الحرف الطرابلسية
وسوسيولوجيا العلاقة بين المسلمين والمسيحيين
الدكتور عبد الغني عماد
لعبت الطوائف الحرفية دوراً أساسياً في مجتمع المدينة ، ومنذ وقت مبكر أدرك الباحثون أهمية الكتابة في هذا الموضوع ، لكن ندرة المصادر ومحدوديتها كانت عائقاً أساسياً أمام التعمق في دراسة هذه الظاهرة ، وخاصة في طرابلس . ومع ذلك سوف تحاول هذه الدراسة أن تقدم معطياتها بالاستناد إلى عدة مصادر ، وأبرزها سجلات محكمة طرابلس الشرعية ، لكي تلقي الأضواء على واقع هذه الحرف من خلال رصد العلاقة بين المسلمين والمسيحيين من أبناء الحرف وتجار السوق .
التركيب البنيوي للأصناف الحرفية :
كان لكل حرفة " شيخ " يتم اختياره من قبل معلمي الطائفة الحرفية ويقر اختياره القاضي الشرعي في المدينة الذي يصدر " حجة شرعية " بالواقعة على غرار هذه الوثيقة : " بمجلس الشرع الشريف ومحفل الحكم الحنيف بطرابلس الشام المحمية ... حضر كل من السيد ... وباقي أهالي الطايفة المذكورة واختاروا من بينهم الأستاذ أحمد بن محمد الجرائحي وإلتمسوا من المولى الحاكم الشرعي المشار إليه أن ينصبه شيخاً عليهم ومتكلماً ، فأذن له أن يتعاطى خدمة المشيخة بين أهالي الحرفة المرقومة كما جرت به العادات سالكاً بذلك تقوى الله في السرّ والعلانية من غير تعد للشرع الشريف ولا تجاوز للقانون المنيف ... " 1
نلاحظ أن الوثيقة وغيرها من الوثائق المشابهة تستخدم كلمة " شيخ " مترافقة مع كلمة " متكلم " أي أن صاحبها يتكلم في مصالح أهل الحرفة ونيابة عنهم . وكان يشار للحرفة بعبارة " الطائفة " أو " الكار " أو الصنعة" " الصنف " وجمعها الطوائف أو الكارات أو الصنائع أو الأصناف . وفي بعض الحالات أطلق على شيخ الطائفة الحرفية لقب " باشي " كما في حرفة القصابين التي عرف رئيسها بالقصاب باشي ، وطائفة المعمارية التي عرف شيخها بالمعمار باشي .
وجب على " الشيخ " أن يكون ملماً بأصول الحرفة ، وإلا فإنه قد يتعرض للعزل، فقد طلب جماعة من طائفة الدباغين من القاضي الموافقة على عزل شيخ طائفتهم : " لأنه ليس له خبرة في أحوال الدباغة وليس له وقوف على معرفة الكار وليس له قدرة على تعاطي أمور البابوية "2 . وأصبحت الشروط بالعرف : الاستقامة، المقدرة على أداء مصالح المشيخة ، ورضى أهل الحرفة .
وبالرغم من أن كل حرفة مستقلة عن غيرها ، إلا أن بعض الطوائف الحرفية المرتبطة ببعضها لجهة المصالح والأعمال المشتركة ، كانت تتفق على تنصيب " أخي بابا " 3 ، أو كان يسمى في بعض الأحيان " شيخ السبعة " 4 وذلك للحؤول دون وقوع الخلافات فيما بينهم . ففي قضية تعيين أخي بابا اجتمع بمجلس الشرع الشريف في طرابلس مشايخ الحرف التالية : الخياطين ، البوابجية ، العقادين ، الحلاقين ، الأساكفة ، الخبازين ، الدباغين و " غيرهم من أهالي باقي الحرف والصنائع " كما تشير الوثيقة وقرروا : " بان فخر السادات الكرام السيد علي بن السيد جمال أخي بابا سابقاً وشيخ السبعة كان هو وأبوه من قبله وجده ، يتعاطون خدمة الباباتية من قديم الزمان ، وإنه قادر على تعاطيها ولائق بها وقائم فيها ، لكونه صحيح النسب بين الأشراف، ويعامل أهل الحرفة المرقومة بالعدل والإنصاف ، ويعدّ نفسه كأحدهم فلا يتكابر عليهم ، وإذا دعاه أهل الحرفة للإصلاح يذهب إليهم ويقنع منهم بما أعطوه بالشيء اليسير ، ورضي منه الكبير والصغير ..."5
نستنتج من هذه الوثيقة عدة أمور :
1- أن منصب بابا وشيخ السبعة كانت معنية به أغلب الحرف والصنائع وخاصة الحرف السبعة الرئيسية .
2- إن هذا المنصب كان وراثياً إلى حد كبير .
