وتأثيره على المجتمع المحلي في أواخر القرن الثامن عشر
الدكتور عبد الغني عماد
أستاذ في الجامعة اللبنانية
على مستوى السلطنة شكل الكتّاب المجموعة النشطة ضمن الهيئة الحاكمة، فقد أمسكوا بفرعين في الديوان الهمايوني: المراسلات والخزينة. وكان عملهم يتميز بالتنظيم والدقة. ويعود ذلك الى كون الكتبة صنفاً حرفياً تنطبق عليه كل قواعد التنظيم الحرفي. فكل قسم منهم كان على رأسه معلم أو "خوجا" يعاونه عدد من "الخلفا"، الذين يعطون التوجيهات الى الكتبة ويشرفون على المتعلمين الجدد "الشاغرد". والتعليم الذي كان يتلقاه التلميذ كان يشتمل على الفنون الخاصة بأهل حرفة القلم من خط وحساب وإنشاء، كما يشتمل على المعارف الإسلامية من فقه وأدب وتاريخ وجغرافيا، وكان العلماء يشرفون على هذا الجزء من تعليمهم.
تنامي دور الكتّاب غير المسلمينوتأثيره على المجتمع المحلي في أواخر القرن الثامن عشر
الدكتور عبد الغني عماد
أستاذ في الجامعة اللبنانية
على مستوى السلطنة شكل الكتّاب المجموعة النشطة ضمن الهيئة الحاكمة، فقد أمسكوا بفرعين في الديوان الهمايوني: المراسلات والخزينة. وكان عملهم يتميز بالتنظيم والدقة. ويعود ذلك الى كون الكتبة صنفاً حرفياً تنطبق عليه كل قواعد التنظيم الحرفي. فكل قسم منهم كان على رأسه معلم أو "خوجا" يعاونه عدد من "الخلفا"، الذين يعطون التوجيهات الى الكتبة ويشرفون على المتعلمين الجدد "الشاغرد". والتعليم الذي كان يتلقاه التلميذ كان يشتمل على الفنون الخاصة بأهل حرفة القلم من خط وحساب وإنشاء، كما يشتمل على المعارف الإسلامية من فقه وأدب وتاريخ وجغرافيا، وكان العلماء يشرفون على هذا الجزء من تعليمهم.
يقف رئيس الكتاب على رأس المستشارين في الديوان ويمثل مركزاً مساوياً للدفتردار وأغوات العسكر. إلا أن دوره قد تعاظم في القرن الثامن عشر حتى شغل بعضهم منصب الصدر الأعظم. لقد تحول منصب رئيس الكتاب من خبير متخصص في شؤون المحاسبة والرسائل وخدمات الإدارة إلى المشاركة في توجيه سياسة الدولة، كما ساهم عدد كبير منهم في تقديم الأفكار الإصلاحية والمشاريع الهامة والتي تبنى بعضها عدد من السلاطين .
وإذا كانت فئة الكتاب قد لعبت دوراً مؤثراً ونامياً في العاصمة وفي محاولات التحديث التي قام بها السلاطين، فإن دور هذه الفئة في الولايات، وتحديداً في مدن بلاد الشام لا يزال يحتاج الى مزيد من الدراسة والتحليل. والواقع إن النصف الثاني من القرن الثامن عشر عكس تبديلاً في المجتمع والإدارة، فأمام تراجع سلطة إستامبول المركزية وممثليها في الولايات، لجأ الحكام المحليون، إلى توسيع دور الكتّاب والمحاسبين المسيحيين واليهود. ونجد أن الاستعانة بالمسيحيين، الذين كانوا أكثر عدداً من اليهود، والمنتشرين في سورية ولبنان وفلسطين، قد تمت، لدى آل العظم في دمشق، بنسبة ضيّقة، ولدى أمراء الشوف في جبل لبنان، ولدى مشايخ الشيعة في جبل عامل. ويقدم "ميخائيل بريك" أخباراً تشهد على تقدم دور المسيحيين فيما بعد، منذ أيام الوزير إسماعيل "الذي أخذ من حمص اثنين نصارى وهم نعمة ويوسف، وعملهم يازجية، وترقوا عنده، كذلك ولادهم بعدهم ترقوا، وانشهر اسم بيت اليازجي بحمص وتفرعنت النصارى بزمانه" . ويقول بريك عن التطور الذي أصابه المسيحيون في وسط القرن الثامن عشر: "ما رأيت تاريخ يخبر بأنه صار لهم عز وجاه وسيط وسطوة وذكر مثل مدة العشر سنين الماضية في حكم أسعد باشا.." .
