اللباس الطرابلسي
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر*
(التأثير التركي)
د. مها كيال
إن اللباس في المجتمع هو مرآة تعكس لناظرها الكثير من المعطيات المجتمعية المعاشة. فاللباس هو وفي الدرجة الأولى، مادةٌ مصنعة تبرز لنا المستوى التقني والذوق الفني في المجتمع، ومدى تفاعلهما مع البيئة الجغرافية كما ومدى تأثرهما بالمعطيات الثقافية لهذا المجتمع، وتوضح لنا مدى تعاطيهما ونظام الموضة.
واللباس هو، وفي الدرجة الثانية لغة تخاطب إشارية تختلف مدلولاتها بإختلاف الزمان وتنوع المكان. لكل مجتمع لغته الملبسية المتغيرة وفق تغيراته وتطوراته. ويؤدي فهم هذه اللغة إلى تحديد الكثير من المعطيات الإجتماعية لكل فرد من أفراد المجتمع. فاللباس هو، على سبيل المثال، دالٌ إجتماعياً عن فئة العمر، عن الجنس (فئات بيولوجية) وكذلك هو دالٌ أيضاً عن الطبقة الإجتماعية، الإنتماء العقائدي أو السياسي، عن المستوى الإقتصادي للفرد في المجتمع.
واللباس هو، وفي الدرجة الثانية- إضافة إلى كل ما ذكرناه آنفاً- حاملٌ للكثير من المدلولات الإجتماعية التي يفسر لنا دراستها وتحليلها مدى التبادلات الحضارية بأنماطها المختلفة بين المجتمعات والحضارات المتنوعة.
بإختصار إن أي دراسة علمية للباس يجب أن تشمل، كي تكون وافية، ثلاثة أقسام:
أ- دراسة وصفية للباس مع نموذج لصنعه (Patron) وخريطة توضح مساحة إنتشار إستخداماته جغرافياً.
ب- دراسة تاريخية لتطور شكل هذا اللباس ولنمطيه تغير مناطق إنتشاره الجغرافي.
ج- دراسة إجتماعية لهذا اللباس ودوره في المجتمع.[1]
إن عرضنا السابق لمدى تنوع مدلولات اللباس المجتمعية إن تاريخياً أو إجتماعياً أو تقنياً أو فنياً أو حتى حضارياً، وإن تحديدنا لحدودية الدراسة العملية الوافية في هذا الإطار، يدفعنا للتوضيح أن ما سنحاول طرحه خلال البحث سيكون مختصراً- ولحدودية حجم البحث- على دراسة النقاط التالية:
1- سنعرض صورة عن المجتمع الطرابلسي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر موضحين دور الأتراك كطبقةٍ مسيطرةٍ سياسياً على الواقع الإجتماعي في طرابلس.
2- سنحلل نمطية إنعكاس الدور التركي من خلال اللباس في طرابلس: مداه وحدوديته.
3- سنعرض نماذج من اللباس الطرابلسي الذي يبرز بشكل واضح التأثير التركي عليه.
إن تركيزنا على إبراز دور الأتراك الإجتماعي في طرابلس وتأثير هذا الدور على الواقع الملبسي في هذه المدينة يهدف من بين ما يهدف، تبيان التناقض الطبيعي الذي وصفته بوتازي والذي ينشأ عادة بين موقف المجتمع من الطبقة النافذة وخضوعهم لها وبين موقفهم الذي ينشأ عن محاولات تقليدها[2]. لكن، وقبل أن نبدأ بعرض وتحليل التأثير التركي على اللباس الطرابلسي بنمطيته وحدوديته ودلالاته الحية في الملبس إبان تلك الفترة، سنشرح، للأمانة العلمية مصادر دراستنا هذه كما سنقدم عرضاً لتقنية بحثنا العلمي.
مصادر الدراسة
مختلفة هي ومتنوعة مصادر هذا البحث التي سنورد ذكرها تباعاً مع عرضٍ لقيمتها العلمية.
