26 نيسان يوم أغّر في تاريخ طرابلس الفيحاء 2/2
بقلم الدكتور عمر تدمري
وإذا كان قد قُدِّر لإمارة الرّها أن تتحرر على يد الملك الشهيد نور الدين زنكي، وأن ينتصر الناصر صلاح الدين الأيوبي على جيوش ملوك أوروبا في موقعة حطّين ويحرر بيت المقدس، وأن يقوم الملك الظاهر بيبرس باسترداد انطاكية وفتح البلاد التابعة لها، فإن طرابلس ظلت عاصية أمام هجمات المسلمين، فقاومت عماد الدين زنكي، وابنه الشهيد نور الدين، والناصر صلاح الدين، وأخاه الملك العادل الأيوبي، والظاهر بيبرس، حتى قيّض الله لها السلطان المنصور قلاوون، سلطان دولة المماليك، فكان موعد تحريرها معه وعلى يديه، حيث خرج بجيشه من القاهرة إلى دمشق، وبها تجمعت الجيوش من مختلف أنحاء بلاد الشام، وانضم الى جيشه النظامي آلاف المتطوعة المغاربة النازحين من الأندلس. خرج من دمشق الى طرابلس في فصل الشتاء، والثلوج تكسو الجبال المشرفة على المدينة، ففاجأ الصليبيين ورابط عند مرتفع القبة، التي عُرفت بقبة النصر منذ ذلك التاريخ تمجيداً للفاتح العظيم، وضرب حصاره على الفرنج مدة 33 يوماً، وقذف الفرنج بالمنجنيقات، ونقب الجُدر والأسوار واقتحمها تحت غطاء من عشرات آلاف السهام والدبابات الخشبية الثقيلة والأنابيب التي تقذف النار الملتهبة، الى أن فرّ بعض القادة الفرنج في البحر إلى الجزر أمام الميناء، وقُتل بعضهم، وأُسر آخرون، وخاض المماليك عباب البحر بخيولهم وبعضهم سباحةً إلى جزيرة البقر، حيث فرّ الصليبيون إليها، وتّم دحر الفرنج في يوم 26 نيسان سنة 1289، وسقطت في هذا اليوم قاعدة الإمارة الفرنجية التي أقيمت على أرض مدينتنا العربية الإسلامية بغياً وعدواناً، وعادت طرابلس منذ ذلك التاريخ ثغراً ورباطاً للعرب والمسلمين، وكان يوم 26 نيسان يوم تحرير طرابلس من الاحتلال الفرنجي الأوروبي، ويوم تأسيس المدينة المملوكية التي تفخر بمساجدها ومدارسها وحمّاماتها وخاناتها وأبراجها وسُبُل مياهها وقصورها وأسواقها وساحاتها ونقوشها وزخارفها. وقد خفقت قلوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها فرحاً وابتهاحاً بفتح طرابلس وعودتها إلى المسلمين، فأقيمت الاحتفالات والزينات في كل بلاد المسلمين.
وبفتح طرابلس تيسّر فتح آخر معاقل الغزاة الفرنج في عكا وصور وصيدا وبيروت، وتم طردهم من ديار الشام بعد سنتين 1291م.
وكان من حق الفاتح العظيم القائد المجاهد المنصور قلاوون أن يخلَّد اسمه على أهم معالم طرابلس المملوكية، فكان أن أطلق ابنه على الجامع الكبير الذي أمر ببنائه، لقب أبيه الذي اشتهر به، وأصبح (الجامع المنصوري الكبير) وتمجيداً لجهاده ودوره في تحرير طرابلس. وحريّ بنا ونحن نستقرئ هذا التاريخ المجيد ونستعيد ذكرى هذه الموقعة الحاسمة، أن نتذكّرها ونرّسخ قيمها في نفوس أبنائنا وأجيالنا، ليقرأوا تاريخ مدينتهم العريق بالنضال والجهاد والحضارة.
وكما تحررت طرابلس الحبيبة من الغزاة بعد أكثر من 180 عاماً من الاحتلال الآثم، وكما تطهرت الرّها وبيت المقدس من الفرنج بعد احتلال دام نحو مئتي عام. فإن الله تعالى سينصر جنده المجاهدين أبطال الحجارة والمقاومة الإسلامية، ويحقق الله على أيديهم النصر بتحرير فلسطين وتطهير بيت المقدس والحرم القدسي الشريف، وليس ذلك على الله بعزيز "ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله ألا إن نصر الله قريب".
إن أهم درس يمكن أن يستفاد من الذكرى - الحدث هو أن الحق في النهاية لا بد ان ينتصر، وان فترات القهر في حياة الأمم والشعوب لا بد أن تنتهي، وان اليأس ينبغي أن لا يدخل القلوب المؤمنة. فها هي انتفاضة الأقصى في فلسطين المحتلة تقضّ مضاجع الصهاينة وأعوانهم، ولا بد أن تعود فلسطين عربية كما أعادها صلاح الدين، وكما تحررت طرابلس فستتحرر القدس بإذن الله ولو بعد حين.
نُشرت في جريدة البيان بتاريخ 25 نيسان 2012