وعلى العموم فقد أظهر بعض الباحثين، نماء الدور الذي لعبه المسيحيون، فيذكر "حوراني" "أن أحد مظاهر الإحياء المسيحي للثقافة كانت انتشار معرفة العربية بين المسيحيين، لقد قرر الكهنة المسيحيون تعلُّم اللغة العربية من الرجال الوحيدين الذين يستطيعون تعليمهم إياها، وهم المختصون المسلمون في علوم اللغة، ومن بين هؤلاء نذكر جرمانوس فرحات (1670 – 1732م) الذي درس اللغة العربية على يد إبراهيم النحوي في حلب. وفي تلك اللحظة ولد الأدب العربي المسيحي الحديث" ، ولم يكن جرمانوس فرحات، الذي اصبح مطران حلب للموارنة فيما بعد، قواعدياً فحسب بل شاعراً استعمل علم العروض الكلاسيكي العربي في مدح المسيح ومريم العذراء والكنيسة الكاثولوكية، وقد نما حوله في حلب مجموعة من الشعراء. إن ما ظهر لم يكن حركة شعرية فقط، بل بدأت معه حركة الكتّاب المسيحيين الذين تركوا أثراً بالغاً في ذلك الحين.
لقد أدى ذلك إلى نماء البيئة المسيحية في المدن والأرياف وتكونت عائلات من محترفي الكتابة مثل عائلة اليازجي التي خدمت لدى حكام دمشق وأمراء الجبل في لبنان، وعائلة الصباغ التي عملت في خدمة الظاهر عمر وأحمد باشا الجزار، وكذلك أولاد مشاقة الذين وزعوا خدماتهم لدى الجزار وبشير الثاني في جبل لبنان ومحمد علي في القاهرة، وبرزت عائلة فارحي اليهودية التي توزع أبناؤها في خدمة الولاة والحكام في عكا ودمشق والقاهرة وإستامبول.
ولا نجد صعوبة في رصد دور الكتاب المسيحيين واليهود، فالأعمال والتواريخ التي خلّفوها بأنفسهم، كذلك التواريخ التي سجلها الكهنة ورجال الدين المسيحيون تقدم صورة واضحة عن ذلك . وتبرز في نهايات القرن الثامن عشر "عكا" التي أصبحت مركز استقطاب لهؤلاء الكتاب النازحين من مناطق الشام المختلفة. وخلال قرن من الزمن كانت عكا، التي خضعت للظاهر والجزار وسليمان وعبد الله، تنمّي إدارة تعبّر عن تحالف العسكر والكتّاب الإداريين.
وأول الكتّاب المسيحيين البارزين في عكا، الذين مهّدوا الطريق أمام تطور دور الكتّاب هو إبراهيم الصباغ، الذي رسم سياسة الظاهر عمر المالية وأسس له إدارة تملك سجلاتها الخاصة بها ولا تخضع لإشراف إستامبول المباشر. وقد تابع الجزار هذه السياسة الإدارية مستعيناً "باليهودي حاييم فارحي" . وقد انتشر في عهده وعهد خليفتيه الكتبة في كل المدى الذي يخضع لعكا من اللاذقية حتى غزة. فقد كان "الصراف وشريك الرأي بشؤون الحكام وحفظ مال الخزينة المعلم حاييم فارحي، وهو الرئيس على سائر الكتبة في داخل عكا وخارجها، والذي يريده يرفعه والذي يريده يبقيه بدون معارضة من طرف أحد حتى المتسلمين إذا أراد أن يعزل منهم ويولي فلا يتعارض.. وإذا أراد أن يكرم من الخزينة فيعطي بدون معارضة. فقد كان يسند ما يفعله بقوله أفندينا يقول كذا ويأمر كذا وأنعم بكذا، مع أن الوزير ما له علم بذلك. والحاصل أنه كان شريك الحكم". إن هذا النص يوضح مدى النفوذ الواسع الذي تمتع به رئيس الكتاب في ولاية سليمان باشا العادل (1804-1819م). وقد قمنا، استناداً إلى كتاب ومذكرات إبراهيم العورة، بتنظيم جدول استخرجناه من عرضه وشهاداته المختلفة على مدار صفحات الكتاب، وعلى امتداد أكثر من أربعمائة وثمانين صفحة، يرصد تركيبة الجهاز الإداري كما كان موزعاً على كل المناطق التابعة لولاية صيدا وعكا الملحقة بها في ذلك الحين، فتبين لنا أن أغلب أعضاء هذا الجهاز الإداري كانوا من المسيحيين، ويربط بين أغلبهم عنصر القرابة، مما يؤكد وجود نزعة التخصص الحرفي أيضاً لدى فئة الكتاب الإداريين المسيحيين. وقد قام هؤلاء الكتاب، كما يبدو، بوظيفة الدفتردار والمحاسبجية والصرافين على هذا الجهاز في تنظيم ميزانية الولاية ومحاسبة الدولة حين تقضي الضرورة.