3- إن النسب الشريف عنصر ترجيح وشرط مهم ، فالمعزول والمنصوب في هذه القضية من الأشراف ، والقاضي يؤكد تثبيت علي بن جمال على اعتبار " كونه صحيح النسب بين الأشراف " .
4- إن أخي بابا وشيخ السبعة يقوم بمهمة المصلح وكان لرأيه وحكمه حين يقع الخلاف بين أهل الحرف وقع القرار النافذ . وكان يتقاضى رسوماً نظير قيامه بهذه المهمة .
وتفيدنا وثائق المحكمة الشرعية في طرابلس أن كبار الحرفيين كان يطلق عليهم لقب " أستاذ " أو " معلم " أو " أوسطى " ومنهم كان يتم اختيار مشايخ الحرف ، وكان يأتي بعدهم في المرتبة المهنية " الصانع " . وليس من الواضح ما إذا كان هناك مدة زمنية محددة لا بد للصانع أن يمر بها قبل أن يرتقي إلى مرتبة المعلم أو الأستاذ ، أم إن إتقانه للمهنة بقطع النظر عن المدة ، هو وحده الكفيل للانتقال به إلى الرتبة العليا في الحرفة . وقد شكل " الصناع " العدد الأكبر في الحرفة بالمقارنة مع عدد المعلمين والأجراء . ويعتبر المبتدئ أو " الأجير " هو كل من يتعلم الحرفة . ولا توضح السجلات الآلية التي كان يتم بها الترقي من مرحلة الأجير أو مرحلة " أخذ اليد " كما كانت تسمى ، إلى مرحلة الصانع ، وأخيراً إلى مرحلة المعلم حيث يصبح من حقه إفتتاج مشغل أو دكان حرفي خاص به .
هذا الغموض في السجلات ، يكشف قسماً كبيراً منه إلياس قدسي في وثيقة هامة، يصف فيها مشاهداته المباشرة أواخر القرن التاسع عشر، عن التنظيم الداخلي للحرف 6 ، وفي تقديري أن معطيات هذه الوثيقة يمكن تعميمها على معظم مدن بلاد الشام ، وخاصة طرابلس ، وهي تسد ثغرة هامة في هذا المجال .
يقول إلياس قدسي أن مرحلة " اخذ اليد " يبقى فيها الأجير " عدة سنين بلا معاش ولا أجرة ... ويكتفي الأهل يتعليل أنفسهم أنه ساع بأخذ الصنعة عن أستاذه . ومنهم من يرتب له جمعية – أي أجرة رمزية تدفع كل جمعة – متناسبة لمهارته " وكان الترقي إلى رتبة صانع ومعلم يعتبر حدثاً مهماً في حياة الحرفي . وكان معلم الحرفة كثيراً ما يماطل في ترقية صناعه " قائلاً : لسّه ما حله ، دبساته مراق " وهو تعبير شعبي شائع أيضاً في طرابلس حتى الآن ويعني أن الأجير أو الصانع لا يزال طري العود ويلزمه المزيد من الخبرة 7 .
تلي عملية " أخذ اليد " عملية " الشدّ " " والتمليحة " ، وهي تعبيرات لا تزال مستخدمة حتى اليوم في بعض المجالات ، وهي بمثابة بوابات العبور ليصبح الأجير صانعاً ثم معلماً . وعملية " الشدّ " هي أشبه باحتفال التخرج بالنسبة للحرفي ، فيه يعاهد المشدود معلمه ، الذي يعد أباه بالكار ، ويبقى بموجب ذلك مسؤولاً عنه " فإذا كان المشدود غير ممدوح السيرة، يمتنع عن قبوله ابناً له، وهذا نادر الحدوث..8" من الطقوس المرافقة التي يصفها القدسي أن نقيب الحرفة " يربط المحزم على وسط المشدود ويعقد طرفيه ثلاث عقد ، الواحدة احتراماً لشيخ الحرفة ، والثانية لمعلم المشدود والثالثة لشاويش الحرفة " . ثم يقدم شيخ الحرفة نصائح أخلاقية للمشدود ، يرتبط فيها المفهوم الديني بالحرفي ، كأن يقول لأبنه في الكار : " يا بني إن جميع الحرف هي كارات ، أمانة على الأموال والأعراض والأرواح والأمانة هي الدين ، فإذا انفق كارك احفظ دينك وكن صادقاً وأميناً .. وإياك أن تخون أهل الحرفة . ثم يلتفت إلى الحاضرين من أهل الحرفة ويسألهم قائلاً : ما قالت الأخوان، أخوان ، وصنايعية ، ومعلمين ، هل هذا المشدود يستحق مصانعة ، يجيبونه نعم ومستحق . وعلى المشدود أن يعاهد أباه بالكار بقوله : أعاهدك بعهد الله ورسوله أن لا أخون الكار ولا أغش الصنعة بشيء " 9
نلاحظ المشاركة الجماعية في عملية الترقية ، التي ما أن تتم حتى تبدأ " التمليحة " التي يقدم فيها المشدود الطعام والشراب ويترافق مع ذلك شيء من الطرب ، والهدايا التي يعدها مسبقاً لتقديمها لشيخ الحرفة ولأبيه بالكار وللنقيب . وقد خضع الحرفيون من المسيحيين واليهود لنفس الإجراءات والطقوس في عملية الشد التي تترافق ، كما يقول القدسي ، مع تلاوة : " أبانا الذي في السموات إلخ... وهم يسمونها فاتحة النصارى أو بتلاوة الوصايا العشر في شد اليهود " 10
ويمكن معرفة الأهمية الاقتصادية للمدينة من خلال تنوع الحرف وعدد الأسواق والخانات التي تتواجد فيها . وقد قمنا بإحصاء 27 سوقاً و 40 خاناً في طرابلس أواسط القرن الثامن عشر من خلال وثائق المحكمة الشرعية 11 .
