رحلة خالد زيادة الطرابلسية والعربية
بقلم محمد ابي سمرا
نشرت في جريدة النهار بتاريخ 15/10/2006 من التأريخ الاجتماعي لمدينته طرابلس، الى تحديث التنظيم الاداري في سوريا ولبنان أواخر الزمن العثماني، وصولاً إلى بدايات الحركة العربية مع الأمير فيصل، ومن تطور النظرة الاسلامية الى اوروبا ودور الفقهاء والمثقفين في الحياة العامة في بلاد الشام ومصر في الحقبتين العثمانية والحديثة، إلى العوامل الاجتماعية لولادة الكتاب المحدثين، جال خالد زيادة جولته غير المكتملة في الكتابة والتأليف والتعليم الجامعي، معرّجاً على المشاركة في الحوار الاسلامي – المسيحي.
رحلة خالد زيادة الطرابلسية والعربية
بقلم محمد ابي سمرا
نشرت في جريدة النهار بتاريخ 15/10/2006
من التأريخ الاجتماعي لمدينته طرابلس، الى تحديث التنظيم الاداري في سوريا ولبنان أواخر الزمن العثماني، وصولاً إلى بدايات الحركة العربية مع الأمير فيصل، ومن تطور النظرة الاسلامية الى اوروبا ودور الفقهاء والمثقفين في الحياة العامة في بلاد الشام ومصر في الحقبتين العثمانية والحديثة، إلى العوامل الاجتماعية لولادة الكتاب المحدثين، جال خالد زيادة جولته غير المكتملة في الكتابة والتأليف والتعليم الجامعي، معرّجاً على المشاركة في الحوار الاسلامي – المسيحي.
بدأ أبحاثه الجامعية في الاجتماعيات مساهماً في التطوير المحلي لهذا الحقل الجديد، نسبياً، في الثقافة العربية. فرسم، من خلال سجلات المحكمة الشرعية في طرابلس، الصورة التقليدية للمجتمع المديني. وحين كانت معظم الابحاث المحلية تتركز على نظرة اوروبا الى المجتمعات الاسلامية، قام ببحث معاكس حول تطور النظرة الاسلامية الى أوروبا، وهو بعد نشره هذا البحث عام 1986، يحاول اليوم تطويره وتعميقه ليتبعه ببحث آخر في الميدان نفسه.
ولادته في طرابلس، وتحصيله التعليمي في مدارسها، وإقامته الدائمة فيها، سوى في سنوات دراسته في الجامعة اللبنانية وفي فرنسا، وتعليمه في فرع معهد العلوم الاجتماعية في مدينته، إضافة إلى جولاته البحثية في تاريخها الاجتماعي، جعلته على معرفة "حسية" بعاصمة لبنان الشمالي، تشبه معرفته لبيته وأهله، هو المتحدر من أسرة عادية غير سياسية، والساعية إلى تعليم أولادها سعياً دؤوباً على المثال اللبناني الذي رفع طلب العلم إلى المرتبة الأعلى في سلم القيم الاجتماعية طوال الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي.
ولأن المعرفة الاجتماعية قد لا تفي، أحياناً، للقبض على النبض الداخلي لحياة المدينة وروحها، اتجه خالد زيادة الى الكتابة السردية، فكتب "مقاطع من سيرة مدينة (طرابلس) على البحر المتوسط" في كتاب نشرته "دار النهار" عام 1994، في عنوان "يوم الجمعة يوم الأحد". وفي هذا الكتاب الصغير في حجمه، نقرأ فصولاً من المنازعة التي عاشتها طرابلس بين كونها مدينة بحرية متوسطية تنفتح على حداثة القرن العشرين في زمن متأخر، وانكفائها التقليدي على نفسها أو على الداخل.
