رياض فؤاد دبليز يروي:
طرابلس قبل عام 1900
كم تختلف طرابلس اليوم، عن طرابلس ما قبل ستين عاماً خلت؟
هذا السؤال لا يستطيع الإجابة عليه بصدق واسهاب، سوى مواليد النصف الأخير من القرن الماضي، الذين عايشوا تلك الحقبة الممتدة عبر قرنين.
ومن عدد من هؤلاء الشيوخ، جمعنا هذه المعلومات الطريفة عن طرابلس ما قبل عام 1900، وعن أهلها ونمط معيشتهم في ذلك العصر، وعاداتهم وتقاليدهم وحياتهم الاجتماعية، وأسباب اللهو والتسلية التي كانت شائعة بينهم.
وفيما يتبرم شباب اليوم، من رجعية التقاليد التي يقولون أنها تحول بينهم وبين التمتع بحرية المعيشة، وفيما تضج فتاة عام 1959 من ضيق نطاق حريتها وظلم التقاليد التي تمنعها من أن تعيش كما تشتهي.. وفيما يتضجر المسافر إلى بيروت مثلاً، من الجلوس ساعة في السيارة ويعتبرها مدة طويلة تزهق الروح. وفيما لم تعد دور اللهو وصالات السينما والسهر إلى منتصف الليل، تكفي المرء للترويح عن النفس. وفيما نعتبر مصابيح الكهرباء تضيق الصدر لشح نورها، ونطلب التنوير بالفلورنست. وفيما تقوم قيامة الأهلين من حفرة صغيرة في الأرض سهت عنها البلدية يوماً ولم تصلحها.
وفيما لا نجد أحداً راضياً بما هو عليه او قانعاً بما وصلت إليه يداه. تعال نعود إلى ما قبل ستين عاماً، لنرى كيف كان يعيش أجدادنا وجداتنا، وكيف كانت حالهم بالنسبة إلى حالنا، وما إذا كان أحد منا يتمنى لو عاش في عهدهم:
كان سكان طرابلس، قبيل سنة 1900 لا يتجاوزون الثلاثة عشر ألفاً، يحكمهم والٍ من قبل السلطان يطلق عليه لقب متصرف.
وكانت حدود طرابلس ما يعرف اليوم بالمدينة القديمة. أما منطقة التل التي تعد من أهم المراكز التجارية في المدينة، اليوم، فكانت عبارة عن رمول وتلال يلتقي فيها الفرسان أيام الجمعة والأعياد للتسابق والرهان.
ومن طريف ما يروى أن آل الحسيني عندما بنوا في منطقة التل بنايتهم المعروفة بإسمهم حتى اليوم، والتي لا تبعد عن المدينة القديمة، أكثر من مايتي متر، دهش الناس لأمرهم وخافوا عليهم من أن تأكلهم "الواويه"..
وعندما كان مدحت باشا متصرفاً على طرابلس، أسس شركتين، الأولى شركة الترامواي، غايتها تأمين المواصلات بين طرابلس والميناء، والثانية تسمى "شوسه" وغايتها تأمين المواصلات بين طرابلس وحمص وحماه.
أما الترامواي فكان عبارة عن عربات تسير على خط حديدي تجرها الخيل والبغال، ومنها ما كان ذا طابقين.
وقد استقبل الطرابلسيون هذا الحدث بكثير من الدهشة، إذ أنهم إعتادوا في مواصلاتهم بين طرابلس والميناء، على ركوب الحمير التي كان لها "كاراجات" خاصة في المدينة وتؤجر بالساعات.
ولما أنشئ الترامواي صعق القنصل الفرنسي في طرابلس يومذاك، لهول المفاجأة باعتبار أن طرابلس مدينة صغيرة ولا يوجد فيها من يركب الترامواي، حتى أنه جلس يوماً على أحدى المرتفعات الرملية في منطقة التل، من طلوع الشمس حتى غروبها، يحصي القادمين والذاهبين من طرابلس إلى الميناء فلم يتجاوزوا المئة.
