تراث طرابلس

Categories
من علماء طرابلس

العارف بالله أبو المحاسن القاوقجي

طرابلسيون منسيون

العارف بالله أبو المحاسن القاوقجي

آخر العلماء الموسوعيين والمحدثين ذوي السند العالي في طرابلس وبلاد الشام

بقلم الدكتور خالد بريش[1]

   أنه لمن الصعب على كثيرين في أيامنا هذه تصور حياة إنسان يقوم الليل ذاكراً متعبداً محاطاً بمريديه الذين قدموا لحضور حلقته وسماع دعائه، أو وفدوا للسلوك على يديه من بلاد الشام المختلفة والعراق ومصر والحجاز، فيزدحم بهم جامع الطحام، فيفترشون الأرض تحت شبابيك الجامع في الطرقات والزواريب، متعلقة قلوبهم بالباري الخالق، تردد ألسنتهم ذكره، وأسماءه الحسنى، وأوراد الشاذلية. ثم تختتم ليلتهم بصلاة الصبح، فيتبعون ذلك بتلاوة من القرآن الكريم (إن قرآن الفجر كان مشهودا). حتى إذا ما لاحت بوارق أضواء الشمس التي لا يضاهي ضياؤها أنوار تلك الشموس المتهجدة المتعبدة، صلوا الضحى خاتمين ذلك بدعاء ثم انطلقوا إلى أعمالهم، وقام هو لقضاء حوائجه.

   فذلك الإنسان الذي أحدثكم عنه هو علامة عصره الفقيه المحدث الشاعر قطب الذاكرين العابدين العارف بالله شمس الدين أبو المحاسن القاوقجي الذي تقصر الكلمات مهما كانت بليغة عن تأديته حقه وصفا أو إحاطة بعلمه وقدره. بل يشعر أحدنا بنوع من ندم وحسرة لأنه لم يدرك تلك الأيام التي عاش فيها ذلك العالم البركة، والجلوس بين يديه ليتلقى منه حديثاً أو ورداً أو دعاءً من بضع كلمات..  

   والقاوقجي اسم لمهنة صناعة القاووق مارسها أحد أجداد أبي المحاسن. والقاووق نوع من التيجان أو العمائم الخاصة التي كان يضعها السلاطين على رؤوسهم، ثم انتقلت إلى علية القوم وكبار رجالات الدولة، وشاعت بين المقتدرين على دفع ثمنها. ثم ما لبثت أن انقرضت حيث بطل لبس القاووق في آخر زمن خلافة السلطان محمود ابن السلطان عبد الحميد آخر السلاطين العثمانيين.

   وعائلة القاوقجي من العائلات الطرابلسية القديمة والتي ينتهي نسبها إلى العترة المحمدية الشريفة، وتحديداً إلى الحسن بن علي وأمه الزهراء رضي الله عنهم أجمعين. ومن المفيد ذكره أن عائلة القاوقجي وبربر والقرق والعلمي والسبع ورضا وسلهب ونشابة في الأساس ينتهون كلهم إلى عائلة القصيباتي نسبة إلى شرف الدين محمد العلمي القصيباتي الولي الصالح، وصاحب القبر الشهير الموجود في بلدة القلمون. وينتهي نسب القصيباتي إلى إمام التصوف في عصره العارف بالله الإمام عبد السلام بن مشيش المغربي (559-626/1163-1228). مع ملاحظة أمر هام وهو أن عائلة القصيباتي تفرعت في كل بلاد الشام إلى عائلات مختلفة، وأنها أسرة علم وقضاء وتصوف عبر التاريخ.

مولده

   ولد العارف بالله القطب شمس الدين محمد أبو المحاسن بن خليل بن ابراهيم بن محمد القاوقجي في طرابلس، في بيت أخواله من آل الحامدي الفاروقيين نسبة إلى الفاروق عمر بن الخطاب، وتحديداً في بيت خاله الشيخ محمد الحامدي، وذلك قبيل صلاة عشاء يوم الاثنين الواقع في الثاني عشر من ربيع الأول لعام 1224هـ الموافق 27 نيسان 1809م. وكان البيت الذي ولد فيه مطلاً على جامع العطار، وكانت حينئذ تُقرأ قصة المولد الشريف في مسجد العطار ويصل صوت القارئ إلى داخل البيت، ووالدته في المخاض. وعندما وصل القارئ السيرة العطرة إلى قوله: فولدته صلى الله عليه وسلم، أطل أبو المحاسن رحمه الله بوجهه على الحياة. فاستبشر أهله وأقاربه بولادته أيما استبشار، وغدت قصة ولادته مدار ألسنة كثيرين بسبب توافق هذه الحادثة.

نشأته

   توفي والده وهو ما زال صغيراً فنشأ يتيماً ورعاه أخواله أولاد العارف بالله العالم الكبير الشيخ عبد القادر بن محمد الحامدي، ومنذ نعومة أظفاره رحمه الله أخذ يتنقل ما بين المساجد وحلقات الذكر مع أخواله. فقد تعلم قراءة القرآن الكريم وله من العمر أربع سنين وحفظه رحمه الله في سن مبكرة، وتعلم الخط والكتابة ومبادئ العربية والعلوم الدينية من فقه وحديث وتفسير وتوحيد ومنطق.

