تراث طرابلس

Categories
من علماء طرابلس

الشيخ الأستاذ حسين بن محمد بن مصطفى الجسر قائد الإصلاح والتنوير والحداثة وصنع العلماء… وباني الأجيال…

طرابلسيون منسيون

الشيخ الأستاذ حسين بن محمد بن مصطفى الجسر قائد الإصلاح والتنوير والحداثة وصنع العلماء… وباني الأجيال…

بقلم الدكتور خالد بريش[1]

 

   لم يكن الأستاذ الشيخ حسين الجسر رحمه الله بالرجل العادي من أبناء هذه المدينة. فقد كان شخصية فذة متفردة ملأت أخبارها آفاق، وغدت حديث العلماء العرب والمسلمين، والمثقفين المتنورين في نهايات القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين.

   كان رحمه الله جذوة لم يخب نورها يوماً، بل ما زال يزداد توهجها إلى يومنا هذا. فنجد أن هناك عشرات الكتب التي تناولت سيرته، بالإضافة إلى مئات المقالات. وليس في الوطن العربي والإسلامي فقط، بل وحتى في العالم العربي حيث نال اهتماماً كبيراً من الدارسين والمستشرقين والمثقفين ورجال الفكر، قد يكون أكثر مما ناله حتى في وطنه وخصوصاً في بلده طرابلس …!.  

   فالأستاذ الشيخ حسين الجسر واحد من بين أهم شخصيات التنوير والإصلاح في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين، فرض وجوده على صفحات التاريخ من خلال فكره المستنير، وقلمه، وكلمته الحرة التي كانت تستشف المستقبل في الدرجة الأولى، وأساليب التعاطي معه. ومن خلال تلاميذه الذين خرجوا من تحت عباءته، فملأت سيرته وسيرتهم الآفاق، وأحدثوا ثورة فكرية في طروحاتهم وآرائهم، وجعلوا من طرابلس محط أنظار العالم وموضع تساؤلاته.  

   لقد جرت العادة في الماضي أن يطلق على العلماء، بالإضافة إلى أسمائهم كنية أو لقباً يعطي فكرة عن شخصيتهم، ودورهم العلمي والروحي، ويضفي على أسمائهم صفة علمية وهالة. إلاّ أن الشيخ حسين بن أبي الأحوال محمد الجسر لم يكن له هذا اللقب، لأنه كان لا يحب ذلك تواضعاً. ولكننا عندما نقرأ سيرته رحمه الله، ونقرأ من خلالها ما قام به من دور متفرد، فإن أفضل لقب من الممكن أن يعطى له هو “الأستاذ” وخصوصاً عندما نرى كم العلماء الذين خرجهم وأهلهم، وندرك دورهم الريادي والتنويري علمياً واجتماعياً، والذي تخطى مدينة طرابلس ليصل إلى أرجاء العالم. في الوقت الذي أصبح فيه الأستاذ الشيخ حسين الجسر حديث الناس، والمنتديات الفكرية والإصلاحية، لا في زمانه فقط، بل امتد ذلك حتى وقتنا الراهن لأن ما طرحه هو وتلامذته من بعده ما زال حديث الساعة، ولم تتخطه الأقلام بعد.  

   لم يكن الأستاذ الشيخ حسين الجسر رحمه الله بالرجل العادي من أبناء هذه المدينة. فقد كان شخصية فذة متفردة ملأت أخبارها الآفاق، وغدت حديث العلماء العرب والمسلمين، والمثقفين المتنورين في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. كان رحمه الله جذوة لم يخب نورها يوماً، بل ما زال يزداد توهجها إلى يومنا هذا. فنجد أن هناك عشرات الكتب التي تناولت سيرته، بالإضافة إلى مئات المقالات. وليس في الوطن العربي والإسلامي فقط، بل وحتى في العالم الغربي، حيث نال اهتماماً كبيراً من الدارسين والمستشرقين والمثقفين ورجال الفكر، قد يكون أكثر مما ناله حتى في وطنه وخصوصاً في بلده طرابلس…!.  

   فالأستاذ الشيخ حسين الجسر واحد من بين أهم شخصيات التنوير والإصلاح في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين. فرض وجوده على صفحات التاريخ من خلال فكره المستنير، وقلمه، وكلمته الحرة التي كانت تستشف المستقبل في الدرجة الأولى، وأساليب التعاطي معه. ومن خلال تلاميذه الذين خرجوا من تحت عباءته، فملأت سيرته وسيرتهم الآفاق، وأحدثوا ثورة فكرية في طروحاتهم وآرائهم، وجعلوا من طرابلس محط أنظار العالم وموضع تساؤلاته. 

   وكم هو محزن فعلاً أن تكون شخصية على هذا القدر من الاعتبار والاحترام في كل مكان من العالم المتحضر، وبالأخص لدى المثقفين والجامعيين المهتمين بالتحولات الفكرية والثقافية في العالمين العربي والاسلامي وتطورها، ما تزال سيرة حياته التي كتبها ابنه المرحوم الشيخ محمد يمن الجسر بعنوان “تاريخ حياة الشيخ حسين الجسر”، مخطوطة حبيسة الصفحات، ولم تطبع إلى اليوم ليطلع عليها المهتمون والدارسون. وأن تجد الناس في بلده يمرون على ذكره مرور الكرام، بل يكاد يكون مجهول التاريخ والأثر وسط أهله وبيئته..!.

   وحتى لا يكون الكلام جزافاً وعلى سبيل المثال، فإن الشيخ حسين رحمه الله، كان أول من أسس في بلده الذي أحب طرابلس، بل في لبنان كله، مدرسة وطنية إسلامية عربية حديثة منهجاً وأهدافاً، اهتمت بالعلوم الدنيوية، بالإضافة إلى العلوم الشرعية واللغات. ومع ذلك، ولسوء الحظ، لا نجد على امتداد الوطن مدرسة واحدة تحمل اسمه، ولا حتى في بلده ومدينته طرابلس. ولا نجد أيضاً منتدى ثقافياً واحداً، أو مركز أبحاث يتناول فكره وكتاباته ودوره…!.   

آل الجسر

   تعود أصول آل الجسر إلى مدينة دمياط في دلتا مصر، وينتسبون إلى أرومة أهل البيت الحسنية، كونهم فرع من آل الرفاعي المتحدرون من جدهم العارف بالله الشيخ أحمد الرفاعي الحسني (512-578هـ/1118-1182م). وكانت عائلتهم تعرف بآل المائي، وذلك نسبة إلى المهمة التي كانت مُلقاة على عاتقهم، وهي الإشراف على توزيع ماء نهر النيل على الأهالي والمزارعين. وقد تحول لقب المائي إلى الجسر فيما بعد حيث أنه كان للشيخ مصطفى الجسر الكبير ولدان؛ واحد بدين طويل، فأطلق عليه لقب الجسر لضخامته. وآخر نحيل، أطلق عليه العظمة لضعفه.

   وعلى ما أعتقد أن المقصود بلقب “الجسر” وهو الأرجح بالنسبة لي، ما يشكله شيخ الطريقة لمريديه من وسيلة عبور وانتقال إلى بر النجاة، أو الوصول إلى الحق والحقيقة، وعوالم الأنوار، لكونه الواسطة بالنسبة لهم. وهو ما نجد له أثراً في كتاب الشيخ حسين عن والده أبي الأحوال (ص30)، الذي كان من مريدي العالم الكبير القطب الشيخ أحمد الصاوي شيخ الطريقة الرفاعية، وذلك أيام مجاورته في الأزهر الشريف في القاهرة المعزية. ففي إحدى الجلسات، وفي ساعة تجل وكشف من الشيخ الصاوي، وقبل ورود خبر وفاة الشيخ مصطفى الجسر والد أبي الأحوال، قال الشيخ الصاوي للحاضرين من مريديه: اسمعونا الفاتحة عن روح الشيخ مصطفى الجسر..!.

   فأخذ أبو الأحوال بالبكاء الشديد، والشيخ الصاوي يعزيه، ويضرب على ظهره قائلاً له: “أنت جسر بإذن الله.. أنت جسر بإذن الله…”. ومما يؤكد ما ذهبت إليه ويدعمه، هو ما نجده في قصيدة رثاء الشيخ سالم الدجاني في أبي الأحوال، حيث يصفه بجسر الولاية والمريدين، فيقول في أحد أبياتها:

سليلُ خيرِ الورى جسرُ الوَلا فلقد         همى نَداهُ كمُزن الغيثِ إن قيسا..  

القطب الشيخ محمد الجسر الكبير ومولد الشيخ حسين

   يقف رجل بعمامة بيضاء وجبة عادية، في يده عصا وسط السوق، وينادي بأعلى صوته في المارة وأصحاب المحلات: ساعدوا فلاناً ابن فلان، أخيكم في الله، فهو مجهد..! فلا يمر المساء إلاّ ويكون من سمعوا نداءه من المقتدرين وأهل الخير، والذين وصلهم الخبر عبر الهواتف البشرية من أبناء المدينة، إلاّ وقاموا بما يلزم لذلك الرجل، دون سين ولا جيم.. ومن دون أن يكونوا يعرفون فلاناً هذا، أو حاله وأوضاعه…!.

   فذاك الرجل الذي لبى الناس نداءه مسرعين، كانت له سطوة على الكبار من أغوات وبشوات وأفندية، وله رهبة في القلوب، ويخاف الناس دعاءه، أو حتى نظراته. هو عالم طرابلس وقطبها الرباني المعروف بـ “أبي الأحوال”، الشيخ محمد الجسر الكبير، صاحب الكشوفات والكرامات، حبيب الفقراء وجميع أهل المدينة. والذي كانت كلمته مسموعة ومطاعة ليس من قبل مريديه فقط، بل من كل الطرابلسيين وبالأخص علية القوم الذين كانوا يخافون من كلمة واحدة تصدر منه بحقهم، فتضيع هيبتهم، ويخسرون احترامهم ومكانتهم، أو أن يدعو على أحدهم، فيصبح بعدها عبرة لمن اعتبر.

   إنه أبو الأحوال الذي فرّ من طرابلس خلال حكم المصريين لبلاد الشام إلى قبرص بعدما اتهموه بمعارضتهم، والثورة عليهم وتأليب الناس، والوفاء للباب العالي، وتشكيل وفد من أعيان طرابلس يزور اسطنبول ويطالب المسؤولين فيها بسرعة الانقضاض على المصريين، وتخليص بلدهم منهم. فمكث في قبرص بعض الوقت، ثم غادرها إلى اسطنبول حيث مكث فيها مدة تزوج فيها من امرأة عاد معها إلى طرابلس بعد زوال سيطرة المصريين عليها. وذلك في عام 1257هـ/1842م، فأنجبت له بعد فترة وجيزة أبناً أسماه حسيناً.  