وكانت أجرة الراكب في الترامواي، "تك" ثم إرتفعت إلى "تكين". وكان للتك في ذلك الوقت قيمة شرائية ممتازة تساوي اوقية لحمة وكيلوين كوسا.
أما الشركة الثانية، فلديها عربات تسمى "ديليجانس" مؤلفة من طابقين وتجرها ستة خيول، وعربات أخرى تسمى "كارو" لنقل البضائع تسير بشكل قوافل تتألف كل منها من 25 إلى 30 عربة.
وقد أنشأت هذه الشركة الطريق المعروف اليوم بين طرابلس وحمص وحماه وأقامت الجسور على الأنهار والوديان وكان لها مراكز على طول الطريق فيها موظفون وياخورات تضم عدداً من الخيول لاستبدالها بالخيول المتعبة، وكانت مهمة الموظفين إستيفاء رسوم معينة من المسافرين الذين يمرون على هذه الطريق. والطريف أن المسافر من طرابلس إلى حمص كان يركب في "الديليجانس" عند منتصف الليل ليصل حمص بعد غروب شمس اليوم التالي..
* * * *
وفي ذلك الوقت كانت البلدية، عبارة عن غرفتين واحدة للرئيس والأعضاء، والأخرى لطبيب البلدية، وكان كل موظفيها أمين صندوق وخمسة جلاوذة أنيط بهم ملاحقة جميع القضايا المتعلقة بالبلدية.
وكان لرئيس البلدية شأن كبير، فكانت المدينة تحتفل بانتخابه احتفالات رائعة تقام فيها الزين والأفراح عدة أيام.
أما شوارع المدينة فكانت غير مبلطة، وكان الأهلون، في أيام الشتاء، يستعملون القباقيب العالية، لاتقاء الأوحال، وكانت هذه الشوارع ضيقة لدرجة ان بعضها لا يتسع لمرور شخصين في وقت واحد، وكان التاجر في سوق البازركان مثلاً إذا احتاج لغرض ما من جاره في المحل المقابل لمحله، يتناوله منه يداً بيد دون أن يضطر للخروج من محله.
ومما يذكر أن البلدية قامت بتوسيع سوق البازركان مرتين خلال الخمسين سنة الأخيرة، ومع ذلك ما زال عرضه دون الثلاثة أمتار!.
أما وسائل الإضاءة، فكانت بدائية، عمادها السراج، وهو عبارة عن آنية من الفخار يوضع فيها زيت وفتيلة من القطن، وكان الأهلون عندما يخرجون من منازلهم في الليل، يحملون "بالونات" من الورق المدهون بالزيت كي لا تحترق، وفي داخلها سراج او شمعة.
وعندما أحضر عمر أفندي المنلا من استامبول قنديلاً نمره 3 يضاء بالكاز، عده الأهلون معجزة خارقة وراحوا يتوافدون على داره زرافات ووحدانا ليشاهدوا الماء السحري الذي يشتعل ويضيء.. إذ أنهم حسبوا أن الكاز ماء!.
ولما بدأت البلدية بإنارة بعض شوارع المدينة بالفوانيس هلل الأهلون وقامت مظاهرات الإبتهاج للعمل العظيم الرائع الذي قامت به البلدية.
وكان يضيء هذه الفوانيس موظف في البلدية يحمل سلماً ويطوف كل مساء عليها، وكان لا يصل إلى بعضها إلا بعد منتصف الليل! ثم يعود صباحاً، يحمل قصبة طويلة ينفخ فيها على فتيل الفانوس فيطفئه.
أما طبيب البلدية فكانت مهمته معاينة المرضى، وكان يلاقي صعوبات كبيرة عندما يكون المريض امرأة. إذ كانت تجلس في غرفة ويجلس الطبيب في غرفة أخرى، فتصف له ألمها وعليه أن يصف الدواء.
وهناك أناس متعصبون لا يتساهلون مع نسائهم بإسماع أصواتهن إلى الطبيب، فكان الزوج مثلاً يعمل رسولاً بين زوجته والطبيب فتقول له عما يؤلمها، فيروي ذلك بدوره للطبيب. وإذا أراد الطبيب الاستفسار عن بعض الأشياء منها، فلا سبيل إلى ذلك إلا بواسطة.. الرسول الأمين!.