من المفيد الإطلاع على هذا الجدول الذي يبيّن احتكار المسيحيين في تلك الحقبة، لكل الجهاز الإداري التابع للولاية، والذي نظمناه اعتماداً على ما ذكره "العورة" في تاريخه.
الرقم الاسم نوع العمل المدينة
1 حاييم فارحي الصراف وحافظ مال الخزينة
رئيس الكتاب عكا
2 إلياس الصوري كاتب عكا
3 مخائيل الملك كاتب عكا
4 جريس مسدية كاتب عكا
5 مخائيل حنا كاتب عكا
6 كيورك الفرا الأرمني الحلبي كاتب عكا
7 الشيخ قيس اللوباني كاتب عكا
8 فضول الصابونجي كاتب عكا
9 موسى فارحي صراف بالخزينة عكا
10 حزقيال (...) شراف بالخزينة عكا
11 حنا العورة كاتب العربي بالديوان عكا
12 إبراهيم نحاس كاتب عكا
13 مخائيل العورة كاتب عكا
14 يوسف قرداحي كاتب عكا
15 لطوف الصابنجي كاتب عكا
16 فرح زهرة كاتب عكا
17 إلياس يوسف كاتب عكا
18 مخائيل (...) كاتب عكا
19 أيوب سلامي الأسلمي أمين الكمرك عكا
20 أندريا سابا كاتب عكا
21 جريس منسى كاتب عكا
22 أنطون صالحة كاتب عكا
23 جبرائيل عيد كاتب القصبخانة عكا
24 إبراهيم الزيت كاتب الملاحة عكا
25 بوغوص الأرمني ألفا النجارين عكا
26 يوسف حكيمة ألفا البنائين عكا
27 فرح النحاس كاتب عكا
28 مخائيل كاترون كاتب عكا
29 زكور آغا أمين ومحتسب البلدة عكا
30 رستم كاشف ناظر مستودع القطن عكا
31 إندراوس عسيلي كاتب عكا
32 إلياس زهرة كاتب عكا
33 بولس أبو راس كاتب عكا
34 عبد الله إلياس رئيس الكتاب بالسراي والكمرك
وكمرك الدخان اللاذقية
35 نعمة غريب رئيس كتاب طرابلس
36 وهبة صدقة كاتب العربي طرابلس
37 نصر الله نوفل كاتب العربي عكا
38 أيوب نصر الله كاتب بالسراي والكمرك بيروت
39 يوسف منسى كاتب بالسراي والكمرك بيروت
40 أبا إلياس منسى كاتب بالسراي والكمرك بيروت
41 ميخائيل ساروفيم صراف بيروت
42 منصور الدحداح كاتب الأمير بشير في الجبل
43 جريس مشاقة صراف الأمير بشير في الجبل
44 إبراهيم نعمة معتمد الأمير بشير في الجبل
45 جدعون الباحوط معتمد الأمير بشير في الجبل
46 حنا عزام معتمد الأمير بشير في الجبل
47 نخلة مارون كاتب صيدا
48 جبور القرداحي صراف صيدا
49 يوسف نمور كاتب جباع
50 نخلة نقولا كاتب الشقيف
51 إندراوس الشامي كاتب الشقيف
52 يوسف مدول كاتب تبنين وهونين
53 يوسف البواب كاتب تبنين وهونين
54 عبود ساروفيم كاتب السراي والكمرك صور
55 يوسف أيوب كاتب السراي والكمرك صور
56 إلياس باسيلا رئيس كتاب غزة ويافا
57 سمعان الصالح كاتب غزة ويافا
58 إبراهيم الغزة كاتب الكمرك غزة ويافا
59 نقولا غرغور صراف غزة ويافا
60 قسطندي جحشان كاتب الرملة
61 إسحاق جحشان كاتب اللد
62 إبراهيم جحشان رئيس كتاب غزة
هؤلاء هم الكتّاب الذين "كانوا في إيالات صيدا وطرابلس واللاذقية وغزة ويافا وتوابعها مع مأموريهم.." نتج عن هذا الدور المتنامي للكتاب غير المسلمين مستويين من العلاقة الأول على مستوى العلاقة بين المسيحيين واليهود والثاني بين هؤلاء وبين المسلمين. وقد تكشّفت صراعات وخصومات بين هذه "العائلات الإدارية" التي تخصصت واشتهرت في هذه الحرفة وأصبح لها نفوذ وعلاقات واسعة على مستوى ولايات الشام، ونشب بينها خصومات وصراعات، وكان أبرزها العداوة بين عائلة حاييم فارحي وعائلة عبود البحري ، ويعيد إبراهيم العورة، في كتابه، أسباب هذه الخصومة إلى عداوة الكار، ويضرب مثالاً بقوله: "شحاد لا يحب صاحب مخلاية" ، ويورد أيضاً بعض الأسباب الشخصية، إلا أن السبب الرئيسي الذي يستفيض به، هو عداوة الدين، ونظراً لأهمية هذا النص نورده كما هو "..