفت شعبان بقصيده طويله بعنوان” دمع البيان” هذا بعض منها:
بكتِ الفيحاء في دمع البيان

صوتها الرنان في كل مكان

بكتِ الفيحاء تنعي قلماً

ذاد عنها في العوادي منذُ كان

وتفانى في هواها عُمُراً

يبتغي مرضاتها في كل شان

إنه ذاك العصامي الذي

جعل الحرف فخاراً في الكيان

بل رهيفاً مرهفاً في كفه

يتحدى كلَ ظلاّمٍ… وجان

إنه الحاج ولا ريب به

من هدى الناس بخطٍ أو لسان.

الى أن يقول

فانعم اليوم أبا الفاروق في

رحمات الله بالأمن المصان

بهناء الراحة الكبرى على

سُرر الخلدِ بطلِّ المكرمان

وكان الاستاذ رهيف الحاج قد اوصى باهداء مكتبته العامره الى الرابطة الثقافية ونفذت الوصية
ليت بلدية طرابلس تطلق اسمه على أحد شوارع المدينة تقديراً لعطاءاته في الشأن العام.

 

Categories
من علماء طرابلس

المهندس رشدي سلهب

المهندس رشدي سلهب

 

 

الأستاذ معتز مطرجي

 

     إن الاقدار تجعل للانسان سمعةً مدويةً، نتيجة عمل مبدع او انجاز كبير، تلك السمعة المترددة بين آسيا والبرازيل تتوقف عند الجهد المثمر والعبقرية الفذة، التي ساعدت على سيرورة ذكر رشدي سلهب عبر السنين ليصبح حديث الاجيال، واخاله لن ينقطع ما قُرئ تصميم هندسي انمائي أو نفذ مشروع سد مائي.

لقد ادرك رشدي سلهب وهو في بدايات القرن العشرين أن الماء ليس مهماً للحياة فحسب بل إنه الحياة نفسها، وان قضية المياه واستخدامها، ستكون من أهم قضايا العالم التي ستأخذ طابع الصراع، تلك الأنهار التي تجري من خلال حدود الدول بين المنابع والمصبات، فذهب الى عاصمة الدولة العثمانية استنبول ثم الى عاصمة النور باريس ليتخصص بهندسة المياه والسدود وينال الاعجاب.

رشدي سلهب مهندس قدير اثبت جدارة عالية فخدم موطنه طرابلس ورفع فيها المستوى الصحي والبيئي، فصمم خزاناتها المائية ونفذ شبكة الانابيب التابعة لها، وقبلها اعطى كلاً من سوريا وتركيا والبرازيل مشاريع مائية ناجحة وناجعة، فكرّمته حكومات هذه البلاد ووضعت لوحات تذكارية اعترافاً بفضله ومقدرته، حتى أن رئيسة دير صيدنايا شمالي دمشق حملت صرة من الليرات الذهبية وقدمتها له جزاء عمله، فاعتذر بكبرياء وانفة وعفة نفس عن تسلم اي شيء، واعتبر ما قام به عملاً لوجه الله وخدمة الانسانية.

ولد رشدي سلهب في طرابلس سنة 1885 ونشأ في كنف أب شفيق هو الشيخ أحمد سلهب وأم حانية هي خديجة عدوي،وحظي بعلماء أجلاء ولاقى اساتذة في الدين واللغة، ودخل كتاتيب ذلك الزمان، شأنه شأن العشرات والمئات من أبناء الفيحاء فتربى وتدّين وتثقف وسافر الى استنبول وتابع دروسه فدخل كلية الهندسة، ثم توجه الى باريس والتحق بالمدرسة العالية للأشغال العامة، وتخصص بهندسة المياه والسدود، وبعد تخرجه عمل في فرنسا ثم أنتقل الى تركيا فسوريا ولبنان، وكان في كل هذه البلدان يتسلم ادارة مشاريع الاشغال العامة، وطلبته حكومة البرازيل واختارته من بين عدد من المهندسين الاكفاء في انحاء العالم ليقوم بتصميم وتنفيذ مشروع حماية مدينة ريو دي جينيرو من كوارث السيول والأمطار التي كانت تؤرق هاجس السكان في فصل الشتاء.

وقصة مياه دير صيدنايا (الشهير بدير السيدة، هو مزار بناه الامبراطور البيزنطي الشهيد يوستينيانُس) قصة يرويها المهندس فريد رشدي سلهب بكل فخر واعتزاز بواسطة صديقتنا الاستاذة هدى سلهب فيقول:

بعد أن يئست رئيسة الدير من استشارة المهندسين الكثر، الذين أفادوها بعدم جود ماء، طلبت من مترجمنا، وقد ذاع صيته في البلاد، دراسة امكانية حفر بئر، وافادها بتوفر المياه على عمق سبعين متراً، وباشرالعمّال فوراً الحفر اليدوي، ومنعهم من استعمال المتفجرات لأن ذلك يضر بعملية ظهورالمياه، واستمروا في الحفر حتى وصلوا الى العمق الذي حدده، ولم ينفجر الماء كما وعد، بل وجدوا طبقة رطبة، فأشار رشدي سلهب بالحفر ثلاثة أمتار ايضاً، واذا بالماء يسري بغزارة.

ومن المشاريع المائية التي نفذها:

1- مشروع مياه الفيجه

2- مشروع مياه بورصة في تركيا.

والمهندس رشدي سلهب ينتمي الى أسرة سلهب الطرابلسية التي تقول المصادر التاريخيه أنها ترجع بأصولها الى بني تميم في فلسطين، وتميم قبيلة عربية انجبت أعظم شعراء الجاهلية، وكانت لغتها حجّة بين لغات القبائل، ومنهم الصحابي تميم الداري، وسلهب اسم عربي يعني الطويل من الرجال.

لقد غدا رشدي سلهب، وهو اللقب الذي منحه اياه السلطان العثماني، واثبتوه على لوحة التكريم، غدا عاملاً في ثراء الهندسة المائية، وليكون مثلاً يحتذى في تصاميمه وانجازاته، فكان من الحق أن يذكر بالفضل وهو به حري.