ومن أطرف ما يروى أن طبيب البلدية، اضطر لحقن إحدى السيدات بحقنة مخدر، ولما لم يجد ذوو السيدة بداً من ذلك، سمحوا للطبيب أن يقوم بمهمته، وكم كانت دهشته عندما رأى شبحاً متشحاً بالسواد لا يظهر من جسده سوى موضع صغير يتسع للحقن!..
وكانت الكينا وزيت الخروع والملح الانكليزي، الأدوية التي يصفها الطبيب في معظم الحالات. وكان الطبيب يستنجد بعدة أشخاص ليتمكن من تجريع مريضه شربة الملح الانكليزي، وذلك بعد تكتيفه وفتح فمه بالقوة.
أما الأسنان فكان يتكفل بها الحلاق الذي كان يعمد إلى اقتلاع الضرس أو السن بالخيط أو الكماشة وتسمى "الكلبة" فإن عاش صاحبها كان له عمر... وإن مات يكون هذا هو أجله المكتوب!.
ولم تكن مهمة الحلاق تقتصر على الحلاقة ومعالجة الأضراس والأسنان، بل تعدتها إلى مدادة القرع والدمل والفسافيس وإستنزاف الدم الفاسد بواسطة العلق إلى ما هنالك من أمراض جلدية.
* * *
ولعل أهم ما تميز به ذلك العصر، هي العادات والتقاليد الإجتماعية، فقد كان للطبقية شأن وأي شأن، وللألقاب مكانة وحرمة لا يستطيع أحد أن يتعدى عليهما، حتى أن قاضي الشرع الشريف في ذلك العصر الأستاذ أحمد أفندي سلطان، كتب في إحدى الحجج الشرعية، بأنه حضر مجلس الشرع مولانا وأستاذنا العلامة الكبير ولي الله الشيخ محمد رشيد أفندي الميقاتي، وعندما علم أفندية المدينة بهذه الكتابة، قامت بينهم ضجة عظيمة واحتجوا على قاضي الشرع الذي انتهك حرمتهم وفرط بحقوقهم وأطلق لقب أفندي على الشيخ محمد رشيد الميقاتي...
وبلغ من تعصب أحدهم أنه عندما التقى القاضي، قال له أمام الناس: لقد قبلنا أن تقول عن فلان أنه علامة وولي الله ومن سلالة البيت الكريم.. أما أن تقول عنه أفندي، فلا نقبل بذلك مطلقاً.
وكان لبعض وجهاء المدينة من آل الشنبور والثمين والمنلا والسندروسي وكرامي والمقدم والزعبي وعلم الدين والمغربي وخضر آغا وغيرهم، منازيل يختلف اليها الناس، ولكل منزول أشخاص معينون يترددون عليه. وكان عبارة عن غرفة كبيرة تتألف من قسمين الأول يسمى "ليوان" وهو في صدر الغرفة ويرتفع عن القسم الثاني الذي يسمى "عتبة".
وكان صاحب المنزول يجلس في صدر "الليوان" يحيط به زواره من الأفندية والوجهاء، يحتسون القهوة ويدخنون (الشبق) ويشبه إلى حد كبير النارجيله. أما الذين يجلسون في العتبة فهم من عامة الشعب من أبناء الحي، ولا يحق لهم مشاركة الأفندية بإحتساء القهوة وتدخين الشبق، حتى ولا بالحديث.
أما الأحاديث فكان جلها يدور حول الطعام والشراب وأنباء العاصمة استامبول.
وبلغ من تعصب الأفندية لطبقيتهم أنهم كانوا إذا ذكروا اسم القصاب أردفوه بكلمة "أجلك الله" والكندرجي بكلمة "أنت أكبر قدر". حتى أن البعض كانوا لا يسمحون لأي كان يلبس الفرو في الشتاء، لأن إرتداءه من إمتياز الأفندية دون سواهم.
