مجتمع النهر في طرابلس (3)
مقاهي النهر
المقهى هو حيز اللهو والراحة والتسلية. ولقد حفل مجتمع النهر بالمقاهي فكان لكل محلة مقهاها. ولكن ينبغي التمييز بأن «المقهى النهري» هو المتداخل مباشرة مع النهر وبالذات المبني على ضفافه أو بجواره. ومن أشهر مقاهي مجتمع النهر: مقهى البحصة، خبيني، جهير، الصيادين، الدباغة.
1- مقهى البحصة:
يعتبر «مقهى البحصة» من أشهر مقاهي طرابلس عامة ومجتمع النهر خاصة. يفصل بينه وبين النهر مباشرة طريق مرصوف بالحجارة الكلسية الكبيرة، عرض الطريق حوالي 10 أمتار (وكان من أجمل الطرقات في طرابلس). وللمقهى نظامان صيفي وشتائي. المقهى الصيفي كان حديقة واسعة تظللها الأشجار وبالذات الكينا والفلفل (أنقرضت من طرابلس) لها مزايا الرائحة في الورق والثمر. وأشتهرت حديقة المقهى بورودها ونباتاتها الدائمة أو الموسمية. ومن الدائمة: الورد والياسمين والتمر حنه. ومن الموسمية: الأضاليا والزنبق بعدة ألوان. وللمقهى مصلى في منتصف جهته الشرقية ويرتفع حوالي متر عن الأرض ويصعد إليه بثلاث درجات وله وظيفة ثانية إذ يستخدم كمسرح صيفي أحياناً.
الطاولات منتشرة في أرجاء الحديقة وهي من الحديد المشغول باليد وسطحها من الرخام الموزاييك الملون والكراسي من خيزران دمشق.
المشروبات صيفاً: قهوة وشاي وزهورات وشرابات عصير الليمون المعروف بالليموناضة والتمر هندي وفيما بعد حلت إلى جانبها المشروبات الغازية. ومن تقديمات المقهى التي اختص واشتهر بها «النارجيلة». ودوام المقهى كل النهار وجزء من الليل حتى موعد صلاة العشاء.
ومن ألعابه: طاولة الزهر والدمينو وفيما بعد ورق اللعب. أما المقهى الشتوي فمبناه يحتوي مسرحاً واسعاً وكواليسه كناية عن مغارة كبيرة قسمت إلى غرف داخلية وقد استقدم فرقاً عربية مسرحية وغنائية.
وللمقهى حكواتي موسمه الفعلي الصيف وبعض الشتاء وليالي شهر رمضان ومن أشهر قصصه عنترة بن شداد والزير سالم وأبو زيد الهلالي والملك سيف بن ذي يزن ومغامراته مع الجن والملك الظاهر «بيبرس» وحروبه مع الصليبيين. ومكان الحكواتي هو المسرح ويقرأ من كتاب السيرة. إلى جانب الحكواتي، هناك «الراوي» وهو يروي القصص التاريخية أو الإسلامية أو الحروب العثمانية. كما ان الراوي قد يكون شخصية متقدمة في العمر يقص رحلاته والأعاجيب التي شاهدها والمغامرات التي خاضها. وهو لا يجلس على المسرح وإنما على كرسي فوق طاولة وبجانبه العصا وأحياناً السيف.
والراوي هو شخصية محلية نابعة من مجتمع النهر بينما الحكواتي قد يكون شخصية متنقلة بين مقاهي طرابلس عموماً.
وفي العشر الأول من هذا القرن، ابتدع الحاج محمود الحارس مسرح خيال الظل الذي اشتهر باسم «كريكوز وعيواظ» بالتعبير العامي وتنقل به في مقاهي طرابلس ومن ضمنها مقهى البحصة.
سمي المقهى «بالبحصة» من المحلة التي تحمل نفس الاسم. وأرض النهر هناك مفروشة دائماً بقطع الحصى البيضاء والرمادية. واشتهر المقهى بأسراب البط والأوز التي كانت تسبح في النهر وتسرح في الحديقة.