توفي في طرابلس سنة 1949، وكان له جنازة مشى فيها اعيان وعلماء البلد، رحمه الله.

Categories
من علماء طرابلس

الأديبة جيهان غزاوي(جديد)

أديبة الفيحاء جيهان غزاوي

 

الأستاذ معتز مطرجي

 

    أديبة طرابلسية، تألقت في مجتمع ذكوري محافظ، خرجت عن نمط الحياة الرتيبة التي كانت تعيشها المرأة، وفكت غلال القيود الإجتماعية، وكأنها أخذت من اسمها الفارسي: الدنيا والعالم، محطة انطلاقة ادبية الى لبنان والعالم العربي. ظهرت نباهتها ووعيها….وهي دون العاشرة، فسجلت في دفاترها المخطوطة، خواطر ومذكرات على قدر كبير من الإدراك.

Categories
من علماء طرابلس

الشيخ محمد علي الشهال

الشيخ محمد علي الشهال

 

                                            الأستاذ معتز مطرجي

 

 

    في أواخر القرن التاسع عشر ظهر في طرابلس عالم نابغة من نوع مفرد، جمع العلوم الكيميائية الصناعية وعلوم الفلك، وبرع في آداب اللغة العربية، قام بتفسير القرآن الكريم بأسلوب سهل مختصر، وكتب رسالة في إستخراج الزيوت من النباتات، ثم ألّف رسالة في تربية دود القزّ نال على أثرها جائزة من الحكومة العثمانية مع وسام مذهّب، وتمكن من تركيب المتفجرات بدون ان يطلع على اختراع ألفرد نوبل الكيميائي السويدي سنة 1866، وصفه صاحب كتاب تاريخ طرابلس سميح الزين بنابغة طرابلس بلا مِراء، وعالمها الذي لا يجارى، كما أفرد له المؤرخ عبد الله نوفل حيزاً في كتابه تراجم علماء طرابلس، عدد فيه مآثره وإنجازاته.

ولد محمد علي بن يوسف الشهال سنة 1868 من أسرة معروفة بطرابلس تمتُّ بصلة النسب الى آل سيفا حكام طرابلس وعكار وحصن الاكراد، وشهال عند العرب، اسم قديم سمّي به أحد بطون حِْميَر، كما جاء في الإشتقاق لابن دريد، ولفظه مشتق من قوله: عين شهلاء اي ذات شهَلَ، والشهل أقل من الزرقة في حدقة العين وأحسن منها، أما المنجد فيقول ان بني سيفا هم أمراء من التركمان المماليك، كما يؤكد المؤرخ نوفل، انه اطلع على حجج ووثائق شرعية ممهورة بأختام قضاة ومفتين تؤكد صحة اتصالهم بنسب آل سيفا.

تلقى مترجمنا تعليمه الاول في طرابلس، ولازم الشيخ حسين الجسر لمدة عشر سنوات، ثم إنقطع للتدريس، وعندما اختاره البطريرك غرغوريس لتدريس اللغة العربية في مدرسة كفتين، قام بكتابة رسالة في علم المعاني والبيان بشكل موجز، وجعلها سهلة المأخذ لتعليم الطلبة بطريقة ميسرة، كما ألقى دروساً في مدرسة الفرير.

سافر الى الاستانة عاصمة دولة الخلافة للحصول على مزيد من العلم والمعرفة، وبعد عودته شرع في تأليف بحث بعلم الفلك، بأسلوب سلس يفهمه أكثر الناس، وخلال الحرب العالمية الاولى، ونظراً لانقطاع ورود المواد الكيمائية، إشتكى اليه دباغو طرابلس لكثرة ما يعانونه من طول المدة التي تستغرقها دباغة الجلود، فهداهم الى طريقة سهلة تمكنوا معها من إنتاج دباغات جيدة بفترة قصيرة. ومما يروى عنه، انه خلال العهد الحميدي، كان أرباب العلم ورجال الدين يعفون من الخدمة العسكرية، شرط تقديم امتحان امام اللجان الفاحصة، وكانت اللجنة تتقاضى من المتقدمين مالاً بصورة غير مشروعة لإعفائهم، وحين جاء دور الشيخ محمد أبدى للوسيط عدم رغبته بدفع اي شيء، وقال على اللجنة ان تسأل ما تريد، وخلال الامتحان شدد أعضاء اللجنة عليه بأسئلتهم ظناً منهم إحراجه وإخراجه، إلا أنه أدهشهم بأجوبته السريعة المحكمة، واعترفوا له بمقدرته وعلمه وذكائه وسعة إطلاعه، في حين كان بعض اعضاء اللجنة لا يحسنون الاجابات الصحيحة، وهكذا أعفي من الخدمة العسكرية.

ويذكر المؤرخ نوفل ان للشيخ محمد الشهال خدمات وطنية تذكر بالشكر، وكانت زاويته قرب الجامع الكبير ملتقى العلماء والادباء، وكان يقدم لزواره وجلسائه أطيب أنواع السكاكر. وفي كل مرة كان يطعمهم نوعاً جديداً لم يسبق ان تذوقوه، وكله من صنعه وابتكاره. وتذكر كتب التاريخ واصفة إياه بحسن المعشر ورضى الاخلاق والوفاء لأصدقائه.

في آخر أيامه أصيب بحمى التيفوئيد حيث لم تنفع نطاسة الاطباء، فتوفي على أثرها سنة 1918. رحمه الله وأنابه.

Categories
من علماء طرابلس

الأستاذ ممدوح النملي

الأستاذ ممدوح النملي

       الاستاذ معتز مطرجي

 

     كان معاصرو المربي ممدوح النملي يسمعون ترديده الدعاء التالي: “اللهم اجعلني خيراً مما يظنون”.

وكانت العرب تقول للرجال المعطاء: لله دَرّك ما خرج منك من خير، فكان رحمه الله كثير العطاء، جمّ الأفعال، ارتبط اسمُهُ مع نشأة كلية التربية والتعليم الإسلامية، ومع جمعية الخدمات الاجتماعية، وهو ممدوح السيرة بين الناس، مُثنى عليه، فكان لاسمه معه نصيب.