وللألقاب مكانة إجتماعية تختلف باختلاف درجاتها، فهناك لقب "رفعتلو" للأفندي، و"عزتلو" للبيك، و"سعادتلو للباشا، ولصاحب كل من هذه الألقاب لباس خاص مزركش يظهر به في الحفلات العامة.
ولعل أجمل هذه الحفلات، تلك التي كانت تقام إحتفاءً بجلوس السلطان، أو عند ولادة سلطان جديد، فقد كان المتصرف يجلس في السراي وفي حضرته فرقة موسيقية مؤلفة من عازف على القانون وآخر على العود وثالث ينقر على الدف ورابع على الدرنبكة وكانوا عندما يحضر المدعوون من رتبة رفعتلو يعزفون له نغماً قصيراً مختصراً وعندما يحضر آخر برتبة عزتلو يكون العزف أكثر وأطول، أما سعادتلو فقد كانت الفرقة تعزف له قطعة موسيقية كاملة وبحماس أشد.
وتنتهي الحفلة بأن يقف الجميع ويصيحون بصوت واحد (بادشاهم شوق باشا) أي يحيا مليكنا كثيراً.
وكانت هناك عادات يراها الآباء ضرورة لبقاء هيبة العائلة وأهمها الطاعة العمياء التي يتطلبها الأب من أبنائه.
فقد كان الابن، ولو بلغ الأربعين من عمره، لا يستطيع الكلام في أي مجلس يحضره والده، ولا يمكنه التدخين أمامه أو أن ينزع طربوشه عن رأسه، وكم تعرض رجال للنقد العنيف لأنهم حلقوا شواربهم، أو وضعوا زهرة على صدورهم.
ولخمسين سنة خلت عندما طلب المشرفون على إدارات المدارس من تلامذتهم لبس "البنطلون" قامت في المدينة ضجة كبرى وسادها هرج ومرج وامتنع معظم الآباء عن إرسال أولادهم إلى المدارس، وآثروا عدم تعليمهم على لبس البنطلون.
وكان اللباس المفضل "السروال" فوقه سترة قصيرة تسمى "كبران" وشملة عريضة تلف حول الخصر.
وبلغ من سيطرة الآباء على الأبناء أن الشاب كان يتزوج من فتاة لم يرها في حياته ولا يعلم ما إذا كانت جميلة أم دميمة، طويلة أم قصيرة، فيكفي أن يقول له أبواه، لقد خطبنا لك فلانة.. ليقبلها على علاتها!!
وفي ليلة العرس كان أهل الحي يقومون بمرافقة العريس فيسير أمامه حاملو الشموع على صفين ويسير وراءه صف آخر من الشباب متشابكي الأيدي لحمايته من مزاح أصدقائه، الذين يقومون بهجمات متتابعة متكررة عليه، يخزونه بالأبر والدبابيس.. وبحكم التقاليد يضطر المسكين لتقبل هذه "التهاني" مرغماً ولا يصل إلى بيت العروس إلا وقد تخضبت ثيابه بالدماء..
وفي كثير من الأحيان كان يصل مغمياً عليه من كثرة ما سال منه من دماء.. ومن خوفه من مواجهة العروس التي لم يشاهدها من قبل!.
وكانت المرأة لا تغادر منزلها إلا نادراً، وإذا مرت إحداهن في مكان وجد فيه بعض المارة من الرجال، فأنهم يشيحون بوجوههم ناحية الحائط حتى تمر بهم.
وكانت إذا طرق باب بيتها طارق، مضت إلى الباب وقد وضعت في فمها منديلاً كي لا تتميز نبرات صوتها.
وإذا كان القادم ينقل بعض الحاجيات لصاحبة البيت فإنها تعمد إلى لف يدها بمنشفة أو قطعة قماش حتى لا يرى يدها وهي تتناول منه الحاجيات.
ولا يقتصر تصرفها هذا مع الرجال فحسب، بل ومع الأولاد الذين لا يتجاوزون العاشرة من أعمارهم. وكانت الفتيات يرتدين الحجاب منذ الثامنة أو التاسعة من أعمارهن.