   ويشاء القدر أن يتوفى الله أبا الأحوال في نفس العام الذي ولد فيه ابنه، وذلك في أثناء تجواله في فلسطين لزيارة أتباعه ومريديه، وللتعبد في ثاني القبلتين وثالث الحرمين. فدفن في مدينة اللد الفلسطينية. وترك ابنه يتيماً وهو في الشهر العاشر من عمره. فكفله عمه الشيخ مصطفى، وقام بكل ما يلزم تجاهه تربية وتعليماً وتأديباً. ويشاء القدر أيضاً أن يتوفى الله من بعدها أمه بفترة، أي عندما كان في العاشرة من عمره، ليصبح يتيم الأبوين.

نشأته وشبابه

   ولد الأستاذ الشيخ حسين بن محمد بن مصطفى الجسر في طرابلس الفيحاء حي الحدادين عام 1261هـ/1845م، ونشأ يتيماً في حضن عمه. ولكن والده كان حاضراً في كل تفاصيل حياته، لكون والده المدعو بأبي الأحوال، كان حديث المدينة، والمريدين من أهل الطريق، بل حديث كل بلاد الشام في حينها. فكان هاجس التفكير في والده لا يبارحه، ومسكون داخله بأسئلة كثيرة حوله. فأخذ ومنذ مطلع شبابه يجمع الأخبار التي كانت تحكى، ويسمعها عن والده في كشكول. ويسعى في السؤال عن كل كبيرة وصغيرة قيلت في والده، ثم يتأكد من كل ما يُقال أو سمعه، فيجعله بين دفتي كشكوله. ولهذا نجد أن أول كتاب ألفه، كان عن حياة والده رحمه الله، وقد أسماه “نزهة الفكر في مناقب مولانا العارف بالله تعالى قطب زمانه وغوث أوانه الشيخ محمد الجسر.

   كانت نشأة الشيخ حسين رحمه الله وسط العلماء من كل صوب، وحيثما اتجه. وفي أي حي من أحياء بلده طرابلس ولى وجهه فيه، وجد عالماً ومدرسة إن لم يكن أكثر تُشرع أبوابها لاستقبال طلاب العلم، وأهل الله. لقد كانت المدينة تعج بالعلماء على مختلف مشاربهم ومستوياتهم. وحتى رجال الطريق المتصوفة في أيامها، كانوا من حملة العلم والحفظة لكتاب الله الكريم، ولم يكونوا من الجهال أصحاب الهزهزة والرقص كما قد يخطر على بال البعض. حيث كان شيوخ الطريق لا يقبلون بالمريد إن لم يكن خلوقاً، متقناً لقراءة القرآن الكريم، وعلى معرفة بالحلال والحرام، وعلى درجة من العلم ولو كانت محدودة ببعض العلوم من حديث، وفقه، وتفسير الخ…

   تلقى الأستاذ الشيخ حسين رحمه الله علومه في طرابلس على كبار علماء المدينة حينها، فكان من بين أساتذته وشيوخه فيها بالإضافة إلى عمه الشيخ مصطفى رحمه الله الذي كان له أثره الكبير عليه علماً وخلقاً، كلاً من:

   – الشيخ الحافظ أحمد عبد الجليل، الذي قرأ على يديه القرآن الكريم وحفظه.

   – صهره الشيخ عبد القادر الرافعي.

   – صهره الشيخ عبد الرزاق الرافعي.

   – الشيخ أحمد أعراب أو عرابي، أحد مشاهير العلماء في طرابلس.

   – الشيخ محمود نشابة، شيخ الشيوخ وأعلم علماء طرابلس حينها.

   وقد نبغ رحمه الله فيما تلقاه من علوم ومعارف وهو ما زال دون السابعة عشرة من عمره، فأخذ يستعد للذهاب إلى الأزهر الشريف قبلة طلبة العلم ومبتغاهم.  

السفر إلى الأزهر الشريف

   في عام 1279هـ/1863م عزم الشيخ حسين على السفر إلى القاهرة المُعزية لإكمال علومه في أزهرها الشريف. فكان أن أقام في بيروت عدة أيام في ضيافة مفتيها حينئذ الشيخ محمد أفندي الطرابلسي، الذي كان تلميذاً ومريداً لوالده أبي الأحوال. وكان من حسن حظه أن التقى في بيت المفتي بالمتصرف الذي نصحه بالاهتمام والتعمق في العلوم العقلية والفلسفية، وبالأخص علم الكلام. لكونها العلوم التي يحتاجها العلماء في دفع حجج المضللين والمشككين في الدين، وفي تثبيت دعائم الدين الحنيف.

   لم تكن هذه المقابلة بالمتصرف عابرة، بل كان لها أثرها الكبير في نفسه، وشكلت نصيحته توجهاً وهدفاً. وأصبحت بالنسبة له مشروعاً نما وكبر في داخله، حتى غدا سمة غالية في تآليفه وكتاباته فيما بعد، وكذلك في خياراته لطبيعة ونوعية مدرسيه في الأزهر الشريف. فنلاحظ أنه عندما وصل الشيخ حسين إلى القاهرة أخذ يدور على حلقات العلم والعلماء في بداية أمره، ثم ما لبث أن استقر في حلقة من وجد فيهم ما يعزز مشروعه، ويفيده مستقبلاً فيما انزرع في عقله وقلبه.

   فنجد أنه وقع اختياره على ثلة من علماء الأزهر الشريف في مقدمتهم العلامة الشيخ حسين المرصفي (1230-1306هـ/1815-1889م)، الذي كان يقوم بتدريس علم الكلام، بالإضافة إلى “مقدمة ابن خلدون” فلازمه واستمع إلى دروسه بحب وشغف. فكان لذلك تأثير كبير على مجمل أفكاره، مما منحه رحمه الله الأدوات الفكرية اللازمة لنقد النصوص غير المطابقة للعقل، ولتحليل آفات المجتمع وأمراضه وفهمها، وامعان النظر فيما يدور حوله من تصرفات بشرية. وأيضاً في بنية الحجج المعتمدة على المشاهدة والتسلسل العقلي المنطقي. وتشبع في الوقت نفسه بكل ما كان يدور على لسان شيخه العلامة حسين المرصفي في أثناء شروحاته من مصطلحات علمية وفلسفية فكرية حديثة.

   وكان ممن تتلمذ الأستاذ الشيخ حسين رحمه الله على أيديهم أيضاً خلال رحلته العلمية إلى الأزهر الشريف من كبار علماء الأزهر في حينها، ونال إجازاتهم بالإضافة إلى الشيخ حسين المرصفي كلاً من:

   – الشيخ سليمان الخاني (…/…).

   – الشيخ عبد القادر الرافعي الطرابلسي الكبير، شيخ رواق الشوام، وأحد كبار علماء الأزهر ومفتي الديار المصرية (1248-1322هـ/1832-1905م).

   – الشيخ عبد الرحمن البحراوي (1235-1322هـ/1819-1904م).

   – الشيخ حسين منقارة الطرابلسي (…-1319هـ/…-1902م).

   – الشيخ مصطفى لمبلط (…-1284هـ/…-1867م).

العودة إلى طرابلس

   كان في نية الأستاذ الشيخ حسين البقاء في الأزهر عشرين عاماً يشبع خلالها حبه ونهمه للعلم. ولكن بعد انقضاء أربع سنوات ونصف السنة انقطع فيها للدراسة، ولم يزر فيها بلده وأهله، اضطر للعودة إلى بلده بعدما وصلته في 9 ربيع الأول سنة 1284هـ/11 تموز 1867م رسالة من أحد مريدي والده وعمه ويدعى الحاج محمد القرق، يخبره فيها، بضرورة عودته دون تأخير، بسبب مرض عمه الذي طال أمده، واستحكم في جسده منذ ستة أشهر، وأن المرض ما برح يشتد عليه ويزداد يوماً بعد يوم، ومما ورد فيها:

   “… كما يعلم الله تعالى أنه كان مرادنا نحضر لعندكم مخصوص لأجل إحضاركم لهذا الطرف، ولكن بسبب مرض عمكم فما مكنا المذكور أن نسافر. وأيضاً في طول هذه المدة ما سافرنا قط إلى محل يكون معلومكم. فلا تحوجونا للحضور لطرفكم. وكذلك جميع أهل البلد تعجب من عدم حضوركم. وهذا ما هو حق التربية. ولا تظنوا أرسلت الكتاب برأي عمكم حيث المذكور ما بقي يحرر لكم كتب بهذا الخصوص..”. 

   وصلت الرسالة إلى الأستاذ الشيخ حسين، فأدرك أن السفر أصبح محتماً لا محالة، فأخذ بجمع أغراضه، وبإعداد العدة للسفر. وما هي إلا عدة أسابيع حتى عاد رحمه الله إلى مسقط رأسه طرابلس. وتوفي عمه بعد وصوله إليها بفترة وجيزة. فتحمل الأستاذ الشيخ حسين بعد ذلك أعباء العائلة المعيشية، بالإضافة إلى الأعباء الروحية من ناحية إدارة الطريقة الخلوتية، حيث خلف عمه وأباه في إدارة حلقات الذكر، ومتابعة أحوال المريدين في داره، وفي المدرسة الرجبية التي كانت مقراً للطريقة.

   بدأ الأستاذ الشيخ حسين يقوم بمهامه الدعوية التربوية، فكانت له حلقة عامرة في المسجد المنصوري الكبير للعامة، وحلقات أخرى في غيره من مساجد المدينة ومدارسها، وحيثما تواجد، دون كلل أو ملل. فالتف حوله طلاب العلم من كل حدب وصوب. فجلس رحمه الله على هذه الحالة قرابة عشر سنوات قضاها ما بين تعليم، ومطالعة، ودروس توجيهية تعليمية للعامة، وإقامة الواجب في إحياء حلقات الذكر.

المدرسة الوطنية أول مدرسة وطنية حديثة في لبنان

   بدأت رياح الإصلاح السياسي تهب على أبواب الباب العالي، وبدأت الدعوات الإصلاحية تعلو وترتفع، وتجد لها بين الرعية والعلماء والقادة أصواتاً مؤيدة. وظهر إلى العلن دستور جديد يحدد بعض سلطات الخليفة، ويحدث أجهزة الدولة ومؤسساتها. إلاّ أنه سريعاً ما ألغي وذلك في عام 1292هـ/1876م.

   وفي ظل هذه الأجواء التي توصف بالانفتاح والإصلاح، افتتح الأستاذ الشيخ حسين الجسر أول مدرسة وطنية حديثة معاصرة في طرابلس الفيحاء، وذلك في عام 1297هـ/1880م، أسماها “المدرسة الوطنية”. وكانت فكرة إنشاء مدرسة عصرية تراوده منذ زمن طويل، وتحديداً منذ أن تولّد لديه شعور بأن مدارس الإرساليات والمدارس الأجنبية بدأت تغزو بلاد المسلمين. وقد حظيت مدرسته بتأييد من المصلحين مدحت باشا وحمدي باشا، ولاقت أيضاً إقبالاً كبيراً لتميزها من ناحية المناهج، ولسمعته العلمية والأخلاقية، وثقة الأهالي فيه شخصياً.

