طرابلسيات الزمن الماضي... مع عامٍ جديد
مدينة لا تزال تبحث عن مكان في وطن؟
بقلم الدكتور عبد الغني عماد
كان لمدينة طرابلس حصة كبيرة من الإهمال والحرمان، فهو في الحقيقة لم يكن عادياً كباقي المحافظات والمناطق الطرفية التي أصابها من دولة الاستقلال. بل إن الدراسة الموضوعية تكشف عن أبعاد جديدة لهذا الحرمان والإهمال، يمكن تلخيصها بالتهميش المنظّم الذي تعرضت له، قبل الاستقلال، بل قبل نشوء مشروع الدولة بحد ذاته مع الانتداب الفرنسي، لذلك يقتضي العودة قليلاً إلى بدايات القرن الماضي.
والواقع أن طرابلس بقيت دائماً، حتى بدايات القرن العشرين، تلعب دوراً مميزاً في بلاد الشام، فقد كانت تمثل الرأس لشبكة من المدن والقرى والبلدات التي تملك إنتاجاً محلياً متكاملاً ومتنوعاً. كانت هذه الشبكة أشبه بمثلث قاعدته حمص وحماة ورأسه طرابلس من جهة، وحلب من الجهة الأخرى. في القرن الثامن عشر برزت مدينة جديدة دخلت ميدان المنافسة وهي اللاذقية، وبالتالي تغيّر المثلث وأصبح أقرب إلى المربع غير متساوي الأضلاع.
كان لمدينة طرابلس حصة كبيرة من الإهمال والحرمان، فهو في الحقيقة لم يكن عادياً كباقي المحافظات والمناطق الطرفية التي أصابها من دولة الاستقلال. بل إن الدراسة الموضوعية تكشف عن أبعاد جديدة لهذا الحرمان والإهمال، يمكن تلخيصها بالتهميش المنظّم الذي تعرضت له، قبل الاستقلال، بل قبل نشوء مشروع الدولة بحد ذاته مع الانتداب الفرنسي، لذلك يقتضي العودة قليلاً إلى بدايات القرن الماضي.
والواقع أن طرابلس بقيت دائماً، حتى بدايات القرن العشرين، تلعب دوراً مميزاً في بلاد الشام، فقد كانت تمثل الرأس لشبكة من المدن والقرى والبلدات التي تملك إنتاجاً محلياً متكاملاً ومتنوعاً. كانت هذه الشبكة أشبه بمثلث قاعدته حمص وحماة ورأسه طرابلس من جهة، وحلب من الجهة الأخرى. في القرن الثامن عشر برزت مدينة جديدة دخلت ميدان المنافسة وهي اللاذقية، وبالتالي تغيّر المثلث وأصبح أقرب إلى المربع غير متساوي الأضلاع.
وبين كل مدن بلاد الشام، وعلى طول الساحل، كانت طرابلس بلا شك الأكثر استقراراً، وبقيت تشكل "رباطاً" مسلماً قوياً يتمتع بعمق مفتوح ورحب كانت دائماً على وئام معه، وكان الحضور المسيحي فيها متأصلاً وتاريخياً، بل هي كمدينة فتحت أبوابها لمحيطها المسيحي وتفاعلت معه بقوة وتحولت عاصمة شتوية لكثير من البلدات الريفية الشمالية. لقد أكدت طرابلس نفسها كزعامة بين المدن، بل كعاصمة كانت في الغالب تفرض رغباتها إذا ما تعارضت حتى مع مصالح كبار الولاة العثمانيين، وخاصة منذ القرن الثامن عشر.
وصفت طرابلس في تلك الفترة بأنها المرفأ شبه الوحيد على ساحل بلاد الشام، وانعكس هذا ازدهاراً وحركة تجارية بالغة التأثير والاتساع، وقد وُصِفت المدينة من قِبَلِ العديد من الرحّالة الذين زاروها والقناصل الذين كتبوا عنها، بأنها عاصمة مزدهرة في ولاية غنية، وعلاقتها بالتجار الأوروبيين كانت وأكثر تسامحاً من باقي المدن السورية الكبرى. كانت طبيعة الأرض وغزارة المياه التي ساهمت بقيام عدد كبير من المطاحن ومعاصر الزيتون قد أدهشت مخيلة العالم الدمشقي "عبد الغني النابلسي" وغيره ممن زاروا طرابلس في ذلك الحين.
كانت بيروت في القرن التاسع عشر أشبه بقرية كبيرة لا يتجاوز عدد سكانها الستة آلاف، مقابل خمسة عشر ألف نسمة تقريباً لطرابلس. لكن مجموعة من العوامل الاقتصادية الداخلية والخارجية ساهمت في تحويل بيروت إلى نقطة جذب واستقطاب كثيفة على صعيد الاقتصاد والمال والتجارة والتيارات الفكرية والمدارس، فبدأت الخطوة الأولى باعتماد مرفأ بيروت بديلاً لمرفأ طرابلس.
