تقديم لكتاب جمانة ديب بغدادي
"المهن والحرف الطرابلسية"
بُنيتها وتنظيماتها وأسواقها ودورها في الحياة الاقتصادية في القرن التاسع عشر
بقلم
الأستاذ الدكتور عبد الغني عماد
لقد تطورت الكتابة التاريخية وأخذ نطاقها يتوسع كما أخذت المناهج المتبعة في عملية التأريخ تزداد دقة ووضوحاً وضبطاً. لم يعد البحث عن أسباب الأحداث يجري خارجها، بل أخذ ينكب عليها ليتفهم حالتها، ويحلل العلاقات التي تربطها وليميز بين الأسباب والنتائج، وليستخلص من هذا كله صورة الاتجاهات التي تنتظم بها حركة الواقع وتناقضاته وصراعاته.
ولكي تتم هذه القراءة بشكل علمي، لا بد من العودة إلى الأصول والجذور، لكن المشكلة أن الأحداث والوقائع التي حدثت في الماضي لا يمكن إستعادتها ولا معاينتها وملاحظتها بشكل مباشر، إلا عن طريق الآثار التي حفظت لنا منها. لذلك فالتاريخ بلا وثائق لا قيمة له. وبفقدان الوثائق يعتبر التأريخ ضرباً في المجهول، وحكايات متواترة ومتخيلة، وبناء عليه قيل حيث لا وثائق لا تأريخ. ولهذه الأسباب غاصت جمانة بغدادي في بحر الوثائق الطرابلسية العائدة لمحكمتها الشرعية بين الأعوام (1666-1899)، وهي الباحثة المتمكنة والمدربة على أصول البحث الوثائقي في مركز إحياء التراث الوثائقي في طرابلس منذ العام 2009، فوظفت خبرتها ومعرفتها في قراءة وتحليل الوثائق العثمانية لإعداد رسالة جامعية متميزة عن المهن والحرف في طرابلس الشام في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
لماذا الحرف والمهن؟ ببساطة شديدة لأن هذه الحرف التي انتظمت فيما يعرف بـ "طوائف" أو "أصناف" في ذلك الزمن، لعبت دوراً أساسياً في مجتمع المدينة. ومنذ وقت مبكر أدرك الباحثون أهمية الكتابة في هذا الموضوع، لكن ندرة المصادر ومحدوديتها شكلتا عائقاً أساسياً أمام التعمق في دراسة هذه الظاهرة، وبخاصة في طرابلس، وقد إنكًب بعض المستشرقين بدءاً بماسينيون وأندريه ريمون وجب وبوون وغيرهم، على دراسة المجتمع المديني، وظاهرة الأصناف الحرفية وتنظيماتها وتحولاتها، في مدن القاهرة ودمشق وحلب وبغداد، وظلت طرابلس بدون دراسة متخصصة وافية وشاملة، نظراً لشحّ المصادر وصعوبة الوصول إلى الوثائق والتعامل معها، مع أن هذه المدينة كانت عاصمة لإحدى ولايات الشام العثمانية لأكثر من قرن.
ومنذ تأسيسنا لمركز احياء التراث الوثائقي في طرابلس أصبح بالإمكان التعامل مع وثائق محكمة طرابلس الشرعية بصورة أيسر، وبطريقة علمية وموثقة تتيح للباحثين المادة الوثائقية المطلوبة من بين آلاف الوثائق المبعثرة. والأهم من كل ذلك أنه أصبح بالإمكان ملء الثغرات والفراغات المتعلقة بتاريخ المدينة، أو إعادة النظر ببعض ما كتب بدون توثيق أو تأكيد ما كان موضع شك، وإزالة الكثير من الأوهام والأفكار الشائعة والروايات المغلوطة والمتداولة بلا تدقيق أو أدلة.
لقد أخرجت جمانة بغدادي في رسالتها الجامعية التي تحولت إلى كتاب، الحرف الطرابلسية بتنظيماتها، وبنيتها، وعلاقاتها وأنواعها وانتاجها، وتحولاتها وأسواقها، من عتمة التاريخ وظلمة الإنحباس في سجلات بين آلاف الوثائق، فقدمت إلى مدينتها التي أحبتها إلى حد العشق، بحثاً يروي حكاية الحرف الطرابلسية بأسلوب شيق ومتبصر، متسلحة بصبر عجيب، فلم تسمح لنفسها أن تخون الأمانة العلمية، إذ يجد القارئ، وعلى مدى صفحات هذا البحث، أن لكل معلومة مصدر وإحالة دقيقة وموثقة.