1- الذاكرة الحية
من الصعب جداً أن نجد في يومنا هذا شهوداً حيَّةً تستطيع أن تتذكر كيف كان لباس آبائها في نهائيات القرن الماضي وبدايات هذا القرن. وإن صادف ووجدناها فإن شهاداتها نادراً ما تكون دقيقة ووافية. فمن هؤلاء الشهود مثلاً من يستطيع أن يؤكد لنا أن الطرابلسيات قد لبسن الشروال الواسع كما وأنهن قد إعتمرن الطربوش، لكنهم عاجزين فعلياً عن التحديد بشكل واضح كيف كان شكل الشروال بدقة أو كيف كان شكل الطربوش النسائي الطرابلسي.
إن الإعتماد على الذاكرة الحية في دراسة الملابس لا يصبح واقعياً ناجعاً علمياً إلا في وصف ما عايشه أصحاب هذه الذاكرة هم أنفسهم من لباس. وإن إرتكزنا على شهادة هؤلاء في دراسة اللباس الطرابلسي في نهايات القرن الماضي فذلك لتدعيم- ولو بشكل ضعيف- ما قد نجده مدوناً عن اللباس الطرابلسي أو محفوظاً منه.
2- الملابس المحفوظة
إن اللباس، وكما ذكرت دسلاندر، هو مادّة استهلاكية، غالباً ما تُلبس، تُرمى، أو تُحول قبل أن تختفي كلياً، خصوصاً عند الطبقات الشعبية التي لم يبقَ لها، وفي كل بقاع العالم، أي لباس شاهد عن طريقة ملبسها الواقعي التاريخي[3] إضافةً إلى هذا الأمر فإن طرابلس تفتقر أيضاً لوجود متحف إتنوغرافي: هذان الأمران يبينان فعلياً دور هذا المصدر المعلوماتي الذي لم يكن لذكره من قيمة لولا ما وجدناه من قطع ملبسية محفوظة في بعض البيوت الخاصة في هذه المدينة. هذه البيوت التي تعرضت محتويات غالبيتها أيضاً للكثير من الأذى خصوصاً أثناء الحرب اللبنانية الأخيرة، مما زاد في فقداننا لمصادر مهمة تدعم بحثنا.
ولا بد هنا من التحديد بأن ما وجدناه من لباس محفوظ لا يمثل إلا شهادة مجتزأة نظراً لأن ما نحتفظ به غالباً هو اللباس الثمين أي لباس المناسبات.
3- المصادر المكتوبة
يمكن تقسيم المصادر المكتوبة (كتب، مقالات) التي اعتمدناها كمراجع لبحثنا هذا إلى ثلاثة أنواع.
النوع الأول ويتناول بالدراسة اللباس العربي عامةً أو اللباس في الأمبراطورية العثمانية. من أسماء هذه المراجع نذكر على سبيل المثال لا الحصر:
دوزى: "Dictionnaire détaillé des noms des vêtements chez les Arabes"
حمدى باي: "Les costumes populaires de la Turquie en 1873"
جوان: "Le costume feminine dans ĽIslam syrio-palestinien"
تلكه: "Le costume en Orient"
النوع الثاني، ويتناول بالدراسة اللباس اللبناني تحديداً. من هذه المدونات نذكر على سبيل المثال أيضاً: شهاب "Le costume au Liban"، خاطر: "الأزياء اللبنانية في التاريخ"؛ "العادات والتقاليد اللبنانية"، لحود "العادات والأخلاق اللبنانية...".
كل هذه المدونات التي ذكرناها، والتي وإن إختلف فيها أسلوب الدراسة للباس في المنطقة، تشترك جميعها بعدم الدقة في تقديم المعلومات بشكل علمي. فغالباً وعند وصف القطعة الملبسية، نجد أن الكاتب ينتقل بعرضه من مرحلة تاريخية لمرحلة أخرى، أحياناً متباعدة زمنياً، كما ومن منطقة إلى أخرى دون أن يصف لنا كيفية تطور شكل اللباس خلال هذه المرحلة، ودون أن يحدثنا عن دور هذا اللباس إجتماعياً، أو عن كيفية إنتشاره جغرافياً كما ودون أن يعطينا رسماً لشكله أو للونه.
