شهامة طرابلسيين
طرابلسي ينقذ أعضاء بعثة الرهبانية الكرملية من الموت والجوع
وهنا تنحنحت الساعة وافتر ثغرها عن ضحكة عريضة وقالت: لقد اشبعتكم هماً وغماً فلدي ذكريات حلوة سأرويها لكم:
كان في المدينة بعثة للرهبانية الكرملية الايطالية فاجأتها الحرب العالمية الأولى، ولم تستطع مغادرة المدينة. وقد تعرضت للجوع والحرمان، بالإضافة إلى نقمة الجماهير عليها بسبب موقف ايطاليا المعادي.
وقد أمضت أياماً صعبة، مما دفع أحد وجهاء المدينة يومذاك المرحوم وجيه الدبليز، إلى احتضان أعضاء البعثة وحمايتهم وتقديم الطعام اللازم لهم، إلى ن تمكنوا من مغادرة البلاد وهم على أحسن حال...
وكان لهذه البادرة الطيبة، والعمل الإنساني الرائع، أثره في حاضرة الفاتيكان ورئاسة الرهبانية الكرملية والحكومة الايطالية.
في عام 1923، عين المرحوم وجيه الدبليز وكيلاً عاماً للرسالة الكرملية والحكومة الايطالية في طرابلس، وقد تلقى إفادة بهذا الخصوص هذا نصها:
نحن نائب قنصل ملك ايطاليا في طرابلس – سوريا، نفيد بأن السيد وجيه الدبليز، هو وكيل الرسالة الكرملية ووكيل الحكومة الايطالية في طرابلس.
وفي عام 1948 كتب الأب أنجيلو سعاده، رئيس الرسالة الكرملية في لبنان، رسالة إلى الموفد البابوي في لبنان المونسينيور "ألسيدي مارينا" جاء فيها:
أنا الموقع أدناه انجيلو سعاده رئيس الرسالة الكرملية في لبنان، أفيد بأن السيد وجيه الدبليز من طرابلس، خدم بإخلاص وأمانة رسالتنا. نغتنم الفرصة للتوصية به وتقديم كل مساعدة له.
أقبل الخاتم وأطلب منك البركة له وللرسالة.
كما تلقى المرحوم الحاج عبد الفتاح الدبليز والد وجيه وساماً رفيعاً من قداسة البابا، اعترافاً بجميله.
* * *
وفي مطلع العشرينات، لشدّ ما دهشت، عندما وقع نظري على أطرف تظاهرة مرت أمامي في طريقها إلى مقر البلدية، تضم عدداً من القابلات، يحملن القبابيب ويهتفن احتجاجاً على القابلة القانونية المرحومة علمية العلمي السبع، وهي أول دكتورة في التوليد، تخرجت من جامعات اسطمبول، وكانت سبباً في كساد أعمالهن، وكدت أنقلب على قفاي من الضحك، كون هذه التظاهرة كانت بداية هزيمة الجهل، أمام العلم والاختصاص...
* * *
التجربة الوطنية الأولى
تظاهرة القابلات
طرابلس تخوض أول معركة انتخابية
ولعل التجربة الوطنية الأولى، التي خاضتها طرابلس في مطلع أيام الانتداب الفرنسي، وذلك عام 1924، والتي برهنت فيها عن وعي وإدراك قل نظيره، فقد تكتل الوطنيون الطرابلسيون، لخوض معركة الانتخابات النيابية، والتي كان يقودها المرحوم نور بك علم الدين من طرف والمؤيدة من سلطات الانتداب، وبين رجالات المدينة الاحرار ويتزعمهم المغفور له عبد الحميد كرامي من طرف آخر.
وقد كانت الانتخابات في ذلك الوقت على درجتين، الأولى يتم فيها انتخابات المندوبين الثانويين، ثم يقوم هؤلاء بانتخاب النائب الذي سيمثل المدينة في المجلس النيابي.
وقد خاضت المدينة معركة ضارية ضد اللائحة المؤيدة من السلطة الفرنسية، والتي لم تنل سوى 2 بالمئة من مجموع الأصوات بينما فاز جميع أعضاء اللائحة الوطنية...
وعلى الأثر قامت التظاهرات الشعبية، وعمت المدينة الافراح، ابتهاجاً بهذا الفوز المظفر.
ومما يؤسف له انه لم تمضِ أيام، حتى دب الخلاف بين المندوبين الثانويين، حول اختيار من يمثل المدينة، وحمي الصراع بين المرشحين سعد الله المنلا وعثمان سلطان وتوفيق البيسار وغيرهم.