   وظهرت عليه إشارات الذكاء، والنباهة واتقاد الذهن، وقد نهل بنهم ما استطاع من العلوم على أيدي علماء مدينة طرابلس في حينها، والذين كانت تزدحم فيهم مساجد المدينة ومدارسها، وكذلك تشرب منذ صغره طريق التصوف التي كان يحضر حلقاتها في بيت أخواله وفي معظم مساجد المدينة ومدارسها حيث كانت طرابلس في تلك المرحلة أشبه بخلية نحل لرجال الله والطريق.

السفر إلى القاهرة المعزية

   ولما بلغ خمسة عشرة ربيعاً أي في عام 1237هـ/1824م عقد العزم على السفر إلى القاهرة المعزية طلباً للعلم في الأزهر الشريف وللمجاورة فيه. وقد مكث في الأزهر سبعاً وعشرين سنة يتلقى فيها العلم عن كبار علماء عصره المحققين الذين ذكرهم في كتابه “معدن الآلئ في الأسانيد العوالي”. هذا ووضع أبو المحاسن رحمه الله نصب عينيه أن يكون عالماً في علوم الشرع العقلية والنقلية والعربية، فوهب نفسه للعلم ولا شيء غير العلم، لأنه كان يعرف أن العلم إن لم تهبه كلك لا يهبك بعضه.

   وسلك في أثناء تواجده في مصر الطريقة الشاذلية، ولبس الخرقة على يد شيخها قطب الزمان الشمس بهاء الدين محمد بن أحمد بن يوسف البهي. وتشبع بأفكار المتصوفة وأذكارها التي ألفها منذ طفولته، وأصبح ككل أهل الطريق لا تأخذه المظاهر، لا في الأمور الدنيوية والحياتية، ولا فيما يقع له من نوائب الدهر. وكان كل ما يقرأ رحمه الله من نصوص ومتون، أو يرد على ألسنة أساتذته العلماء يمعن النظر فيه ويراجع ما قاله العلماء حوله، فيمحص أقوالهم ليتعرف على مقاصدهم وحقيقة ما عنوه، ذاهباً إلى خفايا معاني النصوص والمتون، مقلباً الآراء في كل ذلك ليقف على الحقيقة، والأصح والأقوى من الناحية العقلية ومن حيث السند أيضاً.

   واهتم رحمه الله خلال فترة تواجده في الأزهر الذي دام سبعاً وعشرين سنة بالحديث النبوي رواية ودراية أكثر من اهتمامه ببقية العلوم. وأخذ يطلب عوالي الأسانيد في الأحاديث النبوية. فكان لا يسمع عن شيخ من شيوخ الأزهر الشريف أو ممن يزورون قاهرة المعز وعنده رواية لحديث من الأحاديث النبوية إلا وسعى إليه وأخذه عنه. ولا عرف بشيخ عنده إجازة صحيحة في كتاب من كتب العلم شرحاً أو متناً، إلا وهرع لحضور حلقة دروسه والحيازة على إجازته. وقد قربه أساتذته منهم عندما لاحظا نبوغه ونباهته وسرعة حفظه وتمكنه فهماً وإدراكاً لما يسمعه ويتلقاه، ومن ثم يدلي فيه بدلوه توجيهاً وتعليقاً وتفنيداً. فأصبح بعد فترة وجيزة يعيد دروس أساتذته على الطلاب، ويشرح لهم بعض غوامضها وبحضور بعض أساتذته أحياناً.

   وأصبحت له بعد سنوات من الدراسة المعمقة العالية حلقة خاصة به بعدما كتب بعض الرسائل والشروح في علوم مختلفة وخصوصاً فقه الأحناف، والتصوف، وعلم الكلام. والتي نالت استحسان أساتذته وتداولها طلاب العلم واشتهرت في الأزهر الشريف حينها. فكان رحمه الله يشرح في حلقة دروسه بعض رسائله، ويقوم بقراءة كتب أساتذته التي درسها وهضمها، وأجازه شيوخه فيها. فيعلق على غوامضها، واضعاً عليها بعض النكت العلمية والإيضاحات والعقيبات. 

العودة إلى طرابلس

   عاد أبو المحاسن القاوقجي رحمه الله إلى طرابلس بعدما شعر بالاكتفاء من العلم، وأنه بلغ فيه درجة الأستذة والمشيخة. وقد ذاع صيته بين العلماء وطلاب العلم على السواء في طرابلس وبلاد الشام، وعرف قدره، وخصوصاً أنه درس مجموعة من العلماء في أيام وجوده في القاهرة. فهرع إليه طلاب العلم من كل صوب للأخذ عنه وللجلوس في حلقات علمه. واتخذ من جامع الطحام الذي كان إمامه وخطيبه مركزاً له يقيم فيه حلقات دروسه العامة والخاصة، بالإضافة إلى تنقله في مختلف مساجد طرابلس التي كان يدرس فيها ويخطب وينشر ما منّ الله عليه من علوم. وبدأ أيضاً بنشر الطريقة الشاذلية التي أصبح بعد فترة وجيزة قطبها وشيخها الأكبر في بلاد الشام، وقد اتخذ لدعوته الشاذلية ثلاث زوايا في مناطق مختلفة من طرابلس يقيم فيها الواجب من حلقات الذكر والتعبد، ويتلو الأوراد، ويؤدب فيها المريدين:

   – الأولى: كانت في منزله الواقع في منطقة الدفتردار، حيث يوجد زقاق ينسب إليه زقاق القاوقجي.