أما النوع الثالث من المصادر المكتوبة فإنها تتناول بالدراسة واقعياً مواضيع بعيدة نسبياً عن الموضوع المباشر لبحثنا، منها ما هو مخصص لدراسة اللباس في العراق مثلاً كمقال السمرائي "لمحة على الأزياء الشعبية" أو في مصر ككتاب الخادم "تاريخ الأزياء الشعبية". ومنها ما هو مخصص لدراسة تاريخية مرتبطة بشكل غير مباشر بموضوع اللباس مثل كتاب القاسمي "قاموس الصناعات الشامية"، علاف "دمشق في مطلع القرن العشرين"، كرد علي "خطط الشام"، وغيرها كثر. والحقيقة أن هذه المصادر قد أعطتنا فعلياً معلومات أحياناً أهم مما استطعنا الحصول عليه من الكتب المخصصة واقعياً لدراسة اللباس بشكل مباشر.
4- الصور والرسوم
لنحدد الآن القيمة العلمية للرسوم والصور النادرة التي استطعنا أن نجدها سواء معروضة في بعض الكتب أو محفوظة في المتاحف.
إن غالبية التفسيرات التي قرأناها عن هذه الرسوم والصور دائماً كانت تختصر مثلاً بـ: (إمرأة من طرابلس في القرن الثامن عشر) (رجل من لبنان الشمالي في القرن التاسع عشر) وهكذا... (أنظر صورة رقم 1 و2).
نضيف إلى هذه الحدودية الخطرة في تفسير اللباس من خلال الرسوم والصور المسألة التي تخلقها عادة، وكما ذكر دولابورت، إستخدام هكذا مصدر للدراسة، هذه المسألة متمثلة بأن الصور لا تعطينا إلا الشكل الخارجي للباس كما وأنها لا تظهر هذا الأخير إلا من زاوية معينة، وهي إضافة إلى هذه الأمور لا تمدنا بأي معلومات تخص تفصيلة اللباس[4].
5- محفوظات متحف الـ Homme (باريس)
ومتحف Topkapi (اسطنبول)
استطعنا، وبفضل ما جمعه لنا الغير من ملابس ومدونات وصور، أن نسد قسماً صغيراً من إحتياجات عملنا. ونقول قسماً صغيراً لأنه، وللأسف، بالرغم من عثورنا على عدد من القطع الملبسية المحفوظة في كل من متحف الأوم (باريس) وتوبكابي (اسطنبول) إلا أن هذه القطع كانت تنقصها الدراسة المتحفية الوافية. ففي بطاقاتها لا نجد تحديداً لا لفترة استخدام القطعة الملبسية تاريخياً ولا للمنطقة الجغرافية المحددة التي كانت تستخدم فيها هذه القطعة، كما ولا نجد دراسة لدور هذا اللباس إجتماعياً.
6- الصناعات الحرفية التقليدية
إن ملاحقتنا الحقلية للعديد من الحرف التقليدية الملبسية التي ما زالت تعتمد التقنية الموروثة، والتي وجدناها أكثر ما وجدناها في دمشق، قد ساعدتنا كثيراً في التحقق من بعض المعلومات المسموعة والمقروءة حول موضوع بحثنا. من هذه الحرف نذكر على سبيل المثال: حرفة تصنيع وتنظيف الطرابيش، حرفة تصنيع العقال، صناعة القباقيب، خياطة العباءة، المشلح، السوكه، المنتان، الصدرية، الشروال، القمباز، صناعة الأغباني.
تقنية بحثنا العلمي
في دراستنا للباس الطرابلسي في نهايات فترة الحكم العثماني، عمدنا وعلى نمطية من سبقنا من الباحثين في هذا الميدان، إلى عرض وملاحقة أصل اشتقاق إسم كل قطعة ملبسية وذلك بالرغم من وعينا الكامل إلى مسألة أن هناك أحياناً قطعة ملبسية واحدة تختلف أسماؤها بإختلاف الزمان والمكان (مثال: الطربوش ويطلق عليه في تركيا إسم "فاس" وفي تونس إسم "شاشيه" وفي العراق إسم "فينة"...) وأن هناك أحياناً قطع ملبسية مختلفة واقعياً بالرغم من أنها تحمل الإسم ذاته (مثال: طربوش تعني في طرابلس تلك "القبعة الحمراء" في حين أن كلمة طربوش تعني في تركيا وفي إيران "غطاء الرأس"). لكن وبالرغم من هذا الواقع، فإن ملاحقة أصل اشتقاق تسميات الملابس تظل مهمة لما فيها من دلالات لغوية تفيدنا من متابعة التأثيرات والتبادلات الحضارية التاريخية. يكفي مثلاً أن نلاحظ النسبة المرتفعة من الأسماء التركية التي كانت تطلق على قطع كثيرة من اللباس الطرابلسي، كما سنشرح لاحقاً، أثناء السيطرة العثمانية على هذه المدينة لنفهم مدى تأثير الأتراك على المجتمع الطرابلسي في تلك الفترة.
