طرابلس.. أيام زمان
عادات وتقاليد
رياض دبليز
المقدمة
كم تختلف طرابلس اليوم، وهي على أهبة القرن العشرين، عما كانت عليه وهي تقرع بابه؟
فطرابلس في تلك الحقبة، كانت لها عادات وتقاليد، لم يعد لها من وجود في المجتمع الطرابلسي اليوم..
ففيما يتضجر المسافر الى بيروت اليوم، من الجلوس ساعة في السيارة ويعتبرها مدة طويلة تزهق الروح..
وفيما لم تعد دور اللهو وصالات السينما، والسهر الى منتصف الليل على التلفزيون والفيديو، تكفي للترويح عن النفس..
وفيما نعتبر مصابيح الكهرباء تضيق الصدر، لشح نورها، ونطلب التنوير بالفلوريسنت..
وفيما لا نجد احداً راضياً بما هو عليه، او قانعاً بما رزقه الله، تعال نعود الى مطلع هذا القرن، لنرى كيف كان يعيش أجدادنا وجداتنا، وكيف كانت حالهم بالنسبة الى حالنا، واذا كان أحد منا يتمنى لو عاش في عهدهم.
واذا كنا نتحدث اليوم، عن عادات وتقاليد كانت شائعة في طرابلس، فلا يمكننا اغفال ما كانت عليه من مكانة حضارية ومعرفة، وغنى في رجال العلم والأدب، وشهرة واسعة فيما حوته مكتبتها من نفائس الكتب والمخطوطات..
"ابن الفرات" أكد في مؤلفاته ان عدد الكتب والمجلدات في دار الحكمة التي أنشأها بنو عمار في طرابلس، كان يفوق الثلاثة ملايين، عدا عن المكتبات التي كانت تملكها بعض العائلات الطرابلسية، حتى انه وصف طرابلس بأنها جميعها دار علم، كان فيها مائة وثمانون ناسخاً، ينسخون الكتب المختلفة، بالاضافة الى العديد من مدارس العلم المنتشرة في مختلف أنحاء المدينة..
جاء الغزو الصليبي عام 503 هجرية فدمر وأحرق دار الحكمة والعديد من المكتبات الخاصة في طرابلس وبذلك قضى على النهضة العلمية في هذه المدينة العريقة بالعلم!..
ثم تبعه الاستعمار العثماني، الذي أكمل ما غفل عنه الصليبيون، وشجع على تفشي العادات والتقاليد والبدع المستهجنة، وأبعد الناس عن طلب العلم والمعرفة، فأخذت تلك المدارس تتوارى الواحدة تلو الأخرى، فاختفت المدرسة القرطائية وتبعتها الزريقية والخاتونية والسقرقية وتغري برمش، الى ما هناك من مدارس كانت مزدهرة، ليحل مكانها الكتاتيب والخوجايات!.
عن تلك الأوضاع التي كانت سائدة آنذاك في المجتمع الطرابلسي جمعنا ما سمعناه من أفواه الذين عاشوها، من عادات وتقاليد طريفة، تعطي صورة حية عن حياة الآباء وعن مجتمعهم وبيئتهم..
... ومن يدري، فقد يأتي يوم يكتب فيه أبناؤنا أو أحفادنا، عن الحقبة التي نعيشها اليوم، ويتندرون بنمط حياتنا وتقاليدنا، ويعتبرونها من الطرائف المسلية!..
أبواب طرابلس
كان سكان طرابلس، في مطلع القرن العشرين، لا يتجاوزون العشرين ألفاً، يحكمهم وال من قبل السلطان، يطلق عليه اسم متصرف.
وكانت حدودها ما يعرف اليوم بالمدينة القديمة، وكانت ذات أبواب منها بوابة التبانة، وتقع بجانب جامع محمود بك، بوابة التل في شارع البلدية القديمة أول سوق الكندرجية، بوابة باب الرمل عند جامع أرغون شاه، بوابة القلعة عند عقبة الدلبة بجانب قهوة العيوني، بوابة الحدادين قرب قهوة موسى وبوابة باب الحديد تحت القلعة قرب منزل الدكتور امانة الله.
هذه الأبواب كانت تغلق بعد صلاة العشاء، وكثيراً ما كان يأتي أغراب في الليل فيضطرون للبقاء خارج المدينة حتى الصباح.
