كنائس الأرثوذكس
نظرت الدولة العثمانية في بداية حكمها في بلاد الشام، إلى الكنيسة الأرثوذكسية على أنّها كنيسة وطنية، كي تشجّع الأرثوذكس للوقوف في وجه الكاثوليك الموالين لكنائس أوروبية أجنبية معادية. إلا أنّها لم تلبث أن سحبت تأييدها لهم بسبب قبولهم الحماية الروسية وتعاطفهم مع الحركات الاستقلالية في البلقان؛ فغيرت سياستها تجاههم، واعترفت في الربع الثاني من القرن التاسع عشر، بالكنائس المنشقة عنهم[1]. وكان لهم في طرابلس قبل الحرب العالمية الأولى، ثلاث كنائس هي:
1- كنيسة مار نيقولاوس:
وهي أقدم الكنائس الأرثوذكسية في طرابلس. وبناؤها القديم كان في موضع غير موضعها الحالي اليوم؛ ذلك أنّها كانت ملاصقة لجامع الأويسية من الجهة الغربية[2]. وقد ورد ذكرها في سجلات المحكمة الشرعية في طرابلس منذ تاريخ 1077هـ/1666م[3]. ويبدو من طراز بنائها أنّها قديمة تعود إلى العهود المملوكية. فهي كنيسة صغيرة لا تزيد مساحتها عن عشرين متراً تقريباً، وهي عبارة عن عقد واحد.
وكان بناء الكنيسة القديمة قريباً من سكن الأرثوذكس في طرابلس. وفي القرن التاسع عشر، وبعد أن أصبح تجمّع الأرثوذكس في مناطق التربيعة وحارة النصارى، بدت هذه الكنيسة بعيدة عن أماكن سكنهم. فاجتمع رؤساء الطائفة، وارتأوا تغيير موضعها، وبناء كنيسة جديدة، عوضاً عنها، وأرسلوا بطلب الإذن بذلك من الدولة العثمانية. وقد وافقت الدولة على ذلك وصدر في العام 1809 فرماناً بالموافقة، في مدّة ولاية يوسف باشا الكنج على طرابلس، ومتسلميّة علي بك الأسعد المرعبي[4]. وبناء على ذلك تمّ الاتفاق بين النصارى والمسلمين من أبناء المدينة، على استبدال الكنيسة القديمة بمصبنة في محلة التربيعة، كانت في الموضع نفسه الذي أقيمت فيه كنيسة مار نيقولاوس التي نعرفها اليوم في شارع الكنائس. وبوشر ببناء الكنيسة في العام 1809. أما الكنيسة القديمة التي كانت ملاصقة لجامع الأويسية، فقد تمّ تحويلها بعد أن آل أمرها إلى المسلمين، إلى مصلى عُرف بجامع السروة[5]، ثم صار إلحاقه بجامع الأويسية بإزالة الحائط الفاصل بينهما، وهو اليوم يشكّل جزءاً من جامع الأويسية، ويمكن تمييزه عنه لأن أرضه ما تزال مرتفعة نسبياً عن أرض الجامع. وقد روى لنا السيد عبد الله غريب في تاريخه المخطوط تفصيل بناء هذه الكنيسة. ولا بأس في نقل روايته هنا، لنقف على ذلك الشعور النبيل الذي أحس به بعض وجهاء المسلمين في طرابلس تجاه إخوانهم النصارى، فارتفعوا فوق مستوى الحزازات الطائفية، وبذلوا ما في وسعهم لمساعدة إخوانهم على إنجاز بناء كنيستهم، فسطّروا بذلك صفحة رائعة من تاريخ الإنسانية والمحبّة والإخاء. وإليك رواية عبد الله غريب بنصّها الحرفي:
"صدر الفرمان السلطاني ببناء كنيسة مار نقولا على مساحة أقلّ من مساحتها المبنية، وعليه زادوا على البناء المأذون به من السلطة مساحة هيكل مار جرجس الذي بيسار الكنيسة. وإذ رجل فاسد الأخلاق من بيت دده[6] ذهب لعند الحاكم ووشى له على أبناء طائفته بأنّ مساحة الكنيسة هي أزيد من المساحة المأذون بها بموجب الفرمان. فغضب الحاكم وقرّر أن يحضر بذاته لمحل بناء الكنيسة ويحقق بنفسه عن هذا التعدي ضد الفرمان. فشعر المرحوم جد جدي إلياس غريب بهذا الأمر؛ فحالاً إجتمع بحضرة المفضال الشيخ المرحوم رشيد الميقاتي، وأخبره القضيّة بأنّ أحد سفلة الطائفة الأرثوذكسية من بيت دده، فسد على الطائفة للحاكم بخصوص بناء الكنيسة وترجاه بأن يدبّر الأمر بما يرتئيه من الحكمة وحسن التدبير. فطيب خاطره ووعد بأنه "أي الشيخ" يحضر مع الحاكم للكشف على الكنيسة، ولكن إذا اقتضى الأمر، والضرورة أحوجته لشتم المعمارية ومسبّتهم وإهانتهم لا أحد يزعل منه، بل يكون ذلك لسياسة حيث يقول المثل: "تعال ضدي وخلّصني، ولا تجي معي وتشركلني". فثاني يوم حضر الحاكم ومعه الشيخ وبعض أرباب الحلّ والعقد للكشف على الكنيسة. فتناول التحقيق الشيخ وحده وانتهر المعمارية قائلاً لهم:
يا كفّار، يا قليلي الحياء، أنا كنت أعطيتكم حبالاً قياس الكنيسة، أين هو الحبل؟ فابتدأ المعمارية يتظاهرون بالتفتيش على الحبل، فوجدوه بحوذة الماء. ومن عادة وطبيعة الحبال إذا وضعت بالماء، تنكمش ويقصر طولها. فأخذ الحبل وقاس مساحة البناء، ولّما رآها مقصّرة قليلاً لوجودها بالماء، التفت نحو الحاكم ووشوشه في أذنه، بأنّ المسيحيين ما زادوا على المساحة المعطاة لهم، ويبنوا ضمن المأذونية الممنوحة لهم. ثمّ التفت نحو المعمارية والعملة صارخاً بهم، يا ملاعين إياكم ثم إياكم أن يخطر على بالكم أن تزيدوا شبراً واحداً عمّا هو الحبل. وانصرف الحاكم ورجال الحكومة، وكُمّل بناء الكنيسة بهذه الصورة، أربع هياكل أي خلافاً لبناء الكنائس التي جميعها مبنية من ثلاث هياكل. وأمّا هيكل مار جرجس فهذا هو الزيادة، ولا بأس من بيان تاريخ هذه الكنيسة فأقول: كانت الكنيسة المختصّة بالطائفة الأرثوذكسية هو جامع السروة الكائن في محلّة الصاغة على شمالي طلعة القلعة. وكانت هذه الكنيسة ضمن البيوت الإسلامية، منفردة عن حارات النصارى، سيّما أيام المواسم والأعياد الإحتفالية. فصارت كأنّها في منعزل عن المسيحيين. وحصل نوعاً ما ضيق وحجز حريّة في إقامة الحفلات. إرتأت الطائفة أن يصير المبادلة بين الطائفتين الإسلامية والأرثوذكسية. فالإسلام استلموا الكنيسة وجعلوها جامعاً بعدما إستلمت النصارى محتويات الكنيسة من أيقونات وخلافها، واستلمت مصبنة وعمّرت في أرضها كنيسة مار نقولا. وبذلك أصبحت المصبنة كنيسة والكنيسة جامعاً. وأوّل طفل إعتمد (عمّد) في جرن معمودية كنيسة مار نقولا هو جدي عبد الله غريب، وأول طفل إعتمد في جرن معمودية مار جرجس هو كاتبه عبد الله غريب، فهذه صدفة من أحسن الصدف"[7].
2- كنيسة القديس جورجيوس
وتقع في محلّة الدباغة بالقرب من شارع الكنائس. وهي أكبر الكنائس القديمة في طرابلس وأضخمها على الإطلاق. وبها قبّة ضخمة سقطت عدة مرات وأعيد بناؤها[8]. وفي العام 1900 تمّ تشكيل جمعية الأخوية الأرثوذكسية برئاسة البطريرك غريغوريوس حداد ونائبه حنا غريب، وتولّت هذه الجمعية تجديد بناء الأيقونسطاس لكي يتناسب مع ضخامة الكنيسة، وبنت هيكلاً جديداً غاية في الزخرفة والإتقان. فهو من الرخام المزخرف والمجمّل بنقوش نباتية ومجموعة من الأيقونات وصور القديسين، وأشكال زخرفية ملونة على شكل صلبان.
وبأعلى باب الكنيسة كتابة تحمل تاريخ بنائها 1863، واسم بانيها صفورنيوس. وفي حرم الكنيسة من الجهة الشرقية مقبرة معدّة لرجال الدين الذين عملوا على خدمتها. وقد روى لنا عبد الله غريب قصّة بناء هذه الكنيسة، فقال: "تاريخ بناء كنيسة مار جرجس في طرابلس الشام التي هي على اسم القديس جاورجيوس بأيام المطران صوفورنيوس، ورياسة سيادة البطريرك إيروسيوس. فكان وضع الأساس المبارك المقدّس نهار عيد القديس أنطونيوس الكبير، الواقع في السابع عشر من كانون الثاني 1862. والكنيسة المذكورة أصلها بيت مُشترى من مال أوقاف كنيسة القديس نيقولاوس، وإحسان المسيحيين أصحاب الغيرة الأرثوذكسية، من الخواجة جرجس ابن المرحوم حنا مسعد، ربّنا يهنينا بها، نقلاً عن كتاب الإنجيل المحرر بخط جدنا الياس الغريب رحمه الله.