أما عدد الحرف التي ورد ذكرها في وثائق عديدة حين كان يتم تلزيم " مال منزل طرابلس" 12 فقد وصل إلى 24 حرفة فرضت عليها هذه الضريبة13 ، إلا أننا قمنا بإحصاء ومسح لعدد كبير من وثائق تلك المرحلة ، والتي اعتمدناها في العينة المدروسة ، وتبين لنا وجود (133) نوعا من الحرف والأعمال الحرفية في المدينة14 فيما يرصد الدكتور عمر تدمري (81) حرفة15 ، مما يدل على أن الحرف الرسمية التي لها مشايخ ومسجلة في المحكمة الشرعية هي الحرف الكبرى فقط . في المقابل وعلى سبيل المقارنة يذكر الدكتور عبد الكريم رافق أنه وجد في كل من حلب ودمشق حوالي 163 طائفة حرفية .
وتكشف الوثائق الشرعية لمحكمة طرابلس عن انخراط الحرفيين بالعسكر المحلي ، فمن خلال التدقيق في لائحة أسماء انكشارية طرابلس16 التي تضم حوالي (500) جندي موزعين على القلعة والأبراج الستة تبين أن 21.8 بالمئة منهم يحملون أسماء وألقاب حرفية متداولة مثل ( الكيال – القطان – الملاح – اللبابيدي – العقاد – الصباغ – الدباغ – النجار – الطحان – البقسماطس – المنجد- الخياط – الدلال – الدمرجي- السراج – الفطايرجي .. ) . وتفيد وثائق أخرى أن شيخ طائفة العقادين بطرابلس هو نفسه الطوبجي باشي17 بقلعة طرابلس . وقد كان لهذا التداخل مفاعيل عديدة على بنية تنظيمات الحرف . وهناك تداخل آخر تمثل بدخول بعض العلماء والأشراف إلى ميدان الحرف وقد عوملوا معاملة خاصة كما يستدل من بعض الوثائق ، بل أن انتماء بعض مشايخ الحرف إلى الطرق الصوفية كان واضحاًً في العديد من الوثائق18، وكل هذه المعطيات أثرت على العلاقات داخل الحرف ، بل ساهمت في خلخلة بنيتها ونظامها .
وحيث أن دراستنا تركز على أواسط القرن الثامن عشر ، تلك الفترة التي تشكلت فيها الأرضية الأساسية للتحولات الكبرى التي ستشهدها السلطنة العثمانية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ، فإن نظام الملل العثماني التقليدي كان لا يزال ساري المفعول . وطرابلس تقدم في هذا المجال نموذجاً لمدينة تضم جماعات من أديان مختلفة ، كان المسلمون فيها يشكلون الجماعة الأكثر عدداً واليهود الأقل عدداً ، بينما كان المسيحيون يشكلون مجموعة تتراوح بين ربع وثلث سكان المدينة تقريباً .
كيف كانت العلاقات بين المسلمين والمسيحيين على مستوى التجارة والحرف والسوق ؟ ثم كيف كانت العلاقات بين المسيحيين وأهل السلطة الممثلة بالوالي على الصعيد التجاري والمالي ؟ هل كان هناك مشاركة في التجارة والحرف ؟ كيف كان الوضع داخل تنظيمات الحرف وهل تبوأ المسيحيون مشيخة بعض الحرف أم كانت لهم تنظيمات حرفية خاصة ؟ ما هي الحرف الأساسية التي عمل بها المسيحيون إلى جانب المسلمين وهل كان هناك حرف مخصصة لهم أو ممنوع عليهم ممارستها ؟ كيف كانت تحل الخلافات حول الضرائب الحرفية والتجارية بين المسلمين والمسيحيين ؟
هذه بعض الأسئلة التي تسعى هذه الدراسة إلى الكشف عنها والإضاءة عليها من خلال وثائق المحكمة الشرعية في طرابلس بقدر ما تسمح معطيات هذه الوثائق .