كان للمقهى أدوار مختلفة فمنها دور التسلية واللهو الذي قد يمتد ويتسع ليحتضن حفلات موسيقية وغنائية (من الذين أحيوا حفلات غنائية في محمد عبدالمطلب وكارم محمود)، وأيضاً الدور السياسي حيث هناك حرص على اعتبار المقهى كمفتاح انتخابي ومن هذا المقهى أعلن الرئيس الراحل رشيد كرامي ترشيحه للانتخابات النيابية لأول مرة عام 1951.
ثم هو (Coin Solitaire) زاوية للوحدة، ولم يكن المقهى بعيداً عن صيت لحق به بأنه مكان لتناول المكيفات. والمقهى مجتمع ذكوري غير عائلي وخاص بالرجال دون النساء اللواتي يسمح لهن أحياناً فقط بمشاهدة «مسرح الظل».
2- مقهى «خبيني»:
المقهى الشعبي في طرابلس كان عبارة عن مخزن تنتشر في أرجائه كراسي القش وبعض الطاولات. وهذا ما امتاز به مقهى «خبيني» على الضفة اليمنى من النهر في محلة السويقة الذي كان يقع مباشرة على مجرى النهر في الطابق الأرضي لدار سكن. وفي الصيف وعندما ينحسر مجرى المياه، تمتد الكراسي والطاولات إلى مجرى النهر. وكان لهذا المقهى رواده الخاصون به من أهل المحلة.
3- مقهى جهير:
ويقع على الجانب الشرقي من جسر اللحامين لجهة الدباغة ويطل على النهر فهو فوقه وليس بجانبه. وفي فترة لاحقة جرى توسيعه من الجهة الخلفية بحيث بنيت له ركائز في أرض النهر وواجهات حديدية وزجاجية، واعتبر الدباغون من رواد هذا المقهى.
وكان له حكواتي وكانت تجري فيه لعبة المصارعة المعروفة باسم «صراع» (بتسكين الراء) أبطالها محليون أو ضيوف، ويرتدي المتبارزان سروالاً من جلد وتبدأ المصارعة على إيقاع دربكة حيث يقوى الإيقاع كلما أشتدت المنافسة وقد يرافقها مراهنات. وتنتهي اللعبة بتثبيت كتفي الخصم على الأرض والاستسلام. ويتطلب الاشتراك بها قوة بدنية واعتبرت عموماً بأنها لعبة الدباغين وتجار الغنم والماشية الذين يقصدون طرابلس لتصريف ماشيتهم فيبيتون بها أحياناً.
4- مقهى الصيادين:
ويقع في نهاية جسر اللحامين في الجهة اليمنى وكان عبارة عن قبو يجمع صيادي أسماك النهر الذين يصلحون شباكهم ويهيئون معداتهم فيه. ويجاور هذا المقهى المطعم الشعبي لأسماك النهر ومحلات الرواسين.
5- مقهى الدباغة:
ويعتبر من أجمل مقاهي طرابلس بسبب غنى جمالياته الطبيعية. ويقع في محلة الدباغة على ضفة النهر الأسفل وبمواجهة السد/ الحاجز الذي يشكل بالنسبة للمقهى شلال مياه جميل يصل رذاذه إلى المقهى الذي يعلو نصف متر عن ساقية الدباغين، وزرعت فيه أشجار دلب وتظلله عريشة عنب.
والمقهى يتحول إلى مطعم عندما يرتاده زوار طرابلس من الريف المجاور والمدن السورية ويطلبون وجبات اللحم المشوي من سوق اللحامين المجاور أو روؤس النيفا والفتة وهو يتحول إلى مطعم عائلي عندما تقصده عائلات زائرة، ولكنه على الإطلاق لم يكن مقهى عائلياً محلياً. ولمقهى الدباغة حكواتي وراوٍ ويشهد تعاقباً في نوعية زبائنه، فصباحاً وظهراً هو للريفيين والزائرين وبعد الظهر للدباغين وأبناء المحلة.