أما فيما يختص بنماذج خياطة اللباس الطرابلسي في تلك الحقبة، فلقد حاولنا جاهدين، سواءٌ من خلال ما لقيناه من قطع ملبسية محفوظة أو سواء من خلال ما تابعنا صناعته عند بعض الحرفيين التقليديين المزاولين لهذه الصناعة، أن نقدم عدداً لا بأس به من هذه النماذج.
بقي أن نصرح وبوضوح، أننا لم نستطع ولهذه الفترة التاريخية من إعطاء صورة واقعية وكما يجب عن اللباس الطرابلسي ودوره كلغة تخاطب مجتمعيه. فنحن غالباً ما تعاملنا في دراستنا هذه مع قطع ملبسية ميتة، هذه القطع التي شكلت واقعياً، وكما أوضحنا، جزءاً من اللباس الطرابلسي الحقيقي المعتمد إبان الحقبة المدروسة. أمام هذا الواقع وبالرغم من النقص الذي نعترف بوجوده فعلياً، فإن هذه الدراسة تظل مفيدة بمساهماتها المتواضعة في تجميع وملاحقة ما يمكن تجميعهُ وتحقيقهُ في هذا الميدان العلمي الهام.
وقبل أن نبدأ عرض اللباس في طرابلس في نهايات القرن التاسع عشر، لا بد لنا من إعطاء لمحة عامة عن واقع المجتمع الطرابلسي إبان تلك الفترة لنفهم ونتبين نمطية ومدى التأثير التركي عليه وبالتالي على لباس أهله.
1- اللباس الطرابلسي خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر: لمحة عامة
لقد حافظ المجتمع الطرابلسي وخلال غالبية الفترة الزمنية التي خضع فيها للنفوذ التركي، على معظم تركيباته التقليدية الإجتماعية منها والثقافية كما التقنيّة منها والإقتصاديّة. فمن الناحية الإجتماعية، كان هذا المجتمع مقسم طائفياً، وبشكل أساسي، لفئتين هما فئة السُنّة أو الفئة الغالبة والمسيطرة إجتماعياً، إن عددياً أو لتوافق دينها ودين الدولة العلية، وفئة الروم الأرثوذكس والتي لم يكن يحق لها التمثل في الحكم إلا بمطرانها[5].
أما طبقياً، فلقد كان المجتمع الطرابلسي مقسم أيضاً إلى ثلاث طبقات: الطبقة الغنية والمكونة من فئة كبار الملاكين وكبار التجار والعلماء. الطبقة المتوسطة وتضم فئة صغار الملاكين وصغار التجار كما الحرفيين والموظفين، أما الطبقة الثالثة فكانت مؤلفة من فئة العمال المياومين وصغار الصناع[6].
أما جنسياً فكانت طرابلس مقسمة لقسمين أو لعالمين منفصلين رغم ارتباطهما الوثيق داخل الأسرة وأقصد بهما: "عالم الرجال" و"عالم النساء"، لكل "عالم" منهما محيطه "الشبه" مستقل: "العالم" الخارجي للرجال والداخلي للنساء.
