مفيد بن أحمد بن اسماعيل شلق قاضي طرابلس
وآل شلق يتحدرون من أسرة يمنية عريقة، نزحت بعد الفتح الإسلامي إلى حوران فدمشق فلبنان حيث استقرت في العاقورة، من جرود بلاد جبيل. جدهم الأعلى مالك بن أبي الغيث، زعيم اليمنية، الذي أنجب أولاداً كثيرين منهم "سعد" الذي لقب بـ "شلق". وقد اشتهر من هذه الأسرة العديد من رجالاتها لا سيما الصدر الأعظم "مصطفى باشا الشلق" ومحمد باشا الشلق والي طرابلس، بالإضافة إلى العديد من المعلمين والمؤلفين والشعراء والوزراء والوجهاء... كالمربي الكبير الدكتور علي وابنه الفضل وزير البريد والبرق والهاتف والدكتور حسن رئيس مجلس الخدمة المدنية وغيرهم.
ولد صاحب الترجمة عام 1351 هـ/1932 م بقرية بدنايل قضاء الكورة، قرب طرابلس. تلقى دراسته الابتدائية في مدرسة المقاصد الخيرية الإسلامية بقريته، ثم التحق بالكلية الشرعية ببيروت عام 1367 هـ/1947 م حيث تابع دراسته المتوسطة والثانوية، ونال شهادتها عام 1373 هـ/1953 م. وخلال تلك السنوات كان القاضي مفيد الأول في صفه. ولما نال أعلى شهادة شرعية كانت تمنحها هذه الكلية، سافر إلى مصر لمتابعة التحصيل العالي في كلية الشريعة بالأزهر الشريف. وفي عام 1377 هـ/1957 م نال شهادة الأزهر العالية، ثم حاز الشهادة العالمية مع الإجازة في القضاء الشرعي عام 1379 هـ/1959 م من كلية الشريعة ذاتها. من أشهر مشايخه في لبنان: فهيم أبو عبية، الشهيد حسن خالد مفتي الجمهورية اللبنانية السابق، محمد المغربل، محمد علي الزعبي.
وفي مصر درس على مشاهير علمائها ومشايخها: محمد العدوي، عبد الله المشد، محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر، محمد أبو زهرة، عبد الرزاق السنهوري، محمد يوسف موسى... ولما رجع إلى طرابلس عين مساعداً قضائياً في المحاكم الشرعية عام 1380 هـ/1960 م. ثم عين قاضياً شرعياً بطرابلس عام 1383 هـ/1963م. كما عين عضواً في المجلس الإداري لأوقاف طرابلس، وأعيد تعيينه عدة مرات. ومنذ عام 1397 هـ/1977 م ترأس لجنة بمسلمي الكورة والبترون والقلمون التابعة لدار الفتوى في الجمهورية اللبنانية. وتجدر الإشارة إلى أنه منذ وصوله إلى طرابلس عام 1377 هـ/1957 م وهو يمارس الخطابة والتدريس الديني، والوعظ والإرشاد في المساجد تطوعاً. وله العديد من الفتاوى والمقالات المنشورة في الصحف والمجلات، والكثير من الأحاديث المبثوثة عبر الإذاعة والتلفزيون. كل ذلك بإسلوب أدبي رفيع، ولغة فصحى، نظراً لتمكنه من ناصية اللغة، ومعرفته الدقيقة لمعاني الألفاظ والعبارات، فالقاضي كثير المطالعة ورواية الشعر. حج مرات عديدة.
اشتهر القاضي مفيد بالإبتعاد عن كل ما يسيء إلى القضاء، فنفسه تأبى الهدايا، وتتعفف عن إجراء عقود الزواج، ولا يكاد يجري عقداً إلا بحكم القرابة أو الصداقة تطوعاً، ويرفض الوساطات والشفاعات والضغوطات في القضاء، فلا تأخذه في الله لومة لائم، يصدع بالحق والعدل... يترسم خطى قضاة الإسلام العادلين الذين كانوا مضرب المثل في العفة والصدق والإخلاص والجرأة والنزاهة والإستقامة والعدالة... ويربط في أحكامه بين الحكم الشرعي في القضية وبين علته، ويجري مقارنة مليئة بالتوجيه والنقد الإجتماعي. ويكاد يكون القاضي الشرعي الوحيد الذي يصوغ أحكامه القضائية بأسلوب الأديب الناقد الذي لا يغفل عن التنويه إلى ما يجري في مجتمعه من انحراف، سواء جاء من الحكام أو من السياسيين أو القضاة أو المتقاضين أو الوكلاء. لذلك فإن أحكامه جديرة بأن تكون موضع دراسة.
- في بعض الدعاوى "إطاعة" يلجأ الزوج في بعض الأحيان إلى محاولة وضع زوجته في منزل حقير، إمعاناً منه في إذلالها، وتنفيراً لها حتى تتنازل عن مهرها. في مثل هذه الأحوال كان القاضي يصف البيت بالزنزانة، ويكشف احتيال الزوج.
- في قضايا النسب يبين القاضي مدى اهتمام الشريعة الإسلامية بهذه القضايا، لما يترتب على ثبوت النسب من أحكام شرعية تتعلق بالنفقة والإرث وحرمة المصاهرة. ويقارن بين دعوة نسب ولد لقيط وبين نظام التبني المرفوض في الشريعة الإسلامية (*ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله*) [الأحزاب 5].
ويعرّج على ما قرره الفقهاء في هذا الصدد من أنه لو ادعى مسلم أن هذا الولد المجهول النسب هو عبده، وادعى نصراني أنه ولده يحكم به أنه ولد للنصراني، ولا يحكم بأنه عبد للمسلم، منوهاً بذلك إلى سماحة الإسلام في تحقيق الحرية.
- ومن خلال إصداره حكماً بالتفريق للشقاق والنزاع، يعتمد الضرر الأدبي وحده سبباً كافياً للتفريق بين الزوج وزوجته، ويعلل لذلك بالقول "إن الضرر الأدبي يكون أحياناً أشد إيلاماً على بعض النفوس المرهفة من الضرر المادي، وإلى ذلك يشير الله سبحانه بقوله (*والّئي تخافون نشوزهنّ فعظوهنّ واهجروهنّ في المضاجع واضربوهنّ*) [النساء 34] ضرباً غير مبرّح.
فالآية الكريمة أعطت للزوج حق تأديب زوجته بالوسيلة الرادعة لعصيانها، دون زيادة، لأن الزيادة تجاوز، والتجاوز عدوان، والعدوان منهي عنه بقوله تعالى (*ولاتعتدوا إنّ الله لا يحبّ المعتدين*) [البقرة 190].
وإن القاضي الملهم الذي تستقر في قلبه خشية الله تعالى يستطيع بضميره الحي، ووجدانه اليقظ، وإحساسه المرهف أن يضع الضابط المميز بين حد التأديب المشروع وبين حد العدوان الممنوع، على ضوء دراسته لنفسية كل من الزوجين، فما يكون وسيلة تأديب مشروع بالنسبة لإحداهن قد يكون عدواناً بالنسبة لغيرها، على النحو الذي ذهب إليه المفسرون الأقدمون للآية الكريمة.
- في أحكام التفريق يناصر القاضي مفيد المظلوم من الفريقين، ويكشف استغلال الظالم لصاحبه، ويفضح دسائسه ومؤامراته لتحقيق مآربه في التملص والتخلص من الحقوق المترتبة عليه نحو الفريق الثاني؛ خصوصاً إذا كان المستغل من أصحاب النفوذ أو من العائلات العريقة، أو من الذين أقسموا على بذل جهدهم في خدمة الإنسانية المعذبة، وتخفيف آلام البشر.
- في قضايا الإرث والطلاق... يحكم بما يمليه عليه الشرع الشريف، وبما يلاحظه بذكائه النادر، وحسن اطلاعه على حيثيات الدعاوى حتى يكشف التلاعب والإحتيال الذي تلجأ إليه بعض النفوس الضعيفة التي تظن أنها قد تخدع الحكام المستنيرين والقضاة الملهمين المخلصين الواعين. ففي قضية رجل طلّق زوجته بعد أن أنجب منها عدة أولاد. ثم تزوج هذا الرجل بأخرى وأنجب منها عدة أولاد أيضاً. ثم أصيب بمرض خبيث في الدماغ والرئتين، فأوكل أحد أبنائه من الأولى لتطليق زوجته الثانية وإعادة مطلقته. وبعد عشرة أيام من تلك العملية توفي الزوج. فاكتشف القاضي مفيد روائح المكر، وإشارات الخديعة من أجل حرمان الزوجة الثانية من الميراث، فحكم حكماً جريئاً لا يقف عند شكليات الإجراءات، بل يغوص إلى أعماق القضية، فحكم بصحة إعادة الزوجة الأولى، وبعدم طلاق الثانية وبميراث الإثنتين. وذيّل حكمه بأنه كان من الأفضل لهذا الرجل، وهو يتأهب للرحيل على درب الآخرة أن يوضع على صراط الله المستقيم، ونهجه القويم.
ويعتبر القاضي مفيد من القضاة النادرين في تاريخ الفيحاء، فقد شهد له الأهالي بالتقى والورع والزهد والتعفف، والجرأة في الحق، ونظافة الكف واللسان، وحسن الطوية، والنفاذ إلى صميم القضايا، ومعرفة ما فيها من الخفايا. وبكلمة فقد حمدت سيرته، وارتاح المخلصون لأحكامه[1].
[1] - مقابلة شخصية للدكتور علي شلق، ولفضيلة مفيد شلق، طرابلس 26/2/96.