البيت النهري
البيت النهري - تجاوزاً - هو البيت القائم مباشرة على ضفتي النهر وعلى طول مجراه من المولوية حتى الزاهرية.
وتبلغ كثافة المنازل النهرية أوجها في حارات السويقة والجسرين إلى الجهة اليمنى وباب الحديد والسوسية إلى الجهة اليسرى.
ولا يمكن الحديث عن مزايا عمرانية ومعمارية خاصة بالبيت النهري ومتميزة عن سائر مساكن طرابلس القديمة إلاّ بأن له على الأغلب مدخلين: الأول لجهة السوق وهو دوماً المدخل أو البوابة الرئيسية، والثاني مدخل فرعي يؤدي إلى مجرى النهر. وواجهة المنزل المعاكسة لجهة النهر تشكل أحد جوانب السوق المجاور للنهر، في حين تتداخل واجهة المنزل المطلة على النهر مع حيز النهر نفسه، وهو حيز نسائي إلى حد كبير خلال النهار.
وينبغي التأكيد على إن المنزل النهري لم يستخدم مياه النهر مباشرة للشرب بل كان له مصادر مياهه المشتركة مع سائر المدينة القديمة (نظام الشاهيات) بل استفاد من مياه النهر في ري حديقته ونباتاته المنزلية.ان ضفة النهر تتحول إلى حديقة ملحقة بالبيت النهري خلال الصيف عندما تنحسر المياه، وكابوساً مزعجاً خلال الشتاء. وهناك خوف دائم وتحذير مستمر للأولاد من اللعب في النهر خلال هذا الفصل وأول الربيع رغم وجود تقليد عند أصحاب المنزل بتغطيس أطفالهم في النهر من شبابيك المنزل أو شرفاته.
ولكل بيت وسائل التقاط الأغراض العائمة على صفحة النهر وذلك بواسطة قصبة طويلة أو قصبة تنتهي بسلة أو كيلة. كما ان كل منزل معرض لضياع بعض أغراضه في النهر خصوصاً المنشورة منها أو الموضوعة على الشبابيك والشرفات النهرية. وللنهر أصواته المسموعة في المنزل النهري، والمرهوبة شتاء حيث هدير النهر يطغى على كل ما سواه، والخفيفة صيفاً حيث تضعف المياه. وتقوى الأصوات وتشتد عند وجود المساقط والسدود وعند فتح السواقط وخاصة في محلات السوسية والدباغة والمسلخ.
قبل عدة أشهر كتب الراحل طلال منجد تعليقاً على هذه الصورة(أعلاه) والمنشورة على موقع «طرابلس بالأبيض والأسود» على شبكة الانترنت، وفي هذا التعليق كتب المنجد ما يلي: «قهوة البحصة من اجمل مقاهى لبنان....شكراً لمصدر الصورة... يلزم الكثير للحديث عنها.. كان موقعها على ضفة النهر لجهة محلة السويقة... كانت أيضاً مكاناً ممتازاً للتجمعات السياسية والانتخابية والمحلية وأيضاً للحكواتى فى أماسي شهر رمضان... الى جانب مقهى البحصة كان هناك مقهى ومطعم الدباغة على ضفة النهر فى محلة الدباغة بجانب جامع الدباغة ومقهى جهير على جسر اللحامين ومقهى خبينى الخاص بالقبضايات على ضفة النهر مباشرة... كل هذه المقاهى أزيلت بفعل مشروع النهر بعد عام 1960 وليس بفعل الطوفة نفسها عام 1955».
أساطير وعادات ومعتقدات
الحية والقلعة والنهر:
ما من شيء أجمع عليه من شملتهم المقابلات كإجماعهم على رواية أسطورة «القلعة والحية والنهر». وهي قد وردت في تاريخ طرابلس للزين كما يلي: «.. يؤكدون أيضاً (الأهالي) انه كانت هناك أفعى هائلة تمد رأسها من أعلى القلعة بشكل قنطرة لتشرب من مياه نهر أبو علي بجوار القلعة من ورائها».