برز ممدوح النملي كمربٍّ قدير من مربّي التربية والتعليم، وكرائدٍ من روّاد العمل الاجتماعي، ومن رجالات السياسة والاقتصاد، ذي ثقافة ومعرفة عالية، دمث الأخلاق، كريم النفس، نذر نفسه وحياته لخدمة طرابلس ولبنان، وبذل الجهود لترسيخ الحياة العلمية والاجتماعية في ضمائر وعقول النشء الجديد، لإيمانه العميق أن هذا النشء هو رجاء الأمة ومعقد آمالها في مدارج التقدم والنجاح.

ولد ممدوح النملي إبن الشيخ محمد علي النملي في طرابلس سنة 1905 ودرس في كتاتيب المدينة حيث كان التعليم في مطلع القرن العشرين مقتصراً على مجموعة من (الخوجايات) للإناث، والكتاتيب لتعليم الذكور، وكانت هذه تعلّم القرآن الكريم والصرف والنحو وبعض الحساب، ثم انتقل الى مدرسة الفرير وأنهى تعليمه الثانوي فيها، وتابع تحصيله العلمي في مدينة حمص لينال من الكلية الرشيدية الإجازة في العلوم والتجارة.

ومترجمنا ينتمي الى أسرة إسلامية معروفة في طرابلس، وللإسم جذور في التاريخ الإسلامي، فهو اسم أسرة عباسية برز منها أبو حسان النملي نديم الخليفة المتوكل جعفر بن المعتصم، والنملي أيضاً اسم موقع للماء وجبال كثيرة قرب المدينة المنورة كما ورد في معجم أسماء الأسر.

في الثلاثينات من القرن الماضي شهدت كلية التربية والتعليم الإسلامية نهضة مذهلة، ولاقت إقبالاً منقطع النظير عندما أُسنِدت الإدارة الى المربي الحاج رفيق الفتال، والنظارة العامة الى المربي الأستاذ ممدوح النملي إمتدت الى الستينات، واختارته الإدارة لتعليم آداب اللغة الفرنسية مع الاستاذ محيي الدين مكوك للطبيعيات والاستاذ نور النعنعي للرياضيات والاستاذ درويش التدمري لآداب اللغة العربية، وكان أحد المعلمين في مدرسة الفرير.

في سنة 1947 عيّن عضواً في المجلس البلدي ثم نائباً لرئيس البلدية أيام المحافظ سميح عكاري، وسنة 1950 تولى رئاسة البلدية المحافظ غبريال أسود، ثم استُبدل بالزعيم نور الدين الرفاعي، وكان مع الاثنين نائباً لرئيس البلدية. وسنة 1951 ترشّح للانتخابات النيابية، وفي سنة 1955 إشترك مع عدد من العاملين بالحقل السياسي في الشمال بتأسيس الكتلة المتحدة، من بينهم الأساتذة قبولي ذوق، سالم كبارة، محمد حمزة، مصطفى المقدم، وسليمان فرنجية. ومن أهداف هذه الكتلة المطالبة بحقوق طرابلس والشمال، وكانت معارِضة لسياسة الرئيس رشيد كرامي.

وفي بداية القرن الماضي، كان سكان طرابلس لا يتجاوز عددهم الثلاثين ألفاً، يقيمون بالأحياء المملوكية القديمة، وعلى ضفتي نهر “أبو علي” فوق الرابيتين المطلتين على المدينة وحولها سهل مليء بالأشحار الظليلة وبساتين الاثمار اليانعة من الليمون والبرتقال، وكان اقتصاد طرابلس في جلّه يعتمد على الحمضيات والزيتون ومشتقاتها، فرأى مترجمُنا بنظره الثاقب وتفكيره الواعي حاجة المدينة الى جمعية ترعى المصالح، فتنادى مع نفر من أهل الاختصاص والمالكين الى تأسيس “جمعية ملاكي الجنائن”، وانتخب رئيساً لها، وانتخب الحاج عبد الرزاق الحسيني نائباً للرئيس، ومن الأعضاء فوزي فتال وعبد الله معصراني وفايز المطرجي ومحمد إحسان شطح وغيرهم.

في سنة 1991 توفي الاستاذ ممدوح النملي، وشيّعته طرابلس بمأتم كبير، وأقيم له حفل تأبيني نشرت تفاصيله صحف طرابلس المحلية، ونشرت جريدة “صوت الفيحاء” لصاحبها الأستاذ رهيف الحاج بتاريخ 31 كانون الاول 1991 عناوين الاحتفال: “الحمد لله على ما أنجز وعلى ما تيسر عمله” “تكريم الانسان” و “محبة الناس لا تقدر بثمن” وتحدثت عن الفقيد فقالت: أستاذ الجيل الذي أرسى من تاريخه في منعطف المدينة الثقافي إحتراماً استقر به مشروع مأوى العجزة، ونما على مر السنين… مع نمو جمعية الخدمات التي امتدت بثقافة وإدراك مؤسسها لتستقطب المبادرات الدولية الإنسانية حتى غدت معلماً من معالم المدينة”.

ممدوح النملي في حفل تكريمه الأخير: الحمد لله على ما أنجز وعلى ما تيسر عمله والفضل في ذلك حتماً، كما كان يقول، الى الله الذي يبارك أعمال الخير، وفي الدرجة الثانية الى صفاء النية واستقامة الطريق.

رحم الله أبا علي جزاء عمله الخير، وترديده الدائم: اللهم إجعلني خيراً مما يظنون.

Categories
من علماء طرابلس

الشاعرة ناديا نصار

الشاعرة ناديا نصار

الأستاذ معتز مطرجي

 

     كانت ناديا نصار من الشاعرات القليلات في حياة طرابلس الأدبية في منتصف القرن العشرين. فَتَنَها الأدبُ العربي الراقي فأقبلت عليه في مطالعات متصلة، متذوقة بنهم قوي، سحر شعراء العربية في العصور الذهبية، وراقَها أن يكون هذا التراث أثراً باقياً على الحياة، فانكبت على أسفار الأدب ودواوين شعره تلتهمها وتطالعها بعمق، حتى أصبحت وهي في حياتها الخاصة وتفكيرها الأدبي، عربية النزعة والميول، فتنتقي الكلمات وتصوغها كما يصوغ الجوهري قطعة من الحلي، ثم تعود فتسبك هذه الألفاظ في قالب من الشعر فتخرج منها أبياتاً وقصائد جميلة، موسيقية النبرات، رنانة الألفاظ، وتمتعت بشهرة واسعة لم تتوصل اليها سيدة أخرى في زمانها، وهذه المكانة مدينة بها إلى ثقافتها الأدبية ولحسن إلقائها الشعر في منتديات المدن العربية، ولقد صفّق لها الجمهور الأدبي وهو مأخوذ بموسيقى الكلمات، ووصفتها إحدى رفيقاتها بأنها متحف جميل مكوّن من عناصر جميلة، وأن فنَّها الشعري مثل روحها والحقيقة.

وشاعرتُنا مخلصة في حبّها لمجتمعها ووطنها ولصداقاتها وعلاقاتها مع الآخرين، تقف عند قولها، لا تتغير ولا تتحول عن أخلاقها النبيلة مهما تغير الناس.

وفي شعر ناديا نصّار تتجلى البساطةُ والصدق، ذاك أن الشاعرة اصطبغ شعرُها بصبغتها، ومن جميل ما أعطت وبديع ما أتت به قصيدتها بعنوان “شوق السلام”:

وأحب آفاق الحياة

مدى انتشاء وانعتاقْ

وأعيش في ظمأ القلوب

مع اللهيب.. صدى احتراقْ

وأطوف في شُعبِ الضلوع

الحانيات.. هوىً يُراق

وشفاً من الأحلام في

ليلى المريضة في العراقْ

خذني إليك عبر حبٍّ

منعشٍ، ولظى عناقْ

خذني إليك سماتِ وجدٍ

خالدٍ، ومدى انسياق

إلى أن تقول:

أأراك يا لبنان عُدتَ

وقد حنوتَ على الرفاق

وأراك بالإنسان لا خِدَعَ

الضمير ولا النفاقْ

فالبغضُ جوعُ الشرِّ

وهو يعيش من زرع الشقاق

وفي قصيدة السراب تقول:

كان عمري عذاب عمر وجيع

وحياتي مرّت بغير ربيع

وحياتي رماد ماضٍ تولى

ذاب في هيكل الأسى كالشموع

وحياتي دموع قلب شجيّ

ربَّ قلبٍ بكى بغير دموعِ

يا أساة الجراح عمري صقيعٌ

علِّلوني فقد يذوب صفيعي

أيعود الزمان؟ أسفح عمري

علّلوني… أما له من رجوعِ؟

كان دفءُ الحياةِ عندي سراباً

عطشي ظلُّ للسراب وجوعي

وجاء في ديوان الشعر الشمالي الذي أصدره المجلس الثقافي للبنان الشمالي سنة 1996 عن الشاعرة ناديا نصار ما يلي:

ولدت في طرابلس سنة 1934. تلقّت دروسها الابتدائية في مدرسة راهبات المحبة بطرابلس وأتمّت دراستَها الثانوية في كفرون رفقه.

درست في طرابلس أعمال السكرتيريا وعملت موظفة في شركة نفط العراق مدة 15 عاماً.

كانت عضواً في منتدى طرابلس الشعري وهي رائدة فكرة إنشاء الصالونات الأدبية.

شاركت في عدد كبير من الأمسيات الشعرية في طرابلس ودمشق واللاذقية وحماه وجبلة.

قدّمت شعراً في إذاعات الوطن العربي كما في بيروت والكويت. كتبت في الصحافة الأدبية كناقدة وبشكل خاص في مجال النقد التشكيلي.

نشرت ثلاثة كتب هي:

        ديوان: وجد تعرّى منشورات بعلبكي عام 1969.

– خطرات على ساحل المعرفة. كتاب وجداني نثري.

– ديوان زمن العشق بمساعدة اتحاد الكتاب العرب بدمشق.

– وهي عضو اتحاد الكتاب العرب بدمشق، ولها محاولات لإنشاء فرع له في طرابلس. توفيت في 11 نيسان 1994 بطرابلس.

Categories
من علماء طرابلس

الشيخ عبد الجليل الُثنيني والطريقة المولوية

الشيخ عبد الجليل الُثنيني (السنيني)

 والطريقة المولوية

 

     الفقيه الحنفي المعروف بابن سُنين المولوي، ذكره المؤرخ الدمشقي محمد خليل المرادي، وقال عنه:

كان من العلماء المدرّسين الأفاضل، له مهارة في إستخراج المسائل وتصويرها بأوجز عبارة، وكتب حصّة على الدرر والغرر حَسَنة، لكنه اعجبه زيادة فهمه فتعلق بحبال العقل والخيال وترك ميزان النقل في تتبع الاقوال، وقال هم رجال ونحن رجال، وتعرّض بالاعتراض على الإمام محمد بن ادريس.

والسُنيني بضم السين نسبة الى قرية سنين من نواحي طرابلس، وذكر المؤرخ عبد الله نوفل في كتابه تراجم علماء طرابلس وأدبائها، ان آل المولوي العائلة المعروفة في طرابلس هي من سلالة الشيخ عبد الجليل، وأنه اطلع على حجتين شرعيتين تثبتان ذلك، وان جدهم الأعلى هو الامير حاج العالم الشهير من أصحاب التآليف الفقهية النفيسة، وهو جد الشيخ عبد الجليل.

نشأت الطريقة الصوفية المولوية كذكرى لصديق وأستاذ المؤسس الاول جلال الدين الرومي الشاعر الفارسي صاحب “المثنوي” المولود سنة 1207م واشتهر بالرومي لإقامته في مدينة قونية إحدى مدن الأناضول التي كانت تحت حكم الروم، وفي قونية كان أول ظهور للطريقة المولوية.

والمولوية تختلف عن بقية الطرق الصوفية بالفتل الذي يرجعونه الى ما قام به الخليفة الراشد أبو بكر الصديق من فتل أمام الرسول عليه الصلاة والسلام.