إنه أمر معلوم عداوة اليهودي للمسيحي بالدين والدنيا. واليهودي مهما كان متصفاً بالإنسانية فشريعة تلموده تعطيه الاستحلال لمال ودم ليس المسيحي فقط، بل كل من هو خارج عن دين اليهود مستندين بذلك على سندات كاذبة (من التلمود): نظير قولهم: إن الممالك وسائر ثمارها منحها الله ملكاً مؤبداً لشعب إسرائيل، ويفتكرون إنهم شعب إسرائيل وأن لهم حق الوراثة له. وعلى هذا فلا يخطوا بكلما يفعلون من الأضرار بحق سكان الأرض وبما يسلبونه منهم لأنه حق لهم، ولهم أن يأخذوه بالوجه الذي يتفق لهم، وقد عميت عيونهم عما قاله الله عنهم بفم أنبيائه إنهم صاروا عنده بمنزلة خرقة الحائض، وإنه لا يقبل منهم عبادة ولا يلتفت لطلباتهم ولا يريد أن يدعوا شعبه.." .
يعكس هذا النص العداء المستحكم والمنافسة التي تستخدم الدين في تبرير الصراع الذي يتجاوز حدود أعداء أبناء "الكار" الواحد، خاصة أن هذا النموذج، الذي نسوقه، يمثل شخصيتين كل منها في جهاز مستقل يتوزع بين دمشق وعكا، وبالرغم من هذا "..سهروا على بعضهم بكل تيقظ حريصين جداً بأن يجعلوا أفندياتهم لا تشعر بغاياتهم، بل إن ما كانوا يفعلوه ويتظاهروا فيه إنما هو غيرة منهم كل واحد على أفنديه وصداقة بحقه.. استعمل كل منهم الوسايط اللازمة لتحريك أفنديه ضد الآخر.." . ويعكس "العورة" في مذكراته انطباعاً عن مكر اليهود وجبنهم "... المعلم عبود صار يتربص فرص الأوقات ليأخذ ثأره. والمعلم حاييم بما أنه يهودي وقلبه ضعيف، ولمعرفته بمكانة المعلم عبود في فنون الكتابة والمعارف باللغة التركية والعربية والحساب وأمور الدولتجية نظيره، بل أكثر منه، صار حريصاً جداً وخائفاً جد الخوف منه.. وأرسل لإخوته وابن عمه بالحذر منه واستعمال وسائل مقاومته وضرره وإذا قدرواعلى إبعاد هذه العيلة من الشام فلا يقصروا.." . استمر الصراع قوياً، إلى أن تمكنت عائلة البحري من تقوية نفوذها في عهد والي الشام "يوسف باشا كنج"، حيث كان لكتابات عبود البحري دور كبير في حصوله على المنصب، وأصبح حاييم فارحي، أو بيت شحادة كما كانوا يلقبون، "...يدافعوا عن أنفسهم بالسخاء وتقديم الهدايا إلى الوجوه والحواشي لكي يسلموا من سهام بيت البحري.." .
يبدو واضحاً الخلفية الدينية والإدارية لهذه الخصومات، وهي لم تكن مجسدة في هذا النموذج الذي يمثل شخصيتين، تنتمي كل منهما إلى جهاز إداري منفصل عن الآخر، بل تجسدت ضمن الجهاز الإداري الواحد، كما حصل بين حاييم فارحي أيضاً، والمعلم حنا العورة ، الذي يروي ولده بالتفصيل أخبار هذه المنازعات والمكائد بينهما، وقد أفرد لها صفحات عدة . ويعكس إبراهيم العورة في مذكراته، عداءً خاصاً لليهود، يمكن تلمسه، بشكل واضح، في سرده لهذه المنازعات التي كانت تدور داخل سراي الوالي، بين والده والمعلم حاييم، حيث كان يتدخل الوالي أحياناً لحل بعضها، ومن هذه العبارات التي نلحظها مثلاً ".. إذا سنحت له الفرصة لبلوغ غايته اليهودية.." حتى إنه بعد مصالحة تمت بين والده وحاييم، يعلق معبراً عن عدم ثقته بمصداقية اليهود قائلاً: ".. ما زالت الضغينة اليهودية تقاتله.." .