هذه الكنيسة كلّفت الطائفة ما يقرب من خمسة عشر ألف ليرة فرنساوية ذهب. وفوّضت الطائفة المرحوم جدي عبد الله غريب للاهتمام بالقيام بهذا المشروع الضخم الجبار، وتهافت ذوات الطائفة ورجالها ونساؤها ببذل الإعانات بسخاء وافر وأرباب الصنعة تتبرع بالشغل مجاناً لبعض الأيام. وما يكاد الأسبوع ينتهي ويصرف جدي للفعلة أجرتهم، ولمواد البناء ثمنها حتى ينفذ المال من الصندوق، فيتأوه متحسّراً لخلو الصندوق من الدراهم. وما يكاد ينتهي الأسبوع ويأتي نهار السبت، فيعاد صرف الأجر وثمن المواد الأصلية، حتى يكون موجود الصندوق تراكم من إحسان المسيحيين، فيشرح صدرهم. وهكذا دواليك إلى أن انتهى بناؤها الفخيم..."[9].
3- كنيسة مار مخايل
وتقع في محلّة القبة، وهي كنيسة حديثة، يعود تاريخ بنائها إلى أوائل القرن العشرين، بُنيت على نفقة الأسر الأرثوذكسية الطرابلسية، وبمساعدة البطريرك غريغوريوس حداد، عندما كان مطراناً في طرابلس[10]، أي أن بناءها كان قبل عام 1890، وهو العام الذي انتخب فيه المطران المذكور لمركز البطريركية.
بالإضافة إلى هذه الكنائس، هناك مزارٌ آخر للروم الأرثوذكس في طرابلس في زقاق البرطاسي، من محلّة الرمانة، وهو على رأي بعضهم من بقايا الصليبيين[11].
4- كنيسة القديس جاورجيوس
وتقع في مدينة الميناء. فقد عثرت في سجلات المحكمة الشرعية في طرابلس على وثيقة تعود إلى العام 1151هـ- 1737م، وهي تتحدث عن صدور فرمان عن الباب العالي، في تاريخ سابق لتاريخها بأربع سنوات أي في العام 1733، يأذن للنصارى بفتح باب الكنيسة والصلاة فيها. ولا تحدد الوثيقة تاريخ بناء الكنيسة ولا اسم بانيها، بل تكتفي بالقول أنّها بنيت في تاريخ سابق لتاريخ تحريرها. وتبيّن المصاعب المادية التي عاناها المطران نقولا الذي اضطر للاستدانة من رعيّته لجمع أجرة ساعي البريد (القبوجي) الذي حمل الفرمان من إستنبول إلى طرابلس. ولم تكن أجرته بالمبلغ اليسير، بل بلغت سبعة عشر كيساً- الكيس خمسمئة غرش- وهو مبلغ لا بأس به بالنسبة لذلك الزمان. كما نتبيّن من الوثيقة أنه كان يتوجب على النصارى، بعد إنجاز بناء كنيستهم، إستصدار فرمان من الدولة في إستنبول، يأذن لهم باستخدامها والصلاة فيها. وتذكر الوثيقة أن الكنيسة بنيت في أرض الخراب الذي أحدثه المماليك في طرابلس إبَّان دخولهم إليها عام 1289م. وإليك نصّها الحرفي:
"بمجلس الشرع الشريف المشار إليه حضر الذمي ياسف مابرو ولد أنطانيوس وادّعى على المطران نقولا ولد جرجس مقرراً في دعواه عليه بمواجهته أنّه من نحو أربع سنوات تقدّمت تاريخه، أدانه خمسماية غرش بربح خمسين غرشاً وكتب له تمسُّكاً مختوماً بختمه، طالبه بالمبلغ المرقوم وسأل سؤاله فسئل فأجاب بالإنكار لتسلّمه المبلغ المذكور، بل أنّه لما ورد الفرمان الشريف في مدّة المرحوم الوزير المكرّم إبراهيم باشا الكردي ضابط طرابلس حينئذ، بالإذن بفتح باب الكنيسة التي كانوا بنوها في أرض الخراب والإذن لهم بالصلاة فيها، وطلب منهم سبعة عشر كيساً خدمة القبوجي الذي أتى بالفرمان المذكور، فجمعت طايفة النصارى وإستشرتهم فاتفقوا على أن يستدينوا من بعضهم بعضاً دراهم ويكتبوا بذلك تمسّكات، فكتبوا التمسّكات، وقالوا لي إدفع لنا