طرابلس في عهد الانتداب الفرنسي
هدى عبد الله
وصف مدينة طرابلس
تميزت مدينة طرابلس بموقعها الجغرافي فهي واقعة على "طول شرقي 20 و44 و35ﹾ وعرض شمالي 26 و26 و34ﹾ[1]، وبجمالها الطبيعي الذي لفت أنظار المؤرّخين والشعراء فتوقّف لويس لورته (Louis Lortet) عند جمال طبيعتها عندما زارها عامي 1875 و1880 قائلاً: "الطبيعة هنا باهرة، وقد تكون أجمل فيها من أي مكان من سوريا"[2]. ولم يستهوه جمالها المطبوع فحسب بل أعجب بجمالها المصنوع فراح يتغنّى بالحدائق والمنازل بقوله: "يزيد بهجة هذه المدينة المنظمة البناء "البساتين العديدة التي تنبسط في السهل وتمتد إلى الميناء"[3]. فالبناء المنظم والبساتين العديدة من المناظر الحضارية والاقتصادية المتطوّرة. وقرب السهل من الجبل أدهش الزائرين فتوقف لورته عند هذا الطوق المتعدّد الألوان الذي يحيط بالمدينة من جميع جهاتها. فلقد قال لورته "والبحر يطوق تطويقاً بديعاً ذلك الاخضرار الذي يتباين وقمم جبل المكمل، قمم لا تزال ثلوج الشتاء تكلّلها بالبياض"[4].
كذلك يصفها المؤرخ جرجي يني معدداً خيراتها من مياه وثمار... معللاً سبب بياضها قائلاً: "هي من أحسن مدن سوريا جمالاً وأبهجها منظراً وأكثرها رياضاً. قائمة على ضفتي نهر أبي علي المعروف عند الأقدمين بنهر قاديشا (أي المقدس) وتحفها البساتين والغياض وتكثر فيها المياه والأثمار فتزيدها نضارة وحسناً وتظهر للرائي كالحمامة البيضاء فإن أكثر جدرانها وسطوحها مبيض بالكلس ناهيك عما يرى فيها من جمال الطبيعة"[5].
لقد شطر نهر أبي علي مدينة طرابلس شطرين "فهي تقع على ضفتيه حيث يخترقها من الشرق إلى الغرب فيشطرها شطرين غير متساويين ويخرج منها فيمر في أرض كثيرة الجنائن والبساتين ويصب في البحر إلى الشمال من الميناء على مسافة ميل عنها"[6].
ويتفق لويس لورته والمؤرخان رفيق التميمي ومحمد بهجت على أن "القسم القائم من المدينة على الضفة الجنوبية من النهر أهمّ من القسم القائم على الضفة الشمالية"[7]. نظراً لما يحتويه كل قسم من مناطق حيوية إذ "تضمّ الساحة الكائنة على الجانب الأيسر من النهر ثلاثة أرباع البلدة وتوجد فيها ثماني محلات تمتد من الجنوب إلى الشمال على شكل قطع ناقص، وهي بوابة الحدادين والمهاترة، النورية، التربيعة، باب الحديد، العدسة، ثم في الجهة الغربية من هؤلاء محلة الرمانة وبعدها تل الرمل. أما في الجانب الأيمن من النهر فتوجد محلّة الجسرين وباب التبانة"[8]. ولقد أنشئت في طرابلس ست عشرة منطقة عقارية منها ثلاث عشرة منطقة داخل المدينة: الحدادين، التل، النوري، المهاترة، الزاهرية، الرمانة، السويقة، التبانة، القبة، الحديد، المينا الأولى، المينا الثانية، والمينا الثالثة؛ وثلاث مناطق خارجها: بساتين المينا، بساتين طرابلس، وزيتون طرابلس[9].
ومن الناحية العمرانية، فطرابلس "المنظمة البناء"[10] كما اعتبرها لورته، كانت تضمّ حسب تقدير التميمي وبهجت "عشرة آلاف بيت، باستثناء الميناء التي تحتوي على قريب من ألفي مسكن، غلب فيها الطراز البيروتي تارة والطراز الشامي أخرى أو يمتزج هذان الطرازان في بعضهما وكلها تبنى بالحجارة ولا يصنع من الخشب إلا سقوفها ونوافذها وغيرها من فروع البناء. وثلث هذه البيوت من الطراز الحديث وثلثاها من الطراز القديم"[11].