هذا الواقع الإجتماعي فسره وبشكل واضح الواقع الملبسي لسكان هذه المدينة في تلك الحقبة. فاللباس الخارجي للرجل كان يحمل كافة المدلولات الإجتماعية التي كانت تميزه ضمن محيطه وفي مجتمعه (أنظر الرسم البياني رقم 3) بينما اللباس الداخلي لهذا الرجل ذاته في منزله كان خالياً تقريباً من أي مدلولات إجتماعية (أنظر الرسم البياني رقم 4)، عكس وضعية المرأة الطرابلسية في ملبسها. فملبس الطرابلسية الداخلي كان مليئاً بالمدلولات الإجتماعية التي تصنفها مجتمعياً في محيطها، في حين أن ملبسها الخارجي كان خالياً من أي "مدلول" إجتماعي لها: وضع جد معبر عن واقع العالمين في هذه المدينة في تلك الحقبة[7] (أنظر الرسم البياني رقم 5).
2- التأثير التركي في اللباس الطرابلسي: نمطية ومداه
إكتسبت السلطنة العثمانية، وبسبب هيمنتها السياسية على المجتمع الطرابلسي حظوة وهيبة دعمتهما عند مسلمي طرابلس ما تمثله السلطنة دينياً وأقصد كمركز للخلافة. ولقد أثر هذا الواقع في سلوك الطرابلسيين حيث بات الحكام العثمانيين بالنسبة لهم مثالاً يحتذى. ولقد تبلور هذا الأثر المنوه له، وظهرت إنعكاساته في اللباس الطرابلسي وأضحت اسطنبول ورجالاتها بالنسبة لأهالي طرابلس مصدر الموضة والتجدد.
وتجدر بنا الإشارة هنا إلى أن بدايات ظهور التأثير الغربي في اللباس الطرابلسي قد وصلنا وتأثرنا به من خلال الأتراك أنفسهم.
إن هذا الوضع المنوه له، وأقصد تقليد الطرابلسيين (المحكومين) للأتراك (الحاكمين) قد فسر منهجيته إبن خلدون في مقدمته حين قال: "إن النفس أبداً تعتقد الكمال في من غلبها وإنقادت إليه إما لنظره بالكمال بما وفَّر عندها من تعظيمه أو لما تغالط به من إن إنقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب"[8].
ويمكن وصف التأثير التركي في اللباس الطرابلسي أنه كان تأثيراً ليس فقط مقبولاً بل وأيضاً منشوداً وذلك لعاملين:
أ- العامل الإجتماعي/السياسي:
يرتكز المجتمع الطرابلسي في تركيبته الإجتماعية، وكغيره من المجتمعات العربية، على النظام الإقطاعي العائلي الذي وصف إبن خلدون ديناميته بالتالي:
"كل طبقة... لها قدرة على من دونها من الطباق وكل واحدة من الطبقة السفلى يستمد بذي الجاه من أهل الطبقة التي فوقه ويزداد كسبه تصرفاً فيمن تحت يده على قدر ما يستفيد منه والجاه على ذلك داخل على الناس في جميع أبواب المعاش ويتسع ويضيق بحسب الطبقة والطور الذي فيه صاحبه فإن كان الجاه متسعاً كان الكسب الناشئ عنه كذلك وإن كان ضيقاً قليلاً فمثله"[9].
كان يترأس هذا المجتمع الطرابلسي الطبقي إذاً، وفي تلك الفترة، عدد من كبار العائلات الميسورة التي خولها مركزها هذا الإتصال والطبقة الارستقراطية التركية. هذا الإتصال دعمته طبعاً ما يربط هذه الأسر وتلك الطبقة سياسياً من علاقات تبعية وإخلاص.
إن التأثير التركي الملبسي جاء إذاً من خلال تقليد الأسر الطرابلسية الميسورة لمن فوقها رتبة وأقصد الطبقة الأرستقراطية التركية الحاكمة، ومن ثم انتشر تدريجياً في المجتمع الطرابلسي من خلال تقليد الطرابلسيين لحاكميهم المحليين وهكذا...
إن هذه الهرمية الطبقية، التي أشرنا إليها، موافقة واقعياً لنظام الموضة الهرمي التقليدي. هذا النظام الذي، وقبل أن يتأثر ويرتبط بنظام المجتمعات الإستهلاكية، كان ذات حركة تطور بطيء تتم بطريقة هرمية/عامودية من القمة إلى القاعدة: كل طبقة اجتماعية فيه تحاول تقليد الطبقة الأعلى منها مقاماً وهكذا. ويكون هذا التقليد عند إنتشاره هو الحافز الفعلي الذي يدفع القمة لتغير موضتها.