الحرف بوصفها... نظام حياة: لقد واكبت إعداد الباحثة لهذا الكتاب الذي هو بالأصل رسالة جامعية، وكنت أعرف صعوبة الولوج في تفاصيله، فالحرف انتظمت في طوائف وأصناف، يختار معلمو كل حرفة شيخاً للحرفة، يُقر اختيارهم القاضي الشرعي في المدينة، الذي يصدر "حجة شرعية" تسجل كوثيقة رسمية في المحكمة الشرعية. كان يشار للحرفة بعبارة "الطائفة" أو "الصنف" أو الصنعة" أو "الكار". وقد وجب على "الشيخ" أن يكون ملماً بأصول الحرفة، وإلا فإنه يتعرض للعزل من زملائه معلمي الحرفة. ورغم أن كل حرفة مستقلة عن غيرها إلا أن بعض الطوائف الحرفية المرتبطة ببعضها لجهة المصالح والأعمال المشتركة كانت تتفق على تنصيب "أخي بابا"، أو كان يسمى في بعض الأحيان "شيخ السبعة"، للتنسيق فيما بينهم.
تفيد دراسة الحرف الطرابلسية إلى ما يشبه الحرف الدمشقية، فحسب الوثائق التي عرض لبعضها هذا الكتاب، فإن كبار الحرفيين كان يطلق عليهم لقب "أستاذ" أو "معلم" أو "أوسطى"، ومنهم كان يتم اختيار مشايخ الحرف. وكان يأتي بعدهم في المرتبة المهنية "الصانع". وقد شكل "الصنّاع" العدد الأكبر في الحرفة بالمقارنة مع عدد المعلمين والأجراء. ويعتبر المبتدئ أو "الأجير" هو كل من يتعلم الحرفة.
ولا توضح السجلات بالتفصيل الآلية التي كان يتم بها الترقي من مرحلة الأجير أو مرحلة "آخذ اليد" كما كانت تسمى، إلى مرحلة "الصانع"، وأخيراً إلى مرحلة "المعلم"، حيث يصبح من حقه افتتاح مشغل أو دكان حرفي خاص به، لذلك كان لا بد من اللجوء إلى نوع آخر من الوثائق وطريقة أخرى من التحليل الوثائقي المقارن، وهذا اعتمدته الباحثة جمانة بغدادي، فنجحت في تجاوز هذه المشكلة، حيث يتبين أن الأجير يبقى سنوات يتعلم بدون أي أجر، يأخذ الصنعة عن أستاذه، وهي مرحلة "أخذ اليد" تليها عملية "الشدّ" و "التمليحة". وهي تعبيرات لا تزال مستخدمة حتى اليوم في بعض المجالات. وهي بمثابة بوابات عبور ليصبح الأجير صانعاً ثم معلماً. عملية "الشدّ" هي أشبّه باحتفال التخرج بالنسبة إلى الحرفي، فيه يعاهد المشدود معلمه، الذي يعد أباه بالكار، بالبقاء وفياً له وحافظاً لأسرار المهنة، ويرافق ذلك مجموعة من الطقوس الاحتفالية والصوفية التي يشترك في اقامتها جميع أبناء الحرفة.
المشاركة الجماعية في عملية الترقية تعكس روح التضامن الحرفي الذي كان سائداً آنذاك، والذي يتوج بـ "التمليحة" التي يقدم فيها الطعام والهدايا، وبعضها يكون من صنع الصانع نفسه. وقد خضع جميع الحرفيين من المسيحيين واليهود للإجراءات والطقوس عينها في عملية "الشدّ"، كما كان من الواضح بموجب الوثائق التي كشف عنها هذا البحث، أنهم شغلوا أيضاً مناصب مشايخ حارات (حوالي أربع حارات)، كما دلت الوثائق على اختيار عدد من معلمي الحرف لمشايخهم من المسيحيين (كشيخ الترزية، والصباغين والسيوفية و..). وهو ما يدحض أي ادعاء بالانغلاق الاجتماعي، بل يؤكد على عمق العلاقة التي كانت تربط المسلمين بالمسيحيين في المجتمع الطرابلسي، حيث لم تكن هناك أحياء أو حرف أو مهن، أو تجارة مغلقة أو محتكرة من فئة بوجه فئة أخرى. لقد شكل السوق، وشكلت الحرف والمهن حقلاً سوسيولوجياً فريداً، واختلاطاً غنياً، وتجاوراً مميزاً، بالرغم من أن بعضها قد غلبت عليه أكثرية اسلامية سنية بحكم طبيعة وهوية المدينة، وهذه من الخلاصات الهامة التي يمكن استنتاجها من هذه الدراسة القيمة.