والذين يعرفون القراءة والكتابة كانوا يعدون على الأصابع، وكان بعضهم يضع في وسطه دواة نحاسية طويلة للدلالة على أنه يجيد الكتابة.
أما قضاة المحاكم فكان وجهاء المدينة يعينونهم من قبلهم، وكانوا لا يعرفون شيئاً عن القوانين، فيحملون القضايا بطريقة عشائرية.
وكان المحكومون بالسجن يرسلون إلى القلعة، التي كانت سجناً رئيسياً لسوريا ولبنان وفلسطين، حتى أن بعض السجناء كانوا يرسلون إليها من تركيا، وكثيراً ما كانت تضم ما بين 1500 و2000 سجين. وعندما أُلغي سجن القلعة في مطلع القرن الحالي أصيبت طرابلس بأول ضربة إقتصادية، إذ كان ذوو السجناء يحضرون لزيارتهم من جميع المناطق ويقضون أياماً في طرابلس يبعثون في أسواقها النشاط والحركة.
وتتندر الأوساط الطرابلسية، حتى اليوم، بحوادث غريبة وقعت داخل القلعة، فقد حدث أن طلب أحد السجناء ويدعى سليم الشغري، من حارس القلعة السماح له بمغادرتها لساعة أو ساعتين، لاحضار بعض البرتقال من الجنائن الواقعة على ضفتي النهر تحت القلعة ولما رفض الحارس طلبه، أحضر سليم مظلتين، وكانت المظلة في ذلك العصر أكبر من المظلة المعروفة اليوم، وترتكز على قضيب متين من الخزيران، وأخذ يربط أطوافهما إلى القضيب بواسطة الحبال، حتى أضحت تشبه "الباراشوت" التي يستعملها الطيارون اليوم، ولما هبط الليل، وقف سليم على حائط القلعة، وانتظر حتى هبت نسمة هواء قوية، فقفز وهو متعلق بالمظلتين ووصل الأرض سالماً.
وقبل طلوع الفجر، عاد سليم إلى القلعة وطرق بابها فأطل الحارس ليرى من القادم.. ولم تكد عيناه ترى سليماً حتى صعق لهول المفاجأة ولم يصدق عينيه إلا بعد أن تأكد من أن سليماً ليس في القلعة.
ومنذ ذلك الوقت، منع دخول المظلات إلى القلعة.
وهناك حادثة طريفة أخرى بطلها يوسف كراد فقد لجأ هذا إلى حيلة من أغرب ما تفتق عنه العقل، في ذلك الوقت، فقد كان مدمناً على تعاطي الحشيش، ولما سجن في القلعة، لم يعد بإمكانه الحصول عليه، فطلب من حارس القلعة السماح له بتربية بعض طيور الحمام، لتكون له مسلياً في سجنه، فأشفق الحارس عليه ووافق...
وبعد أن اعتادت الطيور على مأواها الجديد، بدأ يوسف ينفذ خطته بأن راح يعطي أحد أصدقائه الذين يزورونه بعض الحمام بحجة بيعه أو إستبداله، وكان هذا يأخذه ويربط إلى رجليه قطعة من الحشيش ثم يطلقه في الفضاء... وبالطبع كان الطير يعود إلى رفاقه.. في القلعة.. وهكذا كانت تصل الحشيشة إلى يوسف، إلى أن أكتشف أمره...
أما الناحية الإقتصادية في المدينة، فكانت تعتمد على صناعة الصابون وزراعة الحمضيات والزيتون وإستخراج الزيت وتجارة الحبوب والحرير.
وكانت ترسو في مرفأ طرابلس، بين الفترة والفترة، بعض المراكب الصغيرة، تحمل بضائع ومواداً غذائية، وكانت هذه المراكب تقترب من الشاطئ وينزل الحمالون إلى البحر ويخوضون فيه حتى الصدور، ليحملوا على رؤوسهم أو أكتافهم أكياس البضائع إلى الشاطئ..