   – الثانية: كانت في جامع الطحام.

   – الثالثة: كانت في الميناء.

   وقد شهدت طرابلس في الأيام التي كان يقيم فيها الواجب وحلقات الذكر ازدحام المريدين والأتباع، وشيوخ الطريقة على مختلف طبقاتهم وأعمارهم، والقادمين من مختلف المناطق اللبنانية ومن بلاد الشام والعراق ومصر والحجاز، حتى كادت أن تكون طرابلس حينها عاصمة العالم ومركزه.       

أبو المحاسن الإنسان

   ما زال كثير من الطرابلسيين يذكرون في أحاديثهم فتاويه ويعملون بها، ولكنهم يتذكرون أكثر قصصاً جرت له رحمه الله مع فلان أو علان من الباشوات والبكاوات والأفندية، ويذكرون إلى الآن أيضاً بعض كراماته، فيتخيل سامعها أن أبا المحاسن وما قام به، كان في عهود غابرة تعود لآلاف السنين، مع أننا قريبي العهد به، بل ما زالت رائحة مسك أثوابه تفوح من الطرق التي سلكها، وصوته وهو يذكر القدوس الودود يتردد صداه إذا ما سمعنا بقلوبنا ونحن نمر بقرب مسجد الطحام.

   وكانت الخطابة وسيلته في الوعظ والإرشاد والتربية، فكان خطيباً مصقعاً، لنبرة صوته رنين خاص على الأسماع وفي القلوب. تدمع عيناه إذا ما مر في خطبته أو درسه وحديثه على ذكر الله، أو بعض آيات كتابه الكريم. فتسافر معه قلوب السامعين إلى حيث يريد رحمه الله. فتعلو أصوات من خلفه في الصلاة أو في الدعاء مجهشة بالبكاء ندماً وحسرة على ما قدمت من عمل، راجية عفو الله ومغفرته. أوليست مغفرته سبحانه وتعالى أقصى أماني العابدين المؤمنين..؟.

   فقد كان رحمه الله عالماً بحق، يشار إليه بالبنان، اجتمعت قلوب أهل المدينة على محبته واحترامه من الكبير والصغير على السواء. وكان مثالاً للعالم المتواضع الدرويش المستقيم المتمسك بأهداب دين الله وشريعة نبيه. لا يخاف في الحق لومة لائم. سريع الغضب لحرمات الله، ونواهي نبيه. يفيض الحب من كل تصرفاته ونظراته، شأنه شأن كل من غرق في حب الله وبحار أنواره، وعرف الوجد ولذة الذكر والسجود والركوع، وتخطى بعينه وقلبه صور الأشياء إلى حقائقها.

   كان بهي الطلعة، تبعث إطلالته على الجلالة والمهابة في القلوب. تخافه العامة وعلية القوم وكل المسؤولين ورجالات المدينة، ويشعرون أمامه بالصغر، لأنه رحمه الله كان زاهداً في الدنيا ومالها وغبارها وكل ما في أيديهم. شديد التواضع لين الجانب مع الفقراء والمساكين، يجالسهم ويشاطرهم الطعام، معطاءً كريماً معهم، ومع طلابه ومريديه، فتمتد يده لمساعدتهم بلا تردد باذلاً من أجلهم الغالي والنفيس.

   وكان القريبون منه والبعيدون يتعشقون مجلسه الذي كان مليئاً بالأذكار والأوراد والأدعية وبالإفادة العلمية والوعظية حتى إن عبارات مثل: العلم، والإصلاح، والتقوى الخ.. غدت علماً عليه في زمانه وأيامه في هذه المدينة.    

علومه ومعارفه وأسانيده

   إن الحديث عن أبي المحاسن رحمه الله حديث ذو شجون لكونه حديثاً عن أغزر علماء طرابلس في عصره تأليفاً وتصنيفاً وتمكناً في العلوم. وعن خطيب بليغ شاعر مفوه تهتز له أعواد المنابر، وقلوب السامعين. فلقد تمكن العارف بالله الشيخ أبو المحاسن القاوقجي رحمه الله من ناصية العلوم وتملكها. فكان واحداً من العلماء الموسوعيين الكبار على مستوى الأمة بحق، فبلغت سمعته الآفاق. وكان حديث الألسن، ومقصد طلاب العلم والعلماء. لأنه لا يوجد علم من علوم العربية، والعلوم الشرعية النقلية، وكذلك العلوم العقلية، بالإضافة إلى علم الذوق والتصوف، إلاّ وله فيه شرح أو مؤلف وربما أكثر. ونستطيع القول بأنه بلغ درجة رفيعة من العلم، ومرتبة لا يشق لها غبار، وكاد أن يصبح مجتهد عصره في فقه الأحناف الذي كان فيه متمكناً أمكن أصولاً وفروعاً واستظهاراً لمسائله، ومعرفة بأقوال علماء المذهب وأدلتهم وتوجيهاتها، حتى إنه بزّ كل أقرانه في ذلك وفاقهم.