لقد أغنى الفصل الأول من هذا الكتاب، التحليلات التي كتبت عن الحرف ونشأتها، وأسواقها، والتركيب البنيوي لها، نتحدث عن كل حرفة منها في طرابلس معرفاً بأسمائها المتغيرّة، وصولاً إلى الأسواق المتخصصة والخانات التي ذاع صيتها، والواقع أنه يمكن أن نعرف الأهمية الاقتصادية للمدينة عبر تنوع الحرف وعدد الأسواق والخانات التي توجد فيها، والتي بلغ عددها في طرابلس حوالي 27 سوقاً و40 خاناً، فضلاً عن 24 حرفة منتظمة، مقابل وجود 77 سوقاً ومئة خان في حلب و45 سوقاً و57 خاناً في دمشق كما يذكر اندريه ريموند. هذا عدا الحرف والمهن الصغيرة التي بلغت حوالي 133 نوعاً كنت قد حصرتها وقمت بمسحها وثائقياً، وتابعت جمانة بغدادي هذا العمل بالتوثيق والتدقيق، علماً أن المؤرخ الدمشقي المعروف عبد الكريم رافق، لم يجد وعلى سبيل المقارنة، في كل من حلب ودمشق ما يزيد عن 163 نوعاً حرفياً ومهنياً في كل منهما، وهو ما يشير، إلى مكانة وأهمية طرابلس الاقتصادية والحرفية والتجارية في القرن الثامن والتاسع عشر.
الحرف والمهن باعتبارها... ناظمة لشبكة علاقات: العلاقة بين أبناء الحرفة الواحدة والحرف الأخرى والمجتمع، وبينهم وبين السلطة العثمانية، الأخلاق وقوانين المهنة وأعرافها، أهمية الدين والتدين، وعلاقة الحرف بالطرق الصوفية، وبالأوقاف، وبالعائلة وتكوينها البنيوي، هذه المواضيع الهامة كانت محور الفصل الثاني الذي أشبعته الباحثة درساً وتحليلاً، ولتكشف من خلاله آلية تضامن أهل الحرفة الواحدة لمواجهة المصاعب التي تواجهها والمحافظة على جودة الانتاج، وانتظام تسديد الضرائب. وهنا تأتي أهمية الأعراف والتقاليد الحرفية السائدة في هذا المجال والتي جعلتهم كتلة متضامنة في وجه تعسف السلطة أحياناً. وقد كشفت الدراسة كيف كان شيخ الحرفة يقوم بأدوار تتخطى خصوصية "الصنعة" و "الكار" في بعض الأحيان، فقد كان يلعب دور الوسيط، وصلة الوصل بين أهل الحرفة والسلطة التي لم تكن تنأى بنفسها عن التدخل، لحل مشاكل الأسعار والاحتكار من جهة، مع الاشارة إلى الترابط العميق بين الحرف والطرق الصوفية، والذي إن دلّ على شيء، فإنما يدّل على انغماس الثقافة الحرفية في أعماق الثقافة الشعبية السائدة والتي تحولت نظاماً عائلياً، حتى أصبحت سمة طبعت بعض العائلات، واكسبتها كنيتها التي اشتهرت بها، وما أكثر العائلات الطرابلسية التي تتصل بأصل حرفي دون أن تتصل فيما بينها بقرابة عائلية.
أما الحياة الاقتصادية في طرابلس في تلك المرحلة فقد خصصت لها الباحثة فصلاً متكاملاً درست فيه الزراعة وأنواعها، وخاصة تلك التي اعتمدت عليها المهن والحرف، كما رصدت بدقة نواة الصناعة الحرفية، والمصنوعات الهامة التي عرفتها المدينة، ولم تهمل التجارة وحركة السوق والصادرات والواردات، ولا الضرائب والرسوم الجمركية وطريقة تحصيلها وأثرها على الحركة التجارية. واهتمت بأدق التفاصيل كالمقاييس والمكاييل والأوزان (فقد كان القنطار والرطل في المكاييل لا يزال متداولاً والمثقال في الأوزان، كما الذراع والقيراط في المقاييس في ذلك الحين).
