كنائس طرابلس تروي تاريخ العيش المشترك في المدينة
تدمري: كنيسة السبعة تنازلت عنها أسرة مسلمة وكانت مصبغة
|
|
مساجد وكنائس جنباً الى جنب. |
جامع وكنيسة في شارع الكنائس التربيعة. (ن. ع.) |
من حق طرابلس، المدينة ذات الأغلبية المسلمة، الافتخار بأنها حافظت على معالم العيش الواحد بين أبنائها على اختلاف أديانهم ومذاهبهم والذود عن كنائس المدينة، حتماً في عز الايام الحالكة.
تفاخر عاصمة الشمال بأن العديد من شوارعها وساحاتها وحاراتها تدل الى طابع ساكنيها من المسيحيين، الذين آثروا البقاء في مدينتهم رغم بعض الزوابع التي أثارها مشبوهون لا يمتّون الى أصالة طرابلس ولا الى تراثها الديني واخلاق أبنائها بصلة.
وليس أدل الى هذه العلاقة الوطيدة من استمرار تسمية "شارع الراهبات"، و"شارع الكنائس"، و"شارع مار مارون"، و"حارة النصارى"، و"حارة السيدة" بجوار حارة البرانية، و"شارع المطرانية"، فضلاً عن تسمية العديد من شوارع المدينة بأسماء بطاركة الروم الارثوذكس والموارنة والكاثوليك.
تدمري
يؤكد مؤرخ طرابلس الدكتور عمر تدمري إن أماكن وجود هذه الكنائس تنبئك بمدى تداخل علاقات الجوار، وحرص المسلمين عليها، ومن هذه الكنائس الشهيرة، كنيسة مار نقولا للروم الارثوذكس في حي النصارى حيث توجد كنائس عدة، معظمها أثري، ومنها هذه الكنيسة التي كانت في الاساس مصبغة لأسرة طرابلسية مسلمة تنازلت عنها وحُوّلت كنيسة عرفت بكنيسة السبعة، وقد جرى تأسيسها العام 1809. وبقربها أقيمت كنيسة مار جاورجيوس للروم الارثوذكس ايضاً بين عامي 1862 – 1873، وكنيسة مار مخايل للموارنة، وقد بنيت العام 1889، وتقابلها كنيسة صغيرة لطائفة اللاتين ملحقة بمدرسة الطليان. وعلى مسافة دقيقة في شارع الكنائس باتجاه الشمال نجد كنيسة مار يوسف للسريان الكاثوليك، وكانت في الاساس للفرنسيسكان، وقد بنيت في أواسط القرن التاسع عشر.
ويشير تدمري الى وجود "مزار السيدة" للروم الارثوذكس في جوار مسجد البرطاسي من العصر الصليبي، يزوره المؤمنون حتى اليوم، وتظهر الحروف اللاتينية منقوشة على عقده. وفي رأس الشارع المؤدي الى الجامع المنصوري الكبير تقع الكنيسة الانجيلية للبروتستانت، ولهم ايضاً كنيسة أخرى في شارع الثقافة.
وفي منطقة القبة بقيت كنيسة مار مخايل للموارنة تحافظ على موقعها رغم كل الحوادث التي جرت. كما أن كنيسة اليعاقبة في نزلة الزحّول المتفرعة من القبة لا تزال تطل على السويقة، رغم ما مرّ في المنطقة من توترات. والامر نفسه مع كنيسة السيدة في حارة البرّانية، والتي سميت المنطقة باسمها "حارة السيدة".
ولعل أحدث الكنائس، كنيسة مار مارون، وموقعها في وسط المدينة خير مثال على تواصل الطرابلسيين في ما بينهم، حيث كانت قاعة محاضرات هذه الكنيسة – ولا تزال – أحد أوجه طرابلس الثقافية، بما كانت تستقبله من كبار المحاضرين من كل اختصاص، وهي تشارك في إبراز الوجه الثقافي والحضاري لطرابلس مع سائر المؤسسات الثقافية في المدينة.
ولا بد من الاشارة – يتابع تدمري – الى أقدم كنائس المدينة بجوار قلعة طرابلس داخل حرم المقابر المارونية، وهي صليبية قديمة من قسمين متلاصقين، بينهما باب مشترك داخلي يؤدي الى خلوتين من الصمت والسكينة والوقار.
ان بقاء هذه الكنائس، وبناء الجديد منها في جوار مستشفى النيني، وفي الميناء، له العديد من المعاني الايجابية التي تفتخر بها طرابلس ويعتزّ بها ابناؤها، من دون منة أو فضل، انطلاقاً من أعرافهم وتقاليدهم وأوامر دينهم التي تحضّ على حسن الجوار والمحافظة على معابد الآخرين ومعتقداتهم.
بلد الزهّاد
ويلفت المؤرخ تدمري الى أن جبال لبنان كلها وسواحله كانت تشهد سياحات الزهاد والعباد والمتصوّفة والنسّاك، وقد حفلت المصادر بأخبار لقاءات المحبة التي كانت تجمع ما بين الزهاد والعباد المسلمين وبين الرهبان والنساك النصارى، وتبادل المواعظ والحكم والاشعار، ومنهم "إبرهيم بن أدهم" و"ذو النون المصري".