2- العامل التقني/الإقتصادي:
إن الهيمنة التركية على طرابلس هي واقعياً هيمنة عسكرية/سياسية أكثر منها هيمنة إقتصادية. ويمكن القول أن الحرف الطرابلسية كانت وقتها ما زالت تعيش عصرها الذهبي قبل أفولها أمام الهيمنة الإقتصادية والتفوق التقني للصناعة الغربية عليها.
وإن حددنا حتى الآن نمطية التأثير التركي على اللباس الطرابلسي وحدوده، لا بد لنا من أن نوضح، أن لباس هذه المدينة كان يحمل في ذات الفترة التاريخية مدلولات لتأثيرات حضارية أخرى متنوعة ومختلفة. وأهم هذه التبادلات هي التي كانت تتم بين طرابلس والمدن والبلدان المجاورة لها وأقصد تحديداً البلدان العربية. ولقد شجع هذا التبادل ودعمه ما كان يربط طرابلس بمحيطها العربي من صلات تقارب ثقافي/إجتماعي كما ما كان يجمع كل هذه المنطقة من تشابه في مستوى التطور التقني وإنفتاح بالنسبة للتبادل الإقتصادي. فخلال غالبية الفترة العثمانية كانت كل مدينة من المدن العربية الخاضعة لها تتميز بصناعة حرفية معينة زائعة الصيت يتم تصديرها إلى المناطق المجاورة. وفي هذا المضمار- وتحديداً في ميدان اللباس- كانت طرابلس وقتها تعرف بجودة نتاجها للحرير وخصوصاً للزنانير والشالات المصنعة منه[10].
سنحاول فيما يلي عرض فقط أهم النماذج الملبسية التي استخدمت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في طرابلس والتي تبرز بشكل واضح التأثير التركي وأهميته في لباس تلك الفترة. وسنقسم هذا العرض لقسمين: القسم الأول سنقدم فيه نماذج ملبسية للطرابلسيين أما القسم الثاني فسنخصصه لعرض نماذج من لباس الطرابلسيات في ذلك الوقت.
1- أهم القطع الملبسية ذات التأثير التركي: عند الطرابلسيين
- الطربوش: لفظ من أصل فارسي مشتق من كلمة (سر: SAR) وتعني الرأس (وبوش: Pus) وتعني غطاء. والطربوش غطاء للرأس متنوع الأشكال، مصنوع من الجوخ الأحمر، له ذؤابة حريرية (شرابه) باللون الأسود أو الأزرق. وغطاء الرأس هذا قد عرف في الشرق منذ العهد السومري. ولدخوله لبنان وللرموز المجتمعية المختلفة التي حملها تاريخياً أهمية جمة في فهم الكثير من المعطيات السياسية والمجتمعية للبلاد في ذلك الوقت. فالطربوش الذي يمكن أن نراه في (الصورة رقم 6) قد عرف في لبنان بإسم الطربوش المصري. ولقد دخل هذا الطربوش المنطقة واستعمل فيها منذ حملة إبراهيم باشا المصرية.
هذا الطربوش يشبه في شكله وفي لون ذؤابته الطربوش الذي كان يلبس في تلك الفترة أيضاً في البانيا (لا ننسى أن ننوه هنا بأصل إبراهيم باشا وأبيه محمد علي باشا الألباني). ولقد عرف لبنان أيضاً الطربوش المغربي الذي تزامن دخوله ودخول الطربوش المصري المنطقة. ولقد حُمل بواسطة الإنكشارية المغاربة الذين تطوعوا في جيوش بعض الحكام الإقطاعيين كما مع بعض المتصوفين الذين جاءوا المنطقة لنشر مذاهبهم[11]. هذا الطربوش يختلف في الشكل عن الطربوش المصري فقط في لون الذؤابة السوداء.