كان كل منهما يسعى لكسب رضا الباشا وإظهار الغيرة والصدق، لكن النفوذ الإداري، والصلاحيات الواسعة كانت بيد "حاييم فارحي"، فقد جاء تصنيفه الثالث في هذه الأمور، بعد الوزير وكتخداه، وذلك في تقييم إبراهيم العورة ".. وثالثهم حاييم اليهودي. كان ماسك زمام الباب جميعه وكيفما يريد يفعل، ومن الذي يقول حكم رجل يهودي على الإسلام والنصارى، والكبير والصغير.. أمر هين ولا يصعب جداً على الطبيعة.." .
لا شك أن عائلة فارحي، أو "شحادة" كما يلقبون، وشخصية حاييم تحديداً، تعتبر نموذجية بالنسبة لليهود الذين انخرطوا في السلك الإداري وعاصروا تلك المرحلة، والخلافات العقائدية بين المسيحيين واليهود كانت تنسحب على مجالات عديدة. وإذا كانت شخصية "حاييم" قد طغت في عهد سليمان باشا، إلا أنها انتهت في عهد خلفه عبد الله باشا الذي أمر بقتله خنقاً. في كل الحالات كانت الكثرة العددية للكتّاب المسيحيين، قد أفرزت بالنهاية غلبة لصالحها أطاحت بالتوازن الذي قام في عكا، وفي عهد سليمان تحديداً.
يمكن القول، استناداً إلى ما سبق، إنه رغم هذا النفوذ بقيت ثمة مسافة بين الإداري والكاتب والدفتردار "المسلم" الذي يتطلع إلى دور الزعامة، ومنصب الوزارة، في حين لم يكن هذا متاحاً لفئة الكتّاب الإداريين من غير المسلمين الذين برزوا بقوة في أواخر القرن، وسيطروا بنجاح على كامل الجهاز الإداري، واحتكروا أمور "الدولتجية" على حد تعبير "العورة"، واصبحت إحدى أهم الحرف التي نجحوا وبرعوا فيها.
كان أغلب هؤلاء الكتبة يتحدرون من طائفة الروم الكاثوليك، التي عرفت تنصيب أول بطريرك لها عام (1724م) . لقد خطا الكتّاب وكبار الموظفين، خطوات متقدمة على طريق التحرر من الارتهان للمشايخ والولاة خاصة عندما قوّى بعضهم نفوذه وتحالف مع العسكر، فلم يعد الكاتب مجرد محاسب، بل أصبح حليفاً لا غنى عنه وعن خدماته، فمعرفته بالسكان والأرض وخبرته في شؤون الإدارة والحكم، جعلت منه خبيراً ضرورياً وشريكاً في اتخاذ القرارات ورسم السياسة. ورغم كل هذا تبقى مسافة بين الدفتردار وكتّاب الديوان، وهي المسافة التي تفصل إستامبول عن عكا أو دمشق، فالأول كان يتم تعيينه من الباب العالي في العاصمة، أما الثاني فقد بقي مصيره، في أغلب الأحيان، معلقاً بين يدي الباشا. وفي كل الحالات لا تبدو الأيدي مختلفة كثيراً بين العاصمة التي كانت تتخلص من موظفيها وبين الوزير الذي يتخلص منهم في الولاية عندما يشكِّلون مصدر إزعاج له.
وكنموذج لهذه الشخصيات المدينية الصاعدة برز نعمة الله نوفل في طرابلس والذي جاء مع الحملة المصرية الى بلاد الشام وشغل منصب كاتب الخزينة بطرابلس وكان له النفوذ الواسع في الولاية نظراً لقربه من إبراهيم باشا. والواقع إن ابنه المؤرخ نوفل نوفل في كتابه المخطوط ، يتحدث باسهاب كيف كان النصارى في طرابلس في تلك الفترة يعيشون حقبة فيها الكثير من النفوذ، حيث ".. خلعوا عنهم شعار الذمية وشرعوا يطلبون المساواة في الحقوق تمثلاً بمصر، فصاروا يلبسون الملابس الملونة، ويقابلون المعتدين عليهم بالمثل، ويتظاهرون بشرب المسكرات، ولا يعملون لأحد من الوجوه عملاً إلا إذا استوفوا أجورهم. فعظم الأمر على المسلمين، ونسبوا هذه النهضة للمرحوم والدي، وأنه هو الذي يغري النصارى ويشجعهم على ذلك، ولولاه لم يكونوا يجسرون على شيء من ذلك..." . ومن الطبيعي أن يترك تنامي نفوذ عائلات مسيحية تنافسات بين عائلات مسيحية أخرى، وهو ما يشير إليه نوفل بوضوح أيضاً. يفضي الأمر بطبيعة الحال إلى شبكة علاقات تنافسية جديدة في المدينة تتداخل فيها الجوانب الطائفية في كثير من الأحيان.
