ساعة طرابلس...
إن حكت
رياض فؤاد دبليز
الآثار التركية في طرابلس
من أبرز الآثار التي خلفها الحكم التركي العثماني، في طرابلس، السراي الحكومي والساعة في ساحة التل، مستشفى عزمي بك في أبي سمراء والتكية المولوية الرابضة على ضفة نهر أبي علي، تحت القلعة.
ولعل، ساعة طرابلس، أو كما يطلقون عليها إسم ساعة التل، هي من أبرز هذه المعالم، لموقعها في الساحة الرئيسية من المدينة، وإختلاطها بالطرابلسيين والغرباء الذين يؤمون المدينة كل يوم..
فقد بنيت عام 1901، احتفاءً بمرور 25 عاماً على تولي السلطان عبد الحميد الخلافة العثمانية عام 1876، وهي ذات وجوه أربعة، تقف ببنائها الحجري المؤلف من خمس طبقات، شامخة وسط ساحة التل، إلى جانب الحديقة العامة، يتعرف الناس بواسطتها إلى الوقت نهاراً، ويأنس السكان إلى رنين دقاتها في هدأة الليل، حيث يتعرفون إلى الوقت من خلال عدد دقاتها...
وقد عاصرت ساحة التل، أحداث طرابلس، منذ مطلع هذا القرن، فكانت تراقب كل ما يجري في طرابلس والميناء، كما تطل بقامتها الفارعة، على مرتفعات أبي سمراء والقبة، وترقب بثاقب بصرها، منطقة البداوي، حيث منشآت النفط ومصافي البترول، وبركة السمك المقدس...
وقد تعرضت الساعة، خلال سنوات الأحداث الأخيرة، لإعتداءات بعض الجهلة من المسلحين الذين كانوا يتباهون بدقة إصابة الهدف، فهذا يراهن على إصابة الرقم واحد وذاك على الرقم خمسة... فكانت عقارب الساعة، بوجوهها الأربعة، تتساقط الواحدة تلو الأخرى، وأرقامها تختفي أثر بعضها... حتى باتت خرساء عوراء!..
ولمعرفة تفاصيل بعض ما كان يحدث في المدينة، كان لا بد من زيارة ساعة التل، والإعتذار لها لما تعرضت له من التعدي والمهانة، ومن ثم إغتنام فرصة إستراحتها الإجبارية عن العمل طوال خمسة عشر عاماً، علها تروي لنا ما كان يجري في طرابلس خلال هذا القرن.
وبعد مشقة الصعود إلى حيث تقبع في البرج المخصص لها في أعلى البناء، كان لنا معها حديث طويل وطريف، روت فيه بعضاً من تاريخ طرابلس، منذ مطلع هذا القرن.
وكأنها كانت تنتظر منا هذه الزيارة، فبادرتنا:
وماذا تنتظرون من إبنة التسعين أن تتذكر؟
قلنا الكثير الكثير، لأنك لا تزالين في عمر الشباب!
وكأننا في هذا الجواب قد أصبنا الهدف، والغواني يغرهن الثناء، فأنسيناها ما لحق بها من أذى، واستوت في جلستها وقالت:
قد لا أستطيع أن أروي تفاصيل كل ما حدث في المدينة، غير أن هناك بعضاً منها لا يزال عالقاً في الذهن، سأرويه بعيداً عن التفاصيل الدقيقة، وحتى لا نقع في إشكالات لا مجال للخوض فيها اليوم، وأعذروني إذا ما نسيت أشياء قد تكون هامة، وقد أتذكرها في جلسة مقبلة...
وأفتر ثغر الساعة عن ضحكة عريضة، وأخذت تتلفت إلى هذه الناحية وتلك، وكأنها تستعيد ذكريات الماضي قالت:
يوم الفرسان
في سنواتي الأولى، كنت وحيدة تحيط بي كثبان الرمال من كل جانب، وليس لي من أنيس سوى سراي الحكومة، التي تربض أمامي، وأبنية قليلة متناثرة هنا وهناك...
ولعل يوم الجمعة كان من أبرز أيام الأسبوع، إذ تنشط فيه حركة الطرابلسيين الذين كانوا ينتقلون من أحياء المدينة الداخلية إلى البساتين أو شواطئ البحر أو الضواحي، لقضاء عطلتهم، بينما كانت ساحات الرمول المحيطة بي، تكتظ بالفرسان الذين يتقاطرون من جميع الأنحاء، كل على صهوة جواده، بيده رمح أو سيف، يهزجون ويمرحون، ويقومون بالعاب فيها من ضروب الرجولة والفروسية، ما يدهش الجمهور، الذي كان يجلس على تلال الرمل المحيطة بالمكان.
وللدلالة على شغف الجمهور بهذه الالعاب، وحرصه على مشاهدتها، أن الكثيرين منهم كانوا يأتون منذ الصباح ومعهم طعامهم، فيظلون حتى المساء كي لا يفوتهم شيء مما يقوم به الفرسان من العاب وبراعة في الفروسية.
* * *
الاحتفالات في السراي
وفي مناسبات ذكرى تولي السلطان الخلافة، أو عندما تتحفنا احدى زوجاته بمولود جديد، تشهد سراي الحكومة نشاطاً غير عادي، فيحضر حاكم المدينة وكبار معاونيه، بينما تصطف ثلة من الجيش مع فرقتها الموسيقية، تعزف الموسيقى لدى قدوم احد المهنئين من الأفندية، بينما كان العزف يشتد ويقوى، عندما يحضر البيك، في حين كان يسود الهرج والمرج وتعنف الموسيقى وتطول، دلالة على وصول أحد الباشوات!...
