تأليف : محمد السويسي
28 كانون الأول 2012
السيد فؤاد طرابلسي
كانت القهوة لدى معظم سكان طرابلس في القرن الماضي كما هي اليوم، السائل المفضل لاحتسائه صباح كل يوم ومسائه وبعد الغداء. إلا أن محلات بيع القهوة المطحونة لم تكن متوفرة كما هي اليوم في مخازن المواد الغذائية والبقالين والسوبرماركت في كل حي وشارع، بل كانت هناك محلات متخصصة لبيعها موزعة في مختلف أحياء المدينة حيث كانت تعمد إلى تحميص حبوب القهوة الخضراء أمام وداخل محلاتها ضمن أوعية إسطوانية كبيرة من الحديد مثبتة على موقد من نار الفحم يقلبها صاحبها دائرياً ببرمها من مسكة متصلة بها لفترة من الوقت إلى أن تنضج وتصبح بلون بني قاتم أقرب إلى السواد، ثم يفرغها في وعاء معدني إلى أن تبرد ليعمد بعدها إلى طحن قسم منها في مطحنة كهربائية بعلو متر تقريباً عن الأرض مع فوهة واسعة مخروطية الشكل يضع فيها حبوب القهوة المحمصة لتخرج مطحونة من طرفها، ضمن وعاء نحاسي يضعه أمامه على الطاولة ليبيع منه للزبائن حاجتها التي تتراوح في أغلب الأحيان بين ربع أوقية وأوقية. وكان سعر الكيلوغرام من البن وقتذاك هو خمس ليرات لبنانية كحد أقصى.
إلا أن العديد من العائلات كن يفضلن شراء حبوب القهوة الخضراء أو المحمصة لتصنيعها وطحنها في بيوتهن خوفاً من الغش وللتأكد من سلامة القهوة، ولم يكن ليفعل ذلك إلا الذواقة للبن.
وأغلب الباعة كانوا يحمصون حبوب القهوة أمام محلاتهم لجذب الزبائن من أقصى السوق إذ أن رائحة التحميص كانت تملأ الحي بأكمله والشوارع الفرعية لمسافات بعيدة وساعات طويلة. كما وكانت القهوة المطحونة على نوعين، شقراء وسوداء، إلا أن معظم الزبائن كانت تفضلها مخلّطة، إذ كانت السوداء مفضلة لدى المدخنين، فطعمها أشبه بالبن المحروق، أما الشقراء فطعمها أشبه بحبوب القهوة النيئة. ومن أجل هذا كان معظم الزبائن يفضلون خليطها، أي مزج النوعين معاً، من أجل تعديل المذاق والطعم عند غليها.
وكانت القهوة المفضلة للزبائن هي القهوة البرازيلية، إلا أن بعض البائعين كانوا يمتهنون غش القهوة، ليس بالأنواع الرديئة منها فقط، بل وأيضاً بنوى التمر والحمص والترمس المحمص لمرورته حتى لايشكل فرقاً في الطعم، طمعاً في المزيد من الربح ومن أجل المنافسة في السعر، مما أثار تذمر بعض الزبائن والشكوى لدى الجهات المختصة التي أرسلت بعض المراقبين المولجين بقمع الغش لأخذ عينات من جميع باعة البن في المدينة بشكل مفاجىء وأرسلتها للتحليل، وذلك زمن الإنتداب الفرنسي، لتأتي النتيجة مفاجأة لأهل المدينة وقد تبين أن جميع باعة القهوة غشاشين ..؟! باستثناء محل واحد هو "بن الطرابلسي " لصاحبه فؤاد الطرابلسي في محلة التل. ومن يومها سادت شهرته الآفاق وبدأت الزبائن تتوافد على محله بأكثر من السابق من كل أنحاء المدينة ومحافظة الشمال، تنتظر دورها لشراء القهوة.
وأهمية محل بن الطرابلسي وسبب طيبة قهوته ولذتها أن مؤسسه السيد عبدالله الطرابلسي والد فؤاد كان في البرازيل وتعرف على قهوتها وأسس محله لبيع القهوة البرازيلية التي لم تكن معروفة في المدينة قبله. ثم تابع ابنه فؤاد عمله ليطور هذه المصلحة فأسس أول مصنع حديث لتحميص حبوب القهوة على الكهرباء وطحنها لتعبأ عند الطلب في أكياس خاصة بطبقتين من ورق البركامين في الداخل والورق العادي الملون من الخارج، لتحفظ القهوة فيها ساخنة وطازجة.