1- على مستوى العلاقة مع الولاة في الأمور التجارية والمالية :
توضح مجموعة وثائق متتالية19 تتلخص بمجموعة محاسبات مالية جرت مع والي طرابلس إبراهيم باشا العظم أثناء ولايته وبعد عزله من الولاية عام 1730م/1143 هـ حيث صدر مرسوم بإقامته بالقلعة لإجراء المحاسبة معه عن كامل المتحصل من الأموال الأميرية ( مال ميري) ، وقد استغرقت عملية المحاسبة بعد عزله وحجز أمواله نحو ثمانية أشهر ، وتفيد الوثائق أنه استمر في منصبه نحو سبع سنين ونيف ، يتبين من هذه الوثائق دور مسيحيي طرابلس في الحركة التجارية والاقتصادية والحرفية . فقد شغل خلال ولاية إبراهيم باشا منصب أمين مال جمرك ميناء طرابلس إلياس كرباج ، وكان خلال ولايته يتعامل مع أحد أبرز تجار المدينة من المسيحيين وهو عبد الله صدقة الذي كان يشحن له البضائع من ثفر دمياط إلى ميناء طرابلس 20 وينقلها من طرابلس إلى دمشق ، كذلك كان للوالي أيضاً شراكة مع تاجر آخر من مسيحيي طرابلس هو " يعقوب ولد فخر التاجر "21 الذي كان يتاجر له بالحلي والعلائق الثمينة والحرير ويشحنها له في المراكب من مختلف البلاد. بل أن، عبد الله صدقة السابق ذكره شغل منصب مأمور الوالي سليمان باشا العظم الذي تسلم بعد إبراهيم باشا22 . ونستدل من هذه الوثائق أن إلياس كرباج أمين جمرك طرابلس رغم سفره في " بلاد طايفة الفرنج الفرنساوية " كما تشير الوثيقة أرسل دفتر محاسبة يصادق على حساب الوالي المخلوع وأنقذه بذلك بعد أن أبرأ ذمته، وتشير هذه الوثائق أيضاً إلى أن جرجس الصراف شغل منصب رئيس خزانة دار المالية بالولاية ، وإن فرنسيس طربية " ترجمان الفرنسيين بطرابلس " كان له نفوذ وعلاقات واسعة مع الولاة شملت مسائل تجارية وحرفية ومالية مختلفة .
تدل هذه الوثائق على عمق العلاقة بين الوجهاء المسيحيين والولاة العثمانيين في الأمور التجارية والمالية وكل ما له علاقة بحركة السوق والتجارة عبر مرفأ طرابلس . بل أن بعضهم (آل زريق – سكاكيني – صدقة – نوفل – عبد النور – طربية ) استفاد من علاقته الوطيدة مع القناصل الأوروبيين وعملوا كتراجمة لدى قناصل فرنسا وإنكلترا ، وقامت أعمال تجارية مشتركة بينهم وبين الولاة العثمانيين وبين العديد من تجار المسلمين ، وهي نشاطات تجاوزت الإطار المحلي لتشمل السوق الفرنسية والأوروبية ، بل العربية ، من خلال مرفأ طرابلس الذي كان لا يزال أواسط القرن الثامن عشر يتميز بحيوية ونشاط بارزين ، وهو ما تدل عليه وثائق منها هذه الوثيقة التي إدعى فيها رينيه الساقزي على " الزمي حبيب ولد إلياس مقرراً في دعواه بأنه ركب سفينة المدعى عليه من ثغر دمياط وسافر بها في البحر ، فأخذها قرصان الإفرنج وذهبوا بها إلى بلادهم دار الحرب في جزيرة قاصطروس ، فاشتراها هو والذمي اندراوس ريس السفينة المزبورة بينهما مناصفة على طريق الإشتراء من الكفرة الإفرنج بثمن قدره مايتان وعشرة غروش أسدية ... وجاء بالسفينة إلى جزيرة قبرص ، فقال له اندراوس المذكور ان السفينة ملك حبيب وإن اشتراها من الإفرنج ... "23 ويبدو أن العديد من المسيحيين عملوا كبحارة وقباطنة سفن كما في حالة سليمان الماروني الذي عمل على سفينة محمد بشه ابن شكلة ، وكان ينقل على سفينته " الأرز والحناء والقماش المصري من مدينة دمياط إلى مرفأ طرابلس 24 . وهناك قضايا عديدة تشير بوضوح إلى وجود شراكات ووكالات بين التجار المسلمين والمسيحيين كما تشير هذه القضية حيث حضر إلى مجلس الشرع الشريف " الذمي تادرس ولد يحنا الشهير باصلان الحلبي ووكل وأناب فخر السادات الكرام السيد محمد بن الشيخ عبد الصمد البركة الطرابلسي في استخلاص جميع ماله من ديون من اصل ثمن القماش الذي كان باعه له شريكه الذمي عبود الشامي في غيابه ..."25
وتشير قضية هامة إلى نوعية الخلافات التي كانت تنشب أحياناً بين التجار المسلمين والتجار المسيحيين ، فقد حضر الحاج حسين بن عبد الله البازركان باشي – رئيس السوق أو الشيخ التجار – ومعه مجموعة من تجار طرابلس المسلمين وإدعوا على الذميين التجار القاطنين بخان الصاغة وطلبوا " بأن يواسونهم 26 فيما خص حرفتهم من مال ساليان 27 المنزل ، وسألوا سؤالهم ، فأجابوا بأنهم من تجار الخان المرقوم الذي هو وقف على مصالح الحرمين الشريفين ، وهو من قديم الزمان سربست معاف ، مغرور القلم 28 ، ومقطوع القدم داخله وخارجه ، ولم يسبق له عادة من قديم الزمان لاحد من الجباة التعرض للتجار السالكين فيه بطلب شيء من التكاليف ولا من غيرها ، وراجعوا في ذلك المتولي على الوقف المرقوم .. فأبرز من يده فرامانات29 شريفة مطاعة وبيورلديات منيفة وحجة شرعية محررة ... متوجة بإمضاء فخر المعالي العظام صالح أفندي القاضي بطرابلس الشام ، منطوق الجميع وقف على مصالح الحرمين الشريفين ويلزم حمايته وصيانته وكل متعرض لساكنيه من جباة الأموال ، بطلب من التكاليف مفرور القلم مقطوع القدم سربست معاف " ولما اطلع الحاكم الشرعي على هذه السندات وشهد بصحتها إمام الجامع المنصوري الكبير وعدد من أعيان المدينة بأنهم " لم يعهدوا ولم يسمعوا من قديم الزمان أن أحداً من جباة الأموال تعرضوا لأحد من تجار الخان بطلب شيء من التكاليف ولا غيرها، بل هم معافون من جميع التكاليف صيانة للوقف لجريانه على مصالح الحرمين الشريفين منع مولانا الحاكم الشرعي المشار إليه البازركان باشي والتجار المرقومين بسوق البازستان وخارجه والجباة عليهم من التعرض للسكان بخان الصاغة من التجار بطلب شيء من التكاليف العرفية والمغارم الشاقة وعرّفهم أن القديم يبقى على قدمه والأوامر السلطانية والأحكام الشرعية يجب اتباعها .. "30
يستدل من هذه القضية الهامة أن التجار المسيحيين استأجروا أغلب المحلات في خان الصاغة من وقف الحرمين الشريفين ، وانطبق عليهم ما كان ينطبق على المسلمين من إعفاءات ضريبية رغم احتجاج بقية التجار من المسلمين وغير المسلمين .
2- على مستوى الحرف والسوق :
تشير الوثائق إلى أن الطوائف الحرفية كانت تضم في الإجمال المسيحيين واليهود إلى جانب المسلمين بنسب متفاوتة ، ففي وثيقة تتعلق بطائفة الصياغ يتبين فيها أن غالبية تجار هذه الحرفة من المسيحيين وأن شيخ هذه الحرفة الذي تم خلعه من قبلهم أمام الحاكم الشرعي كان مسلماً ، ولم يمنعهم هذا من اختيار شيخ للحرفة بديلاً عنه من المسلمين أيضاً 31 إلا أن وثيقة أخرى تشير إلى أنهم اختاروا قبل ذلك أيضاً شيخاً لحرفتهم من المسيحيين ولأهمية هذه الوثيقة نوردها بنصها : ".. حضر بمجلس الشرع الشريف كل من الرجل المدعو ناصر بن عبد الرحمن والذمي عبد الله ولد مسعود ويحنا ولد إبراهيم وعبد الله ولد يحنا واليهودي ناصر ولد إبراهيم والذمي ميخائيل ولد نقولا ... وباقي طايفة الصياغ بطرابلس واعلموا أنهم تضرروا من شيخهم السابق المدعو سليمان ... إنه ليس له قدرة على القيام بخدمة المشيخة المرقومة وإنه عاجز عن ادائها وإنهم لا يرضونه شيخاً عليهم ،وقد اختاروا من بينهم الذمي إلياس ولد يوسف الحاضر معهم ... "32
في المقابل لم يكن هناك ما يمنع أن تنشطر بعض الطوائف الحرفية إلى قسمين إحداهما للمسلمين وأخرى للمسيحيين كما في حالة طائفة المعمارية 33 وهي حالة نادرة لم نجدها في أي مثال آخر في العينة المدروسة ، ومع ذلك وجدنا نفس الطائفة في قضية أخرى موحدة تضم المسلمين والمسيحيين جنباً إلى جنب ، بل أن المعمارية المسيحيين برفقة المعمار باشي المسلم مصطفى بن علي يتوجهون مجتمعين للشكوى على شيخهم الذمي جرجس " بأنه لا يواسيهم في أشغالهم ويكلفهم خدمة الميري ، وإذا حصل لهم شغل فيه نفع لهم يأخذه من أيديهم ويتولاه بنفسه وهو خلاف العادة والقانون . والتمسوا من الحاكم الشرعي التنبيه على جرجس المذكور وعلى بعضهم البعض القيام بالعمل بما جرت به العادة والقانون الموافق ذلك الشرع القويم . فنبه على الذمي جرجس المرقوم الحاضر بالمجلس وعلى طايفة المعمارية بأنهم بعد الآن يكونوا مع بعضهم البعض على وجه الاستقامة ولا يتعدى بعضهم على بعض فيما تعين له من العمل . وإذا حدث شغل لجهة الميري يكون بينهم بالسوية كما أن النفع يكون بالسوية .. "34