يكشف هذا الفصل أهمية تطور وسائل النقل والمواصلات وأثرها على الحياة الاقتصادية، فيعرض بشكل موثق المبادرات الأهلية والرسمية لتطويرها منذ تولي مدحت باشا وزيارته لطرابلس، وانشاء الطريق المعبدة بين طرابلس والأسكلة، ومن ثم تأسيس شركة التراموي التي امتدت خطوطها إلى باب التبانة مخترقة الزاهرية، وصولاً إلى انشاء شركة "الشوسية" لتأمين المواصلات بين طرابلس وحمص وحماه. تكشف الدراسة عن أثر شبكة المواصلات هذه، على الحياة الاقتصادية والتي أدت إلى تطوير الصناعة ونمو المعاملات المصرفية وعمليات التبادل التجاري وبداية تأسيس المصارف، حيث تم تأسيس مصرف (الذوق وعبد الواحد عام 1893)، وبعد أصبح للمصرف العثماني ومصرف سلافيك فروع في طرابلس. واللافت في الأمر أن أغلب هذه الشركات كانت وطنية، اشترك في تأسيسها أبناء المدينة على طريقة الأسهم، كما بينت الوثائق التي أشارت إليها الباحثة، ما يعني حضور المبادرة والمشاركة المحلية في التنمية إلى جانب الدولة. وقد انعكس ذلك حركة نشطة أدت إلى توافد التجار الأجانب إلى المدينة، حيث استأجر بعضهم مقرات خاصة بهم، وبعضهم استوطن وتملك في المدينة، في حين عمدت بعض الدول إلى افتتاح قنصليات وأخذت تتنافس فيما بينها لتوسيع نفوذها. حدث هذا في ظل بداية مزاحمة قاسية كانت تجري، فقد كانت بيروت تنهض وتتوسع سريعاً، وهو ما لم يتأمن لطرابلس.
بدايات التراجع وفقدان الدور: يتبين لنا أن الحرف الطرابلسية تميزت بتوزع نشط للعمل، وتخصص إتسم بالدقة، وهي شهدت منذ وقت مبكر نشوء علاقات مشغلية، وتأسس شركات تجارية وأساليب تسويقية خضعت للتخصص الذي حكم السوق، وهذه العمليات كلها من مظاهر الاقتصاد المنظم، الحامل لقابلية التطور والتكيُف في شروط وظروف متكافئة ضمن إطار بنيته التقليدية. لذلك ثمة سؤال يطرح دائماً. لماذا تراجعت طرابلس اقتصادياً وقد كانت دُرّة مدن ساحل الشام؟ فما أن شارف القرن التاسع عشر على النهاية حتى بدأت طرابلس كمدينة وولاية تفقد ألقها ودورها الريادي، فنهايات هذا القرن حملت معها تحولات ومتغيرات ضخمة، حاولت جمانة بغدادي في رسالتها أن تُشرّحها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. فعلى الصعيد السياسي مثلت الامتيازات الأجنبية وحملة محمد علي باشا، كما الاطماع الاستعمارية، عوامل أساسية في اضعاف الدولة العثمانية، وانعكست حروباً وأحداثاً طائفية شهدها جبل لبنان بين الأعوام 1840 و1860، أدت إلى زعزعت الوضعين الاقتصادي والاجتماعي. كما أن نظام الامتيازات منح تفضيلات للأجانب على حساب التجار المحليين، ما أدى إلى حرمانهم من المنافسة المتكافئة وسيطرة التجار الأوروبيين ومنتجاتهم على الأسواق، وامتدت هذه السيطرة إلى نوع من الحماية، حيث أخذت كل دولة تمنح موظفيها وتراجمتها المحليين وعائلاتهم البراءات، فينعم كل منهم برعاية الدولة المانحة وتطبق عليهم الامتيازات الأجنبية.
يمكن اعتبار الاصلاحات التي أقرتها الدولة العثمانية، والتي كان أهمها خط كلخانة 1839 والتنظيمات 1856، والذي ترافق معهما سلسلة من القوانين الاصلاحية السياسية والاقتصادية والدستورية، المحاولة الجدية الأخيرة لإنقاذ ما يمكن انقاذه من الدولة التي تلمسّ اصلاحيوها أنها كانت على شفير الانهيار.
