مبانٍ في ساحة الدفتردار آيلة للسقوط فوق رؤوس قاطنيها... والبيّنة بالصور!
سكنها التاريخ ونبتت فيها أنياب الفقر وكانت يوماً بؤرة لـ"دولة القدور"
تحقيق: غصون العوض
كانت في يوم مقرّاً لـ"دولة المطلوبين"، وجد التاريخ لنفسه فيها مستقراً، إنها منطقة "ساحة الدفتار" (الدفتر دار)، مساحة تربّع الفقر بين جنباتها حتى استقرّ فيها دونما انسلاخ، ارتبط في وجدانها، فنبت للفقر أنيابٌ نهشت السلم الأهليّ متسلحاً بالجوع عبر حكايات عن مغامرات "سيّد" السبعينات، فرسمت بطلاً من ورق على هيئة ناصرٍ للمظلومين "أحمد القدّور"... ساحة الدفتردار وحاراتها تغصّ بصور زعامات المدينة والوطن بشكل ملفت، تحتضن تناقضاته، فيصمد الفقر فيها ولا يعرف سبيلاً للخروج منها.
عندما يصبح للفقر أنيابٌ تفترس مفهوم الدولة يقع المواطن فريسة هذا الواقع، يدخل المتقصّي لأحوال هذا الجزء من المدينة القديمة ليجد نفسه في متاهة مَنْ سكن زواريبها. هي منطقة تعيش في غربة عن وطن السياحة والإستثمار، لسان حالها مبانٍ تاريخيّة تنتظر دون أمل من يرمّمها، وقد أضحى معظمها آيلاً للسقوط، كما هو حال العقار الذي تعود ملكيته لحسين عنكليس ويقطن فيه المواطن رباح البش وأخاه وسبعة صغار هم قاب قوسين أو أدنى من وقوع كارثة حتمية، إذ أن جدران المنزل متفسخة بمسافة تتعدى عرض كف اليد، وستبيّن الصور المرفقة بالتقرير واقع المأساة، والبلدية كعادتها لا عين ترى ولا أذن تسمع.
ويقول رباح البش في هذا السياق ناقلاً شكواه عبر "البيان" لعلّ صغاره ينجون من الكارثة المحققة: "تقدمنا بطلب الى البلدية عبر موظف يدعى "ابراهيم" وقيل لنا إن البلدية غير معنية برفع هذا الضرر، لأن المنزل ليس على الشارع العام، وقالوا إنهم سيأتون قريباً للمعاينة، والى اليوم لم يأتِ أحد لرفع خطر الكارثة، فالحائط متفسّخ، وسيهبط على رؤوسنا في أية لحظة. السقف في الشتاء يتحوّل الى سماء ممطرة والأرض الى بركة مياه.. هذه حالنا فالعين بصيرة ويدنا قصيرة. لقد قمت في محاولة بائسة لرفع الضرر عن أولادي، فوضعتُ سقفاً من الخشب "المعاكس" الذي اهترأ بدوره بسبب المطر، فهذا الشتاء أتى قاسياً كما ترون".
مهجّرون داخل الوطن
"البيان" وحرصاً منها على نقل الحقيقة بأمانة، قامت بجولة تفقدية للزواريب المؤدية لساحة الدفتردار وعادت بالإستطلاع التالي المرفق بالصور:
المختار مازن ضناوي ثائر على الواقع. فهو واقعيّ حدّ التطرّف في وصف حال أهالي ساحة الدفتردار والجوار فيقول: "الفقر هو العنوان العريض لكل ما تشاهدونه في طرابلس القديمة، فنحن مهجّرون داخل وطننا، ونحن متروكون للقضاء والقدر، ولا من يزور المنطقة من زعامات ليقفوا على واقعها ولا من يحزنون، ما زلنا نستخدم البنى التحتية التي بناها العثمانيون. فماذا ينتظر زعماء المدينة كي يبنوا المصانع ليؤمّنوا العمل لشبابها العاطل عن العمل والمتسكع في شوارع الجهل والرذيلة. واقع الحال على ما هو عليه منذ أربعينيات القرن الماضي، البشر والحجر واقفون على "pause" ولكن باستطاعة الزعماء تغيير عادة توزيع الحصص الغذائية وربطات الخبز وتسديد مبلغ 50 ألف ليرة مقابل رفع الصور، فهم في أكثريتهم حاضرون بالصورة وغائبون بالفعل عن إنماء طرابلس القديمة.
رحم الله زمن "القبضايات"
فيما المواطنان أبو العبد صميدي وأبو علي زقية، يسجلان شهادتهما على الفقر عندما نبتت له أنياب لتتحوّل ساحة الدفتردار الى مقرّ لدولة المطلوبين خلال الثمانينات (برئاسة أحمد القدّور وابراهيم الصمدي)، فقالا: "في هذه الحواري عاش قبضايات طرابلس من آل الغلاييني مثلاً، وكان فيها منازل كبار الشخصيات آل كرامي وآل ميقاتي، ولكنهم نسوها وتركوا الفقر لينهشها، وفي زمن دولة "القبضايات" عاش الفقراء بسلام وأمان وشبع، حيث كان يُؤمَّن لهم الدواء والطعام، أما اليوم فنحن متروكون للفقر ينهشنا ولا أحد من زعامات المدينة يذكرنا إلا خلال في موسم الانتخابات". فيما مواطن من آل المصري ينقل عبر "البيان" شكواه الى البلدية كي ترفع مكب النفايات القابع مقابل جامع أرغون شاه مسيئاً للأبعاد الدينية والتاريخية والحضارية للمكان."
مدينة الآثار على كتف الإهمال
أما عن أبرز ما بقي من معالم طرابلس الأثرية في ساحة الدفتردار، فلقد وصفت المجازة في علم الآثار الآنسة نسرين بزاز واقعها قائلة: "لا زال سبيل الدفتر دار داخل الساحة موجوداً وشاهداً على أن التاريخ مرّ من هنا، وتتوجه لائحة رخامية تذكر تاريخ إنشائه واسم بانيه وهو قريب من المدرسة الدبوسية التي تطلّ بوابتها مباشرة على الساحة نفسها والتي حوّلت الآن الى مستودع لأحد أفراد العائلة المستأجرة بعقد رسمي من دائرة الاوقاف. وتحوي الساحة أيضاً الحمام الجديد، وهو من بناء أسعد باشا العظم، وقد لقّب بالجديد لتمييزه عن الحمامات المملوكية القديمة في عهده، الى الشرق الجنوبي من واجهة الحمام الرئيسية هناك سبيل التينة، وهو أقدم السبل المملوكية وقد أرّخ لإنشائه عبر لوحة فوقه وعليها شعار الدوادار، لا إضافة الى جامع محمود لطفي الزعيم المعروف بالجامع المعلق بجوار الحمام الجديد ويتم الصعود إليه عبر درج يحمل فوق عتبته كتابة تذكر التعديات اسم بانيه وتاريخ إنشائه، ولا بدّ للبلدية وزارة الثقافة والسياحة وكل المعنيين بترميم الآثار الحفاظ عليها سليمة من وعوامل الطبيعة والزمن" .
نُشرت في جريدة البيان بتاريخ 7 آذار 2012