وأمام تشبث الجميع بمواقفهم وعدم تنازل واحد منهم للآخر، عرض عليهم الحاكم الإداري للمدينة يومذاك عبد الحليم حجار أن يجري قرعة فيما بينهم لاختيار واحد منهم، غير أن المرشح عثمان سلطان، اعترض على طريقة إجراء القرعة، وقال كلمته المشهورة: إذا فعلنا ذلك نكون قد أضعنا الكفاءات... باعتبار انه كان يرى في نفسه انه من اكفأ المرشحين علماً وثقافة لكونه أستاذاً في كلية الحقوق العربية بدمشق، فما كان من الحاكم عبد الحليم حجار، تجاه تصلب الجميع بمواقفهم، إلا أن رشح رئيس البلدية يومذاك المرحوم خير الدين عدره، لهذا المنصب والذي حظي بتأييد أغلبية المندوبين الثانويين...
وتمضي ساعة التل، لتكمل حديثها عن نتائج هذا الصراع فتقول:
من طريف ما أسفرت عنه هذه المعركة، ان أقدم الأديب والشاعر المعروف الشيخ نديم الملاح، على كتابة مقالات في الصحف المحلية، انتقد فيها موقف المرشح عثمان سلطان، لعدم قبوله بالقرعة، والذي حرم أحد المرشحين الوطنيين من الوصول إلى المجلس النيابي.
وكان من عادة الشيخ الملاح، ارتياد مقهى فهيم المجاور لمقهى آل سلطان في ساحة التل، وفي أحد الأيام بينما كان جالساً يدخن نرجيلة، أتاه خادم المقهى وسلمه ورقة أرسلها إليه الشاعر عبد اللطيف سلطان عم المرشح عثمان سلطان، وقد كتب فيها:
تلاطـم موج الانتخـاب فأغـرقت لآلئ فيه من أعـز النفـائس
ومـذ هدأت منه العواصف قد مشت سـفينة "ملاح" بريح الخنافس
ولما قرأها الملاح تناول قلمه وكتب على ظهر الورقة تشطيراً لهذين البيتين وبعث بها إلى عبد اللطيف سلطان الذي كان موجوداً بالمقهى المجاور، جاء فيها:
تلاطم مـوج الانتخـاب فأغـرقت (مطامع فيه من دعاة شراكس)
ومذ هدأت منه العواصف قد مشت (يراعتنا بذكر غدر الابالس)
ارادوا من الملاح عوناً وهل مشت (سفينة ملاح بريح الخنافس؟)
"يقصد الشاعر بالشراكس، آل سلطان، كونهم أصل شركسي".
وبعد هذه المساجلة الشعرية الطريفة، التي تفيض أدباً ولياقة ساد الصمت مقهى آل سلطان، لهذا الرد السريع المفعم.
وما أحب أن ألفت إليه في هذا المقام، أن المرحوم خير الدين عدره، فاجأ الفرنسيين في المجلس النيابي، بخطاب ناري أثار حفيظتهم، وطالب بالوحدة مع سوريا، الأمر الذي حمل الحاكم الفرنسي على حل مجلس النواب...
وقد كان لمواقف الشخصيات الطرابلسية الوطنية أثرها في نفوس السلطات الفرنسية، التي كانت تتحين الفرص للتنكيل بهم، وما أن إندلعت الثورة السورية عام 1925، حتى أقدمت على إعتقال المغفور لهما سماحة الزعيم عبد الحميد والدكتور عبد اللطيف البيسار وتم نفيهما إلى جزيرة أرواد، لكونهما من أركان الكتلة الوطنية في سوريا، وقد أفرج عنهما عام 1926.
* * *
التجربة الوطنية الثانية
إنقاذ مشروع مياه رشعين من براثن الفرنسيين
ولعل التجربة الوطنية الثانية، تلك التي جرى فيها الصراع بين السلطة الفرنسية المنتدبة ورجالات المدينة الوطنيين، من أجل السيطرة على مياه الشفة ومحاولات الفرنسيين تأسيس شركة فرنسية لاستثمارها وبيعها إلى السكان، فتروي قصتها بكثير من الاعتزاز، فتقول:
ظلت طرابلس، حتى الثلاثينات تشرب من مياه نهر أبو علي، بطريقة بدائية جداً، وكانت المياه تسري إلى البيوت بواسطة قساطل فخارية، كثيراً ما كانت تتشقق وتتسرب إليها الاقذار والاوساخ، وكان هناك اشخاص مولجون بإصلاح اعطال المياه، يطلقون عليهم اسم "القنواتية"، حيث كانوا يعمدون إلى إصلاحها بطريقة غريبة يسمونها "التفشيك" اي أنهم كانوا يضعون الفشك، وهو عبارة عن زبل وروث الحيوانات المجفف، في مجاري المياه، فينساب مع الماء ويلتصق على الشقوق الموجودة في القساطل الفخارية، ويسدها!..