   وأما في السند ورواية الحديث النبوي، فقد كان رحمه الله الأعلى سنداً ليس في طرابلس فحسب، بل في كل بلاد الشام والعراق والحجاز ومصر، حيث انتهت إليه رواية الحديث. وقلما وجدنا سنداً في حديث محدثي بلاد الشام ومصر والحجاز والعراق في القرن التاسع عشر إلاّ وكان منتهياً إلى أبي المحاسن رحمه الله، حتى إن المؤرخ عبد الحي الكناني قال عنه: “مسند بلاد الشام في أول هذا القرن، وعلى أسانيده اليوم المدار في غالب بلاد مصر والشام والحجاز”. فكانت طرابلس في أيامه بفضله وبفضل العلماء الذين عاصروه محط أنظار طلاب العلم والباحثين عن علو السند في رواية الحديث في كل البلاد الإسلامية.

   ولهذا كان رحمه الله المقصد من قبل العلماء والطلاب من مختلف الأقطار والأمصار لسماعه أو للتلقي منه، وخصوصاً ما اشتهر به دون غيره من العلماء حينها وهو رواية مثلثات الإمام البخاري، والتي يقصد فيها الأحاديث التي يرويها البخاري عن ثلاثة رواة، أي صحابي وتابعي وتابع التابعي، في الوقت ان بين أبي المحاسن القاوقجي والبخاري عشرة رواة فقط.      

شيوخه وأساتذته

   إن المدة التي مكث فيها أبو المحاسن في قاهرة المعز، يسرت له اللقاء بعدد كبير من كبار علماء الأزهر الشريف الذين يعدون بالمئات. فحاز رحمه الله على إجازات عامة وخاصة من العشرات منهم، والذين ذكرهم في كتابه “شوارق الأنوار الجلية”، وذكر أيضاً ثلة من شيوخه وأسانيده في الحديث في كتابه “معدن اللآلي في الأسانيد العوالي”، ومن شيوخه الكثر نذكر:

   – العالم المتبحر الشيخ محمد بن أحمد التميمي الخليلي (…-1268/…-1852) مفتي الديار المصرية.

   – خاتمة المحدثين وإمام المحققين محمد عابد بن أحمد السندي الأنصاري (حوالي 1190-1257/1776-1841) رئيس علماء المدينة المنورة.

   – الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر الشيخ إبراهيم بن محمد الباجوري (1198-1277/1784-1860).

   – قطب الزمان وسند الديار المصرية الشمس بهاء الدين محمد بن أحمد بن يوسف البهي الشاذلي (…-1260/…-1844).

   – العارف بالله الشيخ محمد بن صالح السباعي العدوي الخلوتي (…-1268/…-1852).

   – الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر الشيخ برهان الدين حسن بن درويش بن عبد الله بن مطاوع القويسني (…-1254/…-1838).

   – العارف بالله العالم الشيخ حسين بن سليم الدجاني (1202-1274/1788-1858)، المولود في مدينة يافا بفلسطين، والمتوفى في مكة أثناء أدائه فريضة الحج ودفن في المعلا.

طلابه ومريدوه

   ذاع صيت أبي المحاسن رحمه الله في البلاد، فكانت طرابلس في أيامه محجة لطلاب العلم الذين كانوا يأتون إليه من مختلف البقاع مثل: مصر، والعراق، والحجاز، واليمن، وكل بلاد الشام، لقراءة أحد كتبه على يديه، أو لسماع أحد أسانيده، أو للحصول على إجازته، أو من أجل السلوك على يديه، أو بحثاً عن العلم والكلمة الطيبة. ولهذا كثر طلابه ومريدوه وانتشروا في البلاد. واعتقد أنه من الصعب جداً حصر من نالوا منه إجازة، أو سمعوا منه حينها. وكذلك يصعب تعداد مريديه في التصوف ومن سلك على يديه أو ألبسه الخرقة. ولكن سوف نذكر بعض طلابه الذين تلقوا العلوم على يديه والذين حازوا إجازته في الحديث واشتهروا ومنهم:

   – الشيخ المحدث أحمد بن محمد الدلبشاني الحنفي الموصلي.

   – الشيخ العالم صالح بن عبد الله العباسي.

   – الشيخ العالم بسيوني القرنشاوي.

   – الشيخ العالم محمد بن محمود خفاجة الدمياطي شيخ علماء دمياط.

   – الشيخ المحدث حبيب الرحمن الكاظمي الهندي.

   – الشيخ العلام المحدث أبو الحسن علي الوتري المدني مسند المدينة المنورة في زمانه.

   – الشيخ حسن السقا الفرغلي خطيب الجامع الأزهر.

   – عالم دمشق في وقته ومسندها الشيخ أحمد العطار.

   – الشيخ العالم المحدث سليم المسوتي الدمشقي.

   – الشيخ بكري العطار (1251-1320/1835-1902)، أحد كبار مسندي بلاد الشام.

   – الشيخ عبد الرحمن الكزبري، أحد كبار العلماء في بلاد الشام ومسندها.

   – العالم الشيخ عبد الله السكري (1230-1329/1815-1911)، أحد كبار المسندين في بلاد الشام والعراق والحجاز.

   – العالم الشيخ محمد ناصر الدين أبو النصر الخطيب (1253-1325/1837-1906)، أحد كبار علماء بلاد الشام والحجاز ومسنديها.

