الشيخ جميل عدرة
الأستاذ معتز مطرجي
من الرجال قلة إذا تحدثوا أنصت إليهم الناس، وإن تكلموا أرهفت إليهم الأسماع، وإن عملوا تركوا آثاراً في ضمير شعبهم.
في الخمسينات من القرن الماضي، كان الشيخ جميل عدره يلقي دروسه في العقيدة والحديث والتفسير في الجامع المنصوري الكبير بعد صلاة المغرب، كان رحمه الله خفيض الصوت، هادئ القول، يلفظ كلماته بتؤدة، بحيث يفهم السامع ما يعنيه دون جهد، كانت عيناه تغرورقان بالدموع عند ذكر الله، وقلبه يخشع بالإيمان عند الحديث عن الرسول عليه الصلاة والسلام.
نت أتابع دروسه وأنا فتى يافع.
الشيخ جميل عدره، عالم محدث، مرشد صادق، باحث منقب في القرآن والسنة عن الحقيقة وعن كل ما يصلح لهذه الامة، بعيداً عن الموروث من البدع والشبهات، متحرراً من الأساطير والخرافات، وهابي السيرة ، سلفي المنهج، أشترك مع الشيخ وهيب البارودي في إصدار جريدة البيان سنة 1911، ما لبث ان استقل بها، وكانت البيان منبراً حراً للثقافة العربية، ومناراً للعلوم الشرعية، وملاذاً لأصحاب الأقلام الحرة.
ترجم له الحاج فضل المقدم رحمه الله، ونشر هذه الترجمة في مجلة تاريخ العرب والعالم في نيسان سنة 1982، فقال:
... "وكان أشد ما يؤلمه ان يرى مجتمعه سادراً في جهالته، غافلاً عما تتمخض عنه دنيا العرب والإسلام من حركات إصلاحية وثورات تحريرية وبالأخص كبرى هذه الحركات وأبعدها أثراً في تاريخ الاسلام الحديث "الوهابية" أو ما كانت تبثّه الدولة العثمانية الخاضعة كلياً لقناصل الدول الاجنبية والدول الغربية، إذ كان من خبث الغرب الإستعماري الحاقد، ومن جهالة هذا الشرق الجامد، ان يجعل الاول بأسس المشرقيين فيما بينهم شديداً، يمدهم بالسلاح ليحارب بهم كل إصلاح.
أما المؤرخ الدكتور عمر تدمري أحد تلامذة الشيخ جميل فقال:
هو الشيخ الفاضل، الواعظ، المدرّس، الفقيه، أخذت عليه دروس الفقه الحنفي في القسم الشرعي بكلية التربية والتعليم الاسلامية سنة 1956 وكان يملي علينا من حفظه، ويكثر الامثلة لإثبات المسائل الفقهية وخصوصاً في تدريس مادة "التوحيد" في كتاب الجوهرة، وكان ديّناً ورعاً صالحاً رحمه الله.
ولد الشيخ جميل عدره في طرابلس سنة 1872، أبوه الشيخ عبد القادر رجل الدين الزاهد، التقي المنقطع الى العبادة.
دخل مترجمنا الكتّاب وتلقى علومه الاولى فيه على عادة الطلاب في ذلك العهد، ثم في المساجد، على كبار العلماء، والتحق بمدرسة (مشحة - عكار) العالية التي أنشأها المحسن محمد باشا المحمد، وأهداها السلطان عبد الحميد الثاني مكتبة قيّمة، وكان من مشايخه فيها العلاّمة الشيخ محمد إبراهيم الحسيني والشيخ سعيد اليمني وغيرهما من جلة العلماء، ثم عاد الى طرابلس والتزم بدروس الشيخ أمين عز الدين، وهو من كبار العلماء والادباء.
عيّنته (نظارة المعارف) عام 1920 معلماً في المدرسة السلطانية (الجديدة اليوم) وظل فيها حتى 1931 وانتقل بعدها الى دار التربية والتعليم الاسلامية وهو رئيسها، ويصبح استاذ الادب العربي فيها، وأنشأ القسم الشرعي، وتولى تدريس العلوم الشرعية واللغوية، وظل فيها حتى توفاه الله عن تسعين عاماً سنة 1962.
ولم يقتصر نشاط شيخنا على التربية والتعليم وإنشاء المجلات بل تعداها الى الجمعيات الخيرية والعلمية والاجتماعية، وقام بإمامة المسجد المنصوري، والخطابة في جامع أبي سمراء، والتدريس في مدرسة الحبّاك القريبة من مسكنه، فانتسب في مطلع شبابه الى الجمعية الخيرية الإسلامية التي كان يرأسها العلاّمة الشيخ علي رشيد الميقاتي، وفي عام 1921 تنادى ونفراً من كرام العاملين معه، وفي طليعتهم المرحوم الحاج رفيق الفتال لتأسيس (جمعية إسعاف المحتاجين وملجأ الأيتام الاسلامي) وعندما توقفت هذه عن العمل استعيض عنها بولادة الجمعية الخيرية الاسلامية وإسعاف المحتاجين سنة 1930 والتي تضم كلية التربية وما زالت قائمة حتى الآن. رحم الله شيخنا الجليل الذي كان حريصاً على أمور دينه، وتأدية الواجب في سبيل خير بلده وأمته حتى آخر رمق من عمره الطويل.