   وقد شهدت هذه المدرسة إقبالاً كبيراً من الطلاب، حيث كانت تدرس العلوم الحديثة من جغرافيا، وهندسة، وحساب، وقانون عثماني، ولغة تركية وفرنسية. بالإضافة إلى علوم اللغة العربية المختلفة من نحو وصرف، وبديع، وبيان، وعروض، وأدب. وكذلك العلوم الدينية من أصول، وفقه، وحديث، وتفسير، وعلم كلام، ومنطق، إلى جانب مواد أخرى.

   إلاّ أنها وبعد مضي تسعة أشهر على افتتاحها اضطر الأستاذ الجسر إلى إقفالها بسبب تراجع رياح الإصلاح في الدولة العثمانية وإداراتها عامة، وذلك بعد تعليق الدستور. وبسبب وشايات الأعداء والحساد على السواء، والذين قد يكون من ضمنهم، القناصل والسفراء، والسياسيين، والمتنفذين من رجالات المدينة. بالإضافة إلى سبب آخر وهو عدم اعتبارها من ضمن المدارس الدينية، التي كان يتم إعفاء طلابها من الخدمة العسكرية.

   لقد كانت آمال المرحوم الأستاذ الشيخ حسين الجسر كبيرة من خلال هذه المدرسة التي كانت في حينها تعتبر مدرسة طليعية بامتياز. وشكلت حدثاً مهماً في تاريخ مدينة طرابلس والوطن، كونها أول مدرسة وطنية حديثة عربية إسلامية في لبنان. وكان يهدف من وراء مدرسته هذه إلى عدة أمور نذكر منها بإيجاز:

   1- إحداث تغيير جذري في المجتمع، ورفع مستواه، وذلك بتخريج كم من العلماء القادة المصلحين، ذوي الرؤية المستقبلية لكل ما يدور حولهم. وهو ما نجح فيه إلى حد بعيد إذا ما تأملنا أسماء وأعداد العلماء الرواد المصلحين الذين انتسبوا إلى هذه المدرسة، ومن ثم تابعوا تلقي العلم على يديه بعد إقفالها.

   2- إعداد علماء عارفين في العلوم الدينية والدنيوية. حيث كان ببصيرته يدرك حركة تطور المجتمعات، وما هي مقدمة عليه، وبالأخص المجتمعات الاسلامية. وأن الآية القرآنية “ولا تنسى نصيبك من الدنيا” لا تقتصر على المنافع والماديات ومتع الحياة، بل هي عامة وتشمل العلوم والمعارف أيضاً.

   3- إعداد شباب يكونون قادرين على تولي المناصب المدنية والإدارية في أجهزة الدولة. وهو بالتالي يبعد هذه المناصب والمسؤوليات المترتبة عليها عن الذين لا يخافون الله، وعن أصحاب الرذائل، والرشوة، والانحراف عن الحق.

   4- تخريج عدد كبير من شباب المدينة، لا يكون لديهم عقد نقص أمام طلاب مدارس الارساليات الذين كانوا يتقنون اللغات الأجنبية والعلوم الحديثة. فتجد أن أحد تلاميذ مدرسته وهو المرحوم الشيخ عبد الكريم عويضة، وبعد أن أمضى عدة أشهر في الدراسة فيها، يمتحنه طلاب من مدرسة بكفتين في اللغة العربية والفرنسية فيتفوق عليهم ويبهرهم.

   ويتضح ذلك أيضاً وبشكل أفضل من خلال إشادة المرحوم الشيخ محمد رشيد رضا فيها وما قاله عنها: “وكان أستاذنا العلامة الشيخ حسين الجسر الأزهري هو المدير لها بعد أن كان هو الذي سعى لتأسيسها، لأن رأيه أن الأمة الإسلامية لا تصلح وترقى إلا بالجمع بين علوم الدين وعلوم الدنيا على الطريقة العصرية الأوروبية مع التربية الاسلامية الوطنية تجاه التربية الأجنبية في مدارس الدول الأوروبية والاميركانية…”.    

الإنتقال إلى بيروت

   بعد أن تهاوى حلمه الطرابلسي رحمه الله، استجاب لدعوة وجهت له من قبل أعضاء جمعية المقاصد الخيرية بالحضور إلى بيروت لكي يدير المدرسة السلطانية التي قاموا بإنشائها. وكان في ذلك تعويض له غير مباشر بعد إقفال مدرسته في طرابلس. ونستطيع اعتبار هذه المرحلة البيروتية في حياة الأستاذ الشيخ حسين الجسر عبارة عن استراحة محارب، ومحطة انطلاق للبدء في مشروعه العلمي التأليفي. وكانت أيضاً فرصة كبيرة بالنسبة له للاطلاع على النظريات الفلسفية، والأفكار السياسية التي كانت شغل الناس الشاغل في حينها، وآخر المكتشفات في العلوم الحديثة. فقد وجد في مكتبة الكلية الانجيلية السورية ضالته التي كان يبحث عنها، ولم تكن متوفرة له في طرابلس. فكان يكثر من التردد عليها، ويمضي جل وقته فيها.

   وفي بيروت سنحت له فرصة مهمة أخرى، وهي اللقاء بالإمام الشيخ محمد عبده (1266-1323هـ/1849-1905م) الذي كان يُلقي في المدرسة دروساً ومحاضرات، وجرت بينهما نقاشات كثيرة ظهر أثرها فيما بعد على مؤلفه “الرسالة الحميدية”. والتقى كذلك بالشيخ ابراهيم الأحدب (1240-1308هـ/1824-1891م) صاحب كتاب “مجمع الأمثال” الذي كان يدرس فيها، وبالشيخ أحمد عباس الأزهري (1269-1344هـ/1853-1926م)، الذي كان مدرساً وناظراً فيها.

العودة إلى طرابلس وافتتاح المدرسة الرجبية

   بعد أن أمضى في عمله ببيروت قرابة السنة، عاد الأستاذ الشيخ حسين الجسر إلى طرابلس، وذلك في عام 1330هـ/1883م، ليزاول نشاطه من جديد وبهمة وعزيمة أقوى من قبل، فكان يتنقل بين مساجد المدينة. جاعلاً من المسجد المنصوري الكبير محطته الرئيسة في دروسه العامة لأهالي المدينة، وعامة طلبة العلم الذين كانوا يأتون لحضور دروسه من مختلف المناطق. وأما دروسه الخاصة، أو العالية إن صح التعبير، فقد كان يلقيها في المدرسة الرجبية التي أسسها في رجب من عام 1093هـ/1682م الشيخ رجب بن يوسف اللبابيدي الذي كان حينها إماماً وخطيباً في جامع قلعة طرابلس، والواقعة في منطقة الحدادين حي الدبابسة. وكان رحمه الله يُدرس فيها العلوم الإسلامية المختلفة من حديث، وتفسير، وفقه، وأصول، وعلم كلام، ومنطق، وعلوم العربية من نحو وصرف وبلاغة، وأدب، وعروض، الخ..

   وبعد قرابة خمس سنوات من العمل الدؤوب، دشن رحمه الله مرحلة جديدة من مراحل حياته تمثلت في ظهور أول كتبه، والخاص بسيرة والده أبي الأحوال، وذلك في عام 1305هـ/1888م، وقد أسماه “نزهة الفكر في مناقب مولانا الشيخ محمد الجسر”، ثم أتبعه بكتاب آخر وهو أهم وأشهر كتبه على الإطلاق والمسمى بـ “الرسالة الحميدية في حقيقة الديانة الإسلامية وحقيقة الشريعة المحمدية”. 

المدرسة الرجبية مركز إشعاع حضاري

   لقد شكلت المدرسة الرجبية علامة فارقة في تاريخ طرابلس. بل تخطى أثرها واشعاعها المدينة التي أنشئت فيها، لينتقل إلى الأمة عبر طلابها الذين تخرجوا منها، والذين كانوا يحملون راية الفكر الاصلاحي الديني والاجتماعي الذي انتقل إليهم عبر أستاذهم. ففيها على سبيل المثال تعلم الشيخ محمد رشيد رضا أهمية الصحافة ودورها وتأثيرها عندما أصدر صديقه وزميل دراسته الشيخ عبد الكريم عويضة في عام 1307هـ/1889م وبتوجيه من أستاذهما الشيخ حسين الجسر مجلة أسماها “روضة الآداب” والتي كانت تنتهج أسلوباً تعليمياً على طريقة السؤال والجواب. وتتم طباعتها على الستنسل (البالوظة) ومن ثم توزع على طلبة المدرسة، والمهتمين بدروس الشيخ حسين الجسر. وهي ثاني مجلة خرجت في طرابلس بعد مجلة “المباحث” التي أصدرها الكاتب والمؤرخ جورج يني.

   وفي هذه المدرسة أيضاً تشربوا جميعهم أسلوب النقاش والتعاطي مع الآخر، ودحض حجج المحرطقين والمشككين. وفيها تعلموا أيضاً مفهوم وحدة الأمة، وواجب المحافظة عليه، وأيضاً مفاهيم الإصلاح والتطور في أساليب الحكم والأنظمة. ولهذه الأسباب وغيرها كانت مدرسة تختلف عن كل المدارس الأخرى ومن كل النواحي. ويكفي أن نلقي نظرة على أسماء بعض طلابها الذين درسوا فيها لندرك مدى مساهمتها في الفكر الإصلاحي التنويري والحداثة على مستوى الأمة والوطن، والذي كان منهم:

   – الشيخ اسماعيل عبد الحميد الحافظ (1289-1358هـ/1873-1940م).

   – الشيخ روحي ياسين الخالدي (1280-1231هـ/1864-1913م).

   – الشيخ عبد الحميد الرافعي (1275-1350هـ/1864-1932م).

   – الشيخ عبد القادر المغربي (1283-1376هـ/1867-1956م).

   – الشيخ عبد الكريم عويضة (1282-1378هـ/1865-1958م).

   – الشيخ عبد المجيد المغربي (1283-1352هـ/1867-1934م).

   – الشيخ كاظم ميقاتي (1282-1379هـ/1865-1959م).

   – الشيخ محمد ابراهيم الحسيني (1270-1358هـ/1854-1940م).

   – الشيخ محمد أمين عز الدين (1290-1387هـ/1874-1968م).

   – الشيخ محمد رشيد رضا (1282-1354هـ/1865-1935م).

   – محمد كامل البحيري (1272-1338هـ/1856-1920م).

   – الشيخ محمد يمن الجسر (1298-1353هـ/1881-1934م).

   – الشيخ مصطفى وهيب بارودي (1290-1361هـ/1874-1943م).