   أما في لبنان فقد كان له أثر كبير على معظم علماءِ طرابلس ولبنان في وقته علماً وثقافة وأخلاقاً، حيث ان معظمهم جلس بين يديه، واغترق من مجالس علمه، وقبسات أنوار اذكاره وأوراده وأعيته، التي ما زال كثيرون يرددونها إلى اليوم. مع ملاحظة ان بعض العلماء الطرابلسيين الذين لم يتعلموا أو يسلكوا على يديه في طرابلس قد تتلمذوا على يديه في مصر خلال إقامته فيها ونذكر منهم:

   – الشيخ أبو النصر بهاء الدين محمد القاوقجي (1285-1253/1868-1934)، ابنه، ومسند طرابلس ومصر وبلاد الشام.

   – الشيخ عبد الفتاح الزعبي (1256-1354/1840-1935)، نقيب أشراف طرابلس وإمام وخطيب المسجد المنصوري الكبير.

   – الشيخ القاضي عبد المجيد المغربي (1283-1352/1867-1934)، وقد شرح “كفاية الصبيان”، أحد كتب أبي المحاسن.

   – الشيخ عبد القادر المغربي (1283-1376/1867-1956) المصلح واللغوي الشهير.

   – الشيخ المصلح محمد رشيد رضا (1282-1354/1865-1935) صاحب تفسير المنار.

   – أبو المعالي الشيخ عبد الكريم محمد عويضة (1283-1378/1865-1958)، درة علماء طرابلس، وكبير علمائها.

   – الشيخ العالم عبد الرحمن الحوت (1262-1336/1846-1916)، نقيب أشراف بيروت ومفتيها.

   – الشيخ العالم عبد القادر بن عبد القادر الأدهمي (…-1325/…-1907)، أحد كبار علماء طرابلس، والذي ألف كتاباً في ترجمة شيخه أسماه ترجمة قطب الواصلين.

 

أبو المحاسن العارف بالله وقطب التصوف

   لقد تعمق شمس الدين أبو المحاسن القاوقجي في سلوك طريق التصوف، وأبحر في رياضة الأذكار والأوراد بكليته حتى غدا في الطريق وعالم الذوق والأنوار قدوة وقطباً ومحط أنظار المريدين، وباب الوصول بالنسبة للسالكين والباحثين عن المعرفة والعرفان. وظهرت له كرامات كثيرة ما زالت موضع حديث كثيرين من أهل المدينة وخصوصاً من أهل الطريق فيها. ومن ذلك ما يروى أن صديقه وأخاه في الطريقة الشيخ عبد الله الزعبي الجيلاني قد أعياه المرض يوماً، وأجلسه الفراش في داره بحيذوق في عكار، ولم يطلع على مرضه أحداً من أهله وأتباعه إلا الله. وبينما كان في غيبوبة الصحو والوجود، مطلقاً لروحه العنان في مقامات الشهود، رأى أن البتول فاطمة الزهراء رضي الله عنها وأرضاها وقد آلت لزيارته على ناقة، فمدت له يدها، وأردفته خلفها. فارتد إلى حاله فجأة، ونظر في أمر نفسه، فوجد أن المرض الذي كان يعاني منه قد ذهب عنه. فكتب له الشيخ أبو المحاسن في نفس اليوم رسالة أرسلها له مع أحد مريديه، يهنئه فيها بزيارة الزهراء له، وركوب الناقة خلفها، وحدوث الشفاء.

   وغدت لأبي المحاسن بعد مدة من قدومه إلى طرابلس مدرسته الخاصة من حيث الأذكار والأوراد وصنوف المجاهدات والرياضات الروحية والتعبد في داخل الطريقة الشاذلية، وأصبح لهذه المدرسة مريدوها ومواسمها، وهي ما يعرف حتى يومنا هذا بـ “القاوقجية الشاذلية”. وقد اعترف بهذه الطريقة من قبل المجلس الأعلى للطرق الصوفية في مصر في نهاية شهر جمادي الأول من عام 1345هـ الموافق كانون الأول (ديسمبر) 1926م.

   وكان رحمه الله يختبر مريديه ويمتحنهم من قبل أن يسلكهم، وذلك بامتحانهم في أمور العقيدة وقدرتهم وصحة عزمهم على العبادات، وفي مراقبة تصرفاتهم والسؤال عنهم، مخافة من الله أولاً، ومن ان لا يتحمل وزر بعض رعاع الخلق. وكان أيضاً يتدرج مع مريديه في الأوراد والأذكار التي يعلمهم إياها، والعبادات والمجاهدات التي كان يأمرهم بها أيضاً. وهنا تحضرني نقطة مهمة وهي أنه كان رحمه الله لا يفعل كما يفعل بعض شيوخ الطريق فيوهمون المريدين في الوصول إلى معرفة كنه الأشياء والوصول إلى حالة عرفانية مطلقة. ومن ذلك أن الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله بعدما سلك على يديه طريق الشاذلية ومارس رياضاتها وأذكارها، ونال منه إجازة في رواية دلائل الخيرات وهي مرحلة متقدمة في الطريق إلى حد ما، طلب من أبي المحاسن أن ينتقل به من الشاذلية الصورية التي يمارسها كل المريدين من ذكر وعبادات مختلفة، إلى سلوك طريق المعرفة اللدنية الحقيقية. فاعتذر منه رحمه الله وقال له: “يا بني إنني لست أهل لما تطلبه فهذا بساط قد طوى وانقرض أهله..؟.