ثم نقل مركز الولاية من طرابلس إلى بيروت عام 1888. كما زاد في عمق الفجوة ما نتج عن إنشاء الطريق الحديدي من حماة الى حمص فإلى رياق ثم إلى بيروت وصولاً بالمعاملتين. فلا طرابلس اتصلت ببيروت غرباً، ولا بحمص شرقاً، فبقيت على هامش التواصل بين شبكة المدن، كما يصف ذلك حكمت شريف بحزن في كتابه عن تاريخ طرابلس.
أصبحت البضائع والسلع تُنقل إلى رياق، ملتقى خطي حمص وحماة وبيروت ودمشق، ومنها تذهب إلى مرفأ بيروت، بخلاف طرابلس التي تدهور دور مرفأها إلى أبعد الحدود.
كان على طرابلس أن تنتظر حتى العام 1921 لإعادة مد الخط الحديدي بين طرابلس وحمص في زمن الانتداب الفرنسي، وتحديداً بعد مطالبات كثيفة وملحاحة من قِبَل القيادات المحلية والصحافة وغيرها. ولم يكن مد الخط الحديدي كافياً، فقد أصبح المرفأ نفسه متخلفاً مقارنة مع غيره. كان يحتاج الى توسيع وتحديث، وهذا ما امتنع الانتداب عن فعله، مما دفع الطرابلسيين قادة وصحافيين إلى رفع الصوت، ومن هؤلاء لطف الله خلاط مؤسس وصاحب مجلة الحوادث الذي كتب آنذاك: "هل في طرابلس أوبئة؟ أليس عاراً أن يكون ميناؤها خالياً من البواخر وقد كان في عهد الأتراك حافلاً بها، أيرضى الانتداب أن نسير إلى الوراء؟". بل وكتب "ثلاث عشرة ليرة في طرابلس وسبعون قرشاً في بيروت" ينتقد فيها بقسوة الفرق الشاسع بين رسم المرفأ في بيروت عنه في طرابلس؟
وإمعاناً من الانتداب في التمييز والتهميش، تمت إنارة بيروت بالكهرباء فيما بقيت طرابلس تغرق في الظلام، بل جاءت التقسيمات الإدارية الفرنسية لتضيف إلى الظلم قهراً بعد سلخ الأقضية الملحقة بطرابلس، والأمر بنقل مركز المتصرفية من طرابلس الى زغرتا. وتتابعت القرارات الجائرة مثل إلغاء المحكمة الاستئنافية في طرابلس، وغيرها.
طرابلس أبرز ضحايا الحرب العالمية الأولى:
لقد بدا واضحاً مع تطورات الحرب العالمية الأولى وتداعياتها الأثر الكارثي على المدينة – العاصمة طرابلس، فقد أمعنت سلطات الانتداب/ الاحتلال في دفعها نحو التهميش، بل مورست ضدها سياسة عقابية منذ رفض طرابلس لإعلان "لبنان الكبير" مطلع العشرينات. فمشروع الدولة المعلنة حينها كان يتطلب كسر إرادة المدينة المتمردة وإخضاعها، للتخلي عن مناصرتها لمشروع الدولة العربية. بدا واضحاً حينها أن المدينة تدفع ثمن مواقفها وانتماءها وهويتها العروبية. فطرابلس اتسمت علاقتها بالانتداب/ الاحتلال ودولته الوليدة بالصدام منذ رفضت المدينة إعلان الدستور عام 1926 إلى إضراب الـ36 يوماً الشهير عام 1936، وهي صدامات سقط فيها الشهداء والجرحى، وكانت عماد حركة الاستقلال وخروج الانتداب وجيوشه.
ومع إن طرابلس انخرطت عن قناعة وصدق في مشروع الدولة بعد الاستقلال، وهي قناعة لم يفرضها أحد بالقوة والقهر، بل فرضتها تطورات الواقع الوطني الذي كان يفترض شراكة وطنية صادقة ومنصفة وعادلة، إلا أن منطق الامتيازات والهيمنة الطائفية الذي حكم لبنان "ما بعد الاستقلال" جعل طرابلس تخسر على أكثر من صعيد، بل جعلها أحد أبرز ضحايا الحرب العالمية الأولى في المنطقة.
فهذه المدينة - العاصمة خسرت في اندراجها ضمن مشروع دولة الاستقلال، امتدادها الاقتصادي مع مثلث بلاد الشام، ودورها الريادي فيه، ولم تربح في المقابل اندماجاً ولا دوراً اقتصادياً واجتماعياً يتناسب وحجمها أو تاريخها على المستوى الوطني اللبناني. فهي خسرت على الجانبين، ما كان لها في شراكتها القديمة والتاريخية، ولم تربح في شراكتها الجديدة والمستقبلية ما تستحقه. فانعكس هذا علاقة صدامية وملتبسة مع دولة الاستقلال، وتحولت أحياؤها وأسواقها إلى محيط يلفُّه الحرمان والفقر، في ظل مركزية تنموية واقتصادية وإدارية وسياسية، حولت طرابلس إلى هامش مديني يجتمع على أحياء مفككة، وعلى اقتصاد مخلّع الأسس ومقطوع الجذور مع محيطه، وفي ظل مرافق ومشاريع وخدمات فقيرة الفعالية والتأثير وفاقدة للقدرة على المنافسة والاستقطاب.