   وقد بلغ عدد طلابها في حينها خمسة عشر طالباً، وهم الطلاب الذين كانت ترسل أسماؤهم في كشوفات خاصة ليتم إعفاؤهم من الخدمة العسكرية. إلاّ أن المدرسة كانت تغص بطلاب العلم الذين كان بعضهم موظفاً، وبعضهم الآخر يعمل في أعمال حرة. والذين كانت مواظبتهم تقتصر على حضور بعض الدروس والمواد دون أخرى بسبب ظروف عملهم. وكان يساعد الأستاذ الشيخ حسين رحمه الله في إدارتها وفي إلقاء بعض الدروس ابن أخته الشيخ صالح الرافعي. هذا إذا علمنا أن مريديه من أتباع الطريقة الخلوتية، كانت لهم حلقاتهم التعليمية الخاصة بهم، والتي كانت تعقد في المدرسة الرجبية أيضاً، وأن حلقات الذكر والتعبد كانت تتم فيها أيضاً.

   نداء من الأستاذ الشيخ حسين الجسر إلى الطرابلسيين: الحذر الحذر من التواني والسكوت عن الاسترحام في صوالحكم..![2].

بقلم الدكتور خالد بريش[3]

   كانت نهايات القرن التاسع عشر وكانت أيضاً بداية نمو المشاعر العروبية والقومية. في الوقت الذي أخذت فيه أفكار الإصلاح السياسي لنظام الحكم الذي كان قائماً، وللمجتمع بكل أطره، مساحة كبيرة في حياة المثقفين عامة، والمفكرين والعلماء ورجال الدين. وكانت طرابلس في تلك الفترة تعيش في صخب ثقافي وعلمي رائع بكل المقاييس. فقد كانت أشبه بالبركان المستعرة حممه. حيث كان يصدر فيها عدة صحف في آن معاً، تنطلق منها إلى مختلف بلاد العالم لتصل إلى أواسط آسيا وأقاصي الهند.

   وكان رجال الدين فيها أدباء وشعراء وطنيون عروبيون لا يشق لهم غبار، ملأت أخبارهم الآفاق، وعبرت أخبارهم البحار. وكان لكثير من المشايخ العلماء فيها آراؤهم ونظرتهم الخاصة حول قيادة الباب العالي للمسلمين، ولكنهم كانوا لا يشهرون ذلك على الأشهاد، حرصاً على وحدة الأمة، وحياء من الله الذي نهى عن فرقة الصف. ولكنهم كانوا يرون أنه لا بد من إصلاح قاع المركب، لكي لا يكبر الخرق، ويتسع الرقع على الراقع، وتغرق المركب بمن فيها..

   وكانت كلمة طرابلس تصل إلى الباب العالي من خلال علمائها المميزين وعلاقة بعضهم المباشرة في الباب العالي ودون المرور بالولاة. ومن خلال صحفها الذائعة الصيت، والداعية إلى الإصلاح بكل أبعاده، وقصائد شعرائها التي كانت تتناول الأوضاع وتحمل أنين أهلها. وطبعاً من خلال جواسيس الباب العالي المنتشرين في كل مكان. وكان كثير من وزراء الباب العالي ورجالاته ينظرون لهذه المدينة نظرة خاصة، ناهيك عن مكانة رجالاتها أيضاً، لكونها كانت أهم ثغر في ساحل بلاد الشام علماً وثقافة وفداء وتضحية.

   في مقدمة المصلحين الذين تعالت أصواتهم في تلك الفترة يأتي الأستاذ الشيخ حسين الجسر رحمه الله، الذي كان مسكوناً بهموم الأمة، وعلو قدرها ورفعتها، وتقدم مجتمعاتها ونهضتها، وكل ما يؤدي إلى عودتها أمة رائدة.. والذي عبر صوته الحدود لسببين أولهما كتابه “الرسالة الحميدية”، الذي اشتهر واعتبر من أهم الكتب في حينها. وثانيهما يعود إلى الجريدة التي كانت تحمل اسم طرابلس، وتحمل همومها، في نفس الوقت الذي تحمل فيه هموم الأمة، والدعوة إلى الاصلاح، والتي كان يرأس تحريرها تلميذه محمد كامل البحيري. بالإضافة إلى سبب آخر جد مهم، وهو صدق دعواه التي لم تكن من أجل منصب، ولا من أجل جاه. وعندما عرض عليه السلطان عبد الحميد الجاه والمنصب، اعتذر..! وفضل الابتعاد عن نار جهنم، أقصد المناصب، والبقاء في رحمه ومدينته التي أحب طرابلس مدرساً ومربياً ومنشئاً للأجيال.

   وعندما نتحدث عن الأستاذ الشيخ حسين بن أبي الأحوال رحمهما الله، فإننا نتحدث عن أحد العلماء الذين خرجوا جيلاً من المصلحين، وعالم كان يرى ببصيرته حالنا وأوضاعنا البائسة في هذه المدينة منذ أكثر من قرن. نتحدث عن هامة ومنارة علمية ووطنية بكل ما لذلك من معان وأبعاد، فلقد كان واحداً من أوائل الذين دعوا إلى العيش المشترك، والوحدة الوطنية، حتى من قبل الاستقلال، ومن قبل الدخول في متاهات الطائفية والمذهبية التي نعرفها اليوم. مما يؤكد وبلا فخر أن طرابلس هذه المدينة الولادة والمظلومة كانت مهد الوطنية والعيش المشترك وما تزال. وأنها بالرغم من التشويه الاعلامي والسياسي الذي ألصق بتاريخها وبأبنائها ستبقى هي: أم الولد… وحجر الزاوية، وأسّ هذا الوطن. وعلى عاتق رجالاتها وعلمائها، وبفضل إرادتهم بني هذا الوطن الذين يتنكر لهم فيه أناس لحقوا بالمركب مؤخراً وبعد رسوه، من أجل المنافع، دون أن يقدموا على ساحة التضحيات فيه حتى مجرد فتافيت خبز..

السفر إلى الباب العالي

   لم يكن الأستاذ الشيخ حسين كوالده الشيخ محمد أبي الأحوال كثير السفر والتجوال لزيارة المريدين، والأولياء الصالحين، وإخوة الطريق. بل كرس كل وقته وجهده للتعليم والتربية والكتابة والمطالعة. ولم يسافر أبعد من بعض المدن السورية للقاء بعض شيوخ الطريق وبيروت، بالإضافة إلى السفر لبيت الله الحرام أكثر من مرة، وكذلك إلى الباب العالي الذي قام بزيارته ثلاث مرات.

   كانت المرة الأولى بعد اشتهار كتابه “الرسالة الحميدية”، وانتشاره عبر الحدود ووصل إلى بلاد الهند، وأصبح حديث العامة والخاصة. ووصل أيضاً خبره إلى السلطان عبد الحميد الثاني (1258-1336هـ/1842-1918) الذي قرر دعوته لمقابلته. فكتب له السيد محمد ثريا بن مصطفى رئيس كتاب الحضرة السلطانية كتاباً مؤرخاً في 21 محرم 1309/26 آب 1891م، رسالة يدعوه فيها بأمر من السلطان لزيارة الآستانة وفيما يلي بعضاً مما جاء فيها:

“سعادتلو أفندم

   لما كان الشيخ حسين أفندي الجسر المقيم في طرابلس الشام من متبحري العلماء فقد رؤي من الجانب العالي أن يأتي إلى دار السعادة مدة سنة ليشتغل ببعض التآليف ولما كانت قد قضت إرادة حضرة صاحب الخلافة العالية تبشير الأفندي المومى اليه بالسلام السلطاني الموسوم بالسعادة وتبليغه إمكان إحضاره حرمه معه إذا أراد ذلك لأنه سيبقى هنا مقدار سنة..

   فلبى رحمه الله الدعوة، وسافر مع أهله، وأقام هناك تسعة أشهر، قابل خلالها السلطان الذي احتفى به وأكرمه. والتقى أيضاً بكبار المسؤولين حينها، وبعدد كبير من العلماء. وقضى معظم وقته مشتغلاً بالتآليف، فكتب خلالها كتابه المسمى بـ “الحصون الحميدية للمحافظة على العقائد الإسلامية”. وعندما قرر العودة في عام 1310هـ/1893م، منحه السلطان عبد الحميد وساماً، ورتبة علمية، وعرض عليه السلطان البقاء في الآستانة على أن يكون مدرساً في إحدى مدارسها الكبرى. فاعتذر رحمه الله مفضلاً العودة إلى طرابلس. إلا أنه اغتنم الفرصة، واستحصل على ترخيص لجريدة تصدر في طرابلس، باسم تلميذه المرحوم محمد كامل البحيري.

   أما المرة الثانية فكانت في عام 1312هـ/1894م حيث كان رحمه الله في رحلة الحج إلى البيت العتيق، وبمجرد وصوله من الحج، وجد عند والي بيروت رسالة تدعوه للمثول بأسرع وقت بين يدي السلطان عبد الحميد. وكان ابنه الشيخ محمد قد وصل لتوه من طرابلس للقاء أبيه في بيروت، فاصطحبه معه إلى الآستانة، وسافر برفقتهما في هذه الرحلة الشيخ صالح الميقاتي. ونزلوا جميعاً في “مالطا كوجك”، وهو قصر صغير للضيوف، أو فيلا داخل أسوار قصر يلدز. وقد التقى خلالها بالسلطان الذي كلفه بوضع برامج لتعليم الدين الاسلامي في المدارس السلطانية التي انتشرت في تلك الفترة في البلاد والمدن.

   أما المرة الثالثة فكانت في عام 1320هـ/1902م وبعدما وصلت السلطان أخبار عدة مقالات كتبها الأستاذ الشيخ حسين حول متاعب الحجاج لبيت الله الحرام ووعورة الطريق، وما يلاقونه من وعثاء السفر، ودعوته المتكررة إلى إنشاء خطوط للسكة الحديدية تربط مدن دولة الخلافة ببعضها، وتنعش وضعها الاقتصادي. وقد طلب منه السلطان في هذا اللقاء كتابة تقرير عما يلاقيه الحجاج في حجهم. وهو ما نفذه رحمه الله، فقام برحلة إلى الديار المقدسة عام 1321هـ/1903م، خصصها لهذا الغرض، وزار خلالها مصر، وقابل الخديوي عباس حلمي باشا.          

الشيخ حسين الإنسان

   كان رحمه الله على أخلاق عالية، شديد الحساسية. يعتبر أن رضى الله هو الأساس في كل التعاملات والتصرفات. فكان يخاف أن يُمس دينه أو خلقه وكرامته بأي دنس مهما كان نوعه. ويعتبر أن المناصب من الفخفخة الزائلة في الحياة، وأنه يجب إعداد العدة للموت الذي هو أقرب إلى المرء من حبل الوريد. واتخذ أيضاً موقفاً حيادياً من الصراعات التي كانت دائرة، أو دارت حينها في أروقة الدولة. مدركاً في الوقت نفسه ان إرضاء الخلق غاية لا تدرك، وأن موافقة الخلق في مسالكهم يعني بالنسبة له سلوك طريق الضلال التي قد لا ترضي الله سبحانه.  