   وكان رحمه الله لا يجعل أتباعه يتوهمون أيضاً ان سلوك الطريق يعني فوزاً بالجنة، أو أنهم بأنواع أذكارهم وعباداتهم سيكونون بمأمن من قضاء الله وقدره وعقابه وحسابه. فيقول مبيناً وموضحاً: “الأذكار والأوراد لا تبدل قدراً ولا تغير قضاء، وإنما هي عبودية اقترنت بسبب كاقتران الصلاة بوقتها. فالدعاء سبب لرد البلاء واستجلاب الرحمة، كما ان الترس سبب لرد السهم. وليس من شرط الاعتراف بقضاء الله أن لا يحمل السلاح. وقد قال تعالى (خذوا حذركم)، فربط الأسباب والمسببات على تفاصيل الأسباب على التقدير والتدريج هذا القدر، الذي قدر الخير قدره بسبب، وكذلك الشر قدر لرفعه سبباً، فلا تناقض عند من انفتحت بصيرته..”.

   ومن بين كبار مريدي الشيخ أبي المحاسن رحمه الله سوف نذكر عالمين جليلين كانا من وكلائه في نشر الطريقة القاوقجية في مصر، وكان لهما أثر كبير في انتشار هذه الطريقة ومدرستها وهما:

   – الشيخ محمد بن عبد الرحيم بن عبد الوارث النشابي (1266-1339/1850-1919)، أحد كبار علماء الأزهر الشريف. وقد نشر الطريقة القاوقجية في طنطا وجوارها. وكان له بحي سيجر بطنطا ساحة كبيرة للذكر ولإطعام الطعام واستقبال الضيوف.

   – الشيخ سلامة بن حسن سلام الراضي (1284-1357/1867-1939)، وكان من كبار رجال التصوف العباد الصالحين الثقات. وقد أقيم له بعد وفاته ضريح في مسجد يحمل اسمه بمنطقة السبتية ببولاق أبي العلا في القاهرة.

سياحاته وزياراته

   كان شمس الدين أبو المحاسن يخرج في كل عام أكثر من مرة إلى المناطق القريبة من طرابلس. وكانت الوفود تأتيه من شتى البلاد والأصقاع وتجلس على بابه إلى أن يستجيب لها في زيارة بلدتهم أو قريتهم كونهم كانوا يستبشرون به وببركته خيراً. فكانوا إذا ما حل بهم يستقبلونه بما يليق به من ذبائح وولائم وحلقات ذكر وعبادة تبقى عامرة مدة إقامته بينهم.

   وكان رحمه الله يخرج خروجاً كبيراً في كل عام يزور فيه بيت المقدس ويمر في طريقه على زوايا مريديه وأتباعه، وعلى كبار المشايخ والعلماء. وكذلك على قبور الأولياء والصالحين، وصولاً إلى مصر حيث يبقى فيها مدة قد تطول أحياناً. وفي أثناء الطريق كان ينضم إليه المحبون والأتباع والمريدون في موكب كبير، فيتنقلون معه من بلد إلى آخر ومن قرية إلى أخرى. وكان أحياناً يرتب أمر خروجه هذا ليكون قبل موسم الحج بفترة قليلة، بحيث إذا ما أنهى زيارته لمصر، تابع طريقه لزيارة بيت الله الحرام ومسجد المدينة المنورة وقبر نبيه المصطفى r، مؤدياً مناسك الحج والعمرة هو ومن رافقه في سياحته هذه.

   وكان في كل مرة يخرج فيها يصاحبه عدد لا بأس به من الأتباع والمريدين الطرابلسيين، ويبقون معه إلى أن يعود إلى طرابلس مرة أخرى. وأما في مصر فقد كان إذا ما وصلها تبعه الأتباع من أهل الطريق والذاكرين بالمئات في مواكب تحيط به وهم يحملون الرايات والأعلام، وكأنه شمس محاطة بالأقمار.

مؤلفاته ومصنفاته

   إن سعة علم أبي المحاسن القاوقجي تظهر جلية بوضوح من خلال كم المؤلفات والمصنفات التي تركها، والتي أوصل عددها بعض من ترجموا له إلى ثلاثمائة كتاب ورسالة وشرح. فكان بحق أغزر علماء عصره تأليفاً ونتاجاً. قد تطرقت كتبه ومؤلفاته إلى مختلف ميادين العلوم الإسلامية والشرعية والتربية والوعظ واللغة من نحو وبلاغة وشعر. وللأسف ما زال كم كبير منها غير مطبوع، ولم يرَ النور بعد وهو حبيس رفوف المكتبات. وكذلك يوجد عدد كبير منها قد ضاع وفقد. ومن مؤلفاته التي وردت في أكثر من مرجع نذكر:

   – الاعتماد في الاعتقاد، طبع في القاهرة عام 1926م.

   – الإمدادات الإلهية على الأربعين النووية.

   – البدر المنير شرح على حزب الشاذلي الكبير.

   – البرقة الدهشية في لبس الخرقة الصوفية.

   – بغية الطالبين فيما يجب من أحكام الدين، رسالة في المذاهب الأربعة، طبعت عام 1322م.  

   – البهجة القدسية في الأنساب النبوية.

