... عن السنّة وطرابلس: القلعة والعاصمة والعيش الواحد
د. عبد الغني عماد
هل تحوّل السنّة في لبنان إلى طائفة كما غيرهم من طوائف هذا "البيت ذي المنازل الكثيرة" كما يصف هذا الوطن المؤرخ اللبناني كمال الصليبي؟ علماً إنهم لم يتصرفوا يوماً على هذا النحو طوال تاريخهم في لبنان، فقد كانوا دوماً "أهل الجماعة"، أي لم يعتبروا أنفسهم أقلية ضمن الأقليات في هذا الكيان، فقد كانوا الشريحة التي تمثل "الأمة" الحاملة لشعور الأكثرية تاريخياً واللاعبة لدور "الجماعة المركزية" في الدفاع عن الأمة والهوية، لذلك كانوا دائماً أكثر تحرراً من هواجس الشعور الأقلوي وما ينتج عنه من قلق وخوف وريبة تجاه الآخر. لقد كانت ساحتهم متحررة طيلة تاريخها من "فوبيا الأقليات" التي تفتقر إلى شعور الأمان الجمعي وينتابها رهاب الذوبان والإندماج وقلق الهوية.
هل تحوّل السنّة في لبنان إلى طائفة كما غيرهم من طوائف هذا "البيت ذي المنازل الكثيرة" كما يصف هذا الوطن المؤرخ اللبناني كمال الصليبي؟ علماً إنهم لم يتصرفوا يوماً على هذا النحو طوال تاريخهم في لبنان، فقد كانوا دوماً "أهل الجماعة"، أي لم يعتبروا أنفسهم أقلية ضمن الأقليات في هذا الكيان، فقد كانوا الشريحة التي تمثل "الأمة" الحاملة لشعور الأكثرية تاريخياً واللاعبة لدور "الجماعة المركزية" في الدفاع عن الأمة والهوية، لذلك كانوا دائماً أكثر تحرراً من هواجس الشعور الأقلوي وما ينتج عنه من قلق وخوف وريبة تجاه الآخر. لقد كانت ساحتهم متحررة طيلة تاريخها من "فوبيا الأقليات" التي تفتقر إلى شعور الأمان الجمعي وينتابها رهاب الذوبان والإندماج وقلق الهوية.
ثمة حقيقة أخرى تميزّ الجماعة السنّية في لبنان في بنيتها التاريخية والثقافية، فهم سكان ثغور ومدن في الغالب الأعم، ولا يخفى ما لسكان الثغور في العالم الإسلامي من دور وفضل وأجر وتزكية، وهذا ما يجعل سُنة لبنان ينظرون إلى مسؤوليتهم التاريخية بإعتبارها تتجاوز الجانب الجهادي ببعده المادي لتطاول حراسة العقيدة والدعوة لها. الا ان الوجه الآخر للصورة يتجلى في أن سكنهم في المدن والسواحل جعلهم مع الأيام أكثر إنفتاحاً على "الآخر" وأكثر مرونة في التعامل معه بحكم الإختلاط والتعارف والتفاعل مع عالم البحار وما وراءه وما يأتي عبره، من تجارة وروابط إقتصادية وخدماتية. الذهنية المدينية جعلت عروبتهم أكثر عقلانية وواقعية، بل أكثر تكيفاً وإستيعاباً وحداثة، وجعلت إيمانهم أكثر تفتحاً وإسلامهم أكثر تسامحاً وقبولاً للآخر. هذه الصورة المزدوجة، الجهادية والمدينية لا تعبر عن إنشطار في الشخصية السنية اللبنانية، بقدر ما ترسم حقيقة الإشكالية وحدودها. وعلى خلفية هذه الصورة المزدوجة ولكن المتكاملة يمكن تحليل المواقف والإتجاهات التي تعتبر بمثابة "محركات ذهنية" للشارع السني وخاصة للجماعات الإسلامية الناشطة في إطاره، بل حتى لجماعات الإسلام السياسي عموماً.
والواقع إن الذاكرة السنية الجماعية تحفظ بفخر قصة الإمام الأوزاعي الذي تصدى بشجاعة الفقيه المجاهد لوالي دمشق الذي بدأ بتهجير المسيحيين وتوزيعهم على بلاد الشام، بحجة أن بعضهم خرج وتمرد على الحكم الإسلامي فيما عرف آنذاك بحركة "المنيطرة" عام 759م، أرسل حينها الإمام الأوزاعي له تلك الرسالة الشهيرة دفاعاً عن المسيحيين والتي أصبحت مثالاً اخلاقياً يسترشد به المسلمون والمسيحيون في لبنان، وفيها فتوى ترفض، وموقف يدين الظلم الذي يصيب "عامة" بسبب تصرفات قام بها "خاصة" وهو ما يخالف عدالة الإسلام. رسالة طويلة فيها من البلاغة الدينية والشجاعة الأدبية ما يجعلها بحق من الوثائق الحضارية المرجعية في الاجتماع الإسلامي لهذه المنطقة عموماً ولسنة لبنان خصوصاً.
أما طرابلس التي يتحامل عليها بعض الحاقدين، فيقتطعون حادثة هنا أو يقتنصون واقعة هناك متناسين تاريخها الطويل في العيش الواحد الذي تحول مسار تاريخي وقناعة فكرية وممارسة حياتية لدى أهلها. يكفي أن نذكر كيف ان قاضي طرابلس قد حكم في نزاع بين أحد المسيحيين ومفتي المدينة حول ملكية أراضٍ تذرع المفتي بملكيتها استناداً إلى "فرمان شرعي مطاع من الخليفة" سنة 1728 لصالح الأول الذي أثبت ملكيته شرعاً. يكفي أن نذكر كيف أفتى مفتي طرابلس محمد كامل الزيني تلك الفتوى الشهيرة بعدم الجواز بالصلاة في الجامع الأسعدي الذي دار حوله الخلاف في محلة التربيعة والذي بني في أحد أجزائه على أرضه لعائلة مسيحية. وتحتفظ هذه العائلة بنسخة من هذه الفتوى حتى اليوم. يكفي أن نذكر إنه يوم انفجر الاقتتال الطائفي في جبل لبنان عام 1860 رفض علماء وفقهاء المدينة الإنجرار إلى الفتنة، بل حاربوا ومنعوا، ما يعكر صفوة العلاقات بين المسلمين والمسيحيين من أهلها، وأرسل في ذلك الحين كبير علماء المدينة الشيخ محمد رشيد الميقاتي أبناءه ليلاً لحراسة دور المسيحيين ومنع "ذوي الجهالة" من التعرض لها واقتدى به من اقتدى فيما بعد. تلك الأيام السوداء التي شهدت مجازر 1840 و 1860 والتي بقيت طرابلس بمنأى عنها رغم امتدادها إلى دمشق ومناطق أخرى خارج جبل لبنان بفضل هؤلاء الرجال وهذه الثقافة.
هذا التراث المتراكم من العيش المشترك وروح التسامح والتعاون وحسن الجوار كان عاملاً رئيسياً في تحصين المدينة والشمال من امتداد النزاع الطائفي إليه في تلك السنوات السوداء من تاريخ لبنان.
لهذه الأسباب وتأسيساً على ما سبق وفي سياق النقاش الذي دار إعلامياً حول هذا الأمر، تصبح طرابلس أبعد ما تكون عن العاصمة للبنانيين السنة إذا ما هي فرطت بدورها كعاصمة للعيش الواحد في الشمال ولبنان، وتصبح قلعة بلا معنى، محاصرة معزولة مهمشة (مع التحفظ على تعبير القلعة في عصرنا الحاضر) إذ ما تخلت عن رسالتها وثقافتها في التسامح والعيش الواحد. فهذه الثقافة ليست ثقافة عابرة في تاريخ مدينتنا وليست ثقافة مصطنعة فرضها حاكم أو استوردتها سلطة، إنها في الحقيقة نسيج صنعه الأجداد تبلور في علاقات يومية، وفي ممارسات تاريخية، تراكمت فأصبحت نمط حياة وعيشاً واحداً مشتركاً في السراء والضراء. هذا العيش الواحد لم يصنع فوق على مستوى السلطات، بل صنع أولاً بين الناس في الأحياء والحارات والأزقة، في الأسواق والحرف والتجارة والأعمال، في العادات والتقاليد، تلك هي الأطر التي صنعت عيشنا الواحد، وحصنته على مدى الأيام وحمته من جنون متطرف، أو من إنحرافات فكرية أو سياسية آنية أو ظرفية تنمو على ضفاف الحقد والكراهية هنا أو هناك.