خلاصات من الماضي برسم المستقبل:
إن أفول دور مدينة طرابلس بدا سريعاً بعد أن كان نفوذها ودورها الاقتصادي قد حوّلها إلى المرفأ الأهم لبلاد الشام الداخلية كدمشق وحمص وحلب وصولاً إلى مناطق الفرات وإلى مصر جنوباً. إن دراسة مجمل العوامل التي ساعدت على تطور مدينة طرابلس خلال عدة عقود ثم أفول هذا الدور وتقلصه في القرن التاسع عشر وإلحاقها بولاية بيروت ثم بدولة لبنان الكبير تحتاج إلى تحليل أوسع وأعمق خصصنا له في كتابنا "مجتمع طرابلس" فصلاً كاملاً. إلا أن ما يهمنا في معرض هذا التحليل الخروج ببعض النتائج أهمها:
1 – أن لا أحد يستطيع أن ينكر بعد اليوم أن الحرمان والفقر هما الحليفان الطبيعيان للعنف والكراهية والتطرّف، وهما البيئة المناسبة لنشوئها وتطورها. وهو ما يفسر ظهور حالات من الرفض والتطرف المغالية أحياناً في بعض أحياء المدينة الأكثر فقراً وحرماناً، كما كان الحال في العديد من المدن العربية التي عانت ما يشبه ذلك من الحرمان والتهميش، رغم أن ذلك يتناقض والطبيعة التسامحية والوسطية، بل يتعارض مع ثقافة الاعتدال التي طالما اشتهرت بها الثقافة المدينية عموماً وسنّة لبنان في مدن طرابلس وبيروت وصيدا.
2 – أنَّ لبنان بحاجة إلى اندراج كل طوائفه ومدنه وأبنائه في بنية الوطن، وإن أبناء طرابلس في القلب منه، باتوا أكثر قناعة من ذي قبل، وخاصة انهم دفعوا الأثمان الغالية لمجمل التحولات العميقة التي أصابت المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى، بأنه لا يمكن بناء لبنان الجديد في ظل سياسة التهميش والافقار، وأنه لا بديل أمام مكونات هذا الوطن من العيش المشترك الذي لا تقوم له قائمة ولا يمكنه الصمود إلا في ظل تنمية حقيقية وعادلة بين المناطق والطوائف والمواطنين.
3 – أنه آن الأوان لسياسة المعاقبة والتهميش التي أصابت مدينة طرابلس أن تتوقف، بل آن الأوان لسياسة "التمركز التنموي" الشديد الذي طبع السياسة الاقتصادية للدولة منذ الاستقلال أن تسقط إلى غير رجعة لتتبنّى حقيقة الإنماء المتوازن، وهو إنماء ينبغي، كي يعوض لطرابلس ما فاتها، أن لا يكون اعتباطياً، بل وفق تخطيط ورؤية مستقبلية لدور يدمج اقتصاد المدينة ودورها الاجتماعي والسياسي والثقافي في "بنية الوطن" ويدفعها إلى الانخراط في شراكة حقيقية وعادلة.
4 – ان طرابلس على مستوى أهلها وعائلاتها وتاريخها، مثلت في مسيرتها التاريخية الطويلة نموذجاً متقدماً من العيش الواحد، على الرغم مما تعرضت له من إهمال وتحديات، وقد نسج الطرابلسيون بين بعضهم البعض عيشاً واحداً تجسد على مر الزمن، عبر تقاليد عريقة من العلاقات والأخوة، قوامها التسامح والانفتاح والتعاون بين مختلف العائلات. فهذه الثقافة من العيش المشترك الواحد ليست ثقافة عابرة في طرابلس، بل هي بناء متراكم ونسيج حر، صُنع على مدى تاريخ طويل، ولن يستطيع تشويهه ممارسات حمقاء لزمر لا تزال تتعيش على ثقافة الفتنة والبغضاء.
ومن لا يراجع تجاربه لا يمكنه التطلع إلى بناء المستقبل بثقة وثبات، فلا قائمة لطرابلس بمعزل عن الوطن، كما أنه لا يمكن للوطن أن يكون معافى وطرابلس مريضة، أو بمعزل عن طاقات أبنائها واندراجهم في بنيته. ولا يغيب عن البال أن القيادات السنية، والطرابلسية تحديداً، الجديدة منها أكثر من القديمة، تتحمل مسؤولية مهمة وأساسية في هذا المجال. فالعدل والتنمية المتوازنة هي رافعة الحداثة والإصلاح، وهي المدخل الأول لتحديث المدينة وتصحيح أخطاء الحقبة المنصرمة، واستدراك التصحيح بالإصلاح.