طرابلس الفيحاء: المعالم العمرانية والحضارية
الدكتور عبد الغني عماد
استاذ في الجامعة اللبنانية
كان لمدينة طرابلس منذ الفتح العربي دور سياسي وحضاري واقتصادي وعسكري هام، جعلها تستحق لقب "مدينة العلماء والمجاهدين" وحمل أهلها لقب "حماة الثغور" بكل جدارة، شأنها في ذلك شأن أبرز الثغور العربية والاسلامية.
طرابلس التاريخ: اقترن تاريخ بنائها بتاريخ تشكيل مجلس الشورى الفينيقي، وهو حدث سياسي ضخم في العالم القديم. فقد اختارت ممالك صور وصيدا وأرواد موقعها ليكون حيادياً وتمثل كل منهم بمئة نائب وأقاموا مع عيالهم في مواقع ثلاثة متقاربة. وهكذا ظهرت المدن الثلاث "تريبوليس" والتي عرفت بداتية بـ: كايزا ومايزا ومحلاتا.
وفي عهد الخليفة بن عفان توجه القائد سفيان بن مجيب الأزدي لفتحها واستعان بالكثير من الصبر والحنكة قبل أن يتمكن من ذلك عام (25هـ).
تميزت طرابلس بقوة تحصيناتها، فالبحر يوفر لها الحماية الطبيعية من جهات ثلاث، ويحميها خندق عظيم وأسوار عالية من الجهة الشرقية المطلة على التلال. وقرب شاطئها مجموعة جزر لعبت دوراً كبيراً في تأمين المؤنة الاقتصادية
وكانت من المدن القليلة التي استعصت دائماً على المهاجمين لوثاقة أسوارها ومناعة حصونها.
وكانت طرابلس قبل احتلالها من قبل الصليبيين درة ثغور الساحل الشامي، وقد شهدت في عصر الدولة الفاطمية عهداً من أزهر عصورها التاريخية وكتب عنها في ذلك العصر العديد من الرحالة والمؤرخين العرب أمثال (الاصطخري) و (المقدسي). ويصف الرحالة الفارسي (ناصري خسرو) المدينة وشوارعها سنة 430هـ فيذكر ان مساحتها الف ذراع مربع وان دورها كانت تصل أحياناً الى خمس طبقات وست طبقات. ثم يصف شوارعها فيقول: شوارعها وأسواقها جميلة نظيفة حتى لتظن أن كل سوق قصر مزين، وقد رأيت بطرابلس ما رأيت في بلاد العجم من الأطعمة والفواكه بل أحسن منه مائة مرة.
وقد ظلت طرابلس تحت السيادة الفاطمية الى أن استقل بها قاضيها ابو طالب بن عمار. وفي عصر "بني عمار" بلغت ذروة عظمتها وتألقت كحاضرة كبرى من الشام. واشتهر فيها آنذاك "دار العلم" وهي شبيهة بدار الحكمة التي أسسها الفاطميون في القاهرة، وهي شبيهة بدار الحكمة التي أسسها الفاطميون في القاهرة، وتقدمت فيها الصناعات، وأصبحت طرابلس احد أهم مراكز صناعة الورق والذي فاق في جودته ورق "سمرقند" الشهير.
الهدم وإعادة البناء:
لكن سقوط طرابلس بيد الصليبيين (503هـ) كان وبالاً على المدينة. وقد اقترن تحريرها عام (688هـ) بتدميرها تدميراً كاملاً. بل إنه تحول الى تاريخ لاندثار المدينة الفينيقية القديمة والتي أصبحت اثراً بعد عين. وقد أمر السلطان قلاوون بهدم ما تبقى منها وأمر ببناء مدينة جديدة تقع على بعد ميل شرقي المدينة الخربة التي كانت فيما مضى حاضرة من أعظم حواضر الشام. وقد اراد بذلك أن يجنب المدينة الجديدة ما يمكن ان يصيبها من غارات الفرنجة الذين تمركزوا بعد ذلك في عكا وقبرص. واختار قلاوون لهذا الغرض الربض الصليبي الواقع أدنى قلعة صنجيل في موضع بجوار النهر، وأقامها مدينة غير مسورة. وكانت الأبنية الجديدة تشيد من الاحجار المتخلفة من بقايا الاطلال. ولا يزال بعض من بقايا الأبنية الصليبية ظاهراً بعد ان أعيد استخدامها في المدينة المملوكية.