   وكان رحمه الله كريماً، محباً لعمل الخير ولا يتوانى عن تقديمه أو القيام به. فقام في عام 1293هـ/1876م، بتنظيم حملة جمع فيها تبرعات للمعوزين والمحتاجين. وكان يفتح بيته طيلة شهر رمضان للفقراء والمساكين. فيُحضّر لهم الطعام، ويأكل معهم بحب وتواضع جلوساً على طبليات صغيرة. ومما يذكر في هذا الصدد أن ابنه الشيخ محمد يمن جلس للطعام يوماً، وجلس إلى جانبه فقير بثياب رثة، فحاول الشيخ محمد تغيير مكانه خلسة، فتنبه له الشيخ حسين رحمه الله، فنهره غاضباً، آمراً، قائلاً له: لعل ذلك الرجل عند الله أفضل منك، فابق جالساً في مكانك..!.

   وبالرغم من كونه متصوفاً يعيش في حالة عبودية للخالق يتلذذ فيها، ويعتبرها نعيماً لا يطاله إلا الخواص من عباده سبحانه. إلاّ أنه كان رحمه الله من ناحية أخرى باحثاً عن حريته بالابتعاد عن الوظائف أياً كان وضعها. باذلاً وسعه في الابتعاد أيضاً عن اللاعبين بالسياسة، وأصحاب المناصب على أنواعها، ليكون مالكاً لحريته بشكل كامل. حتى إنه رفض منصب الإفتاء الذي عرض عليه تعففاً وورعاً. ورفض كما أشرنا سابقاً أن يكون من علماء قصر السلطان، أو من المدرسين في مدارس اسطنبول. وذلك ليبقى يطل على الجميع من برجه العلمي، وعليائه التي وهبه الله إياها في محكم قوله تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات).

   وكان رحمه الله من خلال صحيفته يُصوّب بوصلتهم، ويحدد لهم جميعاً الطريق. حذراً غاية الحذر في كل تصرفاته، وفي كل كلمة يقولها. لا يخاف شيئاً أكثر مما يخاف حصائد الألسنة. فكان لسانه كثير الذكر، والشكر، والحمد لله، ولفضائله. وصفه تلميذه عبد القادر المغربي فقال عنه: “كان مُصلحاً ديناً دقيق النظر، لكنه مع هذا بقي طول حياته محافظاً شديد الحذر”. وهذا الحذر الذي ينتقده بسببه تلميذه، نستطيع اعتباره حذراً مسؤولاً، من عالم كان كل همه وحدة الأمة، ووحدة كلمتها. وعدم إحداث بلبلة فكرية أو عقائدية بين أفراد مجتمعه الصغير وعلى مستوى الأمة.  

   وتظهر إنسانيته وبعضاً من أخلاقياته بوضوح أكثر من خلال ما نظمه رحمه الله في أبيه حيث يقول:

يُتِمْتُ منكَ ولكن من رِضاكَ          تقواكَ لاقيتُ يُتْمَ الدُّرِّ مع صِغري

من يَتقِ الله يهْنأ بالبنين كما          قد جاءَ ذلك في أي من السُّوَرِ

رُبيتُ في نِعمةٍ أرجو الإله لها        شُكراً وأرجوهُ نُعْماهُ مدى العُمْرِ

وأرْتجي منه تنويرَ الفؤادِ فذا          عينُ السعادةِ هذا مَطْمَحُ النظرِ

الشيخ حسين المتصوف

   كان الشيخ حسين رحمه الله بحكم تربيته والميراث العائلي، متصوفاً يُسخر جزءاً كبيراً من وقته للعبادة، ولأتباعه ومريديه. فيلقي عليهم دروساً خاصة بهم. ويقوم بإلباس خرقة الصوفية لمن يرى فيهم الأهلية، ويسلكهم في الطريقة الخلوتية التي كان شيخها في طرابلس ولبنان وبعض مدن بلاد الشام. فكان يأتيه المريدون من كل القرى والمدن من أجل خلوتهم عنده، وتحت ناظريه، بحثاً عن صفاء أرواحهم التي تدنست بالدنيويات ومادياتها. وكان يقوم بالواجب أيضاً كما جرت العادة. والمقصود فيه حلقات الذكر في مواعيدها.

   ولم يكن التصوف بالنسبة له حالة سلبية تجاه المجتمع. بل هو حالة إصلاح تبدأ بداخل الفرد من خلال صفائه الروحي، ومن ثم سموه بفضل عباداته وأذكاره وعلمه. فيكون بالتالي تداخله واندماجه في المجتمع ذو تأثير إصلاحي كبير. لأنه سيكون المرآة التي يرى فيها أفراد المجتمع أنفسهم. وكان رحمه الله مؤمناً بالحقائق الصوفية التي ترتكز على وجود الأولياء الذين لا يخلو الكون منهم ولا البلاد. وكذلك كل ما يتبع هذه المنظومة من، قطب، وأئمة، وأوتاد، وأبدال. أوجدهم الباري سبحانه لحكمة أرادها ولتدبير لم يشرك فيه أحداً من خلقه سبحانه.

الشيخ حسين الجسر الإمام المجدد

   كانت غالب كتابات الشيخ حسين الصحفية تدعو إلى الاصلاح، وذات جانب تحريضي بالمفاهيم النضالية الحديثة، كونه كان لا يفوت فرصة في دعوة أفراد المجتمعات إلى النهوض، والتحرك، والمناداة بالحقوق، والإصلاح. وأما كتاباته الدينية، فقد احتل الجانب العقائدي وعلم الكلام فيها مساحة واسعة، بالإضافة إلى التربية والتعليم. فالتوحيد والوحدانية والايمان الصحيح بالنسبة له رحمه الله هي الأساس الذي تبنى عليه بقية المسائل، حياتية معيشية، أو فكرية، وما عدا ذلك قابل للنقاش…

   وفي الواقع ما كان ينقصه رحمه الله إلا الإدلاء ببعض الاجتهادات الفقهية، والخوض في علم التفسير، وأن يكون في مصر بدلاً من طرابلس ليكون مجتهد العصر، ومجدده بلا منازع. فكثيرون لا يدركون القيمة العلمية لما قام به من تجديد لعلم الكلام من حيث اللغة المستخدمة فيه، وأيضاً ترتيب الحجج العقلية المستخدمة، وما قام فيه من إدخال للنظريات الفلسفية الحديثة والرد عليها. ولا يدركون أيضاً عظم هذه المسؤولية ومشقة القيام بها. ولم يكن ذلك من خلال رسالته الحميدية فقط، بل كان في أكثر من كتاب ورسالة. وأن مقولة السيد جمال الدين الأفغاني فيه: “أشعري الزمان”، تعني الكثير. وتضع الأستاذ في المكان الذي يستحقه فعلاً كعالم وقف ضد التقليد في أهم شيء وهو العقيدة. مما يعني أن رفضه لذلك في العبادات والمعاملات تحصيل حاصل. دون أن نغفل تأكيده على دور العقل الذي هو مناط التكليف في حياة الانسان ومعتقده فقال: “لا يجوز لنا تقليد علماء الاسلام في أمر الاعتقاد من غير أن يظهروا لنا دليلاً عقلياً أو شرعياً”.   

   ولهذا نلاحظ خلو رسالته الحميدية من أي آية قرآنية، أي دليل نقلي. لأنه وعلى ما اعتقد بالإضافة إلى العقلانية التي أضفاها عليها، فإنه أراد أن يقرأها المسلم وغير المسلم، وكل ذي لب وعقل. بل نجد أنه يعتمد على نصوص من العهد القديم مما يعطيها بعداً آخر وهو التأكيد على وحدانية مصدر الأديان السماوية. مؤكداً في كل ما كتبه أن الشريعة يجب أن لا تتناقض مع العلوم والمكتشفات العلمية. وإن حدث ذلك فبسبب قصور عقول علماء الشريعة عن التحليل والتفسير، وليس لوجود عيب في الشريعة نفسها. فقال رحمه الله: “… وإذا كانت الاكتشافات العقلية: العلمية، تناقض ظاهرياً مع ما جاء في القرآن، فإن ذلك يعود إلى خطأ في تأويل نصوص الشريعة”.

   فالشيخ رحمه الله كانت له مدرسته الفكرية الخاصة به بعيداً عن مدرسة محمد عبده والأفغاني، وغيرهما من المصلحين في تلك الفترة. فهو كانت تتفاعل في داخله الروحانيات التي اكتسبها من الطريقة الخلوتية، بالإضافة إلى العقلانية التي تعتبر إحدى السمات الأساسية للمذهب الحنفي الذي كان عليه. بالإضافة إلى الانفتاح على الثقافات الأخرى، وعلى الأفكار القادمة من وراء الحدود، والتطلع إلى المدنية الحديثة القائمة على التربية والتعليم كأساس. وعلى منظومة سياسية تقوم على العدالة والقانون والمواطنة…

مؤلفاته

   ترك الأستاذ الشيخ حسين عدداً لا بأس به من الكتب تمت طباعة بعضها، بينما ما زال البعض الآخر مخطوطاً، يقبع في الخزائن ينتظر فرج الله للظهور من مكمنه

* مؤلفاته المطبوعة:

   1- الأدبيات. 2- إشارة الطاعة في صلاة الجماعة. 3- البدر التمام في مولد سيد الأنام. 4- تربية الأطفال سعادة النساء والرجال وعموم الشعب في المآل. 5- تربية المصونة. 6- تعدد الزوجات. 7- التوفير والاقتصاد. 8- الحصون الحميدية للمحافظة على العقائد الإسلامية. 9- حكمة الشعر. 10- الرسالة الحميدية في حقيقة الديانة الإسلامية وحقيقة الشريعة المحمدية. 11- رياض طرابلس الشام، وهو مجموعة لمقالاته نشرت في جريدة طرابلس، في عشرة أجزاء. 12- العلوم الحكمية في نظر الشريعة الإسلامية. 13- كلمات لغوية. 14- مهذب الدين. 15- نزهة الفكر في مناقب مولانا العارف بالله الشيخ محمد الجسر.  16- هدية الألباب في جواهر الآداب، أرجوزة في تعليم الأولاد.

* مؤلفاته المخطوطة:

   1- بنات الأفكار في كشف حقيقة الكيمياء ومشارق الأنوار. 2- خديجة وبثينة. 3- ديوان مجموع في الشعر يقع في 700 صفحة و1375 بيتاً. 4- الذخائر في الفلسفة الإسلامية. 5- ذخيرة الميعاد في فضائل الجهاد. 6- رسالة في آداب البحث والمناظرة. 7- رسالة في صدقة الفطر. 8- العقيدة الإسلامية والعقيدة النصرانية والمناظرة بينهما بالاستدلال من كتبهما. 9- القرآن الكريم وعدم اقتباسه شيئاً من التوراة والانجيل وعصمة الأنبياء. 10- الكوكب الدرية في العلوم الأدبية. 11- مجموعة من خطب الجمعة.

