ثقافة الوقفيات
بقلم فلك مصطفى الرافعي
تعرَّفتُ على الوقفيات عبر تجربة شخصية أملتها عليّ نزوة من حبِّ الإستطلاع أن أكتشف مملكة سيدتي الوالدة -أطال الله بعمرها- والمعروف "بالمطبخ". رمقت المساعدة بنظرة فيها الرضا والحذر عندما بادرت الأخيرة بغسل الأطباق والأقداح، وكان حذرها مصيباً، فسرعان ما هوت بعضها، وتشظّت الأرض بالزجاج المسفوح، ولم ينقذها من تأنيبها إلاّ صوت سيدي الوالد - يرحمه الله- ضاحكاً محاولاً إنهاء الإشكالية بطرفة قائلاً "لا بأس سأذهب إلى متولي الإناء المكسور" للتعويض عمّا تلف. وكانت ست الحبايب قد اعتادت على اجتهادات وفتاوى زوجها القاضي المتمرّس الذي يميل في الأوقات الحرجة لإعتماد أسلوب فكهٍ، لم أتبين ساعتها معاني المقولة حتى هبط الليل وانتظرت فراغه من تناول العشاء أسأله عما خالطني من إدراك ما قاله.
سرحت نظراته على وجهي مطمئناً إلى صوابية السؤال بعد إحجام عن نهلٍ من فيوضاته وعلمه، فاستهل شروحاته عن المجتمع الراقي المسكون بالإنسانية وإغاثة الملهوف أن خادماً لثري في الحيّ كان في طلب اللبن في السوق الكبير، وكانت العادة ان يحمل إناءً يملؤه بالمراد، وصودف ان الخادم ارتطم بشيء، فوقع الإناء وانكسر، بكى الغلام خائفاً من العقاب، فناداه أحدهم ان لا تبتئس أيها الفتى وهدأ من روعه وأخذ بيده إلى شيخٍ جليل ما لبث بعد معرفة الأمر أن أمر بشراء إناء جديد بدلاً عن المكسور، وهذا يدل ان النفس المطمئنة المؤمنة ذهبت بعيداً خارج إطار عباءتها الشخصية لتقف على حاجات الناس، وخاصة الفقراء، فرصدوا من حرِّ مالهم وزكواتهم وصدقاتهم لبلسمة جراح البائس بعد ان شاعت قصص كثيرة عن موالي تعرضوا للضرب والعقاب من تكرار تكسر أطباقهم. ومن هذا المناخ والمنافسة الوجدانية لرضى الله ومرضاته تتبع أهل الخير ما قد يصادف بعض الناس من إرباك في حياتهم اليومية تحت عنوان أخلاقي من شلال التعلق بوصايا الشريعة السمحاء "وجبر الخواطر على الله".
وقد ظلت هذه العادة الوقفية المحمودة معمولاً بها حتى انتفاء الحاجة إلى "الصحن الطائر" باعتماد التخزين وشيوع البدائل من المشتقات التي لا تنكسر. وبنظرة إلى مخزون الوقفيات التي أوقفها أهل التقوى نجدها تغطي كل نواقص النهوض الإجتماعي والتكافل الخيري. وبفتح بوابة الماضي ومطالعة محتويات خزانة الوقفيات نقع على "وقف التسابيح" حيث درجت العادة ان يوكل إلى رجل ثقة ان يطوف في الأسواق مطلِقاً عنان الإذكار والتوحيد بصوت مسموع، يعزف على أوتار آذان الباعة وأصحاب المتاجر والمارة، فيستذكرون ويذكرون ويسبحون ويهللون لتعم البركة والسكينة والصدق في المعاملة، ويتلون اللسان طيباً بذكر الله. ومن أبـهى معاملات حفظ الكرامات ما يعرف "بوقف الغريب" حيث كانت المدينة تحتضن خانات كبيرة لسكن الوافد وعقل دابته، فإذا تعرض لفقدان ماله دلَّه أهل المشورة والحصافة لمن يفك عسرته ويمده بالمال للتزود والعودة. وكثرت في المجتمع الفاضل الذي يحاكي المدينة الفاضلة "وقف السبيل" حيث السقاية لكل من كابد العطش وهي أماكن زرعت في معظم أحشاء الأسواق، ومازالت آثارها حتى اليوم رغم امتداد مساحة الإكتفاء الذاتي عبر بيع عبوات الماء.
بيد ان الزمن القديم كان فيه الماء نميراً صافياً على مرمى الحاجة والمرام، ولما كانت حدود العمل لا تقيم أود بعض العوائل، استنبط أهل العزائم والورع "وقف الرغيف" حيث خصص أماكن محدودة رصفت على رفوفها ربطات الخبز، فيأتي المسكين ويأخذ قوته دون بغيٍ في الإستزادة، والنبيل في الأمر ان تلك الأماكن كانت حرة غير محروسة بوكيل حفظاً لماء الوجه. ومن حسن أخلاق المجتمع ان جيرة الأماكن لا يجلدون المستفيد منها بنظراتهم، بل كانوا يغضون الطرف أدباً واستحياء. وقد تطور "وقف الرغيف" إلى قاعة كبيرة تقدم وجبات الطعام لوجه الله يرتادها بعض الفقراء والغرباء، وهذه النحلة صارت من سمات المدينة خاصة في شهر الصوم، حيث فاضت أماكن توزيع الطعام على من فاته حظ امتلاكها بالجهد والعمل، وبسبب قسوة الظروف المالية والمعيشية، ناهيك عن أجلى وأبهى وقفيات حفظ دور المسجد واستمراره. فلكل مسجد وقفه الخاص لتغطية نفقات صيانته ومعاش من يعمل به من مؤذن وخادم. وسرت اليوم محمودة رائعة ان بعض الأثرياء يعمرون مساجد لله ويقفون على حاجتها، وصارت المساجد الجديدة آية في صدارة البناء النموذجي وأدخلت الإضاءة الوافرة وأنظمة التبريد والدفء التي شملت أماكن الوضوء والحاجات الخاصة، ويضيق المجال للعديد من الوقفيات التي واكبت نظام العيش والبيئة، وكان لكل وقف وقفياته التي تنتهي عندما تنتفي الحاجة إليها.
وأتوقف على عضاضة ومرارة عند ذكر "وقف التسابيح" لأقارب الموقف اليوم حيث استبدلت الإذكار بأصوات المرئيات والمذياع، عدا عن تقريع صوت الزائر بأبشع الحوارات والألفاظ والتحرش بما يَنْدَى له الجبين، وصار التهكم على أصحاب الحاجـات الخـاصة والعبث بأحـوالهم، وصاروا "مضحكة" ومثار تجاذب وسخرية من بعض من فقدوا تربية البيت والمدرسة والمسجد، ويبدو أننا فقدنا خيط السبّحة التي يحميها من تشتت حباتها. فالرابط في الأصل هي دعوة الله للإعتصام بحبائل العروة الوثقى والإيمان كما أخبرنا البهي عليه السلام هو "ما وقر في القلب وصدقه العمل". فهل يستقيم اليوم ما أودعناه قلوبنا وظهر جلياً في تصرفاتنا ليكون المقياس؟ كم يتراجع مجتمعنا ويهرب بخطى مسرعة إلى الوراء!.
نُشرت في جريدة البيان بتاريخ 1 شباط 2012