وأول مكان عُرف في طرابلس كانت تقام فيه حلقات الذكر، هو المدرسة الشمسية الواقعة شمال المدخل الرئيسي للجامع المنصوري الكبير، والذي يضم الآن أضرحة مشايخ آل المولوي، وتولى إدارة الحلقات الشيخ نظيف المولوي لينتقل بعدها الى التكية المولوية الواقعة في الجنوب الشرقي لقلعة طرابلس والتي عُرفت بتكية الدراويش، وذكرها الاديب الدمشقي المعروف بإبن محاسن صاحب الرحلة الطرابلسية والمتوفى سنة 1053هـ، والذي نزل فيها وقال ان شيخ المولوية آنذاك محمد افندي الرومي، وان مندوب السلطنة العليا قام ببنائها في مكان مشرف على الوادي الذي يجري فيه نهر ابو علي، وجعل لها وقفاً من الخزينة العامرة.

انتشرت الطريقة المولوية في أنحاء العالم الاسلامي، وكان يجري الانتخاب لتولي الزوايا من قبل أعضاء هذه الاسرة الكريمة لمشيخة القدس وحلب ودمشق، وكثيراً ما كان يتولى هذا المنصب أحد أفرادها. وتتميز الطريقة المولوية الى جانب الفتل باستعمال الشبّابة (الناي) الذي يشيع الأنين والأشواق فكانت موسيقى المولوية ذات شهرة عالمية يفد الى سماعها الناس من كل فج.

ذلك ان أهل الطريقة المولوية وغيرها من الطرق الصوفية يرون ان حسن الصوت من صفات الكمال الانساني، وان النغمة الحلوة ترّوح عن القلوب المحترقة بنار محبة الاله كما يعتقدون، ويعتبرون ان للموسيقى تأثيراً سحرياً على النفس، فهي علاج للكثير من الامراض، وهي وسيلة لترقيق الطباع.

ويذكر الدكتور عمر تدمري ان التكية المولوية حازت على إعجاب الرحالة الاوروبيين، وامتدحها الشعراء وتغنى بها الادباء، وأشاد بمزاياها علاّمة عصره الشيخ عبد الغني النابلسي في رحلته الى طرابلس سنة 1700م. وقال في التحفة النابلسية ان والي طرابلس دعاه الى المولوية ذات الاشجار العطرية، فجئنا اليها، فرأيناها كجنة النعيم وبها من الماء اللطيف البارد الذي هو شفاء لكل قلب سقيم وهي مرتفعة البنيان عظيمة الأركان تجري من تحتها المياه وهي اشبه ما تكون بالربوة في دمشق الشام، وأنشد النابلسي في المولوية قصيدة فيما يلي بعض منها:

المولويةُ جنةٌ في الحرِّ حيثُ الحرُّ نارُ

تزهو طرابلسًُ بها ومن الزهور لها إزارُ

يا حُسن واديها الذي كأسُ النسيم به يدارُ

ومعاطِفُ الاغصان قد مالت وأثقلَها الثمارُ

هي جنةُ الفقراءُ أهـ لِ اللهِ تمَّ لهم قرارُ

أو ما تراها جاريا تٌ تحتها الانهارُ

بعد وفاة الشيخ أنور بن فؤاد بن شاكر المولوي سنة 1963م توقفت المولوية عن إقامة الاذكار، اما الشيخ عبد الجليل فقد ظل آخر ايامه قعيد داره الى ان توفي سنة 1690م

Categories
من علماء طرابلس

الشيخ جميل عدرة

الشيخ جميل عدرة

 

 

الأستاذ معتز مطرجي

 

من الرجال قلة إذا تحدثوا أنصت إليهم الناس، وإن تكلموا أرهفت إليهم الأسماع، وإن عملوا تركوا آثاراً في ضمير شعبهم.

في الخمسينات من القرن الماضي، كان الشيخ جميل عدره يلقي دروسه في العقيدة والحديث والتفسير في الجامع المنصوري الكبير بعد صلاة المغرب، كان رحمه الله خفيض الصوت، هادئ القول، يلفظ كلماته بتؤدة، بحيث يفهم السامع ما يعنيه دون جهد، كانت عيناه تغرورقان بالدموع عند ذكر الله، وقلبه يخشع بالإيمان عند الحديث عن الرسول عليه الصلاة والسلام.

نت أتابع دروسه وأنا فتى يافع.

الشيخ جميل عدره، عالم محدث، مرشد صادق، باحث منقب في القرآن والسنة عن الحقيقة وعن كل ما يصلح لهذه الامة، بعيداً عن الموروث من البدع والشبهات، متحرراً من الأساطير والخرافات، وهابي السيرة ، سلفي المنهج، أشترك مع الشيخ وهيب البارودي في إصدار جريدة البيان سنة 1911، ما لبث ان استقل بها، وكانت البيان منبراً حراً للثقافة العربية، ومناراً للعلوم الشرعية، وملاذاً لأصحاب الأقلام الحرة.

ترجم له الحاج فضل المقدم رحمه الله، ونشر هذه الترجمة في مجلة تاريخ العرب والعالم في نيسان سنة 1982، فقال:

… “وكان أشد ما يؤلمه ان يرى مجتمعه سادراً في جهالته، غافلاً عما تتمخض عنه دنيا العرب والإسلام من حركات إصلاحية وثورات تحريرية وبالأخص كبرى هذه الحركات وأبعدها أثراً في تاريخ الاسلام الحديث “الوهابية” أو ما كانت تبثّه الدولة العثمانية الخاضعة كلياً لقناصل الدول الاجنبية والدول الغربية، إذ كان من خبث الغرب الإستعماري الحاقد، ومن جهالة هذا الشرق الجامد، ان يجعل الاول بأسس المشرقيين فيما بينهم شديداً، يمدهم بالسلاح ليحارب بهم كل إصلاح.

أما المؤرخ الدكتور عمر تدمري أحد تلامذة الشيخ جميل فقال:
هو الشيخ الفاضل، الواعظ، المدرّس، الفقيه، أخذت عليه دروس الفقه الحنفي في القسم الشرعي بكلية التربية والتعليم الاسلامية سنة 1956 وكان يملي علينا من حفظه، ويكثر الامثلة لإثبات المسائل الفقهية وخصوصاً في تدريس مادة “التوحيد” في كتاب الجوهرة، وكان ديّناً ورعاً صالحاً رحمه الله.

ولد الشيخ جميل عدره في طرابلس سنة 1872، أبوه الشيخ عبد القادر رجل الدين الزاهد، التقي المنقطع الى العبادة.

دخل مترجمنا الكتّاب وتلقى علومه الاولى فيه على عادة الطلاب في ذلك العهد، ثم في المساجد، على كبار العلماء، والتحق بمدرسة (مشحة – عكار) العالية التي أنشأها المحسن محمد باشا المحمد، وأهداها السلطان عبد الحميد الثاني مكتبة قيّمة، وكان من مشايخه فيها العلاّمة الشيخ محمد إبراهيم الحسيني والشيخ سعيد اليمني وغيرهما من جلة العلماء، ثم عاد الى طرابلس والتزم بدروس الشيخ أمين عز الدين، وهو من كبار العلماء والادباء.

عيّنته (نظارة المعارف) عام 1920 معلماً في المدرسة السلطانية (الجديدة اليوم) وظل فيها حتى 1931 وانتقل بعدها الى دار التربية والتعليم الاسلامية وهو رئيسها، ويصبح استاذ الادب العربي فيها، وأنشأ القسم الشرعي، وتولى تدريس العلوم الشرعية واللغوية، وظل فيها حتى توفاه الله عن تسعين عاماً سنة 1962.

ولم يقتصر نشاط شيخنا على التربية والتعليم وإنشاء المجلات بل تعداها الى الجمعيات الخيرية والعلمية والاجتماعية، وقام بإمامة المسجد المنصوري، والخطابة في جامع أبي سمراء، والتدريس في مدرسة الحبّاك القريبة من مسكنه، فانتسب في مطلع شبابه الى الجمعية الخيرية الإسلامية التي كان يرأسها العلاّمة الشيخ علي رشيد الميقاتي، وفي عام 1921 تنادى ونفراً من كرام العاملين معه، وفي طليعتهم المرحوم الحاج رفيق الفتال لتأسيس (جمعية إسعاف المحتاجين وملجأ الأيتام الاسلامي) وعندما توقفت هذه عن العمل استعيض عنها بولادة الجمعية الخيرية الاسلامية وإسعاف المحتاجين سنة 1930 والتي تضم كلية التربية وما زالت قائمة حتى الآن. رحم الله شيخنا الجليل الذي كان حريصاً على أمور دينه، وتأدية الواجب في سبيل خير بلده وأمته حتى آخر رمق من عمره الطويل.

Categories
من علماء طرابلس

الحاج سميح مولوي

الحاج سميح مولوي

 

الدكتور عمر تدمري

 

    الحاج سميح المولوي ذلك القلب النابض بالإيمان، والذي كانت شخصيته مبنية على فلسفة الأخلاق والقيم، انعكاساً لاعتقاداته الدينية، فقد كان رحمه الله تقياً ملتزماً أمور دينه، وهموم مجتمعه، وقضايا بلده ووطنه، كان عقلاً راجحاً في تقييم الأمور والمشكلات، قانعاً مترفعاً، لم تهزه بهرجة الدنيا، ولم يسع إلى ثروة وسلطة، كان في نفسه أغنى من أي صاحب ثروة، وأقوى من أي ذي سلطان، وأرفع من أي صاحب جاه، كان مثالاً للإنسان الذي يحمل قيمته في ذاته معرفة ونزاهة وأصالة، كانت نفسه كبيرة فتعب في مرادها جسده، وكأنه يتمثل بما قاله شاعر العربية:

     وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام والمقياس الوحيد الذي يقيس به تقدم المجتمع هو القدرة على تحمل المسؤولية، ومن هذا المعيار كان الحاج سميح من أقدر الناس على تحمل المسؤولية.

     في شخصيته شيء كثير من شخصيات طرابلس التاريخية، شيخ مؤمن، معلم تربوي واجتماعي، أقرب ما يكون إلى الإيمان المبني على العقلانية وسيرة السلف الصالح من أهل السنة والجماعة، وانحيازه الكامل إلى حب الله، لهذا لم يكن حبه لله يتجزأ، كانت إحدى عينيه على السماء والأخرى على المستضعفين في الأرض، وهذه الصيغة التراحمية التي بمقتضاها يفتعل الانسان الصالح المناسبة ليعين ذا الحاجة.

 

 

ولادته

    ولد سميح المولوي في طرابلس في البلدة المملوكية القديمة بمحيط الجامع الأثري سيدي عبد الواحد سنة 1909، والده الشيخ كامل المولوي ووالدته السيدة سلوى محي الدين شقص.

    وآل المولوي من الاسر الاسلامية المعروفة، والمولوي عربي منسوب الى المولوية، وهي طريقة صوفية اشتق اسمها من مولانا، وهو لقب أعطي الى مؤسس الطريقة جلال الدين الرومي (المتوفى سنة 1233 م)، والمعروف ان أتباعها كانوا يقيمون حلقات الذكر والرقص على توقيع آلات الطرب، والمقول ان ابناء أسرة المولوي في طرابلس من سلالة العالم الشيخ عبد الجليل السنيني، وفي هذا يقول المؤرخ عبد الله نوفل انه اطلع على حجتين شرعيتين تثبتان صحة ذلك، وأن جدهم الاعلى هو الامير حاج العالم الشهير ومن اصحاب التآليف النفيسة الفقهية، واول من تولى مشيخة مولوية الدراويش الشيخ مصطفى المولوي المتوفى سنة 1808 م، وكان يجري انتخاب مشيخة القدس وحلب من قبل هذه الاسرة.

اما آل شقص اخوال الحاج سميح، فهم احفاد الامير عيسى بن عمر البرطاسي صاحب الجامع الاثري المعروف باسمه كما ذكر المؤرخ الدكتور عمر تدمري، والذي يضم اجمل محراب في مدينته طرابلس، وكلمة شقص تعني بالعربية: النصيب والسهم والقطعة من الشيء.