ويبدو من وثائق عدة أن المشاكل الأساسية للمسيحيين كانت مع اليهود ، وذلك يعود إلى أسباب أيديولوجية ودينية وقانونية ، إذ أن قوانين متشابهة كانت تجمعهم تبعاً لنظام الملل المتعلق بغير المسلمين . وتشير هذه القضية إلى نوع المشاكل التي كانت تقوم بينهم ، وفيها أن الحاخام ارسلان ولد موسى واليهودي صلحون ولد مردخان وناصر ولد ابراهام ادعو على طايفة النصارى مقررين في دعواهم " بأن المرتب على الطايفة المرقومة في كل سنة لجهة الميري برسم مال باج الخمر35 أكبر من طاقتهم..." و تورد الوثيقة العبارة التالية التي تحمل بعض الدلالات " أن المدعين --أي اليهود- على قلتهم و اضمحلال حالهم و فقرهم يدفعون36 " و تشير وثائق أخرى إلى أن الخلاف بقي مستحكماً، وهو ما يبينه نص البيورلدي الذي نورده حرفياً و الذي يبدو أنه صدر نتيجة شكوى و إلحاح اليهود عام 1738:" بيورلد ي شريف ...أعلام به طايفة اليهود من الاختيارين بوجه العموم ... نعرفكم به هو أنه أنهى الى طرفنا بأن صايرلكم غدر مع طايفة النصارى و يعاملوكم في المعرض، فهاذا أمر معلوم ، و عداوتكم قديمة،و إلتمستم من طرفنا تكونوا فرقة واحدة باياكم و مهما إستوجب عليكم من خدمة ميري و صاليان و جميع التعلقات المطلوبة منكم تباشروا بها و تعطوها الى محلها فبناء على ذلك حررنا لكم هذه المرسوم،توقفوا واحد منكم يتعاطى أشغالكم و أعمالكم التي في تعلقات الحكم،ولا يحصل لبعضكم وجه تعدي مخالف الشرع و القانون... تعملون ذلك و اعتمدوه غاية الإعتماد.."37. وتنفيذاً لهذا البيورلدي حضر مطران طائفة النصارى الذمي نقولا " و قرىء البييورلدي عليه فقبل ذلك وتعهد أن لا يدع أحداً من النصارى يطالب طائفة اليهود بشيء مما يطلب منهم ، بل طائفة النصارى تقوم بما يطلب منهم ، وطايفة اليهود تقوم بما يطلب منهم إقراراً مصددقاً من اليهودي صليمان الحاخام عن اليهود تعريفاً شرعياً . واختارت طايفة اليهود أن يكون اليهودي موصى ولد جابر متقيداً بما يطلب منهم ومتكلماً عنهم فقبل ذلك في المجلس . ونبه الحاكم الشرعي المشار إليه على نقولا المطران بأن لا يدع أحداً من النصارى يقارش اليهود بوجه تنبيهاً شرعياً فسطر ما وقع بالطلب ... "38
من الواضح أن الحاخام كان الرأس الأول لليهود في المدينة وهو مرجع الطائفة في الشؤون العامة وتوقيعه يلزم اتباعه من السكان والحرفيين ، وكان من الواضح أن الحاكم الشرعي يحمي حقوق اليهود وغيرهم ، وهو ما توضحه الوثيقة التالية " حضر كل من اليهودي شيخ محلة اليهود باطن طرابلس والنصراني سليمان ولد منصور القرقجي وياسف ولد الياس الحداد المتكلمين على المحلة المذكورة وادعوا على فخر السادات39 السيد محمد جلبي بن المرحوم الشيخ حسن البركة ... بأنه لا يواسيهم في دفع ما ترتب على المحلة من العوارض والساليانات ... " 40
تبين هذه القضية أن المسيحيين واليهود قد شغلوا أيضاً دور مشايخ لثلاث أو أربع محلات ، وقد تمركز المسيحيين بشكل أساسي في محالات اليعقوبية والحجارين والأي كوز والقواسير وعديمي النصارى وعديمي المسلمين . كما كانت نسبتهم مرتفعة في محلة اليهود ، وقبة النصر والنوري والتربيعة . ولم تخل أي محلة من محلات طرابلس الـ 24 من سكن بعض العائلات المسيحية .