سيرة خالد زيادة لمدينته المتنازعة بين التقليد والتحديث جعلها "ثلاثية" متصلة ومتعاقبة. فبعد ثنائية "الجمعة والأحد" كتب ثنائية أخرى عنوانها "حارات الأهل، جادات اللهو"، ثم ثالثة عنوانها "بوابات المدينة والسور الوهمي"، عن "دار النهار" ايضاً، قبل ان يأخذ شغف السرد الكاتب إلى رواية "حكاية فيصل"، أي الامير فيصل، كمعلم إجتماعي – سياسي للحركة العربية إبان الحرب العالمية الاولى في ما كان يسمى بلاد الشام.
وحكاية طرابلس في ثلاثية خالد زيادة، هي حكاية المنازعة الاجتماعية – السياسية التي يمكن التعرف اليها من الرموز الكثيرة: فمدينة التحديث العثماني تقابلها مدينة التحديث الفرنسي. والمدينة الكولونيالية غريمتها المدينة التقليدية القديمة وسورها. ومدينة المسجد الكبير تقابلها مدينة السرايا. ومدينة الجادات والساحات العامة تحاصر مدينة السوق القديمة والحارة. والمدينة الداخلية تقابلها المدينة البحرية والمرفأ. ومدينة الدولة، أخيراً، تقف في وجهها مدينة الأهل والعامة. وإذا كانت طرابلس هي مدار هذه السيرة المعقدة، فإن مدننا العربية والاسلامية كلها لا تزال عالقة في هذه الثنائيات المأسوية.
وثلاثية خالد زيادة الطرابلسية هذه مع مؤلف الزميل الراحل سمير قصير عن تاريخ بيروت الذي تعدّه "دار النهار" للنشر قريباً بالعربية، تشكل ملامح بارزة في التأريخ الاجتماعي للمدن في المشرق، ومحطات ثقافية أساسية في المعرفة البحثية المحدثة.
ولا تكتمل رحلة خالد زيادة هذه – وهي لا تطلب الاكتمال أصلا – إلا بإضافة كتابه الجديد في مقتربه: "كاتب السلطان: حرفة الفقهاء والمثقفين" في الحقبات المملوكية والعثمانية والحديثة. وقد يكون الفصل الأهم في هذا الكتاب ذاك الذي يعرّفنا على ما سميناه "عصر النهضة" في مصر ولبنان، معرفة جديدة. أي معرفة الأبعاد والأدوار الاجتماعية لحركة المثقفين، وهم بحسب الباحث، الفقهاء والعلماء وكتاب الدواوين، قبل ولادة المثقف أو الكاتب الحديث، في عصر النهضة الأدبية في لبنان وبلاد الكنانة، على وجه الخصوص. وقد لاحظ خالد زيادة في هذا المجال أن الكتاب المحدثين في مصر النهضة، ضئيلو الانفصال عن مؤسسات الدولة الاجتماعية والسياسية، في مقابل ولادة الإرهاصات الأولى لهذا الانفصال في لبنان، حيث اتخذت حرفة الكتابة منحى تعبيرياً جديداً أدى الى ولادة الأديب والمثقف الحديثين في الاجتماع المحلي.
لكن ماذا يقول خالد نفسه عن نشاطه الكتابي؟
"في زمن سابق، بدأتُ - يقول – بكتابة تراوح بين التأريخ وتأريخ الفكر والاجتماع. أما كتابتي عن المدينة في ثلاثيتها الطرابلسية، فلم تكن ممكنة لولا تجربتي مع سجلات المحكمة الشرعية ومع التاريخ العثماني والمعرفة الاختبارية في ميادين الاجتماع والانتربولوجيا. فالمدينة عالم متنوع لا يلم به نوع كتابي واحد. لذا وجدت ان رؤيتي المنبثقة من عيشي في المدينة قد يكون مفتاح هذا العالم الواسع في تنوعاته وتشعباته التي تفوق الحصر".
عنوان عريض قد يجمع كتابات خالد زيادة واهتماماته: تحديث المجتمعات العربية من دون قطيعة حادة مع تاريخها وتراثها، لئلا تقع الأزمة. الأزمة التي قد نكون وقعنا فيها اليوم، أو أننا على وشك أن نقع فيها.