ومن طريف ما يذكر أنه في إحدى السنوات استورد التاجر الحاج عبد القادر علم الدين ماية شوال أرز، استهلكها سكان طرابلس في سنة كاملة، وكان استيراد واستهلاك هذه الكمية "الكبيرة".. موضع عجب وتندر الأهلين!..
أما السكر فكان يباع في الصيدلية.. لا في مخازن السمانة، إذ إن استعماله كان نادراً، وكان الأهلون يعتمدون على الدبس والعسل.
وكان في المدينة محلان لبيع الحلويات أحدهما في حي الصاغة، والثاني في حي النوري، وكان يعد ذا حظ كبير من كان منهما يبيع "صدر" كنافة في اليوم لا يزن أكثر من عشرة كيلوات.
* * *
وفي أول شهر محرم من كل عام يدب نشاط كبير في الأسواق، إذ كان الطرابلسيون يعتقدون أنه محرماً عليهم البقاء في بيوتهم أكثر من سنة ولذا كانوا يغيرون منازلهم في أول شهر محرم، مطلع العام الهجري، وابتداء السنة التأجيرية، ويظل الناس منهمكين في نقل أثاث منازلهم عدة أيام. ومن النادر أن يخلي شخص ما منزله في هذا الشهر..
وكانت المدينة ذات أبواب منها باب التبانة وباب الحديد وباب الرمل وبوابة الحدادين، وكانت تغلق بعد صلاة العشاء وكثيراً ما يأتي أغراب في الليل فيضطرون للبقاء خارج المدينة حتى الصباح..
وكان الطرابلسيون يشربون من مياه أبي علي، وكان لها "منافس" أي منافذ في بعض أنحاء المدينة تتفرع منها أقبية تنقل المياه إلى البيوت بقساطل فخارية تحت الأرض. وكثيراً ما كانت هذه الأقبية تتعرض للكسر أو التشقق، فتتسرب منها المياه وتضيع داخل الأرض، ولا تصل إلى البيوت. وكانت طريقة إصلاحها أن يأتي القنواتي فيضع كمية من التبن في مجرى القناة التي أصابها العطب وغالباً ما كان يستعين بالزبل فيأتي به من زريبة الحيوانات ويدفعه في مجرى الماء فتحمله المياه الى حيث يلتصق بالشقوق فيسدها.. وهكذا تصل المياه الى البيوت ليشرب منها الناس هنيئاً مريئاً..
وظلت الحال على هذا المنوال حتى عام 1935، حين بدأ تنفيذ مشروع مياه رشعين.
* * *
وكان كل ما في المدينة من دور اللهو وأسباب التسلية، هما "خيمة كراكوز" و "الحكواتي" حيث يقضي الناس سهراتهم وتقومان لديهم مقام الملاهي ودور السينما المعروفة اليوم.
وكان أمير الكراكوزاتية في ذلك الزمن، الحاج محمود الكراكيزي، فقد كان نابغة في هذا المضمار، أديباً ونقاداً، حاضر النكتة، وأعجب ما يمتاز به قدرته على تغيير صوته ولهجته بحيث كان يقلد خمسة عشر صوتاً مختلفاً هي أصوات الأشخاص الذين تتألف منهم خيمته.
و "خيمة كراكوز" عبارة عن شاشة مساحتها متر مربع، يضع على بعد منها سراجاً يعكس خيال تماثيل صغيرة من الكرتون أو الجلد، لكل منها شكل خاص يتميز به، أطلق عليها أسماء: كراكوز، عواظ، بكري المصطفى، المدلل، طرمان، قريطم وغيرهم..
وكان الحاج محمود يروي قصصاً خيالية يمثل وقائعها الأبطال المذكورون ويحركهم بدوره حسبما تتطلبه القصة.
وغالباً ما تكون القصة مضحكة ذات مغزى، وقد يتطرق الى انتقاد حاكم المدينة بطريقته الخاصة، فيقدم مشهداً يمثل بلداً ضل أهله واختاروا بكري المصطفى المشهور بجهله وسكره وعربدته، ليكون حاكماً عليه..