وقد روى بعض الأشخاص، أنهم كانوا يشربون من مأخذ للمياه مكشوف في بركة الملاحة، حيث كان الفشك يتجمع فوق سطح المياه، فيبعدونه بأكف أيديهم ويشربون!..
وهكذا كانت طرابلس تشرب من مياه ملوثة، كانت تسبب الكثير من الأمراض حتى أنها كانت سبباً في موت العديد من الأطفال وهم في سن مبكرة!
ولعل أطرف حادثة كانت من الأسباب الرئيسية التي حملت سكان طرابلس على الإسراع في التفتيش عن مصادر لمياه الشفة نظيفة، هي ان الطرابلسيون ظلوا بضعة أيام يشربون ماء تفوح منه رائحة كريهة، دون أن يعرفوا سبباً لذلك وعن طريق المصادفة، وجد جماعة جثة امرأة مقتولة، ملقاة في مجاري المياه خارج المدينة!.
عندها تنادى الطرابلسيون، بتشجيع من رئيس المجلس النيابي آنذاك المرحوم الشيخ محمد الجسر، لتأليف شركة تتولى تأمين مياه نظيفة للمدينة، ووقع الاختيار على مياه نبع رشعين في ضواحي زغرتا، القريبة من طرابلس.
وهنا إمتدت أصابع السلطة الفرنسية في محاولة للسيطرة على هذه الشركة وبدأ الصراع بينها وبين رجالات المدينة، وكان حاكم طرابلس العسكري "لافون" تواقاً إلى إعطاء هذا الامتياز لشركة فرنسية، تتولى جر المياه وتوزيعها وبيعها إلى سكان طرابلس. غير أن الطرابلسيين وقفوا وقفة واحدة، في وجه هذه المحاولة، وأصروا على أن تكون الشركة وطنية محلية، فما كان من الحاكم "لافون" إلا أن إشترط على الطرابلسيين إنهاء موضوع هذه الشركة ودفع ثمن المياه، في مهلة عشرين يوماً، وإلا فسيعمد لاستثمارها بواسطة شركة فرنسية.
كانت حاجة طرابلس من مياه رشعين في ذلك الوقت تقدر بألفي متر مكعب، وكان عليها أن تجمع الأموال لتسديد ثمن هذه الكمية خلال عشرين يوماً في وقت كانت تمر فيه البلاد بأزمة إقتصادية حادة وذلك عام 1935، ولكن الإرادة الوطنية الحرة أبت إلا أن تحقق هذا المشروع فتألفت لجان عديدة من شخصيات مرموقة، كانت تطوف المدينة وتجمع الاكتتابات، وتمكنت خلال ثمانية عشر يوماً من تأمين ثمن ألف ومايتي متر، وبقي عليها ثمن ثمانماية متر، ولم يبقَ من المهلة المحددة أكثر من يومين.
ولعل ما تفخر به طرابلس، هو موقف المرحوم الدكتور عبد اللطيف بيسار يومذاك، والذي كان على إتصال دائم باللجان وما آلت إليه من جمع التبرعات، فطلب إلى اللجان أن تتوقف عن البيع، واشترى ما تبقى بما يوازي خمسة آلاف ليرة ذهبية...
وهكذا أنقذ الدكتور بيسار هذا المشروع، وأحبطت محاولة الحاكم العسكري الفرنسي، السيطرة على مياه الشفة، وتم جر مياه رشعين إلى طرابلس بأموال وطنية، وبتصميم مهندس طرابلسي هو المرحوم رشدي سلهب.
غير أن تطور مدينة طرابلس ونموها العمراني وتزايد عدد سكانها بشكل مذهل وسريع، خاصةً بعد أن وقع الاختيار عليها ليكون شاطئها مصباً للنفط العراقي، وإنشاء مصافي تكرير النفط فيها، جعلها بأمس الحاجة إلى التفتيش عن مصادر جديدة لمياه الشفة، وكان أن وقع الاختيار على مياه نبع هاب القريب من طرابلس، وتم إنجاز هذا المشروع عام 1957، بتشجيع وتوجيه من الرئيس الشهيد المغفور له رشيد كرامي، ثم أعقبه إنشاء مصافي للمياه عام 1968، تؤمن للمدينة ماء نظيفة رقراقة طوال أيام السنة.
* * *
زيارة أميل اده لطرابلس
إستقبال حافل... بالبطاطا والبندورة!
يتبع...