لقد كان فؤاد الطرابلسي وجيهاً بين قومه وقد جعل من محل القهوة مكتباً من الموبيليا فخماً، بما لم تجر عليه العادة وقتذاك، حيث كان يجتمع عنده كبار القوم من وجهاء المدينة.
وقد صدف أن مررت لعنده في مطلع الثمانينات لأشتري بعضاً من القهوة التي سبق أن اعتاد عليها أهلي ومن ثم عائلتي، فأصر أن يضيفني فنجاناً من القهوة فلم أستطع أن أرفض له طلباً طامعاً في شربها طازجة. بعد دقائق كانت القهوة جاهزة وقد أعدها الموظف لديه، فذهلت من لذتها، إلا أنني عندما أعددتها في البيت صباح اليوم التالي إختلف طعمها نهائياً ..! طيّبة..! إنما ليست لذيذة كما تذوقتها عنده؟! وقد اعتقدت أن الخلطة "بين القهوة السوداء والشقراء" هي السبب في تغيّر الطعم، ورغم تكراري المحاولة إلا أن النتيجة ظلت سلبية.
بعد أسابيع عدة تعمدت المرور لعنده لأشتري بعضاً من البن مجدداً، ومن أجل إستجلاء سر قهوته اللذيذة. فدعاني إلى شرب فنجان قهوة، كما عادته مع كل أصدقائه، فأصررت أن يُعد فنجان القهوة من الكيس الذي اشتريته ليطمئن قلبي، فاستغرب، فشرحت له الأمر، فضحك وقال حسناً فيلكن. وبالفعل أحضر الشاب لديه الركوة النحاسية، التي لا تتسع لأكثر من فنجانين، وملأها بالمياه ووضعها لدقيقة على نار الغاز الخفيفة ثم سكب منها نصف فنجان فارغ وضعه جانباً ثم ليلقم الركوة مقدار ملعقتي قهوة وليبدأ بتحريكها التي ما أن باشرت بالغليان حتى سكب فوقها فنجان المياه بسرعة وأطفأ النار فوراً لترغي وتزبد وهو لا زال يحركها بملعقة صغيرة ، ثم صبها لي لأتذوق نفس الطعم اللذيذ الذي افتقدته عقب المرة الأولى. وذهبت إلى البيت لأجري التجربة فأثبت بن الطرابلسي أنه أصيل لا يتغير في طعمه، وقد تبين لي أن فن إعداد القهوة يلعب دوراً في لذتها وطيبتها.
رحم الله فؤاد عبدالله الطرابلسي فقد كان رجلاً أميناً على مصلحته دمث الأخلاق مهذباً ورجلاً فاعلاً في المدينة إذ كان أحد مؤسسي نادي الرياضة والأدب ومشجعاً له بالمال كما ولأنشطة رياضية أخرى.
وبالعودة إلى الغشاشين من باعة القهوة فإن موظفي الجهات الرسمية المختصة قد ألصقت على أبواب محلاتهم قرار المحكمة بالغش والغرامة، وختموا القرارات بالشمع الأحمر وحذرتهم من إقتلاعها، مما جعل بعضهم يستغني عن هذه المصلحة ويغلق محله خجلاً، ليفتش عن مصلحة أخرى في غير موقع.
وبعد وفاة فؤاد الطرابلسي في العام 1990 تراجعت أعمال المحل وقد توفى ابنه عادل الذي ورثه في المصلحة ليتوقف المحل عن نشاطه لفترة ليست بالقصيرة، ولم يعد أحداً من أولاده قادراً على التفرغ لهذه المهنة كما ينبغي للحاق بركب تطور صناعة القهوة، من قبل شركات عدة، التي أضحت تعبأ في أكياس من ورق الألمنيوم مضغوطة ومفرغة من الهواء في معظمها كما نراها اليوم، مما سهّل من توزيعها على كافة المحلات في المدينة لدى البقالين والسوبرماركت، إلا أن محل " بن الطربلسي" لا زال موجوداً لبيع القهوة كما في الماضي وبالوزن حسب حاجة الزبون، كما ولا زال على جودته السابقة .
نُشرت على هذا الرابط: