(الجزء الثاني من بحث "مجتمع النهر في طرابلس" لكاتبه الصحافي المرحوم طلال المنجد)
النهر ومياه الشفة
النظام القديم
يعتبر عام 1935 حداً فاصلاً بين نظامين من استعمال مياه الشفة في طرابلس الأول قديم والثاني حديث.
وحتى ذلك العام الذي أنتهت فيه أشغال وتمديد مياه نبع رشعين، كان النظام القديم هو السائد ويرجع تاريخه إلى عهد الكونت ريمون دي تولوز حاكم طرابلس في أيام الحملات الصليبية (توفي عام 1112م) حين أقيم سد فوق نهر رشعين قرب الموقع المعروف بالمرداشية ومنه شقت قناة ترابية بطول تسعة كلم تنتهي في الجهة الشرقية من قلعة طرابلس بحوض صغير علوه عن سطح البحر حوالي 32م وتتجمع فيه مياه القناة. هذا الابتكار شكل حجر الأساس لنظام مياه الشفة لطرابلس المملوكية حيث جرى توزيع مياه القناة إلى 72 فرعاً ويسمى كل فرع منها (قمرية) وكل قمرية تنقسم بعدئذ إلى 12 قسماً ويسمى القسم (شاهية) أي ما مجموعه 864 شاهية. ولا نملك معطيات كافية عن حقوق توزيع المياه في طرابلس العصر المملوكي ونرى في وقفية لجامع مملوكي... «ولهذا المسجد من الماء بحق واجب نصف وربع أصبع من قناة طرابلس».
وفي العصر العثماني، تطورت شبكة توزيع المياه بحيث تنتهي القنوات الفرعية (الشاهيات) في بعض أحياء المدينة إلى خزان ثانوي يشبه البرج ويعرف باسم (قائم أو طالع) ارتفاعه من 10 إلى 12 متراً ويعلوه مقسم تتغذى منه خطوط الدار الخاصة.
ونظراً لارتفاع خزان المياه بجانب القلعة أكثر من 30 متراً عن سطح البحر فإن ذلك سمح وفقاً للمبدأ الفيزيائي المعروف بالأوعية المتصلة بوصول المياه إلى الطبقة الثالثة من أي بناء يشاد..
وهو ما شكل مصدر فخر للطرابلسيين بمائهم على ماء بقية المدن كبيروت ودمشق. ويعطي فكرة عن مدى التجريبية العلمية الفيزيائية في التعاطي باستخدام مياه الشفة في طرابلس في القرون الوسطى.
وكان السكان يتداولون بيع وشراء الماء فيما بينهم وسعر الشاهية الواحدة لا يقل عن 500 ليرة عثمانية ذهباً. وبسبب هذا الثمن الباهظ، عرفت طرابلس نظام احتكار الشاهيات حيث تخصص بعض الأشخاص في بيعها وشرائها وتحصيل أرباح طائلة من ذلك. ولم تكن ماء الشفة تصل إلى كل البيوت ولعل هذا ما يفسر وجود كثرة الأسبلة وبرك المياه العامة في مختلف أحياء طرابلس القديمة بحيث يصل عددها إلى ما يزيد على 20 سبيلاً وبركة بمعدل سبيل أو بركة لكل حارة أو محلة بالإضافة إلى ان كل قائم ماء كان يعتبر كسبيل تسيل ماؤه للعموم من أحد جوانبه.
ولقد أعتبر على الدوام في طرابلس ان تسييل الماء من المآثر الحميدة للحكام والولاة والأشخاص.. حتى أننا نجد في وقفية فريدة وعائدة للعصر المملوكي صرف مبلغ معين للاستسقاء في جامع ومبلغ آخر ثمن ماء وثلج يصرف في يوم الخميس من كل أسبوع ويفرق بباب التربة إلى جانب توزيع الخبز..
وفي المدينة الإسلامية عموماً، كان يتولى تسبيل الماء وتوزيعه على طالبيه «المزملاتي» الذي اشترطت فيه شروط جسمية وخلقية خاصة كأن يكون سالماً من العاهات والأمراض «وان يسهل الشرب على الناس ويعاملهم بالحسنى والرفق ليكون أبلغ في إدخال الراحة على الواردين وصدقة دائمة وحسنة مستمرة».
لم تعرف طرابلس مثلما عرفت بعض المدن الإسلامية كالقاهرة، طائفة ناشطة تقوم ببيع الماء كالسقائين رغم وجود بعض الأحياء والحارات لم تكن تصلها الماء كالرفاعية والقبة بل عرفت المدينة بعض الأفراد المتخصصين بنقل الماء على الدواب إلى هذه الحارات وبيعها عرفوا «بالمكارية» وعددهم ظل ضئيلاً. وسكان القبة كانوا يقصدون النهر لغسل حاجياتهم.
والإشراف على توزيع المياه في مطلع القرن كان من مهمات البلدية ولكنه ظل شكلياً والإشراف الفعلي كان «للقنواتية» إذ لهم الرقابة الفعلية وهم نفر من الأشخاص كانوا مسؤولين عن وصول الماء إلى الدور بأجر غير محدد يتقاضونه من الشاكين ليهرعوا إلى اتخاذ تدابير خاصة لإصلاح الأقنية الفرعية المعطوبة وذلك بوضع نشارة الأخشاب وفي بعض الأحيان روث الدواب في الماء المنساب من القائم إلى البيوت لتسد الفجوات الموجودة في الأنابيب التي كانت جميعها من مادة الفخار.
والقنواتية لهم محلة باسمهم في طرابلس العثمانية ولأحدهم سبيل ماء عرف باسمه ويعرفونهم باسم آخر (الشواة) مفردها شاوي وهو اسم اختص فيما بعد بسقاة البساتين. ويرجع هذا الاسم إلى أصوله التركية من كلمتين: سو بمعنى الماء وباشي بمعنى رئيس أي رئيس الماء ومع الأيام تحرف اللقب من سوبا شي إلى شاوى.
عموماً فإن توصيل الماء إلى المدينة الإسلامية اعتبر من المنشآت والمرافق العامة في المدينة الإسلامية. استخدمت أساليب متعددة من ناحية التركيب الإنشائي «لتوصيل الماء من مصادره البعيدة المنخفضة عن مستوى موضع المدينة أو المرتفعة عنها، كإنشاء القناطر الحاملة لمجرى ينقل الماء، وهي ما يطلق عليها «قناطر الماء» (...) وكانت كل قناة منها تدخل المدينة وتنفذ في الشوارع والدروب، واستخدمت من هذه النوعية من القنوات المحمولة على قناطر في نقل الماء من مسافة بعيدة سواء من المناسيب التي تنخفض عن مستوى موضع المدينة أو من مناسيب مرتفعة عن موضع المدينة، وفي كلا الحالتين، كانت القنوات تنحدر في اتجاه المدينة انحداراً محسوباً بجري الماء،
كما روعي ان تعترض هذه القناطر ما تقطعه بين شوارع وطرق حتى لا تعوق المرور». ويدلنا هذا على ان أساليب توصيل المياه في طرابلس كان يتطابق إلى حد كبير مع الأساليب المستخدمة في المدينة الإسلامية لتوصيل المياه من الأنهار أو الينابيع.
النظام الجديد لمياه الشفة
نظر الطرابلسيون حتى آواخر القرن الماضي إلى ماء الشفة الخاص بمدينتهم نظرة افتخار لمزاياها الكثيرة فوصفوها بالعذبة والصافية والغزيرة وبقدرتها على الوصول إلى الطبقة الثالثة من الدور. ولكن هذه الحال لم تدم إذ بدأت الشكوى تتصاعد حتى وصل الأمر بالشيخ حسين الجسر إلى وصفها (أي الماء) بحاملة الأمراض الوبائية في مقال مطول نشر عام 1893 وتناول فيه ماء طرابلس وتعرض لأسباب المشكلة: «وبيان ذلك أننا فيما نسمع وقد أدركنا بعضه ان ماء طرابلس كان من سنين يصل إلى البلدة صافياً زلالاً كما يخرج من نبعه مثل الماء المقطر ولا يعتريه نقص في عموم السنة لا صيفاً ولا شتاء، ولكن في أعوام قليلة لما كثر التفات الأهالي إلى فلاحة الأرض وأغرى كثيراً الطمع بالتعدي إلى حرم قناة هذا الماء فأغتصبوه وفلحوه وحول كل ذي أرض مياه الأمطار عن أرضه إلى جهة تلك القناة آل الحال إلى مصيبة عظمى»....
وإذ يستمر الشيخ الجسر في وصف حال المياه فإنه يقترح في النهاية علاجاً ودواء يقضي بجمع كمية من المال لتغطية ما يمكن تغطيته من ماء البلدة (...) وشراء الأراضي المجاورة للقناة ولو كلف مبالغ جسيمة (...) وشراء الطواحين التي تلقي عكر الزيت في النهر من أصحابها (...) متوجهاً بذلك إلى المجلس البلدي المحلي والأهلين. ولم تلاق حلول الشيخ الجسر القبول والنجاح فالمطلوب كان تغطية القناة الترابية بطول تسعة كلم وتحويل أراضيها المجاورة إلى منطقة عازلة بشرائها ومنع فلاحتها وكذلك أيضاً شراء الطواحين والمعاصر على طول مجرى النهر من رشعين إلى طرابلس وهذا كله كان مستحيل التطبيق بطبيعة الحال. ولقد بقيت المشكلة تتفاقم واسترعت انتباه الزائرين وتعددت الأمراض في الداخل وتصاعدت شكوى الأهلين من دون حل إلى العشر الأول من القرن العشرين عندما حاول المتصرف العثماني عزمي بك إصلاح حال المياه بوضع قساطل مغلفة لجر المياه مباشرة من رشعين وبإنشاء مصاف لتكرير مياه الشفة فلم ينجح إذ وقف كثرة مالكي بساتين الليمون عثرة في سبيل تحقيق مشروعه خوفاً من انقطاع المياه عن بساتينهم وأرزاقهم.
وإذا علمنا أن أصحاب البساتين الطرابلسيين يمثلون كثرة ضاغطة من الفئات الوسطى والغنية لأدركنا أنهم فضلوا مصالحهم الخاصة على محاولات تحديثية وإصلاحية تهدف للحصول على ماء نظيف يتنعمون به مثل تنعم غيرهم به.
وقد لجأ السكان إلى محاولات فردية لتصفية مياههم وتنقيتها فانتشرت «القطارات» وهي عبارة عن جرة نصفية من الفخار مثقوبة من الأسفل ويرقد فيها الرمل الأبيض المغسول جيداً ثم تملأ الجرة بالمياه التي ترشح نظيفة من الثقب نقطة فنقطة.
ومع مجيء الانتداب الفرنسي عام 1919وفي مطلع العشرينات، اتسعت الحركة العمرانية خارج حدود النواة القديمة وتحديداً في منطقة التل، ولم يكن بإمكان نظام الشاهيات المملوكي تلبية الاحتياجات العمرانية في المناطق العمرانية الجديدة حتى عام 1928 عندما وضع مشروع من قبل المكتب الفني في وزارة الأشغال في الدولة الانتدابية الناشئة، وقد وضع المشروع وتولى رئاسة المكتب الفني مهندس طرابلسي هو رشدي سلهب. ويقضي المشروع بجر مياه نبع رشعين مباشرة إلى طرابلس في قساطل من فونت وبإنشاء خزانات للمياه في القبة وأبي سمراء والمعيصرة وبإنشاء شبكة واسعة لتوزيع المياه في شتى أنحاء طرابلس القديمة منها والمستقبلية.
وعام 1935، انتهت أشغال الجر والتمديد وأنشئت بمرسوم مصلحة لإدارة واستثمار مياه نبع رشعين وطرابلس وأن تعد هذه المصلحة إدارة عامة ذات شخصية مدنية ولها ميزانية خاصة ساهم فعلياً بها الأهالي وفاعليات طرابلس خوفاً من ان تقوم السلطة الفرنسية بتحويل المصلحة المستحدثة إلى شركة أجنبية ذات امتياز.
وكان من نتائج قيام مصلحة مياه طرابلس تصفية آثار نظام مياه الشفة القديم على مراحل، كان آخرها 1948 حينما جرى استملاك حق الانتفاع بالمياه القديمة بالمقايضة بمعدل مترين مكعبين من الماء الصالح للشرب لكل شاهيه من المياه القديمة.
ولقد ميّز الطرابلسيون في البداية بين نوعين من المياه: «مياه رشعين» و«مياه البلد» وكانوا يفضلون الأولى على الثانية رغم أنهما من مصدر واحد. وفي مطلع الخمسينات تلاشى نظام «مياه البلد» نهائياً بعد ان أصبحت طرابلس تشرب مباشرة من النبع (رشعين) وليس من النهر وقناته.
وفي مرحلة ثانية، جرى مشروع جر مياه مغارة هاب، جنوبي شرقي طرابلس وذلك عام 1957 مما أضاف مصدراً جديداً لمياه الشرب.
وبقدر ما ساهم مشروع جر المياه وتوزيعها مساهمة فعالة في تنشيط الحركة العمرانية في المدينة، بقدر ما كان في واقع الحال تلبية لاحتياجات ملحة جاءت مع الانتداب الفرنسي الذي وجد نفسه عاجزاً عن اختراق بنية النواة التقليدية الطرابلسية أو خائفاً من ولوجها فبنى لنفسه خارج السور التقليدي وحاملاً إصلاحات وحلول لمشكلة عجزت القوى المحلية عن حلها وأحياناً وقفت بمواجهتها خشية مس مصالحها الذاتية ونتيجة استغراقها في المحافظة الشديدة (موقف أصحاب البساتين من مشروع عزمي بك).
البساتين
اشتهرت مدينة طرابلس بفيحائها أي تلك البساتين المحيطة بها وهي مدينة بوجودها لعاملين متفاعلين: يد الإنسان التي زرعتها ومياه النهر التي روتها والتي كانت تحمل على الدوام رواسب فيضية ينشرها النهر أثناء فيضانه بين وقت وآخر خاصة في المناطق الشمالية القريبة من مصبه وهي رواسب تؤدي إلى تجدد التربة وتتراكم فيها فتات الأحجار الكلسية والصوانية وذرات الصلصال.
والبستان يدعى بالعامية «الطرابلسية» «جنينة» من «جنة». وفي السجلات الشرعية ان البستان هو الحقل الخراجي أي الذي يدفع عنه الخراج. وإلى زمن قريب، كان لكل بستان اسمه الخاص به: بستان التراب، حقلة الزكرد، بستان المالكية، بستان قنلوا جنينة الرومي الكبير والرومي الصغير، دف البنات، دف الخباز، البكلبك.
ويشار بالعامية إلى مجمل بساتين طرابلس «بالسقي» وهو قسمان: شمالي ويشمل بساتين البداوي ومنطقة برج رأس النهر، وسقي غربي في الجهات الغربية من المدينة. أغلب البساتين كانت تزرع بالليمون والحمضيات. وقبل الحرب العالمية الأولى كان يصدر من طرابلس إلى استانبول ورومانيا وإلى روسيا 400,000 صندوق من الليمون كل سنة وأصحاب البساتين هم من الفئات الوسطى والغنية. وري البستان كان يجري في مطلع شهر أيار حيث ذوبان الثلج في أوجه، لكن مياه الري كانت تختلط بمياه مجارير المدينة التي كانت تصب في قناة تعرف «بقناة الحزوري وتمتد من التبانة إلى حي الخناق مروراً بخارج المدينة القديمة وهي قناة مغطاة على غرار مجاري باريس... ولقد طُلِبَ من أحد الأشخاص ان يمشي فيها فبدأ من التبانة وخرج من قرب جامع طينال ومشى فيها أحياناً بقامته دون انحناء. وللقناة عقود من حجر يتراوح عمقها أحياناً 7 أو 8 أمتار»، وتسمى مياه ري البساتين بالعامية «القليط». ومن حركة شعبية طرابلسية نادرة ضد قائمقام عثماني «... نشبت ثورة الأهالي وهاجوا على القيمقام حسين بك العظم فهاجموه في سراي الحكومة من جهة تل باب الرمل وهم يطلقون البارود بكثرة هائلة. ثم فتحوا سواقط خزانات الأوساخ على الجنائن التي تحيط بالسرايا، فاضطر القائمقام حسين بك العظم ان يهرب من السرايا ماراً بين تلك الأقذار الطاغية. وإذ ذاك أطلق عليه الأهالي لقب «القليطي» لشدة ما لوثه من الأوساخ البشرية»...
ويتضح من هذا النص كيفية استعمال قناة الحزوري في الري بإقامة الخزانات والسواقط لمياه المجارير المبتذلة.
وتخصص أشخاص في ري البساتين أشهرهم من عائلة «الحزوري» الذين أعطوا القناة اسمهم أو استمدوه منها. ويعرف واحدهم بالشاوي وللشواة مهمة أخرى مرتبطة بالنهر مباشرة ففي شهر أيلول من كل عام أي في الأيام التي يبلغ فيها النهر أقصى جفاف له، يقوم الشواة بقيادة كبيرهم «عرابي» بتنظيف مجرى النهر عند الحائط/ السد في الدباغة من الأوساخ والعوائق العالقة في مجراه وهم يتقاضون أجورهم عن ذلك من أصحاب البساتين.
وفي البساتين شبكة ري متصلة وهندسية الشكل وتغطي السقي بأكمله وعملية الري تتم بالدور والاتفاق والتفاهم مع الشاوي دون خلافات غالباً.
وفي نقطة معينة من النهر عند محلة السوسية إلى الجهة اليسرى من النهر أقيم سد بسيط مع سواقط يجري فتحها خلال شهري أيار وحزيران كل عام حيث تنساب المياه في قناة عميقة تتصل بقناة الحزوري لتأمين وصول المياه للري.
لكن مفصل عملية ري البساتين في السد/ الحاجز الذي يتضمن سكراً للمياه بوسعه في حالة الإغلاق أن يزيد من كمية المياه المتفرعة إلى جدولي محلة التبانة والمسلخ أو ان يزيد من كمية مياه النهر الأسفل وينفذ الشواة تعليمات أصحاب البساتين في هذا الصدد ويشرفون على السكر وبالتفاهم والاتفاق مع الدباغين وأصحاب الطواحين في تلك المنطقة.
والجنينة هي مكان السيران ولها بوابة خشبية واستراحة متواضعة بالقرب من البوابة وسياج من قصب. ومن أجل القضاء على جرذ البساتين عدو الأشجار المثمرة، شجع أصحاب البساتين على إطلاق نوع من الثعابين عرف «بالحنش الأسود» ولا يؤذي الإنسان ويتعرض للقوارض.
ولقد تنوعت الأشجار المثمرة في الجنينة فبالإضافة للحمضيات والليمون الصنف الرئيس الغالب، زرع بمعدل شجرة لكل نوع وهي للاستهلاك العائلي ولتوزيع قسم من ثمارها على الأقرباء والجيران ومن أشهر الأنواع: التفاح المغازلي والخوخ والتوت والدراق والسفرجل والرمان والعناب والتين والعنب والمشمش. وبعض هذه الأنواع يستعمل خصيصاً لشهر رمضان لصنع النقوعات والزبيب. وتستثنى هذه الأشجار عادة من الضمان الشكل المألوف لاستثمار محاصيل البساتين، علماً بأن الليمون يتم قطافه عادة أوائل الشتاء بينما بقية الأشجار المثمرة تنضج ما بين الربيع وآخر الصيف.
وينبغي أن نقدر إن مجتمع النهر كان غنياً بالبساتين والجنينات وخصوصاً لجهته الشرقية حوالي المولوية. ومن أشهرها، جنينة «القبية».. ولجهة الدباغة/ الزاهرية حيث التفاف النهر الدائري ثم لجهة مصب النهر عند برج رأس النهر...
وما من شيء استلفت انتباه الزائرين من رحالة مسلمين وغربيين ومستشرقين كمنظر جنائن النهر التي ألهمت كل من رآها: شعراً ونثراً ورسماً...
الدباغة، المسلخ، جسر اللحامين
تتداخل ثلاث مهن في عالم النهر وتكاد تتمفصل فيه وهي: الدباغة، المسلخ وسوق/ جسر اللحامين، متجاورة في المكان المعروف باسم الدباغة - المسلخ. وكل منها تحتاج لماء النهر بتفاوت. والدباغة هي الأكثر حاجة واستخداماً له في حين إن سوق اللحامين والمسلخ لا يعدو النهر بالنسبة لهما ان يكون بمثابة المصرف للفضلات والبقايا والنفايات.
إن الدباغة باختصار هي مهنة الاستفادة من جلود الحيوانات بتنظيفها وإعدادها لاستعمالات مختلفة.. وهي كمهنة تتألف من الحلقات التالية: «يأتي الجلد دموياً ويجرى غسيله بالماء وببعض العناصر الكيماوية كالزرنيخ والأسيد بنقعه في حفر صخرية ودوسه بالأقدام لتطرية الجلد ثم بتنشيفه بتعريضه للهواء أو الشمس. وبعد ذلك يتم وضع الملح والكلس والزرنيخ على الجلود لإزالة الفضلات والحشرات ثم كشط الصوف والشعيرات عنه وإعداده جلداً صالحاً للتصنيع المحلي أو للتصدير إلى المدن المجاورة والخارج ومتنوعاً إلى أبواب أو درجات بالنسبة للجودة والنوعية والسعر»...
هذه العملية تتطلب تقسيماً داخلياً فعلياً للعمل وحسب لغة أهل المهنة هناك:
الشليح الذي يشلح الصوف والشعر عن الجلد، الكلاس الذي يكلس، الملاح الذي يملحه، الغسال الذي يغسله، الدعاس الذي يدعسه، النشاف الذي ينشفه.
وتتداخل المهنة مع الماء منذ البداية إلى النهاية فالنقع يجري بوضع حوالي 20 قطعة جلدية في حفرة صخرية تسمى الجرن ويتراوح عمقها 50 سم وتملأ بماء النهر الذي يسال إليها عن طريق ساقية فرعية بعرض 2م يجري التحكم بمياهها عن طريق سكر أو ساقط أو سدة. وتعود مياه الساقية لتلتقي من جديد بالنهر الرئيسي بعد مسافة 100م.
والدباغة كمكان تقع غربي جامع التوبة حيث تمتد بسطتان من خشب متين يضع عليهما الدباغون الجلود للتنشيف أو الضرب عليها أو لنزع الصوف والشعر عنها والبسطة الأولى مشاع لعموم الدباغين بمساحة 40*30م وتعتبر وقفاً للدباغين في حين إن البسطة الثانية هي ملكية خاصة لهشام المصري الدباغ وهو من معلمي الدباغين ومساحتها 30*5م ويعمل عليها لمصلحة صاحبها.
وبما إن طبيعة العمل تفترض اختلاط الجلود بعضها البعض فإن كل دباغ يتعرف على جلود بحفر إشارات ورموز خاصة على الجلد لجهة الرقبة.
ويسود التضامن عمل الدباغين بحيث ينهون عملهم معاً عصر كل يوم وينجزون عمل المتأخر منهم بمساعدته كما أن كبير السن قد يعفى من العمل حيث ينوب غيره عنه بإنجازه.
وكان للدباغين جامع باسمهم على الضفة اليمنى من النهر حيث يؤثر عنهم أنهم يفضلون إقامة الصلاة وتلقي الدروس الدينية في مسجدهم الخاص كما ان لهم مقهى معروف بإسمهم.
وفي محلة الدباغة، بنيت بركة اشتهرت بإسم المحلة وحوضها يعتبر من أكبر أحواض البرك في طرابلس. وكانت تملأ بشراب الخرنوب أو عصير الليمون أو عرق سوس لمدة ثلاثة أيام إحتفالاً بذكرى المولد فيشرب منها الأهالي مجاناً ليلاً نهاراً بالإضافة إلى توزيع حلويات تعرف «بالزردة» من أرز محلى بالسكر ويطبخ المزيج في حلل نحاسية كبيرة مخصصة عادة لغلي الماء المطلوب في مهنة الدباغين. وهؤلاء يستعدون للعيد بتبييض الحلل لدى قدومه ووضعها على جوانب البركة.