لكن التدخل الأجنبي في الدولة العثمانية كان قد بلغ ذروته على كافة الأصعدة، وخاصة على الصعيد الاقتصادي، وقد وفقت الباحثة في تحليل الآثار الكارثية لهذا التدخل على الحرف والزراعة والتجارة، والأهم هو التوقف المعمق أمام نهضة بيروت وأثرها على دور طرابلس وأهميتها. فالتطور الذي أصاب بيروت منذ أواسط القرن التاسع عشر، مع تزايد الاهتمام بمرفأها وربطه بالسكة الحديدية مع المناطق الداخلية، عدا عن أنه حولها إلى ولاية، مهّد لها الطريق لذلك التحول الذي شهدته لتصبح مدينة متميزة ومتطورة وبوتيرة متسارعة، أغرت تجار المدن الكبرى على التواجد فيها واعتمادها كعاصمة لهم، فضلاً عن عوامل كثيرة اقتصادية وسياسية تتوقف عندها الدراسة بالشرح والتحليل.
في هذا الوقت كان مرفأ طرابلس يتعرض للإهمال، وخطوط مواصلاتها تتقطع، واقتصادها يدخل في حال من الجمود، وهو ما دفع إلى هجرة عدد كبير من الحرفيين المهرة، أو فقدان الجدوى من بعض المهن والحرف اليدوية التي أغلق العديد من أصحابها محلاتهم ومصانعهم وورشهم الصغيرة. تشير الدراسة إلى تفشي البطالة المبكرة في طرابلس، والنزوح الريفي إليها، وهو في ظل تخلخل النظام الحرفي، أدى إلى اتساع رقعة الفقر التي خيمت على أحياء وشرائح واسعة من أبناء المدينة. تعدد الدراسة أثر هذه التحولات في انهيار الكثير من هذه الحرف التقليدية التي كانت يعيش منها المئات من العائلات، وينتظم من حولها شبكة ضخمة من العلاقات الاقتصادية الاجتماعية. لم تعد الحرفة التقليدية قادرة على الصمود أمام فيضان الانتاج الأجنبي ومزاحمته ولم تعد قادرة على منافسته، فأصابها التدمير والانحلال، ولم ينشأ بديل عنها أكثر تطوراً، وما نشأ بقي ضمن المستوى الذي لا يرقى إلى المنافسة ويسمح بتطوير ونهضة اقتصادية معتبرة.
في الخلاصة نحن أمام كتاب يقدم مادته بشكل موثق وشيق ومتماسك، يحلل بدقة مرحلة من أخطر وأصعب المراحل في تاريخ طرابلس، وهي لا تزال تترك بصماتها على واقعنا الراهن، ويدرس ظاهرة الحرف في الحياة المدينية خلال القرن التاسع عشر، فقد حدث انتقال تدريجي لمواقع القوة في المدينة وفي لبنان، ففي المدينة شهدنا انتقالاً من الأحياء والأسواق القديمة إلى الأحياء الجديدة ذات الأجواء الحديثة، وفي لبنان نهضت بيروت على حداثة متسارعة تنافس مثيلاتها على ساحل مدن بلاد الشام، مع هذا الانتقال واجهت الحرف التقليدية الطرابلسية صعوبات متزايدة في المزاحمة والتنافس نتيجة طوفان السلع الأوروبية الأرخص ثمناً والأفضل نوعية والمعفية من الضرائب في أغلب الأحيان. لقد اختفت حرف كثيرة كلياً رغم أن بعضها شهد انتعاشاً محدوداً، إلا أنه كان عاجزاً عن تطوير تقنيات انتاج جديدة وأرخص كلفة. وبشكل عام فقد عانى التجار الطرابلسيون العاملون في التجارة المحلية والاقليمية من خسائر جسيمة في تنافسهم مع بيوتات التجارة الأوروبية ووكلائها المحليين الذين استفادوا من الامتيازات الأجنبية.