حدث هذا بوضوح في تلك المرحلة حيث لم يلق ابراهيم باشا والحملة المصرية عموماً ترحيب المسلمين في مدينة طرابلس، وحيث أن نعمة الله نوفل من كبار طاقم الموظفين مع ابرهيم باشا وصاحب النفوذ المميز، نظراً لخدمته الطويلة عند والد إبراهيم باشا، محمد علي في مصر تزيد على عشرين سنة، ومن سوء حظ نعمة الله نوفل هذا ان الحكم المصري إتخذ قرارات غير شعبية ألبت عليه الكثير من الناس، ومنها سياسة التجنيد، وفرض ضريبة "حال الإعانة"، وأخيراً إباحة شرب الخمور وبيعها وتحصيل ضرائب عنها، وهذه كانت سبباً لاعتزال بربر آغا حليف ابراهيم باشا، كما تفيد بعض المصادر، على الرغم من إنني اعتقد ان هناك أسباب أخرى دفعته للاعتزال، إلا أن مسألة الخمور استفزت العلماء المسلمين ومن بينهم المفتي ونقيب الأشراف حينها، وكان هناك أيضاً قوانين عديدة أثارت جدلاً بين السكان، وكان من الطبيعي أن يعتبر هؤلاء الإدارة المصرية وموظفيها مسؤلين بوصفهم خدماً أو مناصرين ومنفذين وفي مقدمة هؤلاء كان نعمة الله نوفل بحكم وظيفته. وقد بقيت الأمور ضمن إطار الشكوى والتململ بين المسلمين إلى أن جاءت أخبار إلى طرابلس تفيد بمقتل ابراهيم باشا عام 1834، حينها خرج أبناء المدينة الى الشوارع مظهرين كل أنواع الفرح والشماته. إلا أنه تبين فيما بعد أن الخبر غير صحيح. ولما عاد ابراهيم باشا إلى طرابلس إقتص منهم ومن محرضيهم، فأعدم العشرات من مسلمي طرابلس وبينهم علماء ووجوه معروفة. وتختلف المصادر بشأن عدد الشهداء الذين أعدمهم فبعضهم تحدث عن سبعين وبعضها الآخر اكتفى بذكر أسماء لخمسة عشر من كبار القوم جرى إعدامهم ورمي جثثهم على طول الطريق بين سوق العطارين وصولاً إلى بركة الملاحة ولأيام عدة حتى نهش بعضها الكلاب، فضلاً عن أن رؤوس هؤلاء المقطوعة جرى عرضها على البركة القائمة اليوم في الملاحة. وقد أدت هذه المجزرة الى فرار العشرات من الأعيان والعلماء من أهل المدينة.
إتشحت المدينة بالسواد وعمها الحزن أمام هذه المجزرة، وسرى بين السكان إن من رفع التقارير ووشى بالضحايا وقدم الأسماء لإبراهيم باشا هو نعمة الله نوفل، ويتحدث الشيخ حسين الجسر عن تلك الفترة فيقول: أخذ بعض المفسدين يحررون لإبراهيم باشا بما حدث في طرابلس عندما أشيع خبر القبض عليه، وصاروا يرفعون إليه أسماء أكابرها وعلمائها ومشايخها من كل من لهم في إهلاكه مقاصد... ومن جملة من رفع إسمه إليه والدي رحمه الله تعالى وسيدنا الشيخ محمود الرافعي... وقطعت رؤوس رجال أكارم منهم يبلغون السبعين رجلاً ذبحوا في أسواق طرابلس كما تذبح الغنم ظلماً وعدواناً رحمهم الله تعالى، وكان يوماً مهولاً على الطرابلسيين تقشعر منه الجلود... أما والدي وسيدنا الشيخ محمود فإنهما تغيبا في عكار والضنية، ثم سافرا الى قبرص..." .