كان من الواضح أن الحاكم الشرعي يحمي مصالح الجميع وكان يستهدف تحقيق العدل وفق مضمون الشريعة . وهذه القضية تحمل دلالات مهمة في هذا المجال ، حيث سجن الذمي بترس ولد الياس الحلبي " وكيل البطريق في طرابلس على حق شرعي ثبت عليه لطايفة النصارى بطرابلس ... ومكث مدة طويلة لا يصبر عليها من له مال أو يطلق عليه اسم المال . وحضر كل من على بن حسين الحلبي ومحمد بن الحاج بكري الطرابلسي وأخبرا عن طريق الشهادة بأنهما يعرفان الذمي المزبور ، وأنه فقير معسر لا يملك مالاً ولا نوالاً سوى ثيابه التي على بدنه .. فأمر الحاكم الشرعي بإطلاق الذمي المذبور من الحبس وتخليه سبيله وانظاره إلى ميسرة ، عملاًبقوله عزّ وجلّ : * وإن كان ذو عسرة ، فنظرة إلى ميسرة * ( سورة البقرة الآية 280 ) أمراً شرعياً مسطراً بالطلب .. "( السجل الثاني / ص 208 )
من الضروري التمييز بين سلطة الوالي وسلطة القاضي أو الحاكم الشرعي ، فالأول هو حاكم السياسة ورأس الحكم قي ولايته ، وفي الإجمال لم يكن يفرق بين معاونيه ، فقد استخدم الولاة معاونين مسيحيين ومسلمين . إلا أن القضاة كانوا أكثر تدقيقاً في هذه المسألة ، فقد كانوا ملتزمين بما يعتبرونه الموقف الشرعي ، وكان هذا الموقف يتطلب منهم أن يقفوا بوجه موجات التعصب مذكرين بمبادئ الدين ، وكان القاضي يطبق الشريعة ومفهومها للعدالة بعيداً عن أهوائه ، وصلاحياته لا تخوله التدخل في الشؤون الدينية لغير المسلمين الذين يختارون رؤساءهم الدينيين حسب تقاليدهم ، وهو كان يحكم بين المتقاضين أمامه من مختلف الطوائف الدينية . ولم يكن هناك ما يمنع غير المسلمين من أن يشغلوا أدوار اجتماعية كمشايخ للحرف أو للحارات .
وكما مرّ معنا وبالإضافة إلى طائفة الصياغ وطائفة المعمارية التي ضمت عدداً كبيراً من التجار والمعلمين المسيحيين ، كان أيضاً هناك حرف أخرى تمركز فيها المسيحيون بشكل كبير ، وهو ما تبينه وثيقة إقرار للأصناف الحرفية مجتمعة ، والتي بلغ عددها حسب الوثيقة (22) حرفة ، وفيها يقدمون إقرار بأنهم قبضوا كامل مستحقاتهم من الوالي سعد الدين باشا وانهم ابرؤا ذمته ، في هذه الوثيقة41 يتبين أن هناك ثلاث حرف أيضاً كان مشايخها من المسيحيين وهم الياس ولد عبود الباقرجي باشي 42 وإبراهيم ولد خاشرو الترزي باشي 43 وفي وثيقة أخرى قبل سنوات كان الترزي باشي مسيحياً أيضاً وهو عيسى ولد عبد النور 44 ، أما السيوفي باشي فكان أيضاً مسيحياً وهو صفر ولد يوغز 45 أما طائفة الصباغين فقد اشترك فيها المسلمون والمسيحيون واليهود وحسب وثيقة تعود لعام (1668 م) كان شيخهم مسيحياً 46 .