أولاد الشيخ حسين

   رزق الشيخ حسين بعدد لا بأس به من الأولاد، مات بعضهم في سن الرضاعة وآخرون وهم صغار السن، مما كان يسبب له اكتئاباً وحزناً. وقد رزق رحمه الله يوماً بمولود أسماه آدم برجاء أن يطول عمره تيمناً بآدم أبي البشر. ولكن قلبه لم يكن مطمئناً لذلك فكان قلقاً حائراً. فأدرك الشيخ عبد الكريم عويضة لقربه منه أمره، وسبب قلقه. فأنشأ قصيدة يطمئنه فيها من أنه سوف يعيش بإذن الله، ويطول عمره يقول في مطلعها:

هلال تبدى طالما رصدوه          وبدر المعالي في الأنام أبوه

   ولم يبق من أولاده حياً سوى ثلاثة ذكور وهم: الشيخ محمد يمن (1299-1353هـ/1881-1934م)، والذي تبوأ مناصب كثيرة في أيام الدولة العلية كان آخرها عضواً في مجلس المبعوثان، ثم أصبح رئيساً لمجلس النواب، وترشح لرئاسة الجمهورية اللبنانية بدعم من كل الطوائف، لكن المستعمر كانت له إرادة أخرى. وسوف نأتي على تفصيل ذلك في مقالة خاصة به إن شاء الله. والشيخ نديم (1315-1400هـ/1897-1980م)، مفتي طرابلس وعالمها، والذي بلغ من الشهرة حداً واسعاً لم يبلغها أحد من أقرانه. وعبد الرحمن الذي توفاه الله فتياً. وبنت واحدة أسماها فاطمة، وتزوجت من تلميذه الشيخ كامل الميقاتي (1286-1375هـ/1869-1955م).

الشيخ حسين وطلابه

   أمضى رحمه الله عمره في التعليم إن كان المدرسي في المدرستين اللتين أنشأهما، وفي المدرسة السلطانية في بيروت. أو الديني في مساجد ومدارس طرابلس. أو الروحي من خلال متابعته وتعليمه لمريديه من أتباع الطريقة الخلوتية التي كان يرأسها. وقد ترك تلامذة وأتباعاً منتشرين في كل بلاد الشام. أي لبنان وسوريا وفلسطين، حملوا فيما بعد راية الاصلاح بحق. وكان تلامذته وأتباعه يكنون له الاحترام، والاعجاب، ويقيمون معه علاقات ود تبلغ حد الطاعة. ومن ذلك ما نقرأه في تقريظ تلميذه ومريده السيد حسن محمد القرق لكتاب أستاذه الشيخ حسين عن أبيه المسمى “نزهة الفكر”، فيقول:

أتى به عالم همام               أحسن فيما أجاد وضعا

حسين فضل له صفات          يضيق عنها البليغ ذرعا

أكرم به سيد عظيم              إليه أهل العلوم تسعى

قد فرق الرشد في البرايا         فكانت للمكرمات جمعا

وأودع الخير في كتاب          حوى جميع الهدى فأوعى

   وسوف نتناول الحديث عن اثنين من طلابه اتخذ كل واحد منهما طريقاً ومنهجاً في الاصلاح مختلفاً عن الآخر. وكان لكل منهما موقف من أستاذه وهما: أبي المعالي الشيخ عبد الكريم عويضة، والمصلح الشيخ محمد رشيد رضا.

* الشيخ عبد الكريم عويضة:

   كان الشيخ عبد الكريم أقرب تلاميذه إليه، وأكثرهم التصاقاً به، وموضع ثقته وإعجابه. فكان يلبي طلباته دون تأخير، ويخدمه في بيته، ويشتري له أغراضه المنزلية، ويحملها بنفسه في مطلع شبابه إن دعت الحاجة إلى ذلك. وكان في نفس الوقت أكثر تلاميذه مدحاً له، حيث كتب فيه وفي أولاده عشرات القصائد، ورثاه في قصائد عديدة أيضاً. وكان يحبه حباً جماً حتى إنه إذا ما أتى على ذكره بعد وفاته، اغرورقت عيناه بالدموع وبكى. وكان من أمانيه يوماً لو أن خديه الأرض التي يطأها أستاذه بنعليه، حتى قال فيه يوماً:

يا ربّ إنْ كانت وفاتي قد دَنَتْ          فاجعلْ على حُبّ الحُسَين وفاتي

   وكان الشيخ عبد الكريم بمثابة السكرتير لشيخه الأستاذ الجسر، فكان يقوم بتبييض ما يكتبه الشيخ حسين بخطه الجميل المنمق. إذ كان الوحيد من بين طلابه الذي بمقدوره فكفكة رموز كتابة شيخه الجسر لغموضها، وسوء خطه. وعندما ألف الشيخ حسين كتاب “الذخائر”، والذي زادت مقدمته على مائة وخمسين صفحة من القطع الكبير، قام الشيخ عبد الكريم بتبييض كامل الكتاب، بل قام أيضاً بعمل جداول لكل الآيات القرآنية التي وردت في موضوع البعث صراحة، أو إشارة، أو دلالة، مشيراً إلى السور، والأجزاء، والأرباع، والأسطر، والصفحات. وكان أيضاً موضع أسرار شيخه ومستشاره في بعض الأمور. فعندما ضاقت الأحوال والظروف يوماً في الشيخ حسين وفكر في التجارة. أسر بذلك إلى تلميذه الشيخ عبد الكريم الذي كانت له في التجارة خبرة وباع طويل، حيث كانت له مع إخوته تجارة ناجحة في الصابون. فرد الشيخ عبد الكريم عليه:

   – إن الله لم يخلقك للتجارة وإنما خلقك للعلم.

   – فقال له: يا بني قال الفخر الرازي: إذا أخذ الانسان حظه من العلم، فعليه أن يستعمل نفسه، وكرامة ذاته، من أن يُنظر إليه بعين الاحتياج، والعوز. وإنه ليشق علي أن استعمل العلم أحبولة أصطاد بها أموال الناس…!.  

   – فقال له الشيخ عبد الكريم ساعتئذ: إني لأرجو الله أن يفتح عليك أبواب فضله، ويرزقك بهذه الرسالة الحميدية ما تقر به عيناك.

   وهو ما كان بعد ذلك، حيث فتح الله عليه بسببها واستدعى إلى لقاء السلطان في اسطنبول كما أسلفنا.

* الشيخ محمد رشيد رضا

   كان الشيخ محمد رشيد رضا شاباً يعيش مرحلة عنفوان الشباب التي غالباً ما تتداخل فيها المثل مع الثورة على التقاليد، والعادات، والواقع ورفضه.. مما يخلق نوعاً من التناقض مع المحيط، وبالأخص مع من هم أكبر سناً. فينتقدونهم على تحفظهم، ورصانتهم. ومن هنا نفهم العلاقة بينه وبين الشيخ حسين، وموقف كل منهما من الآخر. والذي هو في الحقيقة صراع بين جيلين. أو بالأحرى نظرة جيلين إلى بعضهما، واختلاف في الأعمار والخبرات، وبالتالي اختلاف في الأولويات وترتيبها لكل منهما، والنظرة إلى الأمور أيضاً…

   ويظهر ما نحن بصدده جلياً من خلال الحوار الذي وقع بينهما بعد تأليف الشيخ حسين للرسالة الحميدية حيث سأل تلميذه الشيخ رشيد رضا عن رأيه في الرسالة الحميدية..؟ فرد عليه قائلاً:

   – إن الحاجة إليها شديدة، ولم يسبق مولانا أحد إلى مثلها في الدفاع عن الإسلام، ولكن لي عليها أنكم توردون المسألة القطعية في العلم ككروية الأرض ودورانها بعبارة فرضية تدل على شككم فيها.

   – فقال له الشيخ حسين: أنت تعلم تعصب الجاهلين بهذه العلوم في بلادنا، فلا تترك لهم مجالاً للقيل والقال.

   – فرد عليه: اذا كان مثلكم في ثقة الأمة بدينه وعلمه لا يجرؤون على التصريح بالحقائق. فممن نرجو ذلك…؟.

   وعندما ظهرت جريدة المنار وانتقد فيها الشيخ رشيد رضا التصوف والمتصوفة، مع أنه متصوفاً، وسلك الطريق قبلها. وأن شيوخه في طرابلس كانوا من أهل الطريق كأبي المحاسن القاوقجي، والميقاتي، والجسر والرافعي… مما دعا الشيخ الجسر إلى الكتابة له قائلاً: “ظهر المنار بأنوار غريبة إلاّ أن أشعته مؤلفة من خيوط قوية كادت تذهب بالأبصار”.

   وإن كان من كلمة نختم بها علاقة الأستاذ الشيخ حسين بطلابه، ودوره في تنشئتهم، وتعليمهم أسس النظر في النصوص، ووزنها بميزان العقل، وإطلاق أرواحهم للسفر في عوالم الحرية، فإننا نختارها مما قاله فيه تلميذه العالم المصلح الشيخ عبد القادر المغربي:

   “إقتبست من شيخنا الجسر تعاليم فيها شيء من حرية النقد، وانطلاق الفكر. وقد تعلمنا ان النصوص الدينية الموروثة فيها الغث وفيها السمين وأن بينها ما هو غير صحيح ولا معقول ولا منطبق على القرآن ولا السنة النبوية الصحيحة، فيجب الانتباه إليه. والتنبيه عليه. والتحذير منه وتمييز غثه من سمينه. وحقه من باطله”.           

 

 

الشيخ حسين وأقرانه من العلماء

   كانت علاقة الشيخ حسين بأقرانه من العلماء علاقة احترام متبادل واعجاب. فقد كانت تصله رسائل من مختلف أنحاء العالم من علماء كبار يتبادل معهم وجهات النظر. أو يطلبون منه طرح قضية ما عبر مقالاته في جريدة طرابلس. أو تتضمن رسائلهم مديحاً له على ما يتناوله من مواضيع. أو حوت استمزاجاً لرأيه في قضية، أو في مسألة لم يجدوا لها حلاً. بالإضافة إلى رسائل علماء كانوا من أهل الطريق المتصوفة فكانوا يكتبون له أيضاً. وسوف نتناول علاقته بثلاثة من كبار علماء عصره، لعبوا دوراً مهماً في حياة الإسلام والمسلمين فكرياً وسياسياً.

   1- علاقته بالإمام محمد عبده:

   كان لقاء الشيخ حسين بالإمام محمد عبده (1266-1323هـ/1849-1905م)، لأول مرة في بيروت عندما أشرف الشيخ حسين على المدرسة السلطانية، وكان الإمام يلقي دروساً ومحاضرات. ودارت بينهما نقاشات كثيرة، ومعمقة. أسفرت بأن ألف الإمام محمد عبده فيما بعد كتابه “رسالة التوحيد” وألف الأستاذ الشيخ حسين كتابه “الرسالة الحميدية”، وكلا الكتابين في علم الكلام. ونلاحظ إن الشيخ محمد يمن بن الأستاذ حسين عندما سافر إلى الأزهر فإنه حضر محاضرات ودروس الشيخ محمد عبده بتوجيه من والده. وعندما سافر تلميذه أبو المعالي الشيخ عبد الكريم عويضة أرسل معه صندوقاً حوى نسخاً من كتابه “الرسالة الحميدية”، هدية للشيخ الإمام.