     وقد توفي والدا الحاج سميح خلال الحرب العالمية الاولى، فنشأ يتيم الأبوين وتعهده عمه الشيخ عارف المولوي، وتربى في داره الكائنة في حي النوري الملاصق للجامع المنصوري الكبير، وكانت دراسته الابتدائية في المدرسة السلطانية (الجديدة فيما بعد)، وفي سنة 1924 انتقل الى المدرسة العلمية القائمة بجانب مقهى التل العليا بإدارة المرحوم سعد الله سلطان، ومن اساتذتها الاستاذ نور النعنعي، الشيخ نديم الجسر، الشيخان محي الدين الخطيب وفخر القاوقجي.

     دخل دار المعلمين في بيروت سنة 1926 بتوجيه من وزير المعارف آنذاك الشيخ محمد الجسر، ثم انتقل الى المدرسة العلمانية الفرنسية وتخرج منها سنة 1929، بعدها عُين مدرساً في المدرسة الجديدة تحت ادارة الشيخ كاظم الميقاتي.

    في العام 1935 تزوج من السيدة غانية ابنة عمه الشيخ عارف المولوي، وقد جلها القدر في عزّ الصبا فتوفيت سنة 1946 ورزق منها بأربع بنات، ورفض من بعدها الزواج وتفرغ لتربية بناته فكان لهم الأب الصالح والأم الرؤوم، وأصبح راهباً وعلى رأسه طربوش أحمر.

     الحاج سميح طويل القامة، وديع القسمات، على شيء من الحدة في المخالفات، عينان متقدتان، تشهدان بالنجابة والالمعية، لكن الشيخوخة في آخر أيامه سطت عليهما وأخذت بعضاً من البريق المتألق الذي تتلمسه مع ذلك في المعاني والكلمات، سائحاً بلطائف الأفكار المغلفة دائماً بالنقد السليم الذي لا يجرح بقدر ما يبلسم.

مهماته الوظيفية

     بعد تخرجه سنة 1929 عُين مدرساً في المدرسة الجديدة ثم نقل الى مدرسة النموذج، وفي سنة 1949 أصبح مديراً لمدرسة لقمان في باب التبانة، ثم نقل سنة 1951 مديراً في مدرسة الحدادين، واقترح على وزارة التربية استبدال اسم مدرسة الحدادين الى مدرسة الغزالي (الامام المتصوف الذي لقب بحجة الاسلام) واستمر فيها مديراً حتى تقاعده سنة 1971 حيث منح وسام المعارف في احتفال كبير.

مواكبته للجمعيات

    في الاربعينات من القرن الماضي انتسب الى جمعية مكارم الاخلاق الاسلامية كعضو عامل، وكان أول رئيس لهذه الجمعية سنة 1939 الشيخ علي شيخ العرب، ثم تسلم رئاستها الشيخ صلاح الدين ابو علي رئيس البعثة الازهرية سنة 1942، ورافق الشيخ صلاح بجولاته في المدينة لجمع التبرعات، وبعد رجوع الشيخ صلاح الى مصر انتخب المحامي عبد الغني سلطان رئيساً للجمعية، وبعد سنتين انتخب الحاج سميح مولوي رئيساً طيلة ثلاثة عقود،وعندما أخذت الشيخوخة منه منالها، أصبح الرئيس الفخري، وانتخب معالي الاستاذ عمر مسقاوي رئيساً لجمعية مكارم الأخلاق الإسلامية.

     وفي الستينات سعى مع مجموعة من رفاقه وزملائه من أبناء طرابلس الى إنشاء مدرسة نموذجية تكون بعيدة عن السياسة والاحزاب وتعتمد على الكفاءة العلمية والقيم الأخلاقية في تعيين المعلمين والمعلمات، وتُبنى داخل أرض الفيحاء، فكانت مدرسة الروضة وجامع الروضة، وفي سنة 1988 كانت الفترة الأولى لعقد الشراكة قد مضت بين جمعية مكارم الاخلاق وجمعية رعاية الاطفال النسائية برئاسة السيدة علية ذوق، وتم تجديد عقد الشراكة الذي ينتهي في العام 2013، وتوسعت الروضة وتشامخت وأصبح لها فروع ومجلس أمناء يقوم برعاية هذا الصرح التربوي الكبير، ويسجل أهل طرابلس لهذه المؤسسة الناجحة، النهج السليم الذي تتبعه في الانفتاح على التطور الحديث مع الاحتفاظ بالأصالة الموروثة، ولا بد من التنويه الى الدور النهضوي الذي يضطلع به المدير العام الاستاذ محمد رشيد ميقاتي والذي يتمتع بمؤهلات إدارية وأكاديمية ومزايا أخلاقية تؤهله لحسن الإدارة.

    وخلال الحرب الأهلية الدامية التي كسرت القلوب وفتتت العقول، كانت المستشفى الإسلامي بطرابلس ترزح تحت ضائقة مالية شديدة لاستقطابها العدد الأكبر من المصابين والجرحى من كل المناطق ومن كل الفئات، مما اضطر مديرها النائب والنقيب الاستاذ عدنان الجسر رحمه الله الى اطلاق نداء استغاثة لتقديم المساعدات الضرورية للمستشفى، واستجاب رجل المروءة والمهمات الصعبة الحاج سميح لهذه الصيحة وتوجه الى بعض دول الخيلج بتكليف من إدارة المستشفى لجمع التبرعات من الطرابلسيين واللبنانيين، ومن حسن حظي وجودي في تلك الفترة بالرياض، وقد رافقته في كل زياراته الى ابنائه وطلابه ومحبيه وقدموا المساعدات كل على قدر سعته، وبهذه المساعدات وغيرها من أصحاب الاريحية تابعت المستشفى تقديم خدماتها.