الوحش القادم من السماء
اول طائرة فرنسية تهبط في طرابلس
في كانون الأولى من عام 1913 أصابني رعب شديد، وأنا لا أزال طرية العود فتية، فشخصت بعيوني نحو السماء، أراقب ذلك القادم الغريب، الذي يدوي صوته في أرجاء المدينة، ترتجف له القلوب والمفاصل، فكنت كمن يفتش عن ملجأ أختبئ فيه، وكنت أصرخ: يا للهول... ما هذا الطائر العملاق؟!
ولم أصح من هول المفاجأة، حتى حطت أول طائرة في طرابلس، وهي فرنسية، فوق الرمال في المكان الذي يقوم عليه اليوم القصر البلدي والدوائر العقارية والمالية، فأخذت أنظر بإستغراب إلى هذا الطائر الغريب، وما هي إلا لحظات حتى قفز من داخله الطيار "فيدرين" "Vedrine" وزاد خوفي وأنا أردد: بربكم ما هذا الحيوان الذي يخرج من داخله إنسان؟!
ولكن سرعان ما تبددت مخاوفي، عندما رأيت، أحد رجالات المدينة المعروفين المرحوم فهيم آغا كفرسوسه، صاحب مقهى فهيم المعروف حتى اليوم، وكان قواص قنصل فرنسا آنذاك، يتقدم بخطى عسكرية، بلباسه التقليدي، يحمل عصا القنصلية الطويلة، ليقف أمام الطائرة، حارساً لها طيلة مدة وجودها في طرابلس.
ولم يهدأ لي بال ويطمئن لي خاطر، تجاه هذا الوحش القادم من السماء، إلا بعد أن تدفقت الجماهير، تحيط بالطائرة تتفرس فيها مندهشة مذهولة، بهذا الطائر العملاق!..
ومنذ ذلك الوقت يتندر الطرابلسيون بهذه الطائرة:
طير طار بالسـما احتـار فيه العلمـا
لا لحمـه يؤكـل ولا عظمـه يرتمى
* * *
ويلات الحرب العالمية الأولى
الجوع والكوليرا... حصد الألوف
وكما كنت أطرب لهذه الأحداث، فقد مرت علي أيام حزن وكآبة، خلال الحرب الكونية الأولى، حيث كنت أشاهد البؤس والشقاء، والجوع والحرمان، والأمراض الفتاكة، التي أصابت معظم سكان المدينة.
فقد سبق شباب طرابلس ورجالاتها إلى الجندية والخدمة في الجيش التركي، عندما اندلعت نار الحرب عام 1914، ولم يبق في المدينة سوى الشيوخ والنساء والأطفال.
وقد طال أمد الحرب، وطالت معه معاناة الأهلين، وإنتشر وباء الكوليرا والتيفوس إلى جانب المياه الملوثة التي كانت تشربها المدينة، والجوع القاتل الذي لم يرحم أحداً، فكانت الجثث هنا وهناك، منها من كان يصارع الموت، وقد افترش الأرض لا يقوى على الحركة، ومنها من قضى نحبه!
وكان من الجرأة بمكان، ان يحمل شخص رغيفاً من الخبز او كيساً من الطحين ويمشي به في الشارع، لأنه كان يعرض نفسه للمخاطر، بسبب كثرة الجائعين الذين كانوا ينتظرون الموت، وليس بمستطاعهم الحصول على كسرة خبز!...
ولعل ما يدمي العين ويؤلم النفس ان الذين كانوا يذهبون إلى الجندية، منهم من لا يعود ابداً، اما الذين كتب لهم الحظ وعادوا، فكانوا لا يجدون من افراد عائلاتهم إلا القليل، الذين نجوا من المرض والجوع اثناء غيابه!...
وهكذا عاشت المدينة اربع سنوات مأساة الحرب، حتى العام 1918، وهي تأمل بالتخلص من الاستعمار العثماني، وكم كانت دهشتي كبيرة عندما فوجئت بساحة التل وقد غصت بسيارات غريبة وجنود بأزياء عسكرية جديدة، انهم قوات فرنسية، لمستعمر أجنبي جديد.
إنشاء الحديقة العامة
وكم كنت اتوق لمن يؤنس وحدتي، ففي العام 1922 أنشأت بلدية طرابلس، الحديقة العامة، فكنت أطل على المتنزهين الذين يجالسون الزهور ويستظلون الاشجار، في هذه الحديقة اليتيمة، والتي شهدت على مر السنين، احتفالات عديدة، تكريماً لملوك ورؤساء وامراء العديد من الدول.
ومن الطريف ان احدى الشجرات التي غرست في الحديقة، ظلت تنمو بشكل غريب، حتى اضحت تظلل مساحة لا يقل قطرها عن خمسين متراً، كان يتفيأ في ظلها العديد من المسنين، ويقضون اوقات فراغهم يتحدثون ويتسامرون حتى اطلق عليها اسم "شجرة التنابل".
ولا ازال اذكر ذلك الرجل الذي اخذه النعاس، غروب يوم صيف وراح في نوم عميق على المقعد الخشبي، وقد غادر الجميع الحديقة واغلق الحارس ابوابها دون ان ينتبه إلى ذلك العجوز النائم على المقعد، والذي لم يصح من نومه إلا على صراخ ذويه في منتصف الليل!..
وفي العام 1990 هبت عاصفة هوجاء، اقتلعت هذه الشجرة من مكانها، رغم ضخامتها، فعمدت البلدية إلى تقطيعها وتشذيبها وابقت على جذعها الرئيسي واعادت زرعه في مكانه، وراحت تنمو من جديد.
* * *
شهامة طرابلسيين
طرابلسي ينقذ اعضاء بعثة الرهبانية الكرملية من الموت والجوع
يتبع....