   إلاّ أن هذه العلاقة شابها شيء من العتب من قبل الإمام على الأستاذ الشيخ حسين، لكون الإمام قد لاحظ أن الأستاذ في مقالاته كثير التحفظ، وأقرب إلى السلبية في التعاطي مع الأمور السياسية. دون أن يراعي الإمام قضية مهمة وهي أنه كان في مصر تحت حكم الخديوي الذي كانت مصر في أيامه تنعم بانفتاح كبير، وبكثير من الحريات، لم تكن تنعم فيها طرابلس، التي كعادتها كانت الوشايات بين كبرائها على أشدها. وأيضاً ما قام فيه الولاة في لبنان بعد أحداث جبل لبنان سنة 1276هـ/1860م، حيث ضيقوا الخناق، وراقبوا كل شاردة وواردة. وحدوا من التدخل في الأمور السياسية، فكان الاضطهاد والاعتقال سيد الموقف…

   وقد أرسل له الإمام محمد عبده في عام 1302هـ/1885م، رسالة يعبر فيها عن حبه واحترامه له كعالم له سمعته ومكانته العلمية. مظهراً فيها تواضعه أمامه، ومضمناً إياها ما يتوخاه منه. قال في مطلعها: “لو أذن الله للأرواح أن تظهر بالأشباح لرأيتني اليوم بين يديك مؤدياً حق الإخلاص لديك”. موضحاً هدفه من رسالته: “وقد كنت أحب لو جلست إلى سيدي الأستاذ جلسة أفضى إليه فيها بشيء مما في نفسي لكن منعني عن ذلك من جهة شاغل…”. ثم يخبره عن بعض أمراض المجتمع التي يريد التباحث معه فيها، والتي قد تكون امتداداً لنقاشات قد حدثت بينهما في أثناء تواجد الإمام في بيروت، أو تكون بهدف تكوين حالة فكرية كان يجب أن يكون الأستاذ الجسر أحد داعميها فيقول: “ولكن أصبح المتلو لفظاً لا ينظر إلى معناه وأصبحت السير أرقاماً لا يلتفت إلى ما تهدي إليه…”.

   2- علاقته بالإمام الأفغاني:

   سمع السيد جمال الدين الأفغاني (1254-1314هـ/1838-1897م) بالأستاذ الشيخ حسين الجسر كثيراً، حتى إذا ما وصلت إلى يديه نسخة من كتابه “الرسالة الحميدية” قرأها، وأعجب بها ايما إعجاب، ونعت صاحبها بأشعري الزمان. إلاّ أنه عندما التقى به في دائرة الحج علي بك كبير القرناء سنة 1312هـ/1894م، أثناء زيارته الثانية إلى الآستانة، وكانت قد وصلته أعداد من جريدة طرابلس التي كان الأستاذ يصدرها، ويكتب فيها افتتاحيتها باسم مستعار، انتقده بشدة قائلاً:

   “ما هذا يا أستاذ..؟ إن جريدتكم جمعت بين الكفر والإيمان: أقرأ في صفحاتها الأولى الحض على الفضيلة والخير ومكارم الأخلاق، وفي باقي الصفحات ضروباً من التملق والنفاق. فاعتذر الأستاذ بالنيابة عن أصحاب الجريدة مؤكداً له أن الصحف لا تعيش إذا لم تتمشى إدارتها على هذه الطريقة من اللين والرفق وبعضاً من مجاملة الحكم. قال: فلم يقبل الأفغاني هذا العذر. وعندما رجاه أن يخفض صوته في الحديث كي لا يسمع من هم حولهم في الدائرة أن مثله يكتب في صحف الأخبار امتعض الأفغاني لأن الأستاذ يحاذر الانتساب إلى الصحافة قائلاً له: “الصحافة عمل شريف وأنا صحافي وكان لي في باريس جريدة أكتب فيها”.

 

   3- الشيخ حسين وأبو الهدى الصيادي

   أما علاقته بأبي الهدى الصيادي (1328-1266هـ/1849-1909م)، فقد كانت علاقة شابها الحذر من طرفه رحمه الله، لكونه كان يسمع الكثير عن ممالأته للسلطان ولرجالات الباب العالي. ويبدو أن الشيخ حسين لم يرتح له خلال لقاءاته المتكررة فيه أثناء زيارته الأولى للباب العالي. وكذلك لم يرتح للطريقة التي يدير بها الأمور، فحاول رحمه الله قدر جهده الابتعاد عنه. إلاّ ان أبا الهدى حاول إدخال الأستاذ في ألاعيبه ومكره في خصومه. فكتب للشيخ حسين رسالة يدعوه فيها إلى كتابة كتاب أو رسالة ينتقد فيها أتباع الطريقة القادرية المناوئين له. فرفض الشيخ حسين طلبه، لأن ذلك يتناقض مع أخلاقه، ومبادئه التي كانت وحدة الأمة من أولوياتها. ومما جاء في رسالة أبي الهدى:

   “وحيث ان بني رفاعة وان تباعدت فروعهم فأصلهم الجامع واحد، وتجمعهم الكلمة الأحمدية والنخوة والأخوة الرفاعية، وان بعدت البلاد والمعاهد وإني أقول قولي بعون الله صدق ومدعاي حق أن جماعة من القادرية ما بين بغدادي وحموي أخذهم الحسد كل مأخذ فمزق منهم الحق وصرفهم إلى الباطل فقادتهم الخبيئة للإساءة للمحسن. وألفوا في الحضرة الرفاعية ورزايلها المرضية وأتباعها وأتباع السنة السنية من خزعبلاتهم الرسائل وكلها ما تحتها طائل…”.

الشيخ حسين ثوري ومناضل بيئي

   كان رحمه الله ثورياً من الطراز الرفيع، فأعجب به كل الإصلاحيين الذين عاصروه من أمثال الشيخ الإمام محمد عبده، والسيد جمال الدين الأفغاني، ومصطفى كامل، وأديب إسحق. وحتى الذين جاءوا بعده من أمثال شكيب أرسلان وغيره. وكان أيضاً داعياً أفراد الأمة إلى التحرر من عقد النقص أمام الأجنبي الغربي، ومن الانبهار بحضارته وصناعاته. وعندما نقول ثورياً، فإننا نقصد أنه كان رحمه الله سابقاً لعصره، وتخطت أفكاره ودعواته عصره ومحيطه. فنجد على سبيل المثال أن الشعارات البيئية المطروحة في أيامنا هذه كان قد نادى بها رحمه الله وقبل أكثر من قرن من الزمان. فقد رفع صوته عالياً مستنكراً قطع الأشجار، شارحاً أضرار ذلك. ومطالباً بالرفق في الحيوانات وعدم الاعتداء عليهم بالضرب، مؤكداً ان ذلك دناءة لا يقوم بها إلا دنيء. وكتب رحمه الله أيضاً عن ضرورة تنظيف وتنقية المياه الواصلة إلى مدينة طرابلس فيقول: “… يأتي الماء إلى البلدة بلون الطين الأحمر وتتراءى فيه قطع الوحل.. فلا تسل عما ينجم عن ذلك من الأضرار صحة ومالاً وأدباً وكمالاً…”.

الأستاذ الشيخ حسين والمشروع الإصلاحي

   كثير من المثقفين والباحثين يأخذون على الشيخ حسين أنه لم يكن له مشروع إصلاحي واضح المعالم، أي مشروع كالذي تقدمه الأحزاب في أيامنا هذه. متناسين طبيعة العصر والظروف السياسية والاجتماعية التي كانت تحيط بالأمة. وكأني بغيره من الإصلاحيين في عصره كان عندهم ذلك المشروع. ولكن من يدقق النظر في كتاباته ومقالاته يخلص إلى أن مشروع الأستاذ الشيخ رحمه الله كان واضح المعالم، ولكن فقط يحتاج إلى وضع قطع الدومينو إلى جانب بعضها وترتيب الأبجديات بشكل متناسق كما هو متعارف. ونستطيع القول إنه كان هناك مدرستان تناديان في الإصلاح في العالم الإسلامي. أولاهما مدرسة محمد عبده والتي أخذت حجماً ودوراً كبيراً بسبب حجم مصر ومكانتها التي كانت ساحتها. وبسبب دوره على رأس أهم مؤسسة دينية في العالم الإسلامي حتى يومنا هذا ألا وهي الأزهر الشريف. يضاف إلى ذلك قربه من جمال الدين الأفغاني، وتناغم أفكارهما وإصدارهما سوية لصحيفتهما الإصلاحية “العروة الوثقى”، الخ. وثانيهما، وهي مدرسة الأستاذ الشيخ حسين الجسر والتي كانت تختلف مع المدرسة الأولى ليس في الهدف، ولكن في التكتيك، والطريقة، والأسلوب الذي يجب انتهاجه من أجل الاصلاح.

   وكلا المدرستين كانتا تقولان بأن الإسلام والسلطان توأمان، كل واحد منهما لا يصلح إلا بصاحبه. وأن الإسلام هو الأساس، والسلطان هو الحارس لشرع الله، الذي قوامه إقامة دين الله بحرمة الخروج على الإمام الحاكم، والسعي في الفرقة. بل لا بد من طاعة ولي الأمر ووجوب تأدية النصيحة له، لكونه السد المنيع في مقابل الغرب الذي بدأت في تلك الفترة تتضح أطماعه… أما في الموضوع العمراني (الاجتماعي، أو المجتمعي) كما يقول ابن خلدون فإن مشروع الشيخ حسين رحمه الله لإصلاح الأفراد والمجتمعات يرتكز على أربع دعائم أو أسس هي:

   1- التربية والتعليم، حيث اعتبر الشيخ حسين إن التربية والتعليم هما أساس الحضارات، وأن الغرب ما وصل إلى ما وصل إليه إلاّ بسببها. مؤكداً على وجوب مشاعة التعليم والمعرفة لكل أفراد المجتمع دون استثناء وبالأخص المرأة والأولاد الصغار. وأن يشمل ذلك كل أنواع العلوم وبالأخص الحديثة منها. بالإضافة إلى اللغات التي تتكلمها الشعوب الإسلامية والغربية على السواء. مركزاً على افتتاح المكتبات العامة وإنشاء المدارس الصناعية التقنية العليا على غرار ما فعله نابليون في فرنسا. منادياً بإحداث تغيير في المناهج، وطرق التدريس التي كانت سائدة لكي تؤدي التربية والتعليم أهدافهما، وهو ما يرويه عنه ابنه محمد يمن فيقول: “كان أسرع الناس شعوراً بأهمية الموقف وخطورة العمل في المستقبل وقد أدرك أن طريقة التدريس على الأصول القديمة لا تأتي بالفائدة المطلوبة، بل يجب تبديلها بسواها”.. ولهذا أكد رحمه الله على أنه لا بد من الاستعانة بما توصل إليه الغرب من مكتشفات علمية، وتقنية، ونظريات علمية، والبناء عليه. معتبراً أن التعليم يكون على مستويين:

   أ- التعليم العلمي، وهو ما نعرفه اليوم، ويتم في المدارس. ويكسب متعلمه المهارات اللازمة لرقيه وتطوير معارفه. ويساعده أيضاً على الانفتاح الفكري على الحضارات والعلوم المختلفة بأنواعها. مما يسهم في رقي وتقدم المجتمعات. فقد كان يرى رحمه الله ان الاطلاع على علوم الغرب وثقافته، أمر لا بد منه لتقدم مجتمعاتنا وتطورها، ورفع مستوى الأفراد فيها معرفياً واقتصادياً. لكن دون نسيان القيام بتنوير أفراد المجتمع بتاريخهم ودينهم الذي يعتبره أمراً لا بد منه.