وترتبط بالدباغة عدة مهن بشكل من الأشكال: الصواف الذي يجمع الصوف ويتولى تصريفه، والمنجد الذي يستعمل الصوف، والأساكفة الذين يصنعون من الجلود الأحذية والحقائب، والصباغون الذين اشتهر منهم بعض اليهود القاطنين بالقرب من الدباغة في حارة عُرفت قديماً بإسمهم. وما زالت محلة الدباغة إلى اليوم تحتضن مثل هذا الخليط المهني.
وفي العهد العثماني، فإن بعض الطوائف الحرفية المرتبطة أعمالها بعضها ببعض، كانت تتفق على تنصيب مشرف منسق فيما بينها للحؤول دون وقوع الخلافات ويعرف اسم هذا المنسق «أخي بابا» وهو غالباً ما يكون نقيب الدباغين.
ان العدد الاجمالي للدباغين كان في حدود المئة بين «معام وصانع» ولقد ضمر اليوم إلى الثلاثة يدبغون جلود الحيوانات للزينة. وكان من المقرر في الستينات أن تنتقل الدباغة وبطريقة عملها اليدوية إلى مصب النهر عند برج رأس النهر ولكن شيئاً لم يتم، وفي نفس الآونة تأسست مصانع حديثة في منطقة الدورة بالعاصمة ومزودة بتجهيزات ومعدات متطورة لإنتاج الجلود وفيها أشتغل بعض الدباغين من طرابلس. أما الجلود التي يفرزها المسلخ القائم في الميناء حالياً فيقتصر العمل على تمليحها وإرسالها إلى العاصمة بيروت أو تصديرها مباشرة إلى الدول الأوروبية.
أما المسلخ البلدي حيث تذبح الماشية فكان عبارة عن ساحة تمر مياه جدول نهري خاص من تحتها وإليه تسيل دماء الذبائح وفضلاتها مما كان له أثره في انتشار الروائح الكريهة في تلك المحلة. والمسلخ كان أول المهاجرين من منطقة النهر فعام 1950 وبأمر من محافظ الشمال نور الدين الرفاعي، صدر قرار بنقل المسلخ البلدي من منطقة النهر إلى منطقة الميناء حيث كان الإنكليز قد بنوا عام 1942 أثناء الحرب العالمية الثانية مسلخاً خاصاً بهم وفروا له مصاريفه الصحية ومصادر مياهه.
وبين الضفتين اليمنى واليسرى من النهر وعند محلة الدباغة، بني جسر عرف بأسماء مختلفة غلب عليها اسم جسر اللحامين يصل بين محلتي الدباغة والجسرين وقد أشتمل على قنطرتين، اليسرى أعلى من اليمنى وتصل بينهما عدة درجات وعرض الجسر حوالي 6 أمتار وكان في حقيقته سوقاً أكثر منه معبراً أو ممراً.
فعلى جانبيه من الجهة اليسرى، أمتدت عدة محلات للحامين ومحل شهير للحلويات. وعلى الطرف الشرقي من الجسر، بني حمام النزهة وبجانبه مقهى شعبي. أما القنطرة الثانية فدعيت أحياناً بجسر العطارين لوجود بعض محلات العطارة على جانبيه. وعند منتهاه، قنطرة تجمع في شكل مقهى صيادي أسماك النهر وبجانبها مطعم الحنتور الشعبي الذي اختص ببيع أسماك النهر واشتهر بتقديمها مقلية ومشوية. واشتهر المكان هناك أيضاً بوجود الرواسين الذين يبيعون أطراف الذبائح وأحشاءها. ومن أشهرهم الحاج سعيد الشعار الرواس المختص ببيع رؤوس النيفا نيئة أو مشوية أو مطبوخة مع الأرز والفتة.
مقاهي النهر
يتبع