عادة السكبة
"انما تأكل الذئب من الغنم القاصية " (حديث شريف)
فلك مصطفى الرافعي (نُشرت في جريدة البيان بتاريخ 18 كانون الثاني 2012)
من وحي هذا التحذير من التباعد يحمل النص ضمناً وروحاً ان التقارب والإلتفاف فيه الأمان فالبيوت المتناثرة على الأكمة أو المتباعدة في المدن عُرضة للسلب والإعتداء .
فالذئب تجد فريستها السهلة في المكان القصي، وبحاسة غريزتها فإنها تنأى بنفسها عن دخول تجمع سكاني. ففيه مقتلها بفضل التعاضد والتشابك. ففي هذا النمط الأفقي تنحسر فرصة المخلب، ثم يأتي التشريع لنسج الأواصر بين أهل الحيّ عبر الحث على إكرام الجار وعدم ايذائه "فالجار القريب خير من الأخ البعيد". وشدد وصيّ الأمة على المزيد من الإحسان للجار حتى قال بعضهم "لقد خفنا ان يورثه"، وهذا قمة التكافل الإجتماعي والتضامن، ومثلما كانت القاعدة الشرعية ان الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار. ففي هذا المصطلح النموذجي نشأت العلاقات الودودة والإلفة والتماسك، وفي قمة الإبداع الإنساني كانت الأخلاق الكريمة تحث الجار إن كان يعد طعاماً من شواء أن لا يؤذي جاره الفقير بل عليه أن يهديه قسماً من شوائه، وذلك على مسافة انتشار رائحة الطعام.
وعلى هذه المنهجية سادت السواسية والمشاركة وإذابة الفوارق وتجفيف الطبقية. وبحسب نمطية البناء المعماري القديم الذي أفضى إلى التصاق الدور لا يفصلها إلا حائط. ففي الأفراح كان سكان الحيّ يتقدمون حتى على الأقارب، وفي الأتراح كان أهل الحارة يتقبلون العزاء، وقد جرت قديماً عادة ما تزال قائمة في أرياف المدينة. فعند نزول مصيبة الموت بعائلة يبادر الجيران أو أهل القرية للمشاركة وكل على وسعه يحمل زاداً تأسياً بقول سيد المرسلين"إصنعوا لأهل عباس طعاماً فإنهم قوم محزونون"، وقد انقرضت هذه العادة المحمودة في اتساع العمارة المدنية بل وزادت في المصاب عبئاً ملحقاً بإقامة الموائد للمعزين دون مراعاة أوضاع البؤساء منهم.
في العودة لتلك الإضاءات الظاهرة في التعامل، أنشأ المجتمع المتصالح مـع نفسه ومـع غيره عــادة "السكبة" بين أهالي الزقاق الواحد، فتعمد إحدى السيدات الى صنع قدر من القمح أو الحلوى أو الطعام، فترسل قصعه ملأى منه إلى جارتها وخاصة الفقيرات، وفي نفس الوقت تصنع سيدات الخدور طعامهن ويرسلن بدورهن بعضاً من طعامهنّ، فتتنوع الأطباق على "صينية القش" أو "الطبلية"، وهي طاولة الطعام المتواضعة في الزمن المسكون بالوئام. وبما ان العادة تستولد العادة، فبات من المعروف واللباقة واللياقة أن يُرد الطبق وفيه طعام. وقد قَضَت الفضيلة منع التعثر والتحرج لعدم ملاءمة الموقف بالرد الجميل، فتعمد الجارة في حركة لافتة ومعبرة لوضع بعض الملح كدليل ان الممالحة قد حصلت، ثم اجترحت إحدى السيدات بدائل عن الملح أو السكر بتزيين الصحن بالورود والقراصيا والياسمين من أحواض منازل بيوت زمان. وكم من عائلة لا يجد عائلها كفاف يومه لملء بطون الجياع من أطفاله وهو المتوكل على الرزاق. وكم كان حديث رجال الحيّ عن خبرة فلانة بطهي اشهى الأطباق وتخصص فلانة بنوع معين واحتراف إحداهن لسيدة حلويات زمان "الرز بحليب". ذلك المجتمع الهادئ الآمن المطمئن عاش رغد الدنيا رغم قساوة المشارب والمعارج، ناهيك عن موائد الموالد والمناسبات، حيث تتساوى المقامات وتتعادل القامات، والسيد خادم قومه في حفلة لا يأبه ان قدم الشراب لمسكين، بل يعتبر ذلك من التكريم. وقد علت همة هذه الرابطة فشكلت سداً منيعاً في وجه الإختلافات والتشاحن والتباغض، حتى ان غلاماً اعتدى بالضرب على رفيقه كانت "الدّية" ان يقدم أهل المعتدي طبقاً من "البيض المقلي" لأهل المعتدى عليه، وفي حال عدم تمكنه يقوم الموسر من الحيّ بالمهمة فجرت على الألسن عبارة "ابن حارتي" وفي مضامينها ومفاعيلها لها قوة تضاهي عبارة "ابن عمي".
وفي مقاربة سريعة لمعاملة جيران أيامنا نجد الهول والتباعد ان بناءً واحداً يضم عشرات العائلات، ولا يعرفون أسماء بعضهم البعض ولا يتزاورون ولا يتهادون، ويكتفون ان التقوا مصادفة فتحية سلام باردة أو بإيماءة من رأس متعب.
في مصداقية أهل الماضي، تشكلت جيوش تحكمها المعرفة والإيثار والدفاع عن الأعراض، فمنعت اقتراب موروثات حملتها رياح الفرقة والتشرذم، وأسست مداميك لعيش مشترك بين الفوارق في الإمكانيات والتنوع في المذاهب، فتسور شارع الكنائس بعقد من لؤلؤ المساجد وقامت المعابد المتسامحة بمجاورة الجوامع.
في تلك الأيام الخوالي، نشأت أخوة الرضاعة مع حفظ موانع التزاوج بينها، وانتفت اليوم هذه الأخوة، فاللبن مستورد من ابقار هولندا والدانمارك، فلا أخوة بلبن من إبل وأنعام.
عادة "السكبة" سكبت ذهباً مصهوراً قي بلاط دهاليز الحارات، وزفت شوارعنا "حين وجوده" لا يحمل إلا رائحة القطران بعد ان هاجرت طيور الياسمين زوايا مشربيات بيوت الخير وأهل الخير.