واضاف: لقد حبا الله لبنان بجمال الطبيعة المقترن بصفاء الروح وعظيم القيم التي تمثلها أماكن العبادة على تنوعها، وكلها تدعو الى الخالق المبدع الواحد. ولقد تحدثنا في غير محاضرة ومؤلف عن هذه العلاقة الودية بين المسلمين والنصارى في طرابلس عبر تاريخها الطويل، والمتميز بوطيد الصداقة والألفة وحسن الجوار، وقد سجل التاريخ ومضات مشرقة من تلك العلاقات الطيبة التي كانت تجمع بين الطائفتين، وقد تجلت بأبهى صورها إبان الحرب العبثية التي شهدها لبنان في الربع الاخير من القرن المنصرم، فكانت طرابلس مثالاً للوطنية الحقة وعنواناً للتاريخ المشترك. ولا غرو فهذه السمة طبعت أبناء المدينة منذ مئات السنين، ولا أدل الى ذلك من حرص الطرابلسيين على المحافظة على الكنائس في مختلف أحياء المدينة وتصديهم لمن يحاول الاساءة اليها أو الاعتداء عليها من بعض ضعاف النفوس الموتورين الذين كان بعضهم يرمي الاساءة الى سمعة طرابلس، وهؤلاء بالطبع لا يمثلون اخلاقيات طرابلس وقيمها وتراثها.
ويحرص المسلمون على تأدية واجب العزاء في هذه الكنائس بصورة لافتة، ما يشير الى ازدياد الصداقات في كل الأحياء المختلطة، كما في منطقة النوري والكندرجية والسرايا القديمة والتربيعة والقبة والزاهرية، وغيرها من المناطق التي تشهد بروعة هذه العلاقات التاريخية.
ويختم تدمري مشيراً الى سجلات محكمة طرابلس الشرعية التي تتضمن العديد من الشهادات على هذه العلاقات، وعلى إنصاف هذه المحكمة للنصارى في كل القضايا التي تثبت فيها أنهم أصحاب حق، حتى ولو كان الخصم من كبار الشخصيات الطرابلسية الاسلامية، وهذا مدوّن في شهادات مثبتة ووثائق مدوّنة تؤكد حرص الطرابلسيين وتمسكهم بالوجود المسيحي.
الأب سروج
يقول الكاهن الارثوذكسي الأب ابرهيم سروج: لا شك في أن بقاء الكنائس في أبهى حلتها في مدينة مثل مدينة طرابلس ذات الاكثرية الاسلامية إنما هو دليل الى التسامح والتواصل والود يشهد بذلك تاريخ هذه المدينة وآراء سكانها من المسيحيين، على الرغم من بعض المحطات المؤسفة التي لا نرغب في استعادة ذكراها لأنها بعيدة من اخلاقيات المدينة وقيمها. وما عدا ذلك فإن طرابلس كانت – ولا تزال – مثالا للعيش المشترك، ولم يكن فيها من حوادث ذات طابع طائفي إلا من قبل غرباء اتسموا بالجهل والغباء والتطرف البعيد كل البعد من روح الاسلام.
ويعرض الأب سروج العلاقة التاريخية بالروم الارثوذكس – الطائفة المسيحية الكبرى في طرابلس – فيؤكد ان العائلات الارثوذكسية عريقة وفاعلة في هذه المدينة، إذ كان آل صرّاف من المقدّمين عند مصطفى آغا بربر، وقليلون يعلمون عن الروم الأرثوذكس أنهم قاتلوا مع جيش صلاح الدين الأيوبي ضد الغزاة الفرنجة الذين اعتبرهم الروم الأرثوذكس غرباء محتلين، فالحروب الصليبية لم تكن خطراً على المسلمين وحسب، وإنما على المسيحيين الشرقيين وحاضرتهم بيزنطية.
ويسترجع الأب سروج بعض ذكريات طفولته وصباه حيث كان يقطن في القبة، ويتجاور مع عائلات مسلمة فيقول: كنا نملأ المياه من الجامع ونتبادل الطعام مع الجيران، وخاصة في شهر رمضان المبارك، حيث كنا نسكن في بنايات مشتركة، وندرس في مدارس رسمية في الزاهرية والقبة، ولم نميز في صداقاتنا مع المسلمين "لقد كانت أياماً طيبة".
ويلفت الأب سروج الى أن العائلات الأرثوذكسية عريقة في طرابلس، ومعروفة بعلاقاتها الوطيدة مع المسلمين تجارياً وثقافياً، ومن خلال الجمعيات، وفي المؤسسات التربوية التي كانت ولا تزال تحتضن طلاباً من المسلمين والمسيحيين.
ثم يعرض أسماء بعض العائلات التي إنقرض ذكرها او غادرت طرابلس، مثل عائلات ينّي وصدقة وصيبعة وكاستفليس وغيرها من العائلات التي آثرت الانتقال الى العاصمة أو الى المهاجر.
ثم يستدرك قائلا بعتب: "كنا نتمنى نحن الارثوذكس ان يبقى اسم آل نوفل على القصر الذي أهدوه الى بلدية طرابلس، ليكون رمزاً لهذه العلاقة الطيبة بين هذه العائلة وبين مدينتهم، لا أن يصبح "المركز الثقافي البلدي" او "مركز رشيد كرامي الثقافي" وهذه ملاحظة صادقة لا بد أن نعرب عنها".
نعيم عصافيري