أما منطقة التل التي تعد من أهم المراكز التجارية في المدينة، اليوم، فكانت عبارة عن رمول وتلال يلتقي فيها الفرسان، أيام الجمعة والأعياد، للتسابق والرهان.
ومن طريف ما يروى، ان آل الحسيني عندما بنوا في منطقة التل بنايتهم المعروفة باسمهم حتى اليوم، والتي لا تبعد عن المدينة القديمة أكثر من مايتي متر، دهش الناس لأمرهم، وخافوا من أن تأكلهم "الواوية"!
ومن أهم الأسواق التجارية آنذاك، تلك الموجودة في قلب المدينة والتي لا تزال حتى اليوم، وأشهرها:
سوق العطارين، ومعظم محلاته كانت تعنى ببيع العطورات والبهارات والأعشاب الطبية وما شابهها.
سوق البازركان وفيه محلات بيع الأقمشة ومشتقاتها.
سوق الصياغين وتباع فيه الحلي والمجوهرات.
سوق العقادين وسوق الكندرجية وغيرها من الأسواق التي كانت تطلق عليها أسماء معينة نسبة للمهن التي كانت تتمركز فيها.
وكان الشارع الرئيسي في المدينة، هو المعروف حالياً والممتد من مقهى موسى في الحدادين، مروراً بالرفاعية فالعطارين فالبازركان فالملاحة فالسوق الجديد فجسر اللحامين فسوق القمح، وينتهي في التبانة. وكان يشطر المدينة الى شطرين، وتتفرع عنه أزقة وأسواق عديدة لا تزال حتى يومنا هذا، وما يعرف بالمدينة القديمة.
الجوامع
وكان في طرابلس اثنا عشر جامعاً أشهرها:
جامع المنصوري الكبير وله أربعة مداخل.
جامع طينال ويقع غربي مقبرة باب الرمل.
جامع أرغون شاه، ويسميه العامة جامع الغنشا، وجامع محمود الزعيم ويعرف بجامع المعلق في محلة الحدادين، وجامع الطحان وجامع البرطاسي وجامع محمود بك وجامع سيدي عبد الواحد وجامع العطار.
الفنادق والخانات
أما الفنادق فكان أشهرها لوكندة بهجة الشرق في التل ولوكندة سعدون في حي الصاغة.
وهناك العديد من الخانات المعدة لاستقبال الأغراب مع دوابهم، اذ تتوسطها فسحة كبيرة فيها حوض للمياه ومربط للدواب، وعلى جوانب الفسحة تقوم غرف النزلاء، ومن الخانات ما يحتوي على طابقين، الاول وهو الأرضي للدواب والطابق الثاني يضم غرف النزلاء.
وكان في المدينة ثماني طواحين قائمة على ضفتي نهر أبو علي تزود المدينة بما تحتاج اليه من طحين، ولم يبقَ اليوم أثر لواحدة منها.
وسائل النقل
عندما كان مدحت باشا متصرفاً على طرابلس، أسس شركتين، الأولى شركة الترامواي، لتأمين المواصلات بين طرابلس والميناء، وطرابلس والتبانة، والثانية تسمى "شوسه" لتأمين المواصلات بين طرابلس وحمص وحماه.
أما الترامواي، فكان عبارة عن عربات تسير على خط حديدي تجرها البغال، ومنها ما كان ذا طابقين.
وقد استقبل الطرابلسيون هذا الحدث العظيم، بكثير من الدهشة، اذ أنهم اعتادوا في مواصلاتهم بين طرابلس والميناء والضواحي المجاورة على ركوب الحمير التي كان لها "كاراجات" خاصة في المدينة، وتؤجر بالساعات.
ولما أنشئ الترامواي، دهش القنصل الفرنسي في طرابلس يومذاك، باعتبار ان طرابلس مدينة صغيرة وليس فيها من يركب الترامواي، حتى انه جلس يوماً على إحدى المرتفعات الرملية في منطقة التل، من طلوع الشمس حتى غروبها، يحصي القادمين والذاهبين من طرابلس الى الميناء، فلم يتجاوزوا المائة!
وكان للترامواي مركز رئيسي في آخر شارع التل، مكان البنك العربي القديم، وهو عبارة عن قبو عقد كبير، بمثابة كراج للترامواي، منه تنطلق العربات بركابها الى الميناء، وكانت تقف في منتصف الطريق للاستراحة في محلة المرج، حيث كان هناك مصلى وسبيل للمياه، ثم تتابع سيرها الى محلة البوابة في الميناء، نهاية الخط الحديدي.
وهناك خط آخر للترامواي، يربط التل بباب التبانة مخترقاً حي الزاهرية، وكانت العربات على هذا الخط، تجر وراءها حافلة تعرف "بالطرزينا" توضع فيها البضائع التي كان ينقلها أصحابها من منطقة الى أخرى.
أما الشركة الثانية فلديها عربات تسمى "ديليجانس" مؤلفة من طابقين وتجرها ستة خيول، وعربات أخرى تسمى "كارو" لنقل البضائع تسير بشكل قوافل يتألف كل منها من 25 الى 30 عربة.
وقد أنشأت هذه الشركة الطريق المعروف اليوم، بين طرابلس وحمص وحماه، وأقامت الجسور على الأنهار والوديان، وكان لها مراكز على طول الطريق، فيها موظفون وياخورات تضم عدداً من الخيول لاستبدالها بالخيول المتعبة، وكانت مهمة الموظفين استيفاء رسوم معينة من المسافرين الذين يمرون على هذه الطريق.
والطريف ان المسافر من طرابلس الى حمص، كان يركب في "الديليجانس" عند منتصف الليل، ليصل حمص بعد غروب اليوم التالي.
وكان في المدينة أيضاً، العديد من الاصطبلات، حيث تؤجر الدواب للمواطنين الذين يقصدون أماكن بعيدة عن المدينة كالبحصاص والبداوي وغيرهما، وأشهرها اسطبل الحاج ابراهيم الرحولي.
* * * * *
البلدية ومهماتها
في ذلك الوقت كان جهاز موظفي البلدية مقتصراً على الرئيس والأعضاء والطبيب وأمين الصندوق وأربعة عمال أنيط بهم إنارة وإطفاء الفوانيس في الشوارع، وخمسة جلاوذة لملاحقة جميع القضايا المتعلقة بالبلدية.
وكان لرئيس البلدية شأن كبير، فكانت المدينة تحتفل بانتخابه باحتفالات رائعة تقام فيها الزين والأفراح عدة أيام.
أما شوارع المدينة فكانت غير مبلطة، ويستعمل الأهلون في أيام الشتاء، القباقيب الخشبية العالية، لاتقاء الأوحال، وكانت هذه الشوارع ضيقة لدرجة ان بعضها لا يتسع لمرور شخصين في آن واحد. وكان التاجر في سوق البازركان مثلاً، اذا احتاج لغرض ما من جاره في المحل المقابل، يتناوله منه يداً بيد دون ان يضطر للخروج من محله!
ومما يذكر ان البلدية قامت بتوسيع سوق البازركان مرتين قبل الحرب العالمية الاولى وبعدها، ومع ذلك ما زال عرضه دون الثلاثة أمتار!.
وسائل الاضاءة
الزيت السحري!
أما وسائل الاضاءة، فكانت بدائية عمادها السراج، وهو عبارة عن آنية من الفخار يوضع فيها زيت وفتيلة من القطن، وكان الأهلون عندما يخرجون من منازلهم في الليل، يحملون "بالونات" من الورق المدهون بالزيت كي لا يحترق، وفي داخلها سراج أو شمعة.
وعندما أحضر عمر أفندي المنلا من اسطنبول قنديلاً نمرة 3 يضاء بالكاز، اعتبره الاهلون معجزة خارقة وراحوا يتوافدون على داره، ليشاهدوا الماء السحري الذي يشتعل ويضيء.. اذ انهم حسبوا ان الكاز ماء!.
ولما بدأت البلدية بإنارة بعض شوارع المدينة بالفوانيس، هلل الأهلون وقامت مظاهرات الابتهاج للعمل العظيم الرائع الذي قامت به البلدية.
وقد أوكلت البلدية أمر إضاءة هذه الفوانيس الى أربعة عمال، كل واحد منهم يعمل في منطقة معينة مهمته ان يحمل سلماً ويطوف عليها كل مساء، وكان لا يصل الى بعضها إلا بعد منتصف الليل! ثم يعود صباحاً، يحمل قصبة طويلة ينفخ فيها على فتيل الفانوس فيطفئه.
التطبيب
أما طبيب البلدية فكانت مهمته معاينة المرضى، وكان يلاقي صعوبات كبيرة عندما يكون المريض امرأة. اذ كانت تجلس في غرفة ويجلس الطبيب في غرفة أخرى، فتصف له ألمها وعليه أن يصف الدواء.
وهناك أناس متعصبون لا يتساهلون مع نسائهم بأسماع أصواتهن الى الطبيب، فكان الزوج مثلاً يعمل رسولاً بين زوجته والطبيب تصف له ما يؤلمها، فيروي ذلك بدوره للطبيب، واذا أراد الطبيب الاستفسار عن بعض الأشياء منها، فلا سبيل الى ذلك إلا بواسطة.. الرسول الأمين.
ومن أطرف ما يروى ان طبيب البلدية، اضطر لحقن إحدى السيدات بحقنة مخدر، ولما لم يجد ذوو السيدة بداً من ذلك، سمحوا للطبيب ان يقوم بمهمته، وكم كانت دهشته عندما رأى شبحاً متشحاً بالسواد لا يظهر من جسده سوى موضع صغير يتسع للحقن!.
وكانت الكينا وزيت الخروع والملح الانكليزي، الأدوية التي يصفها الطبيب في معظم الحالات. وكان يستنجد بعدة أشخاص ليتمكن من تجريع مريضه شربة الملح الانكليزي، وفتح فمه بالقوة.
أما الأسنان فكان يتكفل بها الحلاق، الذي كان يعمد الى اقتلاع الضرس او السن بالخيط او الكماشة وتسمى "الكلبة" فان عاش صاحبها كان له عمر.. وان مات يكون هذا هو أجله المكتوب!.
ولم تكن مهمة الحلاق، تقتصر على الحلاقة ومعالجة الأضراس والأسنان، بل تعدتها الى مداواة القرع والدمل والفسافيس، واستنزاف الدم الفاسد بواسطة العلق، الى ما هنالك من أمراض جلدية.
وكان معظم الناس يأخذون الوصفات الطبية من العطارين، الذين كانوا، بفضل خبرتهم، او بما توارثوه عن آبائهم من معلومات، يعطون المرضى الذين يستشيرونهم، الأدوية العربية المركبة غالباً من الحشائش والأعشاب.
الطبقية
لعل أهم ما تميز به ذلك العصر، هي العادات والتقاليد الاجتماعية، فقد كان للطبقة شأن وأي شأن، وللألقاب مكانة وحرمة لا يستطيع أحد أن يتعدى عليهما، حتى إن قاضي الشرع الشريف في ذلك العصر، الأستاذ أحمد أفندي سلطان، كتب في إحدى الحجج الشرعية، بأنه حضر مجلس الشرع مولانا وأستاذنا العلامة الكبير ولي الله الشيخ محمد رشيد أفندي الميقاتي، وعندما علم أفندية المدينة بهذه الكتابة، قامت بينهم ضجة عظيمة، واحتجوا على قاضي الشرع الذي انتهك حرمتهم وفرط بحقوقهم بأن أطلق لقب أفندي على الشيخ الميقاتي!..
وبلغ من تعصب أحدهم، أنه عندما التقى القاضي، قال له أمام الناس: لقد قبلنا أن تقول عن فلان أنه ولي الله ومن سلالة البيت الكريم.. أما أن تقول عنه أفندي، فلا نقبل بذلك مطلقاً!..
وبلغ من تعصب الأفندية لطبقيتهم، أنهم إذا ذكروا اسم القصاب، أردفوه بكلمة "أجلك الله" والكندرجي بكلمة "أنت أكبر قدر". حتى أن البعض كانوا لا يسمحون لأي كان بلبس الفرو في الشتاء، لأن ارتداءه من امتياز الأفندية دون سواهم.
المنازيل
وكان لبعض وجهاء المدينة من آل الشنبور والمنلا وكرامي والثمين والسندروسي والمقدم والزعبي وعلم الدين والمغربي وخضر أغا وغيرهم، منازيل يختلف اليها الناس، ولكل منزول أشخاص معينون يترددون عليه. وكان عبارة عن غرفة كبيرة تتألف من قسمين، الأول يسمى "ليوان" وهو في صدر الغرفة ويرتفع عن القسم الثاني الذي يسمى "عتبة".
وكان صاحب المنزول يجلس في صدر "الليوان" يحيط به زواره من الأفندية والوجهاء، يحتسون القهوة ويدخنون (الشبق). أما الذين يجلسون في العتبة، فهم من عامة الشعب من أبناء الحي، ولا يحق لهم مشاركة الأفندية باحتساء القهوة وتدخين الشبق، حتى ولا بالحديث.
أما الأحاديث فكان جلها يدور حول الطعام والشراب وأنباء العاصمة استمبول.
الالقاب
كان للألقاب مكانة اجتماعية تختلف بإختلاف درجاتها، فهناك لقب "رفعتلو" للأفندي، وعزتلو للبيك، و"سعادتلو" للباشا. ولصاحب كل من هذه الألقاب لباس خاص مزركش يظهرون به في الحفلات العامة.
ولعل أجمل هذه الحفلات، تلك التي كانت تقام احتفاء بجلوس السلطان أو عند ولادة سلطان جديد، فقد كان المتصرف يجلس في السراي، وفي حضرته فرقة موسيقية مؤلفة من عازف على القانون وآخر على العود وثالث ينقر على الدف ورابع على الدرنبكة، وكانوا عندما يحضر المدعوون من رتبة رفعتلو يعزفون له نغماً قصيراً مختصراً، وعندما يحضر آخر برتبة عزتلو يكون العزف أكثر وأطول، أما سعادتلو فقد كانت الفرقة تعزف له قطعة موسيقية كاملة وبحماس أشد.
وتنتهي الحفلة بأن يقف الجميع ويصيحون بصوت واحد (باد شاهم شوق ياشا) أي يحيا مليكنا كثيراً.
وكانت هناك عادات يراها الآباء ضرورة لبقاء هيبة العائلة وأهمها الطاعة العمياء التي يتطلبها الأب من أبنائه.
فقد كان الابن، ولو بلغ الأربعين من عمره، لا يستطيع الكلام في أي مجلس يحضره والده، ولا يمكنه التدخين أمامه أو ينزع طربوشه عن رأسه، وكم تعرض رجال للنقد العنيف لأنهم حلقوا شواربهم، أو وضعوا زهرة على صدورهم.
وفي أواخر الحرب العالمية الأولى عندما طلب المشرفون على إدارات المدارس من تلامذتهم لبس "البنطلون" قامت في المدينة ضجة كبرى وسادها هرج ومرج وامتنع معظم الآباء عن إرسال أولادهم الى المدارس، وآثروا عدم تعليمهم على لبس البنطلون.
وكان اللباس المفضل "السروال" فوقه سترة قصيرة تسمى "كبران" وشملة عريضة تلف حول الخصر. وكان الأغنياء يضعون فوق أكتافهم شالاً اسمه "ترمه" وهو نفيس جداً وأغلى من الحرير، كما يحملون بأيديهم عصا "بستون" وكثيراً ما يكون رأسه المعقوف مفضضاً أو مذهباً حسب مكانة حامله!.
وبلغ من سيطرة الآباء على الأبناء أن الشاب كان يتزوج من فتاة لم يرها في حياته ولا يعلم ما اذا كانت جميلة أم دميمة، طويلة أم قصيرة، فيكفي أن يقول له أبواه، لقد خطبنا لك فلانة.. ليرضى بما أعطاه الله.
حفلات الاعراس
كانت "داية" العائلة هي التي تتولى أمر الخطوبة والاتفاق على المهر وتقريب وجهات النظر بين آل العريس وآل العروس.
وفي يوم العرس يذهب العريس الى حمام السوق برفقة أقاربه وأصدقائه، حيث يحتفلون بهذه المناسبة السعيدة فيأكلون ويشربون ويغنون ويرقصون، وكذلك كان يفعل أهل العروس.