إقتصاد ريعي .. وذهنية طرابلسية: لكن ما يجب التوقف عنده هنا، أن العوامل "الخارجية" السابقة على أهميتها الموضوعية، لا تعني أنه ليس هناك أسباباً محلية تتعلق بما يمكن أن نسميه بالذهنية الطرابلسية التي تولدت نتيجة ذلك السياق الذي إنحدرت إليه حال المدينة. فالإمتيازات الأجنبية والدور المتضخم للقناصل وللشرائح التجارية الصاعدة الملتفة حولهم، والاعفاءات الجمركية التي استفاد منها هؤلاء والتي أدت إلى اضعاف أو افلاس التجارة والحرف ومنعت تحولها من صنعة وحرفة إلى صناعة ومؤسسات تشغيلية، كان من نتيجتها تحوّل ما تبقى من البورجوازية الطرابلسية الناشئة إلى الاستثمار بالأرض وتملك العقارات والعيش من "ريعها"، بعيداً عن مغامرات الربح في التجارة والصناعة. لقد أدى هذا إلى استكانة البورجوازية المحلية الناشئة في الوسط الطرابلسي وتحولها إلى الاعتماد على "الاقتصاد الريعي" المضمون الذي تدره الأملاك العقارية وليس الاستثماري غير الآمن، كما في الصناعة أو التجارة، وهو الأمر الذي تفسره ملكية بعض العائلات والأعيان لقطاعات واسعة من الأراضي في طرابلس ومحيطها.
لقد استقر النشاط الاقتصادي في المدينة منذ أواسط القرن الماضي على ما ينتج من ريع الملكيات العقارية من جهة، وعلى عدد محدود من الأصناف الحرفية، التي يتم توارثها في غالب الأحياء عائلياً، بحيث يبقى "الكار" أو الصنعة "سراً" ثم "ارثاً" يتناقله الأبناء والأحفاد. لقد أدى هذا إلى تجذر عقلية تقوم على الاقتصاد الحرفي العائلي المتخصص. حيث اشتهرت عائلات معينة بعملها في مجال حرفي معين أباً عن جد. وبقيت هذه الحرف تدار بالذهنية التقليدية، وإن أطلق البعض فيما بعد على عمله اسماً حديثاً (مؤسسة أو شركة) لكن هذا الاسم بقي مرتبطاً بالعائلة في كل الأحوال، ويدار أيضاً بذهنية الحرفة العائلية الصغيرة القاصرة عن التحول إلى مؤسسة أو شركة مساهمة كبرى تقوم بتطوير الحركة الاقتصادية في المدينة عن طريق مراكمة وتجميع رأسمال، واعادة ضخه في داخلها ومحيطها، في عمليات متكاملة تؤدي لتأمين المزيد من فرص العمل من جهة، وتطوير الاستثمارات الاقتصادية من جهة أخرى. نستثني من ذلك بطبيعة الحال محاولات صناعية واستثمارية ناجحة حصلت بداية القرن ولم يكتب لها الاستمرار.
المسألة تتعلق بتخلف الذهنية الاقتصادية الطرابلسية وانكفائها إلى الاقتصاد الريعي الأكثر أماناً، وغيابها عن مواكبة المفاهيم الادارية الجديدة التي تتطلب استخداماً لتقنيات لم تكن معروفة سابقاً، واستخداماً جريئاً للكفاءات التي هي في الحقيقة استثمار بعيد المدى، وليست هدراً مانعاً من تنفيع الأقرباء الأقل كفاءة. ان استثمار الكفاءات والخبرات والتقنيات وتحديث العقلية الاقتصادية ونقلها من عقلية الكار والصنعة والحرفة إلى المؤسسة والشركة والمصنع هي المسألة التي تخلف عنها الاقتصاد الطرابلسي وأدت إلى تراجع دور المدينة وتهميشها، إلى جانب العوامل الأخرى بطبيعة الحال والتي جرى مناقشتها وتحليلها بتعمق.
لقد قدمت جمانة بغدادي دراسة غنية عن المهن والحرف في طرابلس خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، متسلحة بترسانة من الوثائق التي تنشر لأول مرة، وبخبرة واسعة في التعامل معها، وهي بهذا العمل البحثي الرصين، قدمت خدمة جليلة لمدينتها كما للمكتبة العلمية والتاريخية. ان العناصر التي تضيف من قيمة هذه الدراسة وأهميتها متعددة، وقيمتها الرئيسية في كونها تلقي أضواء كاشفة على مرحلة وظاهرة لم تكن بهذا الوضوح، فضلاً عن أن قراءتها ممتعة، وخصوصاً حين نكتشف بأن جزءاً من الماضي لا يزال كامن في حاضرنا.