   – تحفة الملوك في السير والسلوك.

   – تحفة الناسك في المناسك.

   – تسهيل المسالك مختصر لموطئ الإمام مالك بن أنس.

   – تنوير القلوب والأبصار ونزهة العيون والأفكار في أحاديث النبي المختار.

   – الجامع الفياح لجوامع الكتب الثلاثة الصحاح البخاري ومسلم والموطأ.

   – جمال الرقص في قراءة حفص.

   – خلاصة الزهر على حزب البحر، طبع في القاهرة عام 1304هـ.

   – الدر الصفي على عقيدة النسفي.

   – الدر الغالي على بدء الأمالي، طبع في المطبعة النصرية في مصر عام 1317هـ.

   – الذهب الإبريز على كتاب المعجم الوجيز للميرغني، وشرح للأحاديث النبوية، طبع في بيروت، 1310هـ.

   – ربيع الجنان في تفسير القرآن.

   – رحلة، وقد جمعت غرائب أسفاره وبعض أخبارها في مصر والحجاز والشام.

   – رسالة في مصطلح الحديث.

   – رفع الأستار المسدلة في الأحاديث المسلسلة.

   – روح البيان في خواص النبات والحيوان.

   – ريحانة القلوب في خلوة المحبوب.

   – سفينة النجاة في معرفة الله وأحكام الصلاة، طبع سنة 1322هـ.

   – شرح الأجرومية على لسان أهل التصوف.

   – شرح حزب سيدي إبراهيم الدسوقي، طبع في مصر عام 1302هـ.

   – شرح حزب الفتح الشاذلي.

   – شرح حزب القطب النبوي سيدي أحمد البدوي.

   – شرح حزب النووي.

   – شرح على الكافي في علمي العروض والقوافي.

   – شرح غرامي صحيح في مصطلح الحديث.

   – شرح ورد السحر لسيدي مصطفى البكري.

   – شوارق الأنوار.

   – ضوء المنازل فيما ورد من النوافل.

   – الطور الأعلى شرح الدور الأعلى، شرح حزب الدور الأعلى لمحي الدين بن العربي.

   – عجالة المستفيد في أحكام التجويد وشرحها.

   – عناية المهتدي على كفاية المبتدي.

   – غاية المرام على كفاية الغلام.

   – الغرر الغالية على الأسانيد العالية.

   – غنية الطالبين فيما يجب من أحكام الدين على المذاهب الأربعة.

   – الفتح المبين على الحصن الحصين.

   – الفضة النقية في سلوك الطريقة الخلوتية.

   – الفيوضات القدسية وصلوات السادة الدسوقية.

   – قواعد التحقيق في أصول أهل الطريق.

   – كواكب الترصيف فيما للحنفية من التصنيف.

   – لطائف الراجين وبغية الطالبين في أصول المحدثين وقواعد الدين.

   – اللؤلؤ المرصوع فيما قبل لا أصل له في الحديث الموضوع، المطبعة البارونية بمصر.

   – مسرة العينين، حاشية على تفسير الجلالين.

   – معدن الآلي في الأسانيد العوالي، ثبت ذكر فيه مشايخه وأسانيده.

   – مفتاح الكنز الأفخر لمن أراد أن يصل إلى العلي الأكبر، طبع في القاهرة، 1294هـ.

   – المقاصد السنية في آداب الصوفية.

   – منتقى الأزهر على ملتقى الأبحر.

   – مواهب الرحمن في خصائص القرآن.

   – مولد البشير النذير، سيرة المولد النبوي الشريف، طبع في المطبعة النصرية، مصر 1317هـ.

   – نزهة الأرواح في أسرار النكاح.

   – نسيم الشجي الأواه في فضائل لا إله إلاّ الله.

   – هدية الأحباب.

   – وصية الإخوان والأصحاب.

   – يمن الأنام في فضل ما بني عليه الإسلام.

   – ينبوع الحياة على سفينة النجاة.  

شعره

   كان أبو المحاسن القاوقجي شاعراً مجيداً ولكن غالب شعره لم يطبع أو أنه قد ضاع. والذي نشر منه فإن الكثير كان في المدائح النبوية والعترة المحمدية والأدعية والابتهالات والأذكار والتوسلات وشيوخ الطريق. وكثير مما نظمه رحمه الله ما زال يردده الطرابلسيون في موالدهم ومناسباتهم الدينية، أو يردده أهل الطريقة الشاذلية في حلقات ذكرهم إلى يومنا هذا. وللأسف ليس بين أيدينا أمثلة كثيرة على شعره لكي نستطيع دراستها وتقديمها للقارئ الكريم بما يليق بها. ومن شعره الذي بين أيدينا نختار مثالين:

   الأول: في الابتهال إلى الله وطلب عفوه ومغفرته، والذي يظهر من خلاله جزالة أسلوبه رحمه الله، وقوة تدبيجه وصفاء بحره. ويعطي صورة من خلال تكراره لبعض الألفاظ عن نقله لحقيقة العبد الواقف في باب الخضوع والذل معترفاً بذنبه. حيث يقول:

دعوتك يا الله والدمع دافق

                  وحبل رجائي فيك يا رب واثق

وصبري تقضى والهموم تراكمت

                  وإن لم تدركني فإني وابق

وأنت وعدت السائلين إجابة

                  وحلمك واسع ووعدك صادق

فإني مضطر وعجزي ظاهر

                  وإني محتاج وجودك سابق

أغثني أغثني يا مجيري ومنقذي

                  أقلني أقلني إنني منك شافق

أجبني أجبني يا الهي وسيدي

                  أنلني أنلني إنني فيك واثق

   والثاني: وهو يتناول فيه أهل الطريق أهل الله ومنالهم من خلال الذِكر والعبادة، وفوزهم بما لا يناله إلا هم من حكمة ومعارف وكشف ومكاشفات فيقول:

لله قوم أخلصوا في ذكره

                  فسقاهم كأس المحبة والهنا

أعطاهمو فوق الذي يرجونه

                من حكمة ومعارف وتفننا

كشف اللثام عن الجمال تمننا

                  أحيا لقلب مات من حر الفنا

ناداهمو فتمتعوا بجمالنا

                  فأنا المحب وأنتمو أحبابنا

فذي خزائن حكمتي فتحكموا

                  فيها بما يرضيكمو في ملكنا 

وفاته

   ككثير من أهل الطريق والمكاشفات كان يدرك رحمه الله أن خاتمته ستكون في مكة المكرمة عند البيت العتيق الذي طالما تغنى به وأحب وخصص له القصائد. وأيضاً لأن شيخه العارف بالله حسين بن سليم الدجاني قد بشره في ذلك يوماً وأخبره أنه سيكون إلى جانبه ومما يذكر في هذا الصدد أن الشيخ عبد الفتاح الزعبي رحمه الله أتاه مودعاً قبل حجه وقال له: “ردك الله إلينا بالسلامة والعافية الوافية، وأعاد لنا أيام قربك بالمسرة الشافية”، فأجابه رحمه الله: “لسنا هنا نختار، لكننا نرجو لقاء الله في ذلك الجوار”.

   ففي منتصف رجب من عام 1305هـ الموافق عام 1888م غادر طرابلس مع بعض أهله إلى مصر حيث أمضى فيها بين أتباعه ومريديه شهر الصيام حتى كان أواخر ذي القعدة، فتوجه إلى بور سعيد التي غادرها على ظهر إحدى البواخر العثمانية ميمماً شطر المسجد الحرام والبيت العتيق الذي وصله متمتعاً غير مقرن. واتخذ لنفسه بيتاً عند باب الوداع. فبعدما طاف وسعى وتحلل من إحرامه بدت عليه عوارض مرض وحمى شديدة حتى كانت ليلة الأربعاء من السابع من ذي الحجة، وكان يؤدي صلاة العشاء على سطح الحرم. وما إن انقضت الصلاة والإمام يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام”، حتى صرخ الشيخ أبو المحاسن: الله..!.

   وكانت آخر ما خرج من فمه وتلفظ به، مودعاً دنيا فانية، صاعدة روحه إلى بارئها ولقاء أحبته. وضحوة يوم الأربعاء غسل وكفن، وحمل إلى البيت العتيق، وأقيمت عليه الصلاة ودفن في المعلا بجوار شيخه الدجاني، بين قبري آمنة أم الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم، وزوجته خديجة رضوان الله عليها.

   وقد رثاه رحمه الله معظم معاصريه من العلماء والشعراء في طرابلس، ومنهم المرحوم الأستاذ العلامة الشيخ حسين الجسر في قصيدة نختار منها:

شُقت له مهج الرجال ومُزقت

                 أستار هاتيك الحسان الغيد

مصر لمصرعه غدت مقهورة

                 وتصعدت زفرات كل صعيد

والشؤم عم الشام حتى لا ترى

               بربوعها من طالع مسعود

   ورثاه أيضاً مريده وتلميذه الشيخ أبو المعالي عبد الكريم عويضة في قصيدة مطولة منها هذه الأبيات التي يقول فيها:

هو السيد المفضال قطب زمانه

               إمام بأفق الفضل قد لاح فرقدا

تعود فعل الخير مذ كان يافعاً

               وللمرء من دنياه ما قد تعودا

فكم زف أبكار المعاني لطالب

               وكم من مريد للطريق أرشدا

دعاه إله العرش نحو جواره

            فسار مع الركب الحجازي منجدا

   ورثاه أيضاً مريده وتلميذه العالم الشاعر الشيخ عبد القادر الأدهمي رحمه الله في قصيدة منها هذه الأبيات:

تبكي المنابر بعده من وحشة

           إذ لم تكن لسواه طوعاً تسجد

تبكي محاريب المساجد حسرة

          إذ لم يصلها مثله متهجد

تبكي رياض الذكر مجلسه بها

        وعليه يندب شملها المتبدد

هو بحر علم وشمس هداية

        عجباً لقبر ظل فيه يلحد

   رحم الله أبا المحاسن القاوقجي وتغمده بمغفرته وسحائب رحمته، فقد أدى الأمانة، ووفى الرسالة، وترك جيلاً من العلماء الذين لا يشق لهم غبار، ومعذرة إن لم نفه حقه هو وأمثاله من ذلك الرعيل العظيم الذين لا نداني كعوبهم.   

 

[1] – نشر في جريدة الانشاء، العدد 7252، الجمعة 12 أيار 2017، الموافق فيه 15 شعبان 1438هـ، السنة 70.