وفي المساء كان أهل الحي يقومون بمرافقة العريس، فيسير أمامه حاملو الشموع على صفين ويسير وراءه صف آخر من الشباب متشابكي الأيدي لحمايته من مزاح أصدقائه، الذين يقومون بهجمات متكررة عليه، يخزونه بالأبر والدبابيس.. وبحكم التقاليد يضطر المسكين لتقبل هذه "التهاني" مرغماً ولا يصل الى بيت العروس إلا وقد تخضبت ثيابه بالدم!..
والطريف ان جهاز العروس كان يحمل على أكتاف الحمالين وعلى ظهر الدواب، ويسيرون به خلف موكب العريس، بينما كان لاعبو السيف والترس يتقدمون الموكب، وكثيراً ما كانوا يتوقفون ليقوموا ببعض الألعاب، على أنغام الطبل والزمر، وهكذا يستغرق سير الموكب أكثر من ساعتين ليصل الى بيت العروس.
ومن العادات الشائعة، ان موكب العريس عندما يمر أمام بائع القهوة الجوال، يبادر هذا الى سكب ما في "المصبات" من قهوة بين رجلي العريس على قارعة الطريق، تكريماً له، فيبادر العريس الى إعطائه ما تيسر.
ولما كان العريس يمر في أكثر من حي، وهو في طريقه الى دار العروس فقد درجت العادة أن يقوم أحد الرجال المتخصصين بقرع الطبول، قبل موعد العرس بيوم واحد، بالطواف على الأحياء وهو يقرع الطبل معلناً أن فلاناً ابن فلان سيتزوج في اليوم التالي.
وهنا يتنادى شباب الأحياء التي سيمر بها موكب العريس للتجمع واستقبال العريس بما يليق بكرامة أهل الحي.
وفي المساء عندما يمر الموكب بأحد هذه الأحياء كان الشباب يستقبلونه هازجين مرحين:
دقت الخيل بالخيل وحق الله، يا هو.. وسراجها من حرير أحمر.
وشبهنا العريس بالأمير عنتر.. يا هو!.
ثم يمازحون منشدين بصوت واحد:
كنت أعزب داير فين داير بين العزباني
دهيت بعقلي الشيطانه قالتلي يا لله تجوز
تجوزنا وأخدنا الزين قامت الزينه جابت غليم
صار يقللي يا بابا بدي حلاوة منبوشه
مديت أيدي عالجيبه طلعت الجيبه مبخوشه
البرزة
أما أهل العروس فيظلون منهمكين طوال يومين قبل موعد زفاف ابنتهم، في تزيينها وترتيب شؤونها، فيصبغون يديها وقدميها بالحناء، وعندما تجلس على البرزة في صدر قاعة تغص بالمدعوات بانتظار قدوم العريس، تكون في أبهى مظهرها، وقد غطى وجهها البرق والبرهجان الذي يبهر الأبصار بلمعانه وتعدد ألوانه، كما كان يغطي رأسها مجموعة من الورود والرياحين وعقود الياسمين، بينما تتدلى "الطرحة" من رأسها لتغطي وجهها.