     أما بعد، لعل الوفاء والحب يحدونا أن نقول الكلمة التي تملك الغلبة، لقد كان تأثير الحاج سميح المولوي عميقاً في المجتمع الطرابلسي، ورغم مرور ست سنوات على رحيله الا انه بقي في ذاكرة أبناء الفيحاء، لان وجوده كان يعطي للحياة الألق الممزوج بالإيمان والكبرياء، لانه واحد من جيل عملاق هو في تقدير التاريخ أميز أجيال طرابلس، الجيل الذي أعطى للوطنية والتربية والتعليم والثقافة الدور والضوء والسمو.

نفتقد الحاج سميح ونعب من ارث مكارم الاخلاق والوفاء الذي خلفه.

اجزل الله لك المثوبة والاجر على ما قدمته لبلدك ووطنك من عطاء موفور مذخور.

 

Categories
من علماء طرابلس

الشيخ محمد نجيب الزعبي

الشيخ محمد نجيب الزعبي

 

هو واحد من دوحة الامام عبد القادر الجيلاني، أحد حفدة الرسول عليه الصلاة والسلام.

تقي ورع، رحب الصدر، عالي الهمة، خطيب مفوه ذو لسان فصيح، عالم فقيه، مرجع في حل المعضلات الدينية، مُبسط للأمور الشرعية كان واقفاً على منهج السلف الصالح وفق مذاهب أهل السنة الأئمة الأربعة، وكان أكثر الشيوخ نشاطاً وتدريساً في الحقبة التي عاش فيها، وقد طبقت شهرته الأنحاء فوفد اليه الطلاب من كل الجوار ينهلون من معين علمه وسعة معارفه.

وكان رحمه الله بهي الطلعة، جميل المحيا، كثيف اللحية، وقوراً مهاباً قدس الناس سيرته، ولعل أهم الاسباب اتصال نسبه بالرسول الأمين، وسلوكه القويم وإيمانه العميق.

صوفي مريد، سلك طريق أجداده، وفهم الصوفية كترويض للروح وتنزيه للسان وحفظ للجوارح وآداء للفرائض، وكانت زاويته معروفة في محلة السويقة ملتقى العلماء، ورجال الدين والعبّاد، وكان يعارض استعمال المزاهر وضرب الشيش أثناء حلقات الذكر، ذكره العلامة الشيخ يوسف النبهاني في موسوعته: جامع كرامات الأولياء (الصادر سنة 1329 هـ والذي طبع بمطابع دار الكتب العربية بمصر) كما يلي: أحد أكابر العلماء الأعلام، وسادات الأولياء الكرام وصاحب كرامات كثيرة، وقد أورد النبهاني عدداً من هذه الكرامات عمن شاهدها من الثقاة وعُدّت من الخوارق.

اما المؤرخ عبد الله نوفل فقال عن الشيخ نجيب في التراجم انه علم من أعلام العلم والفضل، وسرد الكثير عن تاريخ حياته.

ولد محمدنجيب في طرابلس سنة 1190 هـ على وجه التقريب، وتربى بعناية في كنف والده الشيخ عبد الفتاح الزعبي الكبير وأخذ عنه تعلقه بالله وحب رسوله، تلقى علومه الأولى في كتاتيب طرابلس كعاده أهل البلد في ذلك الحين، ثم سافر الى أرض الكنانة والتحق بالأزهر، فأتقن العلوم الفقهية واللسانية على مختلف المذاهب، وعاد الى بلده فتعين خطيباً في الجامع المنصوري الكبير سنة 1229 هـ بعد وفاة الشيخ عثمان خضر آغا زاده، وكان يصعد المنبر لإلقاء خطبة الجمعة حاملاً سيفاً أثرياً كعادة خطباء الجوامع في المدن الإسلامية التي فتحت قسراً، كما كان يعطي الدروس الدينية، ومن أشهر طلبته الشيخ عبد الغني الرافعي الذي تولى الإفتاء فيما بعد، والشيخ أحمد محمد سلطان قاضي الشرع في طرابلس والذي أصبح حاكماً بعد اعفاء مصطفى آغا بربر، والشيخ امين محمد سلطان وغيرهم.

ترك مترجمنا بعض الآثار المكتوبة من الشروح والحواشي والخطب. وذكر المؤرخ الدكتور عمر تدمري ان الشيخ نجيب كان وكيلاً لحاكم طرابلس مصطفى آغا بربر في دعوى منازعة حول ملكية أرض في ناحية الكورة وذلك أمام القاضي الشيخ ابراهيم السنوسي سنة 1248هـ.

والزعبي اسم أسرة من الأسر الإسلامية المنتشرة في العالم الاسلامي والتي تعرف أيضاً بالجيلاني والكيلاني، وكلهم من أصول واحدة يعود نسبها الى الشيخ عبد الرزاق عبد القادر الجيلاني، وكان عبد الرزاق قد نزل دمشق بعد وفاة والده، وتوفي عبد الرزاق بدمشق ودفن فيها وتوزع أبناؤه في شتى أنحاء العالم الإسلامي، في سوريا ومصر، وحلّ قسم منهم منطقة عكار وتلكلخ وحصن الأكراد، وما لبثت هذه الأسرة أن نالت مكانة دينية مرموقة بين الناس وتولى أحد أفرادها منصب الإفتاء بعكار، وتجدر الاشارة الى أن منصب الافتاء أنشئ سنة 1570م. واقامت هذه الأسرة الزوايا العديدة ونشروا الطريقة القادرية، وكانت حلقات الذكر تفتتح بتلاوة من القرآن الكريم ثم المدائح النبوية، فالذكر بكلمة التوحيد( لا إله إلا الله) وبأسماء الله الحسنى، تارة بالقلب وأخرى باللسان حتى يجتمعا عليه، ومرة بين القلب واللسان، وكل مريد يجلس في مكان محدد له، ويتمايلون يمنة ويسرة حتى اذا سيطر عليهم الوجد وهو حال من الشعور الخفي وهو بدء النشوة في الكيان، وقفوا بشكل حلقة في وسطها شيخهم فيدورون حوله ويحركون رؤوسهم مع استمرار الذكر والحادي يحدوهم بالمدائح النبوية والتضرعات الإلهية، بعد ذلك يرتاح المريدون فيما يتولى شيخهم الدعاء، ويختتم الذكر بتلاوة فاتحة الكتاب.