عمرّت المدينة الجديدة بمختلف أنواع المنشآت، مدنية ودينية وعامة، من حمامات وقيساريات ومساجد ومدارس وخانات وخوانق. وأجريت في دورها المياه وخططت فيها البساتين. ومع نواب السلطنة الذين توالو على حكم المدينة عرفت طرابلس ازدهاراً وعمراناً كبيرين واستعادت رخاءها الاقتصادي فكثرت أسواقها واتسعت مرافقها ونمت تجارتها وتعددت خاناتها التي كان يقصدها التجار من سائر أنحاء العالم، بحيث أصبحت طرابلس في عصر المماليك صورة مصغرة لمدينة القاهرة من حيث كثرة المساجد والمدارس، بقبابها ومآذنها وبواباتها ومن حيث نشاط سوقها الاقتصادي.
الطراز العمراني للمدينة: تميزت طرابلس المملوكية بكونها وحدة عمرانية متصلة، يشقها النهر الى نصفين أحدهما يقوم على هضبة صخرية تعرف باسم "القبة" أو قبة النصر في المصادر التاريخية، إشارة الى المكان الذي رابط فيه الظاهر بيبرس لتحرير المدينة من الفرنجة، يقابلها في الجهة الأخرى تلة اشتهرت باسم "تلة الحجاج" وتعرف الان باسم "أبي سمراء" واستعاض المماليك عن الأسوار لحماية المدينة باتباع نظام التعرض في الدروب والأزقة والأسواق والمسالك. واتخذوا لحاراتها وأحيائها أبواباً كانت تجدد كلما زاد امتداد العمران. وحصنوا المدينة بسلسلة من الأبراج والحصون على طول الشريط البحري في الميناء.
السويقة والتبانة والقبة هي أبرز الأحياء على الضفة الشرقية للنهر الذي يشطر المدينة قسمين. والنوري وباب الحديد والرمانة والمهاترة والحدادين والتل والزاهرية والميناء على الجهة الغربية. المدينة المملوكية مترابطة ومتصلة عمرانياً تخترقها أسواق وممرات ضيقة مستقيمة حيناً ومعوجة أو ملتوية غالباً. مكشوفة في بعضها ومسقوفة في بعضها الآخر، بحيث لا تدخلها أشعة الشمس إلا من بعض كوّات صغيرة تتسرب منها في الأيام المشرقة. الأزقة والدروب ضيّقة عموماً تتراوح بين المترين والخمسة أمتار. ويشكل بعضها متاهة للغرباء. بعضها مرصوف بالحجارة السوداء الملساء (البلاط) وبعضها الآخر تألف من درج يتجه صعوداً الى القلعة أو الى الأحياء التي تقع على هضبتها الصخرية في القبة.
الطرق الرئيسية في المدينة القديمة تشكل في غالبها السوق الذي كان يضم أكثر من ثلاثين نوعاً من الحرف، كان يعرف كل منها بمفرده باسم الحي أو باسم بانيه أو باسم الحرفة التي تمارس فيه كما يتبين لنا من خلال وثائق محكمة طرابلس الشرعية: "سوق الأساكفة – سوق القمح – سوق الزرابيلية – سوق القاوقجية – سوق العطارين – سوق الملاحة – السوق السلطاني – سوق الصياغة – سوق القوافين – سوق البابجية – سوق العقادين - سوق منجك...).
السوق هو الطريق الأوسع والأطول في المدينة القديمة. أما الطريق القصيرة والضيقة فكانت تدعى زقاقاً. بعضها كان مسدوداً وبعضها الآخر يوصل الى زقاق آخر. وقد يكون مسقوفاً جزئياً أو كلياً، تتخلله قناطر أو "عقبات" تشكل تقاطعاً لإلتقاء زقاقين أو أكثر. وقد نشأ عن إلتقاء الدروب والطرقات الداخلية عدد من الساحات بنيت فيها الأسبلة والبرك التي لا يزال بعضها حتى الآن، وكانت متنفساً لأبناء الحي. استخدمت السجلات الشرعية العثمانية تعبير "المحلة" وهو تعبير مستخدم من حلب والموصل وبغداد، لكن العامة الطرابلسية استخدمت تعبير "الحارة" السائدة في القاهرة ودمشق ايضاً. والمنطقة السكنية في المدينة تحيط بالأسواق وتتصل بها عبر شبكة الأزقة المتعرجة والمغلقة في بعض الأحيان. والغرض من هذه الظاهرة العمرانية دفاعي محض. وتألفت المدينة حسب الوثائق العثمانية من ست وعشرين محلة، أقيمت على مداخلها البوابات، ليسهل الدفاع عنها، بل وعن كل سوق من أسواقها. كانت هذه البوابات تغلق مع غياب الشمس ولا تفتح إلا عند شروقها، وقد وصل عددها الى ما يزيد عن عشر بوابات، بقي منها ثلاث: بوابة الحدادين، باب التبانة، باب الحديد.