   ب- التعليم الروحي، وهو الذي يتم على يد الشيخ بعد السلوك في الطريق. والذي يتيح للسالك الرقي الروحي، وتطهير نفسه من دنس الماديات، والإبحار في عوالم الأنوار.

   2- الاعلام (الصحافة)، حيث كان يرى فيه ركناً مهماً في بناء المجتمعات وإصلاحها وتطورها. ويساهم في تنوير الفكر والشعوب، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والذي لم يكن بالنسبة له وعظياً خطابياً، بل كان اجتماعياً وسياسياً. وكان يرى أيضاً أن الصحافة تساعد على تبادل الأفكار وتلاقحها، بالإضافة إلى الاطلاع على مجريات الأحداث والأمور، وشرح المسائل العارضة في الفكر وفي المجتمعات أيضاً. وكانت فكرة إنشاء صحيفة تراوده منذ عودته من مصر، واعتقد أنه عندما دفع تلميذه الشيخ عبد الكريم إلى إصدار صحيفته “روضة طرابلس”، إنما كان للتجربة، ولقياس ردة الفعل. وازدادت قناعاته بخصوصها أثناء زياراته لاسطنبول، ومعايشته لأثر الصحافة في الناس والمجتمع ودورها. فلم يفوت الفرصة، وحصل قبل عودته على الترخيص من أعلى سلطة وهي الباب العالي. لتصبح جريدة طرابلس منبره الذي يوصل صوته، ودعواته الإصلاحية، وتحذيراته من المخاطر المحدقة بالأمة إلى العالم. وبقي يكتب افتتاحيتها إلى أن توفاه الله.

   3- الوحدة الوطنية ودولة المواطنة والعدالة، كان رحمه الله واعياً لدسائس الأجنبي ولنظراته الدونية إلى مجتمعاتنا، واستغلاله للقضايا المذهبية والطائفية أي هذا الفسيفساء الذي تتكون منه بلادنا، لكي يستولي في نهاية المطاف على البلاد وخيراتها. ومما قاله في ذلك رحمه الله: “.. إن الأجنبي لا يعبأ إلاّ بجنسيته ولا يفكر إلا بنوعيته ولا يهمه أمر سواه إلاّ بقدر ما يستعمله في غرضه وهواه”. ولهذا نادى رحمه الله برص الصفوف، وبالوحدة الوطنية في مواجهة العدو الخارجي. بل ذهب أبعد من ذلك بكثير عندما دعا إلى المساواة بين المواطنين والحقوق أي دعا إلى دولة المواطنة قبل قرن ونصف من الآن. فكان أكثر تقدمية وتحضراً وانفتاحاً من بعض السياسيين مدعي العيش المشترك المنافقين في أيامنا هذه. ومما قاله في هذا المجال: “إن المسلمين والمسيحيين من تبعة الدولة العلية قد أنار الله تعالى عقولهم وبصرهم في عواقب الأمور، وأصبحوا في هذه الأعصر يقدرون حق التقدير ما عليه شؤون دولتنا العلية من الشفقة والمرحمة لرعاياها، وبذل التساوي بين أفرادهم في جميع الحقوق والوظائف. لا يميز مسلم على مسيحي، ولا مسيحي على اسرائيلي[4]، كما لا يميز عجمي على عربي..”. فكان بذلك أول من طرح مشروعاً وطنياً بامتياز، ومن قبل أن يتأسس لبنان الوطن. ومن قبل أن تظهر دعوات المواطنة الحديثة. وعندما قلت في بداية مقالي: إننا أم الولد.. فإنني كنت أدرك ذلك لأنه من هذه المدينة الطيبة خرجت الدعوة الأولى إلى وطن لا تمايز بين أبنائه، وطن العدالة والحقوق، ووطن الجميع بلا استثناء…!.

   4- التنمية الاقتصادية وتعزيز الأواصر بين الشعوب والقوميات، وذلك بجمع شمل كل الفسيفساء التي كانت تحت حكم الباب العالي. فاقترح من أجل ذلك إنشاء خط حديدي ضخم يصل الأناضول بالبلاد العربية. وبالتوازي يتم إنشاء عدة خطوط تربط البلاد العربية ببعضها، وأخرى تربط داخل بلاد الشام بالمدن الساحلية. لأنه كان يدرك رحمه الله ان ربط البلاد ببعضها من خلال خط حديدي سوف ينتج عنه تقدم وحركة تجارية وإنسانية وفكرية، وسوف يساهم في تطوير المدن والمناطق النائية وتنميتها. وكان كل ذلك من قبل أن يفكر السلطان عبد الحميد الثاني بإنشاء خط الحجاز، ومن قبل أن يتم إنشاء خط اسطنبول بغداد…!.

الشيخ حسين والهم الطرابلسي

   لقد أدرك رحمه الله أهمية دور طرابلس وعلاقتها بمحيطها من قرى ومدن، فنادى في عام 1310هـ/1893م أن يتم الوصل بينها وبين محيطها بخطوط حديدية تكون طرابلس مركزها، وتربطها ببيروت ويافا وعكا ودمشق وحمص وحماة وحلب.. لأن ذلك سوف يزيد من عمرانها، ويقسم المنفعة على أفرادها، ويحفظ البلاد والقرى من الخراب. وأما خياره لطرابلس كمركز فلأسباب أهمها، وجود مينائها البحري والضارب بجذوره عبر التاريخ، وأن تطويره لا يحتاج لكلفة كبيرة. بالإضافة إلى وجود الأسواق الكبيرة المتخصصة، والخانات، وكثرة بضائعها وخيراتها. وتوفر اليد العاملة الكفوءة والرخيصة.. فكل ذلك يتكامل مع بعضه، ويجعل من طرابلس مركزاً كما هو حال القلب في الجسد. لقد كانت عنده نظرة اقتصادية متكاملة للوضع الطرابلسي من خلال التنمية عبر الميناء وخط السكك الحديدية والتجارة البيئية، وذلك في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. يفتقدها في أيامنا هذه، السياسيون المدعون لزعامتها، وخريجو أرقى الجامعات العالمية. فيقول رحمه الله: “وأنه بالابتداء في طرابلس يجدون أوفر التسهيلات في أخذ ما يحتاجونه من الأراضي في طريقهم ذات القيم الرخيصة والاتساع الكافي لمعيشة الملايين في الخلق إلى غير ذلك من المرجحات التي تظهر لهم عند تدقيق النظر”.

   وعندما لاحظ رحمه الله تقاعس الطرابلسيين، وسكوتهم عن حقوقهم وخنوعهم للطبقة السياسية في حينها وجه لهم نداءه الخالد محرضاً فقال:

   “وننعطف بالخطاب إلى الطرابلسيين ونقول الحذر الحذر من التواني والسكوت عن الاسترحام في صوالحكم…”.

   ثم ينبههم رحمه الله إلى مخاطر حرمانهم من مشروع السكك الحديدية، محذراً مما ستؤول إليه أحوال مدينتهم في حال عدم تنفيذه. وهو الحال الذي هي عليه اليوم مع بعض الفوارق في الديكور فيقول:

   “أما تعلمون أن الألوف من رجالكم عتالة وفعلة وطحانة وكيالة وسماسرة في ساحة الحبوب يعضهم ناب الفقر ويصبحون في حالة يرثى لها ويهلكون هم وعيالهم وأطفالهم من انسداد سبل ارتزاقهم ويغدون حملاً ثقيلاً على أغنياء البلدة وما ندري ماذا يؤول إليه حال هؤلاء الأغنياء. فالبدار البدار والحزم الحزم وانظروا في العواقب وافتكروا في صالحكم وإلاّ فلا ينفع الندم بعد الفوت والهمم العالية من الإيمان…”. إن التخلف الذي حذرنا منه الشيخ حسين الجسر رحمه الله منذ أكثر من قرن من الزمان ها نحن نعيش فصوله غارقين فيه حتى النخاع. فلقد كان يرى حالنا ومصيرنا بحسه وببصيرته إن أهملنا المطالبة ورفع الصوت ويتوقعه.

   في 11 من شهر رجب الحرام سنة 1327هـ، الموافق 29 تموز 1909م توفى الله الأستاذ الشيخ حسين الجسر، ومضى على وفاته أكثر من قرن والميناء الذي حلم به لم يتم إنشاؤه، والخطوط الحديدية التي طالب بها لم ترَ النور، والعاطلين عن العمل كما توقع أكوام وأكداس على أبواب الزعامات ينتظرون صدقاتهم، وكلماته كانت وما تزال وستبقى حية تقارع أسماع من ألقى السمع وهو شهيد، وواقع نعيشه بمآسيه لا ندري متى سيتغير ويتبدل. رحم الله شيخنا الجليل وكل ذلك الرعيل آمين.    

 

[1] – نشر في جريدة الانشاء، العدد 7247 و7248، الجمعة 24 شباط و10 آذار 2017، الموافق فيه 27 جمادي الأولى 1438هـ و11 جمادى الآخرة، السنة 70.

[2] – ملاحظة: ورد في جريدة الانشاء العدد السابق 7247، أي في الحلقة الماضية أن قصة حياة الشيخ حسين الجسر التي كتبها ابنه الشيخ محمد الجسر ما زالت حبيسة الصناديق. ولكن تبين لنا أنها صدرت عن مكتبة مدبولي في القاهرة سنة 2013، بتحقيق د. خالد زيادة بعنوان “رؤى وعبر، سيرة الشيخ حسين الجسر، للشيخ محمد الجسر”، وهذه الملاحظة وضعت في جريدة الانشاء العدد 7248 من قبل الكاتب الدكتور خالد بريش.

[3] – نشر في جريدة الانشاء، العدد 7248، الجمعة 10 آذار 2017، الموافق فيه 11 جمادي الآخرة 1438هـ، السنة 70.

[4] – المقصود هنا يهودي.