ختمك، فدفعته لهم فختموا التمسّكات ومن جملتهم تمسّك المدّعي، وقالوا نحن ندفع هذا المبلغ بناء على أنه مهما حصل من صدقات الكنيسة، يتوزّعونه بينهم بحسب دراهم كل منهم، فجمعوا المبلغ وأذنوا لي بصرفه وبدفعه للقبوجي فسلّموه بأيديهم للصراف، فلم يصدّقه المدّعي على ما أجاب به، فأحضر للشهادة كل من الذميين نعمة ولد صدقة وعيسى ولد إلياس وسليمان توفيق، فشهدوا غب الإستشهاد أنّ طايفة النصارى ومن جملتهم المدّعي أدانوا في التاريخ المرقوم للمدعى عليه أموالاً لمهمات الكنيسة. وطلب من المدعى عليه بيّنة تشهد له بما أجاب به الأول لكون الشهود المرقومين من جملة المدنيين، فأحضر للشهادة، كل من الذميين ديب ولد صلمان ونادر ولد فارس ومخائيل ولد سندروسي، وإبراهيم ولد فرح وياقوب ولد رزق وياسف ولد إلياس وديب ولد ياقوب، فشهدوا غبّ الإستشهاد الشرعي بأنّ طايفة النصارى ومن جملتهم المدعي كانوا لمّا طلبت خدمة القبوجي المرقوم. وجمعوا للمطران المرقوم أموالاً وأذنوا له بصرفها في مهمات الكنيسة، وكتبوا عليه تمسّكات لتلون[12] (لتكون) معلومة القدر لكل منهم، وليدفع لهم بحسب دراهمهم ما يحصل من صدقات الكنيسة، شهادة مقبولة منهم شرعاً. فلما شهدوا بذلك واطّلع الحاكم الشرعي على ما أجاب به عمدة العلماء المحققين علي أفندي الكرامي المفتي حالاً بطرابلس......................... فسطّر بالطلب في العشرين من شهر ربيع الثاني سنة إحدى وخمسين وماية وألف.
"شهود الحال" [13]
ويعلو باب الكنيسة لوحة رخامية نقش عليها اسم بانيها وتاريخ بنائها على الشكل الآتي: "تمّ بناء هذه الكنيسة للقديس جاورجيوس برئاسة كيريوس كير مكاريوس مطران طرابلس عهد الوزير إبراهيم باشا الملقّب بالكردي وذلك في أول كانون الثاني 1735".
ونلاحظ أنّ النقش الكتابي يرجع بناء الكنيسة إلى المطران كيريوس كير مكاريوس سنة 1735م في حين تنص الوثيقة على أن بناءها سابق لتاريخ 1737 بحوالي أربع سنوات أي في العام 1733، وأنّ المباشرة بالصلاة فيها كانت في عهد المطران نقولا. وبذلك يمكننا القول إنّ المباشرة ببناء الكنيسة كانت في العام 1733 في عهد المطران كيريوس كير مكاريوس والانتهاء منها كان في العام 1735 في عهد المطران نقولا.
[1] - عبد العزيز عوض: الإدارة العثمانية في ولاية سورية 1864- 1914، دار المعارف، مصر، 1969، ص 309.
[2] - عبد الله غريب: مخطوط بعنوان تاريخ آل غريب، ص 43- 44.
[3] - سجلات المحكمة الشرعية في طرابلس: سجل 1، ص 13.
[4] - إلياس غريب: الإنجيل المخطوط وفي نهايته تاريخ بناء كنيسة مار نيقولاوس، ص 675.
[5] - عبد الله غريب: المخطوط، ص 43.
[6] - هكذا وردت ولعله يقصد- رجلاً من قرية دده.
[7] - عبد الله غريب: المخطوط، ص 42- 44.
[8] - عبد الله غريب: المخطوط، ص 44.
[9] - عبد الله غريب: المخطوط، ص 44- 45.
[10] - فاروق حبلص: طرابلس/ المساجد والكنائس، دار الإنشاء للصحافة والطباعة والنشر، طرابلس، ط1، 1988، ص137.
[11] - عمر عبد السلام تدمري: تاريخ طرابلس السياسي والحضاري عبر العصور، دار البلاد، طرابلس، 1978، ج2، ص 301.
[12] - هكذا وردت في النص، ويرجح أنها لتكون.
[13] - سجلات المحكمة الشرعية في طرابلس: سجل 8، ص 84.