تركت هذه الحادثة أثراً عميقاً وجرحاً نازفاً في قلوب أهل المدينة من المسلمين وتسببت في توتير العلاقة مع المسيحيين، وهو الأمر الذي يعترف به المؤرخ نوفل نوفل ابن نعمة الله، حتى وصل الأمر أن "صارت النصارى تشارك المسلمين بقولهم إن الذي قتل المسلمين هو المرحوم ابي وليس ابراهيم باشا، لأنه كان سبباً في بغض أولئك القوم للحكومة المصرية. فشرعوا يسعون في عزل أبي ويختلقون عليه التهم عند ابراهيم باشا..." إلى أن نجحوا في مسعاهم، "وصدّق ما اتهموا به أبي من الإساءة إلى المسلمين... وأن المسلمين لم يفعلوا ما أغاظه (أي ما أغاظ ابراهيم باشا) إلا لما لحقهم من الإهانات من أبي، بتسليطه النصارى عليهم. فأعطى الباشا الأمر بقتله. وأنفذ ذلك في التاسع والعشرين من حزيران سنة 1836 . وهو الأمر الذي يصفه حسين الجسر بأنه اليوم الذي ظهرت فيه الحقيقة لابراهيم باشا، "وبأن أولئك المتهمين أخذوا ظلماً، فأصدر أمره بالعفو عن المتغيبين، وأصدر أمره بشنق رئيس المفسدين الذين وشوا عنده على أولئك المنكودين تطييباً لخاطر الطرابلسيين، وورد الأمر فنفذ وشنق في سوق الملاحة. وكان يوماً جلا عن قلوب الطرابلسيين بعض الأحزان" .
وبغض النظر عن الدور الذي لعبه نعمة الله نوفل، والذي لا يمكن الجزم به سلباً أو إيجاباً لجهة تأثيره على قرار ابراهيم باشا الاقتصاص من الطرابلسيين، إلا أن ما يمكن استخلاصه في هذا المجال أنه كان لا بد من "ضحية" تجلي القلوب ويجري تحميلها المسؤولية عن هذه المجزرة. وهذا ما حدث بعد سنتين، فقد استرضى ابراهيم باشا أهل المدينة من المسلمين بتقديم نعمة الله "أضحية" لهم، وأظهر نفسه إنه ضحية تضليل من جهة وإن نعمة الله كان يستغل السلطة والنفوذ بإسمه ليتسلط على الناس، وكانت هذه مقدمة لمصالحة لم تطل كثيراً.
لا يجب أن ننظر إلى مسألة نعمة الله نوفل كنموذج لسيرة كاتب إداري بمعزل عن سياقها، وهو السياق الذي يفيد بتنامي دور نخبة جديدة من الكتاب الإداريين نجحت في تكوين علاقات واسعة وعائلات متماسكة ونفوذ متنامي داخل الإدارة العثمانية ومع القناصل الأجانب، وراكموا بنتيجة ذلك ثروات وأقاموا شراكات تجارية مع أعيان وتجار مسلمين كبار وحققوا أرباح طائلة وشغلوا مناصب هامة، ودخل بعضهم في صفقات وشراكات مع الولاة، وهم بهذا تحولوا إلى نخبة صاعدة في كل مدن بلاد الشام، وكان من الطبيعي في هذا المسار أن يتعرض بعضهم إلى منافسات قاسية يدفع ثمنها غالياً.
في مختلف الأحوال استقرت الإدارة والحكم، وأصبحت من اختصاص الكاتب المسيحي، الذي أسهم أيضاً في صنع الباشاوات، وإن كان يخضع لهم، ويربط مصيره بهم ويتلقى عقوباتهم أو مكافآتهم، فمخائيل الدمشقي يحدثنا عن يوسف باشا الذي كان خادماً، كيف ترقى بالمناصب "..بواسطة رجل حمصي يدعى عبود البحري، وهو كاتب عند عبد الله باشا.. وهو استند إلى عبود المذكور حيث إنه يفهم جيداً إنشاء الكتابات، ومختبر حال الدولة بسبب خدمته عند الوزير سنين.. فاستوت الطبخة وانكتم السر حتى حضور الحج.." .
ويمكننا أن نلاحظ التطور الذي أحرزه الكاتب في عكا، فقد استقطبت هذه الولاية في القرن الثامن عشر خبرة ونفوذ الكتّاب. وقد ترافق هذا مع التحوّل الذي طرأ على عكا، فمن مرفأ صغير في مطلع القرن إلى عاصمة منافسة لصيدا، تراقب في نهاية القرن ولايتي طرابلس ودمشق.
- كان بروز الشيخ ظاهر العمر في النصف الأول من القرن ثم تحالفه مع الأمير المملوكي علي بيك، نقطة هامة في تطور عكا، واتساع الرقعة الجغرافية التي تشرف عليها. وكان العسكر الذي جنّده الشيخ للإشراف على هذه المنطقة يتطلب مصاريف وأموالاً لا يستهان بها. وفي سبيل تأمين هذه المداخيل أخذ الشيخ بنصيحة كاتبه إبراهيم الصباغ فقام باحتكار منتوجات الأرض الخاضعة له، وهذا مما ساهم في توسيع نفوذ الكتّاب، إذ سيكون عليهم تنظيم الحاصلات والضرائب الجديدة التي تخرج عن الإطار المعتمد من قبل الدولة.