وفي أحد الأيام توفي أحد الأهلين فطلب من بكري المصطفى أن يرثي الميت فوقف يحاول الكلام إلا أن لسانه خانه في النطق، فاقترب من الميت وهمس في أذنه: إذا سألوك في الآخرة عن أحوال البلد، فقل لهم ان بكري المصطفى حاكمه... وهم يعرفون من هم أهله!..
وكان المدلل أكثر الممثلين شعبية لدى الجمهور، لصغر سنه، وخفة روحه، وسرعة جوابه، وكثيراً ما كان الكراكوزاتي يستغل هذه العاطفة، فلا يقدمه على الشاشة ليلة وليلتين وثلاثا.. فيضج عشاق المدلل ويسألون الحاج عن سبب غيابه، فيجيبهم بأنه مريض وبحاجة إلى بعض التغذية...
وفي اليوم التالي تنهال على الحاج شرائح اللحم والحلويات والفواكه والخضار.. لتغذية المدلل...
وفي المساء يظهر المدلل على الشاشة، معصباً رأسه يتوكأ على عصا... ولا ينسى أن يشكر أولاد الحلال الذين ساعدوه على استرجاع عافيته!..
وكان الكركوزاتي أيضاً يقوم بالدعاية لبعض المحلات على شاشته، كما هو الحال في السينما اليوم، إذ كان يظهر المدلل مثلاً، يعتذر لمعلمه عن أسباب تأخيره عن عمله، لأنه عرج على محل فلان وأكل عنده صحن حمص، لم يتذوق مثله في حياته..
وكانت شهادة المدلل هذه، كافية لان يزدحم محل المحمصاني المذكور في اليوم التالي بالزبائن..
وللحكواتي رواد أوفر عدداً، إذ أن قصص عنترة والأميرة ذات الهمة والزير والملك سيف وغيرها، كانت تستهوي عدداً كبيراً من الناس، وكان الحكواتي يجلس على منصة عالية وبيده سيف من خشب، ويقرأ بصوت جهوري وكثيراً ما كان يندمج مع حوادثها ويأخذه الحال فيرغي ويزبد.. ويتوعد ويهدد.. ويضرب الطاولة بالسيف تارة، ويلوح به أخرى..
لم يكن الحكواتي أقل ذكاء من زميله الكراكوزاتي، إذ أنه كان ينهي قصته كل يوم تاركاً بطلها في أحرج المواقف!
وحدث أن الحكواتي توقف مرة أثناء قراءة قصة عنترة، عند أسره وزجه بالسجن، بعد تكبيله بالحديد والأغلال، وصعب على أحد الحاضرين الذين يهيمون بعنترة، أن يتركه سجيناً، ولما ذهب إلى بيته لم يستطع النوم، فرجع إلى منزل الحكواتي وأيقظه مهدداً إياه بالقتل إذا لم يخرج عنترة من السجن، ويفك قيوده في الحال.. فإضطر المسكين إلى أن يتابع له قراءة القصة أكثر من ساعة.. حتى أطلق له سراح أمير الفوارس!..
ومن أطرف ما يروى أنه عندما كان يصل الحكواتي إلى زواج عنترة من حبيبته عبلة، يقوم عشاق عنترة بتزيين الحي وإقامة الأفراح وقرع الطبول والإحتفال بزواج عنترة إحتفالاً يليق بمكانته في عالم الفروسية...
* * *
هذه لمحة خاطفة عن طراز الحياة في طرابلس ما قبل عام 1900، قد تبدو غريبة عنا، اليوم، كل الغرابة، ولكنها تحمل بين طياتها عادات وتقاليد أناس تميزوا بالصدق والوفاء والطيبة وحب الجار وإغاثة الملهوف... هذه المزايا قد لا نجدها اليوم، ولو ركبنا في أثرها... الصواريخ!.
* * *
* رياض فؤاد دبليز: طرابلس قبل عام 1900، كُتيب مطبوع من 38 صفحة (لا.د، لا.ت).