فرقة المغاني
وكان حضور فرقة "المغاني" أهم ما تتميز به حفلات الأعراس. والمغاني فرقة تتألف من مطربة وراقصة وعازفة على العود وأخرى على القانون وضاربة على الدف أو الدرنبكة، وكن قبل وصول العريس ينشدن أغاني الترحيب بالضيوف:
يا حنينه يا حنينه يا حنينه أهلاً وسهلاً بالضيوف العندنا
ومن العادات في مثل هذه الحفلات أن قريبات العروس كن يزغردن وهن يصفن العروس لأهل العريس:
آويها شو أكلت أمك فيكي لجابتك حلوه
آويها أكلت القانصه والمعلاق والكلوه
آويها لبسك بدلة بيضا تلبق بقامتك الحلوه
لي لي لي لي لي لي ليش
فتقف واحدة من أهل العريس بين زغاريد النساء وعزف الموسيقى مفاخرة بما قدمه والدا العريس لابنهم:
آويها أربع بقج بقجتلك والخامسة بالصندوق
آويها يخلي شوارب بَيَك ما عوزك لمخلوق
آويها أربع بقج بقجتلك والخامسة بالصندوق
آويها يخلي سوالف أمك هالشاطرة واللبقه
لي لي لي لي لي لي ليش
فتعود واحدة من آل العروس لتطمئن والدة العريس:
آويها أم العريس مقصودك وصل لاكي
آويها كنتك حداكي وابنك نور عيناكي
آويها للبسو الاطلس وابعتو لاكي
آويها يرتاح قلبك وتنامي ملا عيناكي
لي لي لي لي لي لي ليش
وهنا تقف قريبة من آل العريس مزهوة متباهية بجمال العريس وهي تردد:
آويها أسمك فؤاد والاسم والله لابقلك
آويها وردة وشامة عا صحن الخد نابتلك
آويها لا في قبلك ولا بالطايفة متلك
آويها تبارك الله، تياب العرس لابقتلك
لي لي لي لي لي لي ليش
وفي جو من الهرج والمرج، وصدح الموسيقى وزغاريد النساء تقف أم العروس وهي تنشد:
آويها في بيتنا رمانة
آويها حلوه ولفانة
آويها حلفت ما أقطفها
آويها حتى يجي العريس بالسلامة
لي لي لي لي لي لي ليش
وعندما يصل العريس الى البيت كان عليه ان يخترق صفوف النساء وهن يزغردن للعروسين حتى يقترب من مكان "البرزة" فيرفع الطرحة عن وجه عروسه التي يراها للمرة الأولى في حياته فيقودها الى غرفة خصصت لهما، بينما غرفة المغاني تردد:
تمختري يا حلوه يا زينه يا وردة من جوا جنينه
زهر القرنفل والياسمين والورد فتـح علينـا
الشمع آيد حواليكي والسحر باين في عينيكي
الورد الأحمر بخدودك فتح ونور على عودك
اتمختري بحلو قوامك عريسك الخفة بدارك
عارف غلاوتك ومقامك يا بدر نور حوالينا
وتظل الأفراح حتى الصباح، فيخرج العروسان من غرفتهما ليزفا البشرى السعيدة الى الأهل، وهنا تتعالى الزغاريد وتنطلق المغاني بتهنئة العروسين:
ما أجملك صبحيه بطلعتك البهيه
والله الدلال بيلبقلك بس العذاب كلو عليي
وكان لانتظار أهل العروسين حتى الصباح مغزى كبيراً فأهل العروس ينتظرون البشرى السارة من العريس بأن أبنتهم "طلعت ست وبنت" "وما باس تمها غير امها" أما أهل العريس فيكونون على أحر من الجمر لمعرفة الخبر السار من العروس من أن ولدهم "قطش راس القط من أول ليلة"!
وبينما يكون الجميع في هرج ومرج تتسلل الداية الى غرفة العروسين لتأتي بالدليل القاطع "منديلاً أبيض ملطخاً بالدماء" على أن العريس "قوص الضبع"!.."
وهنا يطمئن قلب والدة العريس، ويهدأ بالها الى أن العروس حازت اعجاب ولدها، فتقترب منهما وهي تنشد لكنتها:
يسعـد صباحـك يا فله افرنجـيه يا ورد على أمه، يا خلقه ألهيه
لو قدموا لي غيرك من الألف للميه ما أهوى بدالك ولا لي في أحد نيه
ومن العادات المتبعة ان الداية كانت ترشد العروسين الى كيفية الزواج فكانت تجتمع بكل منهما على انفراد وتشرح له كيف يقوم بمهمته ليلة العرس، وكثيراً ما كانت تروى حكايات عن بعض الشباب الذين لم يتمكنوا من "أخذ العروس" من الليلة الاولى، لجهلهم التصرف مع النساء!.
كانت الولادة، في معظم الحالات، تتم بصورة طبيعية، اما اذا تعسر الوضع، فقد كانت مهمة الداية تقتصر على الجلوس أمامها، بانتظار قدوم الوليد "منو لحالو" وهي تصيح بالأم: عيني ولدك.. عيني ولدك..
وبعد أن تتم الولادة، كان يسمع صوت الداية وهي تقول: اللهم صلي على سيدنا محمد، فيفهم من ذلك ان المرأة ولدت صبياً. وعندما كانت تقول وبصوت ضعيف: الحمد لله على قيامها بالسلامة، يفهم من ذلك ان المولود بنت..