لسنا ندعي أن طرابلس جنّة من جنّات العيش الواحد، اليوم أو بالأمس، إلا أننا ندعي وبفخر إن هذه المدينة بأكثريتها السنية حافظت على مرّ تاريخها على ثقافة أساسها الاعتدال والانفتاح والعيش الواحد، ولن يشوّه تاريخها إدعاء باطل من هنا أو ممارسات ظرفية تسببت بها الحرب المجنونة في مراحل معينة.
لقد قدمنا في الكتاب الضخم "طرابلس وتحديات العيش الواحد" من خلال الوثائق والسير والتواريخ بالاشتراك مع خمسة عشر باحثاً من أفضل الباحثين مجموعة من الدراسات الموثقة، تجعلنا في المركز الثقافي للحوار والدراسات نفخر بهذا الانجاز الذي يصحح الكثير من المفاهيم المغلوطة والشائعة عن المدينة وتاريخها استناداً إلى وثائق وليس إلى تحليلات، إلى شهادات وليس إلى آراء ووجهات نظر.
على خلفية هذه الصورة، واستناداً على هذه المرجعية الثقافية الإسلامية لأهل السنة في لبنان يمكن تحليل وفهم أبعاد الكثير من النقاشات التي تجري في الكواليس حول هذا الموضوع. فثمة من يجادل ان تحوّل "السنة" إلى طائفة في لبنان كما "البقية" من الطوائف يحوّلهم إلى فريق ويضعهم على خط المواجهة مع الآخرين ويحجّم مشروعهم التوحيدي، الأمر الذي يتناقض ودورهم "المرجعي" الذي يفترض أن يكون استيعابياً وتسامحياً مع الجميع. قد لا يجد المتتبع خلافات عميقة بين القيادات السنية الأساسية في تحليل هذه المسألة، إلا في حدود الدور "الاستيعابي والتسامحي" المطلوب على المستوى السياسي وعلى المستوى الحقوقي والدستوري للسنة في لبنان، وبالتالي مقدار وحجم التنازلات المطلوبة والمقبولة للحفاظ على هذا الدور؟؟ وهو الأمر الملتبس حتى الآن، ومصدر الالتباس هو الخطاب السياسي، والذي ترتفع وتيرته تبعاً لحالة التعبئة والاحتقان والاتهامات الاستفزازية المتبادلة والمتعلقة بالإنقسام التناحري القائم حول المحكمة الدولية اليوم، بين فريق يرفض مسبقاً أن تتهم المحكمة أي فرد منه ويشككك بحياديتها، وفريق آخر يطلب العدالة ويقبل بها ويرفض الحصانة لأية فئة تحت سقفها.
والواقع اليوم وكما بالأمس الخطاب السياسي في لبنان متطيّف ومتمذهب، ولا ذنب للسنّة بذلك، بل ربما يمكن القول إنهم ضحية هذا الخطاب قبل غيرهم، وهم أصحاب المصلحة قبل غيرهم في بناء خطاب وطني ديموقراطي حديث يلتزم بالعروبة الحضارية، لذلك هم دائماً أقرب إلى مشروع الدولة منهم إلى مشروع الدويلات والميليشيات، وهم أكثر من قدموا الشهداء في سبيل هذا الهدف، وليس في هذا أي عيب في الوقت الذي تتفكك فيه أوصال الدولة والمجتمع، وتكاد معه تتحول الدولة إلى غنيمة والطائفة إلى قبيلة والشعب إلى رعية.