وفي دراسة قمنا بها على وثائق طرابلس العثمانية، تبين لنا أن أسواق طرابلس ضمت في القرن الثامن عشر أكثر من مئة حرفة (في دمشق وحلب ما يقارب 168 حرفة). ويمكن أيضاً معرفة الأهمية الاقتصادية للمدينة من خلال عدد الأسواق والخانات والتي بلغت 27 سوقاً و40 خاناً (في دمشق وجد 45 سوقاً و57 خاناً).
ولم تعرف المدينة تغييراً كبيراً ابان الحقبة العثمانية، فهم ورثوا مدينة عامرة. لكن مع الوقت كان واضحاً أن المدينة تتجه نحو المزيد من التوسع، وخاصة مع بدايات القرن التاسع عشر باتجاه الغرب، نحو المنطقة المعروفة باسم التل والتي شهدت بناء السراي العثماني الكبير وبرج الساعة الشهير، وباتجاه الزاهرية التي استقطبت الأبنية والمنشآت الصناعية، ثم باتجاه الميناء عبر الطريق التي عرفت باسم المتصرف العثماني عزمي بك، ثم طريق المئتين أواسط الخمسينات، ثم باتجاه بساتين طرابلس التي بنى في وسطها معرض طرابلس الدولي، إلى أن أزال مشروع الضم والفرز الحالي ما تبقى من بساتين طرابلس من الوجود، والتي طالما فاخرت بها المدينة، وعرفت بالفيحاء لما كانت تنشره هذه البساتين من روائح زهر الليمون العطرة التي كانت تعبق بها كافة أحياء المدينة. هذا التوسع والامتداد شمل أيضاً الضفة الشرقية التي أخذ زيتونها في أبي سمراء والقبة بالانحسار لصالح الامتداد العمراني، كما امتدت التبانة شمالاً ولم يبق من بساتينها أو "السقي" التابع لها شيء يذكر.
المعالم والمنشآت الدينية:
يكاد المسجد – الجامع أن يكون الأصل في بناء المدينة فمن حوله شيدت السواق والحوانيت، فالجامع المنصوري الكبير سمي تيمناً باسم فاتح طرابلس "المنصور قلاوون" وهو "الكبير" لأنه كان ولا يزال أكبر جوامع المدينة. والداخل الى المدينة كان ولا يزال يبهر بعدد مساجدها ومدارسها، فهي تنتشر وتتوزع على مختلف الأحياء والأسواق، بحيث يمكننا أن نرى بوضوح كيف تتزاحم المدارس المتجاورة في رقعة صغيرة في منطقة "النوري" مثلاً، حيث تتابع بشكل كثيف وتحيط بالجامع المنصوري وبمداخله الأربعة، بدءاً بالمدرسة القرطاوية الى الشمسية، والأثرية، والخيرية حسن، والناصرية، والنورية، الى الطواشية والكريمية والحنفية والبيروتية والدهان ومدرسة احمد آغا جاويش وغيرها من المدارس التي تهدمت وأزيلت أو حولت الى متاجر وبقيت قبابها دليلاً يشير الى أهمية هذه المدينة في نشر العلوم الإسلامية على مدى قرون.
وعندما زار الشيخ عبد الغني النابلسي طرابلس في رحلته الشهيرة عام (1700م) قال: "إن ببلدة طرابلس المحمية مدارس وزوايا ومساجد لا تعد ولا تحصى. وسمعنا إنه كان بها ثلاثمائة وستون مدرسة ولكن أكثرها متهدم وغالبها مهجور.." ومن أجمل المساجد جامع طينال والذي شيد عام (1336م) ويتمتع بطراز هندسي وإسلامي مميز. وكذلك جامع العطار ويقع في قلب المدينة القديمة وهو من أكبر جوامع المدينة وثالثها من حيث الأهمية. ثم جامع البرطاسي والذي يقع على الضفة اليسرى من نهر أبي علي والذي يعود إنشائه الى ما قبل (1324م) والذي بني لتدريس المذهب الشافعي. وهناك جامع الاويسية والذي يتميز بمئذنة رائعة الجمال. بالإضافة طبعاً الى عدد كبير من المساجد لا يسمح المجال لذكرها أو تعداد مميزاتها، أهمها جامع التوبة، وجامع سيدي عبد الواحد المكناسي، وجامع الطحام، وجامع المعلق، وجامع الحميدي، والمسجد الأسعدي، ومسجد الحجيجيات.