سراديب القلعة والنهر:
كانت دار السعادة (بيت المتصرف أو الوالي العثماني) تقع بمواجهة باب القلعة الكبير «والطريق إليها يعرف بطريق خضر آغا. وبيت المتسلم كان يتصل بالقلعة بواسطة سراديب واقية محصنة ودور عالية ضخمة متلاصقة بعضها ببعض».
الخيال الشعبي زاد من طول السراديب فتارة يصلها الى برج السباع في الميناء أو حديقة طرابلس العامة في ساحة التل أو مقبرة باب الرمل. وآخر مرة برزت فيها مسألة السراديب مطلع عام 1975 حينما قامت الدولة بحملة على المطلوبين المعتصمين في الأسواق الداخلية ونسجت الصحافة قصصاً عن هروبهم بواسطة هذه السراديب.. والواقع أنه عند محلة السوسية على الضفة اليسرى لنهر أبوعلي، بنيت قنوات قديمة لمياه ري البساتين وتتصل بقناة الحزوري. وبوسع المرء ان يمر فيها وقد استعملها ثوار 1957 للوصول إلى السقي مما حيَّر السلطات يومها والتي أقدمت على حرق أجزاء منه. ونسج «الخيال الشعبي» قصصاً عديدة عن هذه السراديب التي عرفت بأنها «تخبايات أو مخابىء النهر».
مغارة البزيزات:
إلى اليمين من النهر، ترتفع هضبة القبة. ومن أحيائها حي «ضهر المغر» الذي عرف بوجود مغاور عديدة فيه. ومن أشهر مغاور القبة «مغارة البزيزات» وهي صخرية وكانت ترشح من سقفها قطرات المياه وتصب في حفرة مثل الجرن. وكانت مقصد النساء اللواتي يشعرن بآلام الثدي من جراء الإرضاع (والبزيزات بالعامية تعني الأثداء الصغيرة) وتقوم الزائرة بغسل ثدييها من ماء المغارة المتجمع في الجرن.
مكبات النهر الطقوسية:
أشتهر في النهر رمي أو تصريف أشياء خاصة ومنها «حبل الخلاص» بعد الولادة. ويوضع حبل الخلاص في كيس من قماش أو خيش مثقل بحجر ويرمى بالنهر حتى لا يصبح بمتناول هر أو كلب إذا رمي في مكان آخر مما قد يتسبب بإنقطاع نسل الرجل (أبي الوليد) أو إصابة نسله أو أحد أفراد عائلته بالعاهات حسب الاعتقاد الشعبي.
ويرمى في النهر أيضاً طقم أسنان الميت وثيابه غير القابلة للغسيل. وأول قصة شعر للصبي كانت تجمع عند الحلاق وتزان ويوزع قيمة زنتها ذهباً للمحتاجين. وتوضع شعرات الصبي في قماش من حرير وتنثر في النهر مع الدعاء للطفل بعد الاحتفاظ بجزء من الشعر في قطعة القماش. ويذكر ان «صرة» الوليد أو بقية حبل الخلاص المعلقة في بطنه كانت تلف لدى سقوطها التلقائي في قطعة قماش أو ورق وتربط باللفة جيداً وتوضع خفية في أحد أمكنة المهنة التي يريد الأهل لطفلهم ان يكتسبها في المستقبل (تاجر، صناعي، مهني الخ... ).
أما فضلة عضو الذكورة الناتجة عن الختان فلم يأبه لها وكانت تهمل وترمى في النفايات وأشتهر النهر عموماً بأنه مكان لرمي الأشياء غير النافعة أو للدلالة على هذا الأمر كأن يقال «خذه وأرميه في النهر».
