الاستقبال الدامي
استقبال القاوقجي يتحول إلى مجزرة
ما ان وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، حتى نعم لبنان بالحرية، وأصبح دولة مستقلة ذات سيادة كاملة، وكان لطرابلس آنذاك آمال كبيرة تتطلع إلى تحقيقها بكثير من الحماس والجدية، بسبب الحرمان الذي أصابها في عهد الانتداب، لمواقفها الوطنية المعارضة، غير ان الرياح لم تكن تجري حسب ما تشتهي... فقد توالت عليها النكبات، وحلت بها أحداث جسام، كان لها تأثير بالغ في تأخر مسيرة التعويض على الحرمان!..
ففي 12 آذار من عام 1947 وصل المجاهد الكبير ابن طرابلس القائد فوزي القاوقجي، إلى مسقط رأسه طرابلس، بعد غياب ربع قرن، وقد عم الخبر في سوريا ولبنان. الأمر الذي أدى إلى قدوم مئات الألوف من مختلف المدن السورية واللبنانية إلى طرابلس. وخاصة من مدينة حماه، البلد الذي كان فيه القاوقجي قائداً عسكرياً، وانطلق منه في ثورته ضد الفرنسيين عام 1925.
وقد كانت الجماهير المحتشدة، من قلب طرابلس في ساحة التل حتى البحصاص، تتلاطم كأمواج البحر الهادر، تهتف للبطل العائد وتحيي فيه النضال العربي ضد المستعمر، وسط قرع الطبول وانغام المزامير ورقصات الدبكة.
ويظهر ان أيدي الشر، ما كان يسعدها أن ترى طرابلس وقد لبست ثوب الفرح، وازدانت شوارعها بالزينة إبتهاجاً بعودة بطلها، فكانت المجزرة الرهيبة في ساحة التل... وكانت المأساة!
عشرات القتلى ممددين في الساحة، وعدد كبير من الجرحى يئن ويصرخ في مداخل الابنية وزوايا الشوارع... وفي لحظات تحول المهرجان الكبير، إلى مأتم أكبر... والسعادة والبهجة، إلى حزن وكآبة... والغناء والرقص إلى عويل وبكاء على الضحايا... ومن كانوا يرقصون ويهزجون على الأكتاف، أصبحوا ممددين على الأرض جثثاً هامدة!..
وتتابع الساعة حديثها: لو كنت أملك دمعاً، لغمرت ساحة التل بماء دموعي، على شباب صرعهم الغدر أمثال زين الشباب نافذ المقدم ومظهر العمري وغيرهم... ولو كان لي يد لأشرت بأصبعي إلى أولئك الذين افتعلوا المجزرة... وهم لا يملكون ذرة من ضمير!...
وهكذا عاد الأشقاء الذين وفدوا من جميع أنحاء سوريا ولبنان، لمشاركة طرابلس أفراحها بعودة ابنها البطل، عادوا إلى أوطانهم يحملون ضحاياهم الذين قضوا وفاءً لرمز نضالهم القائد البطل...
* * *
وداع القائد
طرابلس تودع زعيمها المغفور له عبد الحميد كرامي
ثلاث سنوات مرت، وآثار الجريمة لا تزال عالقة في الأذهان، وكانت مشيئة الله عام 1950، أن ينتقل زعيم طرابلس ورمز نضالها، المغفور له عبد الحميد كرامي، إلى جوار ربه، واستقبل الطرابلسيون الحدث الجلل، بكثير من الحزن، وشيعوا زعيمهم وقائدهم بمأتم شارك فيه عشرات الألوف، يتقدمهم العديد من الرسميين ورجالات العرب من مختلف الاقطار.
ولعلي لا أزال أتذكر حادثة جرت على مرأى مني لدولة المغفور له عبد الحميد، قد لا يعرفها الكثيرون، تتمثل فيها كل معاني التواضع والخلق الكريم، ففي صبيحة أحد الأيام، بينما كان ماراً في ساحة التل، اقترب من عامل تنظيفات عجوز، يحمل مكنسة ينظف بها الرصيف، وربت على كتفه قائلاً: "يا عمو بتريد مساعدة؟"..