ومن أنواع الطرابيش التي دخلت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الطربوش العزيزي الذي نسبت تسميته للسلطان عبد العزيز العثماني (أنظر صورة رقم 7) ولقد بدأ إعتماد الطربوش في اسطنبول مكان العمامة منذ عهد السلطان محمود الثاني ولقد تزامن هذا الإعتمار وإرتداء هذا الحاكم للزي الغربي.
إن حلول الطربوش مكان العمامة كان له وقع هام في المنطقة خصوصاً وأن هذه الأخيرة أصبح لها مع مرور الزمن رمزاً دينياً إسلامياً، أمر يفهم من خلاله سبب محاربة هذا الغطاء بادئ الأمر من قبل المسلمين في لبنان ثم الإعتياد عليه تدريجياً- وخصوصاً الطربوش العزيزي منه- وذلك بإعتماده بادئ ذي بدء كغطاء رأس تلف حوله العمامة[12].
- الكوبران: لفظ غير معروف مصدره، يعني قطعة من اللباس انتشرت إستخداماتها في منطقة الشرق عامة: من بلاد فارس وفي أوروبا حتى البلقان. أما في النصف الثاني من القرن التاسع عشر فلقد كانت تلبس في طرابلس من قبل قواص القنصل. وكوبران هذا الأخير هو عادة مزين بخيوط مطرزة ذهبية أو فضية ومبطن بقماش حريري (أنظر صورة رقم 8 و9).
- القمباز: لباس كثر إستخدامه أيام السلطنة العثمانية. يصنع عادة من قماش الألاجة (كلمة تركية تعني المميل) أو الديمة (تصغير لكلمة دمسكو) أي القماش الذي يسمى محلياً في طرابلس بميماية (قماش حرير وقطن).
ولقد لبس هذا الثوب في طرابلس من قبل الرجال والنساء على حد سواء. يختلف القمباز الرجالي في قصته عن القمباز النسائي في شكل الكم الذي يكون عادة فضفاضاً في القمباز النسائي (أنظر الرسم البياني رقم 10).
- السوكه: كلمة من أصل لاتيني- يوناني (Sogos) وتعني سترة انتشرت في طرابلس بواسطة الأتراك عند اعتماد هؤلاء اللباس الغربي (أنظر الرسم البياني رقم 1).
- المنتان: لغوياً مجهول المصدر، هو لباس انتشر إستخدامه كثيراً في العهد التركي ويغطي أعلى الجسم. ميزته أنه بدون ياقة وله أكمام طويلة.
يختلف منتان الأغنياء في طرابلس عن الفقراء بما يتميز به من التطريز بإبريم مصنع من خيوط حريرية تكون عادة منتقاة من لون القماش نفسه. (أنظر الرسم البياني رقم 12).
2- أهم القطع الملبسية ذات التأثير التركي: عند الطرابلسيات
- اليلك: كلمة من أصل تركي للباس إنتشر استخدامه في المنطقة منذ عهد المماليك. واليلك هو ثوب له أكمام طويلة وواسعة، يصنع عادة من قماش البروكار المطرز بخيوط الذهب أو الفضة (أنظر صورة رقم 13).
- الإنطاري: لفظ من أصل تركي ويعني ثوباً طويلاً فضفاضاً مفتوحاً من الأمام من أعلاه إلى أسفله. هذا الثوب يصنع عادةً وحسب الطبقات الإجتماعية وإمكانياتها الإقتصادية، من قماش جميل مصنع من خيوط حريرية وقطنية من نوع الألاجة والديمة أو من قماش الموسلين المعرق أو الجوخ، البروكار، التفتة، أو من المخمل. والإنطاري، وكما ذكر د. شهاب، لم يستعمل في لبنان إلا بعد حملة إبراهيم باشا[13]. (أنظر الرسم البياني رقم 14).
- السلطة: لفظ تركي يطلق عادةً على سترة طولها أحياناً حتى الخصر وأحياناً حتى الركبة، غالباً ما تكون هذه السترة بدون ياقة وغير مزررة ولها أكمام يصل طولها إلى ما تحت الكوع (أنظر الرسم البياني رقم 15).
- الفستان: لفظ من أصل تركي يوجد، وكما ذكر د. فريحة، لفظاً مرادفاً له في اللغة الإسبانية (Fustan) وفي الإيطالية (Fustagno) وهذا اللفظ يعني ثوباً نسائياً[14].