السباحة في «الجفل» ونادي زهرة الشباب:
تأسس هذا النادي عام 1948 في حي الشهداء بجوار النهر وأشتهر بتخريجه المستمر للاعبين تميزوا برياضة المصارعة الرومانية ورفع الأثقال والكمال الجسماني، هذه المهارات الجسدية المرتبطة بشكل وثيق بعالم السباحة في النهر.
كانت المياه الخارجة من الطواحين بتدفق غزير تشكل مجرى ماء سريع الإندفاع ويسمى «الجفل». وقد تحول «الجفل» إلى امتحان دائم للفتوة «قوس اوليس». وكانت تجرى مباريات دائمة لشباب المحلة أو الحارة في الصمود أمام تدفق مياه النهر بالوقوف في ثبات وعناد فيه.. والموقف كان يتطلب مهارة وجرأة.
وفي آن فإن مبنى الطاحونة هو مكان للغطس من فوقه «الشكية» ومعرض للسابحين الذين كان يحلو لهم دهن أجسادهم بالزيت الحلو والتشمس واستعراض كمالهم الجسماني.
وبالقرب من طاحونة الدرويشية، وفي مجرى النهر، كانت توجد حفرة واسعة عميقة (أكثر من 5 أمتار عامودياً) تشكل كعبة السابحين «ويقال لمن نجح في اختبار مهارته بالسباحة الخطرة فيها «بالحاج» اي أنه أتم مراسم الحج الرياضي واستحق الدخول إلى عالم الرياضيين الأقوياء.
واستعمال تعبير «حاج» عائد لكون الحفرة النهرية بالقرب من المولوية.
ولقد شكل هؤلاء السابحون نجوم نادي زهرة الشباب قاعدة المنتسبين إليه. وفي نفس الوقت، كان معظمهم يلتحق بسلك الشرطة البلدية أو بجهاز سرية الأطفاء«... لقد كان يقال دائماً في الشرطة والاطفائية.... هاتوا لنا شباب النهر ليدخلوا السلك»...
إن هذه العلاقة الواضحة ما بين النهر/الرياضة، والمهنة/ المهارة الجسمية قد تأسست على عامل سياسي مضمر. فنادي زهرة الشباب، قبل إنشائه عام 1948، إنما كان مقراً لحزب الشباب الوطني بزعامة عبد الحميد كرامي في سنوات الانتداب الفرنسي وكان يضم المتحمسين له ولاتجاهه السياسي، وعندما أمسكت عائلة كرامي ببعض مؤسسات المدينة كالبلدية، شكل أنصارها الجهاز الفعلي، الإداري والوظيفي، لهذه المؤسسات ومنهم شباب مجتمع النهر الذين انخرطوا في العمل السياسي من خلال حزب الشباب الرياضي ومارسوا الرياضة من خلال نادي زهرة الشباب.
أراجيح ومراكب العيد:
في باحة واسعة بجوار مقهى البحصة، كانت تنتصب أراجيح العيد بمناسبة عيدي الفطر والأضحى وما زال بعضاَ منها يقام حتى اليوم.
الأراجيح كانت للبنات والشقليبة والدويخة للصبيان.. هذه الباحة كانت أيضاً مقصداً في الأعياد والعطل لأصحاب السعادين والدببة الذين كانوا يتولون ترقيصها وهم يقدمون من الريف خلال الأعياد والعطل. كما يقصد الباحة أيضاً صاحب صندوق الفرجة ويتقاضى بدلاً نقدياً 5 قروش أو عينياً، رغيف خبز، بيضة..
ليست البحصة هي المكان الوحيد الذي كانت تنصب فيه الأراجيح وإنما أيضاً قرب المسلخ. وفي الدباغة وعند جسر اللحامين وفي الأعياد، كان صيادو الأسماك يأتون بمراكب ويقومون بنقل الأطفال فيها في رحلة نهرية تشمل النهر الأعلى في الدباغة صعود حتى جسر البرطاسية ذهاباً وإياباً. وهذا ما أوحى بقابلية نهر أبو علي للملاحة فيه.