أما التكايا فهي عديدة وابرزها التكية المولوية الشهيرة، وتكية القادرية، وتكية أبي الخواتم المعروفة بالاحمدية.
وهناك مظاهر حضارية في المدينة تسترعي الانتباه أولها ان المساجد والمدارس والحمامات والخانات تقع بجوار بعضها البعض. وهذا التجمع لهذه الأبنية كان يلبي حاجة السكان والمصلين وأهل السوق والتجار الوافدين الذين ما أن ينزلوا بضاعتهم في الخانات حتى يذهبون الى الحمامات للراحة والاغتسال وبعدها الى الجامع أو المسجد الملاصق. ويمكن ملاحظة هذه المسألة بالعين المجردة حتى الآن.
كذلك لوحظ انه كان يراعى بناء مدرسة أو مسجد عند كل بوابة. وفي الغالب تقام مدرستان عند كل بوابة، أحداهما مما يلي البوابة خارج البلد والأخرى الى الداخل منها. ويبدو ان المدرسة الخارجية كانت مخصصة للوافدين على المجينة الذين يصلون بعد اقفال البوابات عند مغيب الشمس.
ايضاً اشتهرت المدينة بكثرة "سبل المياه" لارواء عطش الأهالي والوافدين، وبحماماتها الرائعة والتي بقي بعضاً منها حتى الآن وأهمها: حمام عز الدين، والحمام النوري، والحمام الجديد، وحمام العبد. ويتميز كل منها بقبواته ذات المضاوي وغرفه المعروفة "بالبراني" أي غرفة الثياب. و"الوسطاني" اي الدافئة ثم "البيت الساخن" وهو عادة ما يتألف من عدة غرف تحيط بالوسطاني وفي كل غرفة جرنان للمياه الساخنة.
أما الآثار العسكرية فهي عديدة ولم يتبق منها سوى اثرين بمنتهى الأهمية هما: القلعة وبرج السباع، الذي كان واحداً من ثمانية أبراج بناها المماليك على طول ساحل المدينة للدفاع عنها.
ولقد نكبت المدينة بفيضان نهرها أواخر سنة 1955، ونتج عن ذلك أخطر مشروع عرفته في تاريخها. ففي غفلة من أهلها وغياب مسؤوليها تم تحويل نهرها الذي كان بمثابة "الجندول" في "بندقية" الشرق الى مجرى اسمنتي بشع، فأزالت الجرافات كماً هائلاً من الآثار المنتشرة على الضفتين، ومنها البيمارستان، خان المنزل، حمام الحاجبن حمام العطار، حمام النزهة، مسجد الدباغين، مدرسة الوتار، مدرسة سبط العطار، البتركية، الزريقية، النسر بن عجبور، باكية غانم، قصر الطنطاش، سوق السلاح، سويقة أسندمر، المسلخ، الطواحين، جسر السويقة، جسر اللحامة، والبيوت التي كانت تتكئ بشرفاتها الخشبية ومشربياتها فوق مياه النهر. وتعرضت التكية المولوية، والمدرسة الظاهرية، وسراديب تحت السباط للخراب. يضاف الى هذا ما خلفه الهدم العشوائي في قلبها النابض عند شق وتوسيع سوق النحاسين والرمانة وباب الحديد والرفاعية والدفتار والسراي العثماني الكبير وغيرها.
ومع ذلك لا تزال الفيحاء المدينة الأولى بآثارها المملوكية على الساحل الشرقي للبحر المتوسط رغم كل ما نالها من نكبات الطبيعة وما أنزلته يد الانسان في عمارتها من تخريب وتشويه. فهي لا تزال تحتضن ما يزيد عن المئة والخمسين معلماً، بين جامع ومسجد ومدرسة وزاوية وتكية وخانقاه ورباط خيل، وقناطر وأبراج واديرة ومزارات وكنائس وخانات وحمامات وقصور وسبل مياه وبوابات وكتابات ونقوش ورسوم وزخارف ورُنُوك، فضلاً عن القلعة الشامخة والشاهدة على تاريخ المدينة.