في المقابل كان المسيحيون يعملون بالعديد من الحرف ويستدل على هذا من أسمائهم التي كان يلحق بها نوع المهنة ، وهو تقليد كان سائداً ويشمل المسلمين والمسيحيين حين تذكر أسمائهم في السجلات ، ومن خلال تحليل مجموعة وثائق47 وحجج شرعية بمنتهى الأهمية عائدة لسنة (1739 م ) وهي حجج شرعية تكررت بنفس الصيغة أيضاً في العام في السجل التاسع (1780-1782) وتتضمن تعهد الذكور البالغين من سكان كل حي من أحياء طرابلس بعد حضورهم شخصياً إلى المحكمة الشرعية بأن لا يحموا أو يتعاونوا مع من أسمتهم الوثائق " الزرب والخوارج " ويبدو أن هذه الوثائق نظمت إثر اضطرابات وحوادث شغب وتمرد حصلت في المدينة ، وأهمية هذه الحجج انها تتضمن ما يشبه الإحصاء بكل الذكور من سكان كل حي من أحياء المدينة ، ومن هذه الوثائق الغنية بالأسماء بالإضافة إلى غيرها استخرجنا لائحة بالحرف والمهن التي كان يعمل فيها المسيحيون كما كانت تنسب مضافة إلى أسماءهم وهي على الشكل التالي :
الطحان- اللبان- المبيض- النحاس- النشار- المعماري- الباقرجي(نحاس) المكاري ( من يملك ويؤجر الدواب)- الصابونجي – الصراف- الخياط- البيطار( معالج الدواب وصنعة البيطرة ) – الحايك- الاتمكجي ( الخباز )- السمان- النجار- القواص ( مرافق القنصل وحامل السلاح ) الترجمان- الشماس- الأسكاف- السيوفي- الحداد- الصباغ- الصايغ- البواب- التاجر- الحجار- الزيات- البزاز( بائع نوع من أنواع الأقمشة) – الباقرجي ( النحاس )- المنجد ( البورغانجي)- الجابجي ( القزاز )- الجراح- الكوركجي (فرّاء) - المجلد- الحايك – الخمرجي ( صانع وبائع الخمر ) – العقاد ( محترف صناعة خيطان الحرير والقطن )- المحجي أو الشماع – السمكري- الرتّا ( الذي يخيط ثقوب أو شقوق الأثواب المهترئة أو الممزقة ) – الصواف ( تاجر الصوف )الفحّام – الفاخوري – النشواتي ( صانع النشا ) – الدهان – المصوّل .
تؤكد نتائج هذه الورقة على عمق العلاقة التي كانت تربط المسلمين بالمسيحيين في المجتمع الطرابلسي أواسط القرن الثامن عشر ، فلم تكن هناك مناطق أو حرف أو تجارة مغلقة أو محتكرة من فئة بوجه أخرى ، وبالتالي لا يمكن الحديث عن اختلافات " اجتماعية " في هذا المجال . لقد شكل السوق وشكلت الحرف حقلاً سوسيولوجياً فريداً ، واختلاطاً غنياً ، وتجاوراً مميزاً بالرغم من أن بعضها قد غلب عليه أكثرية معينة .
ويجب التنبيه إلى أن تمركز المسيحيين في بعض الحرف أو الأحياء لا يعود إلى أسباب أيديولوجية أو طائفية بقدر ما يعود إلى معطيات موضوعية وسوسيولوجية فقد كان انتماء الفرد إلى عائلة ثم إلى حي او حرفة يوفر شعوراً بالانتماء إلى إطار مميز، يوفر شعوراً بالتضامن يماثل الشعور بالتضامن الذي يوفره الانتماء إلى الطائفة إن لم يفوقه في بعض الأحيان . وبالتالي بقدر ما كانت الملكيات العقارية في الأحياء متوارثة ضمن العائلة ، كان الانتماء الحرفي والحفاظ على أسرار الحرفة متوارثاً إلى حد بعيد ، بل كان يعد مصدر فخر واعتزاز للعائلة . وهذا ما يفسر اختصاص وتمركز عائلات محددة في حرف دون أخرى بغض النظر عن انتمائها الطائفي لسنوات طويلة .
إلا أنه يجدر التنبيه في الختام إلى أن العلاقات بين المسيحيين وبين القناصل الأوروبيين ستترك أثاراً عميقة على أوضاع المسيحيين في المستقبل على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي ، الأمر الذي يحتاج إلى دراسة خاصة معمقة تتابع ما توصلت إليه هذه الورقة التي ركزت على أواسط القرن الثامن عشر ، بحيث تكشف الوقائع الناشئة الجديدة مع مطلع القرن التاسع عشر وتزايد نفوذ القناصل وتضخم اعتمادهم على المسيحيين في طرابلس . لأن هذه العلاقات التي تمت على أساس " الأخوة في الدين " سينتج عنها وعي متزايد بالعروبة عند المسيحيين كما تشير ملاحظة ألبرت حوراني48 ففي القرن الثامن عشر لم تكن علاقة المسيحيين بأوروبا عميقة ، وكان أولئك الذين يسافرون ويقومون بنشاطات تجارية واسعة على غرار إلياس كرباج الذي مر ذكره في إحدى الوثائق قلّة ، لكنها حالات كانت تؤشر إلى بداية نمو لدور القناصل الآخذ في الصعود.