وكم كانت دهشتة الرجل عندما وجد نفسه وجهاً لوجه مع الزعيم الكرامي، ولم يتمالك نفسه عن البكاء، متأثراً بهذه اللفتة السمحة الكريمة.
* * *
القطيعة الاقتصادية مع سوريا
أصابت اقتصاد طرابلس في الصميم
ولم يمض العام 1950، حتى حلت بطرابلس، كارثة من نوع آخر، إذ وقعت القطيعة الاقتصادية بين سوريا ولبنان، والتي ألحقت ضرراً فادحاً بطرابلس، على الأخص.
والغريب ان هذه القطيعة، لم تكن وليدة دراسات أو تخطيطات اقتصادية لأي من البلدين، بل كان القصد منها "زكزكة" وحرتقة الحكم بعضهم لبعض!
ومع مرور الزمن تحولت القطيعة إلى أمر واقع، فالجانب السوري وجد فيها منفعة وخيراً لبلده... أما الجانب اللبناني والذي لم تكن حدود رؤياه، أبعد من العاصمة والجبل، اللتين لم تتأثرا لا من قريب ولا من بعيد بهذه القطيعة، بل كان العكس هو الصحيح، غير أن طرابلس التي كانت محطة تجارية مهمة وسوقاً نشطة للبيع والشراء لسكان المنطقة الساحلية في سوريا، إضافةً إلى المنطقة الوسطى بما فيها حمص وحماه، والتي كانت أسواقها تعجّ بالوافدين منهم كل يوم، قد أصيبت بالشلل وخلت أسواقها من كل حركة...
وهنا كان لطرابلس، مواقف مناهضة للسلطة، في المطالبة بعودة الوحدة الاقتصادية بين البلدين. ولا أزال أذكر كيف كانت الشاحنات ترمي بحمولتها من الانتاج الزراعي، أمام مقر المحافظة في شارع محمد كرامي، احتجاجاً على القطيعة، وقد كان رئيس غرفة تجارة طرابلس المغفور له نجيب المنلا، على رأس المحتجين، غير أن الأمور كانت تجري نشطة على خط تكريس القطيعة وليس الرجوع عنها...
وقد أمضت طرابلس، سنوات عديدة، وهمها الوحيد، مطالبة المسؤولين بالعودة عن القطيعة، أو التعويض عليها بمشاريع من شأنها تنشيط الوضع الاقتصادي في المدينة، غير ان كل مطالباتها ذهبت سدى، وضاعت في أقبية الوعود والمماطلات والمشاريع المبتورة!..
* * *
كارثة نهر أبو علي
تودي بحياة 129 شخصاً وتدمر خمس مناطق سكنية
في خضم هذه الأوضاع السيئة، فوجئت طرابلس ليل 15 – 16 كانون الأول من عام 1955، بأمطار غزيرة لم تعرفها منذ قرون، فاجتاحت مياه الطوفان، معظم أحياء المدينة القديمة فمحقت وجرفت، على مدى ساعتين، جميع البيوت القائمة على ضفتي النهر، مع محتوياتها، وازهقت أرواح مئة وتسع وعشرين ضحية، وشردت آلاف العائلات الفقيرة.
فالمياه تدفقت بقوة هائلة جامحة، اندفعت بارتفاع ستة أمتار عن منسوبها العادي، بعد أمطار غزيرة لم يهطل مثيل لها منذ قرون، وكانت المياه التي تجمعت خلف جسر "البرنس" في منطقة المرج ظاهر طرابلس، بسبب كثافة اغصان الاشجار التي سدت القناطر التي تنساب منها المياه، فأخذت تعلو وتعلو فتجمعت كميات هائلة من المياه خلف الجسر، واشتد ضغط المياه عليه، فتهاوى ليحدث صوتاً مرعباً اشد هولاً من مئة قنبلة، ولولا احتقان المياه هذه لما حدث شيء مما حدث.
وقد غمرت الأوحال التي خلفها الفيضان، بيوت ومخازن خمسة أحياء مجاورة للنهر واستغرق تنظيفها أكثر من ثلاثة أسابيع.
* * *
ثورة 1958
انحراف شمعون يشعل نار الثورة
في غمرة العواطف المفقودة والثقة الضائعة بين عامة الشعب الطرابلسي والسلطة الشمعونية الحاكمة، اندلعت ثورة عام 1958.
وفي اعتقادي ان هذه الثورة، حدثت بسبب طموحات راودت مخيلة رئيس الجمهورية يومذاك كميل شمعون، وفي طليعتها محاولة تجديد رئاسته، خلافاً للدستور، ومحاولته الإنحراف بالسياسة اللبنانية نحو حلف بغداد المشبوه، والمطعّم بالنكهة الانكليزية السامة، الأمر الذي لم يتقبله الشعب اللبناني، فكانت الثورة لتعطيل دور السلطة طالما على رأسها كميل شمعون.
والمضحك أن نصف طرابلس كان يعيش الثورة بكل معانيها، وناله من القتل والتشريد والدمار الشيء الكثير. وهو قابع في الأحياء القديمة، بينما ظلت أحياء طرابلس الجديدة، التي تقع خلف متاريس قوات الجيش، تعيش حياتها العادية، وكأن ليس هناك ثورة ولا من يحزنون باستثناء العواطف المؤازرة لإخوانهم الذين كانوا يتلقون الضربات المؤلمة في الاحياء الداخلية.
ولعل هذه الثورة، ما كانت لتحدث، لو أقدم كميل شمعون على قول كلمة واحدة ينفي فيها عزمه على التجديد، ويؤكد ابتعاده عن الاحلاف والمحاور التي كان يخطط لها البريطانيون، وآثر ان يذهب ألوف الضحايا في لبنان، على أن ينفي ذلك!..
* * *
كارثة المهندسين
عادوا من المؤتمر... داخل النعوش
ويشاء القدر ان تبقى طرابلس، في ثوب السواد، يلفها الحزن، كأنها وأياه توأمان لا يفترقان.
ففي منتصف عام 1965 بكت طرابلس ثلاثة عشر من خيرة شبابها وشاباتها، كانوا ضحايا سقوط طائرة كانت تقلهم من القاهرة إلى الاسكندرية، وشيعتهم بكثير من اللوعة والأسى، وجلهم من له بصمات خير في شتى حقول الخدمات العامة في المدينة.
وتتابع الساعة حديثها فتقول: لعلني وانا أروي هذا الحادث المفجع، أعود بالذاكرة إلى حادثة طريفة، كان الطلاق فيها بين زوجين سبباً في نجاتهما من الحادث. فقد قرر أحد المهندسين المعروفين في المدينة، مرافقة وفد المهندسين إلى القاهرة مع زوجته، غير أن الزوجة أصرت على مرافقة أولادها لهما في هذه الرحلة، وبالمقابل أصر الزوج على عدم اصطحابهم وبقائهم عند ذويهم أثناء غيابهم.
وهنا اشتد الخلاف بين الزوجين كل منهما يصر على موقفه، إلى أن انتهى الأمر بهما إلى الطلاق، وسافر الوفد من دون أن يصحبه الزوجان، ووقع الحادث المؤلم.
وهنا تدخل الأهل والأصحاب، ونجحوا في إعادة المياه إلى مجاريها بين الزوجين، فلولا الطلاق الذي تم بينهما، لكان جميع أفراد العائلة في عداد ضحايا الطائرة!
* * *
أم المآسي
جمال عبد الناصر، في ذمة الله
يتبع...