- الأوية: لفظ تركي يستعمل كتسمية لمناديل محلاة بشغل الإبرة من نوع الأوية. هذا الشغل يعتمد على الخيط والإبرة لتصنيع أشكال مختلفة من الورود والزهور والأشكال الزخرفية الجميلة[15] (أنظر صورة رقم 16).
- الصرما: لفظ تركي يطلق على نوع من التطريز الذي يتم بخيوط الذهب أو الفضة ويعني: لَفْ. هذا التطريز كثيراً ما كان يزين ملابس النساء الطرابلسيات الموسرات منهم.
- المست: كلمة تركية تعني حذاءً بدون كعب طرفه الأمامي مروس ومرتفع قليلاً عن الأرض.
- البابوج: لفظ مشتق من كلمة بابوش (papouch) الفارسية ويعني حذاءً يلبس داخل المنزل.
- الجزمة: لفظ مشتق من كلمة جيزمة التركية (jaysemeh) والجزمة كانت في تلك الحقبة مزودة بمهماز يساعد في ركوب الخيل[16].
لا بد وفي ختام هذا البحث (الخاص تحديداً بإبراز أثر الأتراك على اللباس الطرابلسي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر: نمطيته ومداه) من أن أتوجه بدعوة عامة للإهتمام بدراسة موضوع اللباس لما لهذا الأخير من دلالات مجتمعية هامة على أصعدة جد مختلفة وجد متنوعة. كما ولا بد لي من أن أتمنى العمل على إنشاء متاحف إتنوغرافية تهتم بدراسة كافة نتاجنا الإجتماعي المادي، فالتاريخ الإنساني جزء منه نستقرئه ونفهمه ونحلله من خلال الوثائق، وجزء أكبر منه (مهملة دراسته في منطقتنا حتى الآن) نستقرئه ونفهمه ونحلله من خلال النتاج المادي كل النتاج المادي وليس فقط الحجر.
* دراسة نشرت في أعمال "المؤتمر الأول لتاريخ ولاية طرابلس إبان الحقبة العثمانية، 1516-1918".الجامعة اللبنانية – كلية الآداب والعلوم الإنسانية – الفرع الثالث، 27و28 أيار 1995، ص273-305.
[1] - DELAPORTE: Le signe vestimentaire… L΄Homme (Paris) 20 1980 (P120).
[2] - BUTAZZI G… La mode: art, histoire et société- Paris, Hachette 1983. P.6.
[3] - DESLANDRES Y… Le costume image de l΄homme- Paris, Albin Michel 1976 P 20.
[4] - DELAPORTE: Le signe vestimentaire, op. cit P. 121.
[5] - SOURATI B: Structures socio- politiques à Tripoli (Liban) (1900-1950) Université de Paris. Nanterre (Département de sociologie). (Thèse pour le doctorat en sociologie (inedite) (voir P.P. 23-84).
[6] - نور الدين عارف ميقاتي: طرابلس في النصف الأول من القرن العشرين ميلادي. طرابلس: دار الإنشاء 1978.
[7] - KAYAL M.: Le système socio- vestimentaire à Tripoli (Liban) entre 1885-1985. these présentée à la faculté des letters de Ľuniversité de Neuchâtel pour obtenir le docteur des letters (inédite).
[8] - إبن خلدون: المقدمة. – بيروت: دار إحياء التراث العربي؟ 1900 (أنظر ص147).
[9] - إبن خلدون: مرجع مذكور (أنظر ص391).
[10] - KAYAL M.-: ibid (P.P. 37 et 52).
[11] - لحد خاطر: الأزياء اللبنانية في التاريخ- مجلة الحكمة- بيروت 53/1954 (أنظر ص21).
[12] - KAYAL.-: ibid (P.P. 34-35).
[13] - CHEHAB. M.: Le costume au Liban. Bulletin du Musée de Beyrouth 1942/43 (P.63).
[14] - فريحة أنيس: معجم الألفاظ العامية. بيروت: مكتبة لبنان 1973.. ص. (129).
[15] - KAYAL. Ibid (P. 46).
[16] - KAYAL. Ibid (P. 42-43).