من خيالات الطفولة:
بائع السمسمية النحيف الودود المتسامح الكريم انفرد بتقديم مزية هي قطعة سمسمية مع رؤية فيلم مصور في «الناضور» فقط بمبلغ 5 قروش ما جعله يحوز على رضى الأهل عندما يقصده أولادهم فهو «يحلي ويسلي» في آن.. ومكتبته أو بسطته كانت تحتوي على أكثر من مئة فيلم مما أتاح لخيال الطفل أن يرى ما لا يمكن أن يراه في مكان أو زمان آخر: زورو، السندباد، ران تان تان، سابو، أبطال والت ديزني وغيرهم. كان موقعه على مدخل جامع البرطاسية وهذا يعني أنه حائز على رضا المصلين لمهنته، إقبال الأطفال عليه هو في فسحة الظهيرة المدرسية وأيام الجمعة والآحاد والأعياد.
حمامات معمل الثلج الدافئة:
في الزاهرية وبمحاذاة ضفة النهر، بني معمل الثلج منذ عام 1908 وهو يفرز مياهاً ساخنة غزيرة في إحدى مراحل عملية التبريد وجعل مصرفها إلى مياه النهر.
وأثناء الحرب العالمية الثانية، تفشى داء الجرب مما جعل المكان مقصداً للمرضى الذين لا يملكون إمكانيات تسخين المياه فجعلوا حماماتهم الساخنة هناك. واستمر التقليد بعد الحرب وخاصة من قبل الفقراء والمعدمين والهامشيين الذين أقاموا أكشاكاً من قصب النهر هناك. وعرف المكان بحمامات معمل الثلج.
فياضانات نهر «أبو علي»
من المعروف ان مدينة طرابلس لم تعرف مؤرخاً خاصاً بها وخصوصاً في الفترة السابقة للنصف الثاني من القرن التاسع عشر، فهناك إنعدام للتواريخ الخاصة بمدينة طرابلس والأحوال التي طرأت عليها يوماً بيوم على غرار «تاريخ حوادث الشام» لميخائيل الدمشقي أو اليوميات على غرار «عجائب الآثار» للجبرتي. وأخبار فيضانات النهر في طرابلس ورد ذكر بعضها بشكل غير مباشر كفيضان 745 هـ في معرض ترجمة الصفدي لابن البارنباري، صاحب ديوان الإنشاء وكاتب السر في طرابلس أو من خلال وقفية تجديد جامع الدباغين في طرابلس أو «سيل عظيم» كان عاماً في بلاد الشام ومنها طرابلس. وهذه هي أهم الفياضانات التي أتت على ذكرها المصادر التاريخية:
1 - فيضان 1344م/745هـ:
أتى على ذكره الصفدي في ترجمة البارنباري:
»وفي سنة 745 كان في الشتا نايماً هو وأولاده فجاء سيل عظيم، وكان للسيل ضجة من الناس وضوضاء، فقام من فراشه ليعلم ما الخبر، وعاد فلم يجد لا داراً ولا سكاناً، وراح البيت وولداه، وأحدهما موقع، والآخر ناظر الجيش، وجميع ما في البيت إلى البحر، وانتبه الناس لهذه المصيبة العظمى، وركب النايب وتوجهوا إلى البحر إلى ان طلع الضوء، وقذف الموج ولديه وهما ميتان فأخذوهما، وعمر لهما تربة عظيمة هناك، وصدعت واقعته قلوب الناس في الشام ومصر، وأما هو فإنه داخله هلع عظيم واختلط عقله وبعث إلى مصر يسأل الإعفاء والإقالة«.
2 - طوفان 1407م/810هـ:
»ذكر ابن حجر انه في شعبان سنة 810 هـ، حدث السيل العظيم بطرابلس حتى قيل أن أهلها ما رأوا مثله، فهدم أبنية كثيرة وهلك بسببه خلق كثير«.