- نجح الكتّاب في التواصل مع الإدارة التي أقامها أحمد باشا الجزار، وهو بدوره نجح في تنمية الإرث الذي تركه الشيخ ظاهر العمر في عكا، فقام بتوسيع المنطقة التي تشرف عليها عكا فشملت طرابلس ودمشق أحياناً. لقد تأسس نوع من العلاقة بين الحكام ذوي الأصول المملوكية والكتّاب، تقوم على فرض ضرائب غير مشروعة، وكان الكاتب هو الذي يدير هذه العملية ويؤسس للإدارة المالية التي عملت حسب قوانينها الخاصة، وهذا ما استمر طيلة عهد خليفتي الجزار: سليمان وعبد الله وحتى سنة (1831م).
- برزت عائلات إدارية كانت عكا مدى متسعاً لنشاطها، فعائلة الصباغ ومن أفرادها عبود وإبراهيم، قد خدمت ظاهر العمر ونقلت خدماتها فيما بعد إلى دمشق. واستخدم الجزار كتّاباً يتحدرون من عائلات عديدة: السكروج، الصابونجي، العورة، البحري، ومشاقة وغيرها، وتقدم لديه بشكل خاص اليهودي حاييم فارحي الذي أهّلته مواهبه للاستمرار بالمسؤولية الإدارية خلال عهود الجزار وسليمان باشا وعبد الله باشا، الذي قضى عليه أخيراً.
إن تجربة عكا قد رفعت من شأن مهنة الكاتب ودوره، فقد تحوّل من مجرد محاسب أو صراف أو منفذ إلى مستشار وشريك الرأي الذي لا غنى عنه، والخبير بشؤون السكان والاقتصاد، والإدارة والحكم، والمختص بإدارة العلاقات الخارجية وخاصة مع العاصمة، مما أهّله لدور محوري في الهيئة الحاكمة بالولاية. إلاّ أن هذا الدور بقي بعيداً عن تيارات الإصلاح والتحديث التي اضطلع بها الكاتب في العاصمة. فقد بقي الكاتب المحلي أسير المعطيات السياسية والاقتصادية المحلية والتي كانت عرضة لتجاذب شديد من حكام الولايات ومراكز القوى فيها، وبالتالي لم يتح له الاستقرار للتفكير خارج إطار "الخصوصية المحلية" التي كانت آخذة بالتبلور على كل الأصعدة، بل وربما اعتبر أن التفكير خارج إطار هذه الخصوصية هو تفكير خارج الموضوع وخارج الهمّ المباشر.
ومما يدعم هذا الاستنتاج، ذلك التزامن الذي حدث بين نمو دور العناصر المحلية في ولايات الشام من جهة ونمو دور الكاتب الإداري المحلي من جهة ثانية. هذا النمو كان على حساب الإداري الرسمي القادم من العاصمة إلى الولاية والمحصّن باستقلاليته ومرجعيته المستقلة عن الوالي. هذا التطور ساهم في تغييب انعكاس تجربة الكاتب والإداري المركزي في الولايات، وبالتالي أصبحت افكار التحديث والإصلاح تفتقد إلى الاتصال الفعّال مع الولايات، فخرج الإصلاح والتحديث في الولايات من دائرة اهتمام الكاتب المركزي الذي لم يكن بعد قد حسم أمره في العاصمة، وبالمقابل لم يتلقى الكاتب المحلي تأثيرات ما يحدث في العاصمة التي أصبحت خارج دائرة اهتماماته أمام التطورات التي تجري أمامه بشكل مباشر.
لذلك انخرط الكاتب المحلي بكل إمكانياته لتطوير خبرته ونفوذه للانسجام مع تطور الواقع المحلي، وبالتالي لتحسين الأداء والدور الذي يضطلع به، من هنا نجاحه في هذا المجال، وهو نجاح كان مقدراً له أن يكون مقدمة لدور اوسع شمولاً وأعمق تأثيراً في القرن التاسع عشر. في كل الأحوال أسهم هذا التطور في القرن الثامن عشر في تعزيز الإدارة العثمانية في الولايات العربية وتحديداً في بلاد الشام، وبالتالي نجح في رفد هذه الإدارة بشريحة من الموظفين المهرة في الولايات وتعميق فاعليتها ووضعها على مفترق طريق للعب دور في التحديث من نوع آخر بعد أن هبّت رياح الغرب على قلب الدولة.