26 نيسان يوم أغرّ في تاريخ طرابلس الفيحاء
بقلم الدكتور عمر تدمري
يصادف يوم الخميس الواقع في 26 نيسان من هذا العام، يوم تحرير مدينة طرابلس من الغزاة الإفرنج واستردادها، وإعادة بناء المدينة المملوكية بآثارها الإسلامية التي لا يزال أكثرها قائماً حتى الآن، عنواناً لحضارة الأمة الإسلامية وتراثها العمراني العريق. وبهذه المناسبة المجيدة، يجدر بأبناء الفيحاء ان يتوقفوا قليلاً أمام هذا الحدث التاريخي الجليل في مسيرة مدينتهم، ويستقرئوا وقائع النضال والصمود والجهاد التي خاضها أجدادُهم، ورابطوا وجاهدوا في الله حق جهاده، ليرفعوا كلمة الحق والدين، ويذودوا عن ديارهم ضد المستعمر الأجنبي الغاصب.
لقد جاءت الحملات - المعروفة في الكتب بالحملات الصليبية - من كافة أنحاء أوروبا والعالم الغربي في القرن الخامس الهجري - الحادي عشر الميلادي، تحت ستار من الدين وحماية الأماكن المقدّسة، ولكنها في حقيقة الأمر كانت تخفي أطباع ملوك الإفرنج في استعمار بلاد المشرق العربي الإسلامي، والسيطرة على خيراته، والتحكم في موقعه الإستراتيجي، واستغل الإفرنج إنشقاق العالم الإسلامي في ذلك الوقت بين السلاجقة الأتراك في العراق، والفاطميين في مصر، وقيام إمارات صغيرة في أنحاء بلاد الشام، فقام ملوك أوروبا كلهم بحملاتهم الصليبية، براً وبحراً، واحتلوا سواحل بلاد الشام كلها، وأقاموا إمارات لاتينية تخضع لهم من إنطاكية والرّها شمالاً، حتى بيت المقدس وأراضي مصر والأردن جنوباً، أي ما يزيد على مساحة فلسطين المحتلة الآن من الصهاينة عشرات المرات. وكانت طرابلس في ظل أمرائها من بني عمار قاعدة إمارةٍ مستقلة على هذا الساحل تمتد من نواحي اللاذقية شمالاً، حتى جونية وجسر المعاملتين، جنوباً، وتنعم بخيراتٍ اقتصادية، وازدهار في التجارة والصناعة والزراعة والعمران، وحياة ثقافية وفكرية وعلمية قلّ نظيرها في التاريخ، حتى أشاد المؤرخون الثقات بعظيم ثروتها فقالوا إنها من أعظم البلاد تجارة وأغناها ثروة، وهي تفخر بدار العلم ومكتبتها الكبرى التي كانت تحتوي على ثلاثة ملايين مخطوطة، وهي تفوق مكتبات الخلفاء في بغداد والقاهرة وقرطبة مجتمعة. ولقد وقفت طرابلس صامدة في وجه الغزاة عشر سنوات (492 - 502هـ/1099-1109م) وعانى أهلها من الحصار الطويل حتى افتقر الأغنياء، وأكل الناس الجيف والكلاب، وتخاذل الفاطميون عن نصرتهم، وتجمعت أساطيل الفرنج لحصار المدينة من البحر، وضيّقوا الخناق عليها من البر، ومنعوا وصول الغذاء والمساعدة من البلاد القريبة، حتى سقطت المدينة بأيديهم، فدمّروا معالمها، وأحرقوا مكتبتها بأمرٍ من قائدهم (برتراند) فضاع على الإنسانية كنزٌ هائلٌ من التراث والعلوم المدونة في المخطوطات النادرة المكتوبة بماء الذهب وبخطوط مؤلفيها، ورزحت طرابلس تحت حكم الغزاة الأوروبيون أكثر من 180 عاماً، وعمل الغزاة على تغيير معالمها العربية والاسلامية، فنشروا نظمهم وقوانينهم، وعملوا على فرض لغاتهم الغربية وعاداتهم، وكذلك فعلوا في كل المدن والبلاد التي احتلوها في الشرق العربي الإسلامي.
ولأهمية موقع طرابلس الإستراتيجي، ودورها التاريخي على ساحل الشام، فقد اتخذ منها الصليبيون عاصمة لإحدى إماراتهم اللاتينية بعد إمارة إنطاكية وإمارة الرها، ومملكة بيت المقدس.
نٌشرت في جريدة البيان بتاريخ 18 نيسان 2012