3 - طوفان 1503م/909 هـ:
»وفي هذه السنة جاء سيل عظيم ومطر عم الأقطار(....) وكذلك نهر طرابلس أخرب المساكن والحوانيت وغير ذلك«.
4 - طوفان 1612م /1020هـ:
»وفي سنة أسيب (أي 1612م) جاء سيل عظيم حتى ان نهر طرابلوس أخذ بيوت وطواحين وجسوره وأهلك خلقاً كثير«.
وعلى جدار جامع التوبة، كتابة تاريخية تفيد بتجديد «هذا الجامع الشريف لوجه الله الكريم بعد هدم جداره ومنبره ومحرابه وسبيل مائه من الفيضة الكبرى في سادس عشر ذي القعدة سنة عشرين بعد الألف» «وهذه الفيضة نسفت كثيراً من الأبنية«.
5 - طوفان 1749م /1162هـ:
»فاض نهر طرابلس في ثلاثة أيام خلت من شهر ربيع الأول وهو شباط الرومي سنة 1162 هـ. وكان فيضانه مع الفجر صبيحة نهار الجمعة، وقتل خلقاً كثيرا، وخرب بيوتاً كثيرة وعلا فوق الجسرين مقدار اثني عشر ذراعاً حتى غطى جميع الطواحين ما بقي باين منهم أثر، ولو ما أدرك العالم لطف من الباري جل وعلا وإلا كان أهلكهم بفيضه«.
6- طوفان 1842م/1258 هـ:
ورد ذكره في نص كتبه أحد شهود العيان بالعامية ونشرت نصه مجلة «أوراق لبنانية»:
»يوم الاثنين في 6 رمضان سنة 58 الواقع في 28 أيلول 842 الساعة تسعة من النهار فاض النهر أبو علي، وعلى (علا) الما (ء) فوق الجسر ووصل لباب الحديد وعدم كامل السويقة والمسلخ وسوق الحراج والملاحة، ووصل لمحل حارة النصارة، بزخم قوي جداً، وعلى (علا) في الأسواق فوق الدكاكين حتى لا عاد يظهر في محلات السقف. وبعض محلات على النهر هدمها بأصحابها وكامل ما بها. كذلك جاب (جلب) أبقار وخيل وحمير وجمال كثيرة ودلب وصور كل شجرة قد حارة كبيرة. وغرق رجال ونسا وأولاد بالأسواق وماتوا. وحكم (تقريباً) ثلث البلد خربت. راح كامل ما هو موجود بمحلات المتقاربة للما (ء) من أثاث ونحاس ولحف ومونة وسيغة (مصاغ) ودراهم شي يبلغ ثلاثة آلاف كيس وهذا من داخل البلد.. (؟؟). والذي خارج البلد من بساتين وجنينات وطواحين شيء ينوف عن ألفي كيس وأخذ من... نسا ورجال وأولاد. ومات حكم ماية حرمة (إمرأة) من الرعب حيث هذا الأمر غريب بأيامنا. وعلى (علا) فوق الجسر الما (ء) لقامه. وكل ذلك حكم نصف ساعة (...) «.