ويختلف توزيع هذين الطرازين فيها حسب قدم أو حداثة فترة البناء من جهة وحسب درجة تطوّر الموقع الحيوي من جهة أخرى "فالقسم الذي يبدأ من يسار نهر "أبو علي" ويمتد إلى الجانب الغربي من البلدة المسمى بالتل، أو طرابلس القديمة حي عين دمشق القديمة... أما البيوت من النسق الحديث فهي تشاهد في موقع القبة العالي المتصل بالمحلات الكائنة على يمين ساحل نهر "أبو علي"، ثم في التل من غربي البلدة؛ فقد شيدت في التل كل البنايات الفخمة التي تفخر بها طرابلس. ثم ان دار الحكومة، وبرج الساعة، وروضة البلدة ودار البريد والقنصليات والمصارف والفنادق، ومركز الترام، وأغنى المخازن كلّها تحتشد في تلك الناحية، ولهذا أصبح موقع التل له الوقع العظيم في تلك البلدة. بما فيه من الشوارع الواسعة والمباني الرصينة وما زال يتدرج في الرقيّ. ويمكن أن نقول إن طرابلس الجديدة عبارة عن هذا الموقع"[12].
هذه المعطيات تضعنا أمام واقع ما كانت عليه مدينة طرابلس في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين: بلدة زراعية مزدهرة عمرانياً واقتصادياً نظراً لتضافر العوامل الطبيعية والجغرافية. فالموقع المميّز على شاطئ البحر الأبيض المتوسط ووجود مرفأ طبيعي عاملان من عوامل ازدهار تجارتها، والنهر وفر مياه الريّ لبساتينها وزاد من خصوبة تربتها، بالإضافة إلى التربة الرملية من البحر، فازدهرت زراعتها.
* * * * *
[1] - جرجي يني: "تاريخ سوريا" المطبعة الأدبية، بيروت 1881، ص371.
[2] - Louis Lortet: "La Syrie ďaujourďhui", Voyages dans la Phénicie, le Liban et la judée, 1875, 1880, Librairie Hachette, Paris, 1884, P. 55.
واعتمدت ترجمة كرم البستاني: "مشاهدات في لبنان" ط2، منشورات دار المكشوف، بيروت 1951، ص14، يخرج نهر "أبو علي" من جبل لبنان قرب قرية بشري من مكان يقال له الدواليب ويجري إلى الجنوب الغربي قليلاً فيتحد معه جدولان يقال لأحدهما رشعين والآخر المخاضة ومن ثم يدخل طرابلس.
[3] - Louis Lortet; "La Syrie ďaujourďhui", p.55.
[4] - Ibid., p55.
[5] - جرجي يني: "تاريخ سوريا"، ص371.
[6] - جرجي يني: "تاريخ سوريا"، ص372. ويذكر رفيق التميمي ومحمد بهجت في "ولاية بيروت"، ص201، أن "النهر يدخل بلدة طرابلس فيخترقها حيث يكون ربعها عن يمينه وثلاثة أرباعها عن شماله. وبعد أن يتلوى بين بساتين الليمون مقدار نصف ساعة، يسير إلى الجانب الشمالي الغربي من طرابلس وينغمس في زرقة البحر".
[7] - Louis Lortet: "La Syrie ďaujourďhui", p.51 et 52.
[8] - رفيق التميمي ومحمد بهجت: "ولاية بيروت"، ص208.
[9] - الجريدة الرسمية، العدد 2455، الجمعة في 30 كانون الثاني 1931، المرسوم رقم 7680 وحددت فيه نقاط حدود كل منطقة من هذه المناطق.
[10] - Louis Lortet: "La Syrie ďaujourďhui", p.51 et 52.
[11] - رفيق التميمي ومحمد بهجت: "ولاية بيروت" ص205-207. يمكن التفريق بين شكلي الطراز القديم والطراز الحديث: فالطراز القديم منها له سطوح مستوية مطلية ومرشوشة بالكلس الأبيض، أما بيوت الطراز الحديث فهي مستورة بسطوح محدبة من القرميد الأحمر. وان أكثر بيوت طرابلس مبنية بحجارة سمراء تضرب بلونها إلى الصفرة ويؤتى بتلك الأحجار من المقالع الكائنة على الساحل قريباً من المينا. وقد أخذ الطرابلسيون منذ خمس عشرة سنة يطلون جدار البيوت بالملاط الأبيض "سمينتو" ciment) blanc) لكي لا تنفذ الرطوبة من خلال الأحجار.
[12] - رفيق التميمي ومحمد بهجت: "ولاية بيروت" 205 و206.