الخوجاية
بقلم فلك مصطفى الرافعي
(نُشرت في جريدة البيان بتاريخ 25 كانون الثاني 2012)
"الخوجاية" دار الحضانة القديمة كانت مثار جدل للمؤرخين. فمنهم من رد أصل الكلمة إلى التركية لتزامن نشأتها أواخر الحكم العثماني وبعده، ومنهم من أرجعها إلى تحريف لغوي فقالوا إنها في الأصل "الخواجية" مؤنث "الخواجا" أي الثري المحترم، وانها وافدة إلينا من الغرب الذي استعان مبكراً بمساعدة منزلية تقوم أولاً على تربية الأولاد والإهتمام بالمنزل.
وبغض النظر عن تفاوت نسب الكلمة، فقد استأثرت المهنة بحراك في الحيّ، وقلَّما تخلو منطقة سكنية من "خوجاية" وأكثر وخلافاً لدورها كمساعدة، وهذا ترف منزلي لم تخبره سيدات أيام زمان في وقت لم تلامس المرأة حينها مغامرة الوظيفة. فقد كانت معظم النساء ربات بيوت.
"الخوجاية" كانت التأهيل الأول لدخول عالم المدارس القليلة، كما وكانت الحاضنة الأولى لأجيال من الفتيان والفتيات في سن البراءة والطهارة، كما كانت على بساطة في المنهج والمكان، فقد اقتصرت على غرفة كبيرة من دار الخوجاية، والإقامة كانت على"حصير من القش الملوّن "تعلوه بساط أو أريكة منسوجة من بقايا ملابس، وكانت "الخوجاية "تبدو للوهلة الأولى انها "معتقل" لساعات تتفرغ بها الأم لتدبير شؤون البيت من طهي وتنظيف، بينما كانت الإلفة تنسج علاقة من نوع آخر. فقد أسست لقيام رابطة بين أبناء الحيّ الواحد وأحياناً الجوار، يأكلون سوياً من الزوادة المبروكة، ويلهون بخبريات بدائية لغياب عناصر التزويد من وسائل شغلتنا اليوم، والأهم انها كانت مرتعاً للأحلام، وكانت أحلام الصغار تشبههم وعلى مقاسهم وطموحاتهم، كأن يلتقوا دائماً. كما يشهد كبارنا ان رابطة متينة العُرى قد توثقت بين أبناء "الخوجاية" وكانوا على مدى السنين التي تلت يتفاخرون بأن فلاناً كان "ابن خوجايتي" فكان الوداد والوفاء والتكامل الإجتماعي نتاج تلك الحقبة الغالية، لأن معظم رواد "الخوجاية" كانوا على نمطية واحدة وأسلوب بيئي متحد، وعلى درجة متقاربة من سبل العيش. فلا تفاوت طبقياً، بل كانوا صورة متعددة الألوان للوحة منسجمة، وقد أحدثت نوعاً من الأخلاقيات، حتى اعتبر أبناء الخوجاية أخوة في النسب. فكانت الصبيّة لا تتحرج من إجراء حديث وإلقاء تحية إذا قابلت أحدهم من فتيان شاركوها لسنوات محمودة الإنتماء "للخوجاية" كأن القضية صارت نسباً، وهكذا تحصنت المحارم والجوارح والأعراض، وتشكلت حراسة من ضمير تحمي أنوثة نمت على مرأى من القربى.وللدلالة على قيمة "الخوجاية" كان منهجها يقتصر على إلقاء بعض آيات القرآن الكريم على الصغار، وتتركهم يتدارسونها حفظاً دون إدراك معانيها، غير انها انصهرت في النفوس التي كبرت تحمل إرثاً إرشادياً وأخلاقياً.
أنشأت الحاجة اليوم نمطاً عن "الخوجاية" وإنما بصورة متقنة وحديثة بما يعرف "بدور الحضانة" المنتشرة في كل ميادين المدينة، والحاجة لها هي انخراط الأم في العمل لضرورة العيش في ظروف قاسية. واقتصرت هذه الدور على الفئات المتوسطة والثرية، وغابت عنها العائلات الفقيرة لمهرها الغالي، واشتهرت بالتطور بإدخال الألعاب العادية والكهربائية وبشاشات المرئي، وتديرها متخصصات متخرجات من معاهد وبشهادات ممهورة بخاتم العناية الرسمية في التربية، ومن نظام الأرائك الجميلة إلى مقاعد وتنوع الغرف وتعدد العاملات.
لقد أفرزت "الخوجاية" زرافات من مجتمع متأصل بقي لعشرات السنوات على تواصل ولحمة ونصرة وتعاون. في المدينة القديمة كان كل تجمع يمثل أسرة ثانية تحت ميثاق من الشرف الوجداني الذي نفتقده اليوم، وهذه المحاكاة في فتح صناديق مقفلة ما هي إلا محاولة للعودة إلى الأصالة والترابط مثلها في ذلك ما كان مضمون حديث نبوي شريف ان المجتمع كالبنيان المرصوص إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحميّ.
ومن لا يفخر بماضيه لا يتعامل مع حاضره، وتعوزه المقدرة لرسم خارطة طريق للمستقبل، كذا شريط الحكايات التي سمعتها وامطر بها يومياتنا كالندف الناصع، كفرشاة ودلو من الدهان الأبيض لطلاء كل الشعارات السوداء والتباعد الرمادي.