والمرأة غالباً ما كانت تعيش على أعصابها طوال فترة الحمل، خوفاً من أن تلد بنتاً!.
فقد كان معظم الرجال يكرهون البنات، وكثيرون منهم من كان يرفض الدخول الى غرفة زوجته لرؤية المولودة الجديدة، حتى أن بعضهم وصل به الأمر الى إرسال زوجته الى بيت أهلها ومنهم من كان يطلق زوجته بسبب انجابها بنتاً!.
والطريف ان أهل العريس، عندما يسمعون البشرى من الداية، بأن كنتهم ولدت صبياً، يبادرون الداية بالزغردة والنشيد:
آويها بتستاهلي يا دايه
آويها قفه ملانه رمان
آويها يا طاهره يا نقيه
آويها يا مبشره بالصبيان
لي لي لي لي لي لي ليش
ولم تكن فرحة أهل العروس بخلاص ابنتهم وقيامها بالسلامة، بأقل من فرحة أهل العريس بالمولود الجديد، فيبادرون الدايه بالنشيد:
آويها بتستاهلي يا دايه
آويها قفه ملانه نجاص
آويها يا طاهره يا نقيه
آويها يا مبشره بالخلاص
ثم تنهال الإكراميات على الداية، وكانت في معظم الحالات من الليرات العثمانية الذهب او المجيديات.
ولا تنسى والدة العريس، مجاملة كنتها، فتقترب منها باشة ضاحكة وهي تزغرد:
آويها ولدت وقامـت
آويها عافراشها نامت
آويها ما فرحنا بالصبي
آويها فرحنا بقيامك
لي لي لي لي لي لي ليش
وهناك عادة كانت منتشرة لدى معظم العائلات، وهي ان الأم كانت تضع طفلها في "مرجوحة" مربوطة بأربعة حبال من أربعة أطرافها ومعلقة في سقف الغرفة، وأحياناً كان الطفل يستيقظ من نومه، في غياب أمه عن الغرفة، فيحاول النزول من "المرجوحة"، وكثيراً ما كان الحبل يلتف حول عنقه فيختنق ويموت دون أن يدري به أحد!.
عادات المرأة
كانت المرأة لا تغادر منزلها الا نادراً، واذا مرت إحداهن في مكان وجد فيه بعض المارة من الرجال فأنهم يشيحون بوجوههم ناحية الحائط حتى تمر بهم!.
وكانت اذا طرق باب بيتها طارق، مضت الى الباب، وقد وضعت في فمها منديلاً أو طرف ثوبها، عندما تكلمه، كي لا يعرف نبرات صوتها!
واذا كان القادم ينقل بعض الحاجيات، لصاحبة البيت، فانها تعمد الى لف يدها بمنشفة أو قطعة قماش حتى لا يرى يدها وهي تتناول منه الحاجيات!
ولا يقتصر تصرفها هذا مع الرجال فحسب، بل ومع الاولاد الذين لا يتجاوزون العاشرة من أعمارهم... كما كانت الفتيات يرتدين الحجاب من الثامنة او التاسعة من أعمارهن!.
الحياة البيتية
كانت السهرات العائلية تقتصر على جنس واحد، فالرجال مع الرجال والنساء لوحدهن، ولا يجوز اختلاطهم، حتى ان بعض الرجال بلغ من تزمتهم وتعصبهم، أنهم يمنعون زوجاتهم من الظهور أمام أشقائهم وأبناء أعمامهم!..
وكثيراً ما كان يسكن في البيت الواحد، أكثر من عائلة، فالأولاد كانوا يتزوجون في بيوت أهلهم، فكانت الغرفة الواحدة، تضم عائلتين.. يفصل بينهما برداية من قماش!..
وكان الميسورون ينامون على أسرة أعمدتها من النحاس الأصفر أو الأبيض، أما العامة فكانوا يضعون فراشهم على الأرض وينامون عليها.
ومن العادات الشائعة أن العائلة كانت تجتمع حول "طبلية" من خشب، وهم جلوس على الأرض، لتناول الطعام، أو صينية من نحاس أو قش، فيأكل جميع أفراد العائلة من صحن واحد.
وكانت الوقعة الرئيسية، العشاء، لأنها تجمع بين جميع أفراد العائلة.
يتبع..