7 - طوفان 1955/1375هـ:
في «تاريخ آثار ومساجد طرابلس» كتب د. عمر تدمري ما يلي: «في نهاية سنة 1955 أصيبت طرابلس بكارثة الفيضان في مساء 17 كانون الأول ذهب فيه عشرات القتلى من الرجال والنساء والأطفال. فقد أنهمر المطر بشدة وقت المغرب وتضخمت كمية المياه المتدفقة في النهر بفعل الأمطار الغزيرة، وجرفت مياه النهر معها وهي في إنحدارها من الجبال الأشجار والأحجار، وارتطمت الأشجار ذات الجذوع الضخمة بالقناطر القديمة المعروفة بـ «قناطر البرنس» فاحتقنت المياه عندها بعد ان سدت المنافذ بالأشجار والأوساخ، وإزاء ضغط المياه الشديد تحطمت بعض القناطر وتدفقت المياه بقوة لتجرف ما يصادفها من أشجار وبيوت خشبية حيث ارتطمت بجسر السويقة القديم، واحتقنت المياه عنده من جديد وعلا منسوب المياه فطافت على البيوت الواقعة على ضفتي النهر، ودخلت تكية المولوية وغمرت الطواحين المنتشرة على الجانبين ودخلت حرم الجامع البرطاسي والمحلات القريبة منه، والبيمارستان القائم أمامه، ودخلت المدرسة البتركية وقناطر (باكية) غانم، حتى ارتفعت إلى محلة باب الحديد وهدمت قسماً من جسر السويقة، كما هدمت الجسر الجديد (اللحامة) ودخلت المياه جامع التوبة وغمرته، كما غمرت مسجد الدباغين والمدارس القريبة من المسلخ (...) وجميع البيوت والمحلات الواقعة على جانبي النهر وسارت المياه المتدفقة بين دروب المدينة القديمة وأسواقها حتى وصلت حارة النصارى ومحلة الزاهرية، وجرفت معها كثيراً من جثث القتلى وأثاث البيوت من أسرة وفرش وأدوات وأوانٍ، وحملت الحاجيات من المحلات، ودب الذعر في نفوس الأهالي، وارتفع الصراخ ونداءات الإستغاثة من الذين حاصرتهم ورفعتهم إلى اسفف بيوتهم ومحلاتهم، وارتطمت الجثث بالأشجار التي بقيت منتصبة بظاهر طرابلس شمالي النهر قريباً من البحر، وعلقت بها ومنها ما تقاذفته أمواج البحر من الأثاث، وتحولت مياه البحر إلى اللون الأحمر الداكن من الطين الذي جرفه النهر، وضربت أمواج البحر الجثث إلى جون عكار ومنها ما وصل إلى طرطوس«.
وكتب محسن يمين، نقلاً عن جريدة «الرقيب» اليومية ما يلي: .. «وهذا المطر المنهمر انحدر من رؤوس الجبال وجرى جداول انصبت جميعها في نهر «أبو علي» وفعلت مياهه ولم تلبث أن فاضت وطغت وفارت وجرفت الأشجار والأتربة من البساتين على ضفتي النهر وحملتها إلى مدخل طرابلس حيث يضيق مجرى النهر وتتقوس فوقه الجسور وتقوم الأبنية القديمة فطافت المياه على الجسور فلم تثبت لها فأقتلعتها واندفعت بعلو عشرة أمتار حتى طمت على الطبقات الأولى والثانية حتى الثالثة من البنايات ودخلتها تخنق سكانها الآمنين حول مواقدهم أو الهانئين في مضاجعهم أو المتحلقين حول موائد الطعام أو المنصتين إلى أغاني وإذاعات (...) وتابع طغيان النهر جنونه حتى تصدرت له المخازن على جانبي جسر المسلخ فدفعها أمامه بمن فيها وما فيها وألقاها في قاع النهر ثم ساقها وسقا عنيفاً في الأسواق والأزقة والشوارع القائمة على جانبه وأمامه فملأها وحولاً وجثثاً وأمتعة وأثاثاً، ثم اندفعت هذه السيول إلى محلات السويقة وباب الحديد والملاحة والشهداء والشارع الجديد والزاهرية والتبانة والمسلخ وخان العسكر وسوق القمح وحارة النصارى وسوق البازركان والصاغة والكندرجية واللحامين والنحاسين والسراي القديمة وشارع لطيفة والغرباء فانقطعت عن أحياء المدينة الأخرى وانعزلت وتحولت إلى بحيرة تموج فيها المياه الحمراء وترسب الوحول وتطفو عليها بالات القماش والبضائع وجثث الحيوانات وتزحف السيارات من مكان إلى مكان.
وقد تهدم أكثر من ستين منزلاً و500 مخزن كما تداعى 30 منزلاً وتجاوز عدد الضحايا المئة وعشرين ضحية«.
النهر ضابط الإيقاع