الحاج سميح مولوي
الدكتور عمر تدمري
الحاج سميح المولوي ذلك القلب النابض بالإيمان، والذي كانت شخصيته مبنية على فلسفة الأخلاق والقيم، انعكاساً لاعتقاداته الدينية، فقد كان رحمه الله تقياً ملتزماً أمور دينه، وهموم مجتمعه، وقضايا بلده ووطنه، كان عقلاً راجحاً في تقييم الأمور والمشكلات، قانعاً مترفعاً، لم تهزه بهرجة الدنيا، ولم يسع إلى ثروة وسلطة، كان في نفسه أغنى من أي صاحب ثروة، وأقوى من أي ذي سلطان، وأرفع من أي صاحب جاه، كان مثالاً للإنسان الذي يحمل قيمته في ذاته معرفة ونزاهة وأصالة، كانت نفسه كبيرة فتعب في مرادها جسده، وكأنه يتمثل بما قاله شاعر العربية:
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام والمقياس الوحيد الذي يقيس به تقدم المجتمع هو القدرة على تحمل المسؤولية، ومن هذا المعيار كان الحاج سميح من أقدر الناس على تحمل المسؤولية.
في شخصيته شيء كثير من شخصيات طرابلس التاريخية، شيخ مؤمن، معلم تربوي واجتماعي، أقرب ما يكون إلى الإيمان المبني على العقلانية وسيرة السلف الصالح من أهل السنة والجماعة، وانحيازه الكامل إلى حب الله، لهذا لم يكن حبه لله يتجزأ، كانت إحدى عينيه على السماء والأخرى على المستضعفين في الأرض، وهذه الصيغة التراحمية التي بمقتضاها يفتعل الانسان الصالح المناسبة ليعين ذا الحاجة.
ولادته
ولد سميح المولوي في طرابلس في البلدة المملوكية القديمة بمحيط الجامع الأثري سيدي عبد الواحد سنة 1909، والده الشيخ كامل المولوي ووالدته السيدة سلوى محي الدين شقص.
وآل المولوي من الاسر الاسلامية المعروفة، والمولوي عربي منسوب الى المولوية، وهي طريقة صوفية اشتق اسمها من مولانا، وهو لقب أعطي الى مؤسس الطريقة جلال الدين الرومي (المتوفى سنة 1233 م)، والمعروف ان أتباعها كانوا يقيمون حلقات الذكر والرقص على توقيع آلات الطرب، والمقول ان ابناء أسرة المولوي في طرابلس من سلالة العالم الشيخ عبد الجليل السنيني، وفي هذا يقول المؤرخ عبد الله نوفل انه اطلع على حجتين شرعيتين تثبتان صحة ذلك، وأن جدهم الاعلى هو الامير حاج العالم الشهير ومن اصحاب التآليف النفيسة الفقهية، واول من تولى مشيخة مولوية الدراويش الشيخ مصطفى المولوي المتوفى سنة 1808 م، وكان يجري انتخاب مشيخة القدس وحلب من قبل هذه الاسرة.
اما آل شقص اخوال الحاج سميح، فهم احفاد الامير عيسى بن عمر البرطاسي صاحب الجامع الاثري المعروف باسمه كما ذكر المؤرخ الدكتور عمر تدمري، والذي يضم اجمل محراب في مدينته طرابلس، وكلمة شقص تعني بالعربية: النصيب والسهم والقطعة من الشيء.
وقد توفي والدا الحاج سميح خلال الحرب العالمية الاولى، فنشأ يتيم الأبوين وتعهده عمه الشيخ عارف المولوي، وتربى في داره الكائنة في حي النوري الملاصق للجامع المنصوري الكبير، وكانت دراسته الابتدائية في المدرسة السلطانية (الجديدة فيما بعد)، وفي سنة 1924 انتقل الى المدرسة العلمية القائمة بجانب مقهى التل العليا بإدارة المرحوم سعد الله سلطان، ومن اساتذتها الاستاذ نور النعنعي، الشيخ نديم الجسر، الشيخان محي الدين الخطيب وفخر القاوقجي.
دخل دار المعلمين في بيروت سنة 1926 بتوجيه من وزير المعارف آنذاك الشيخ محمد الجسر، ثم انتقل الى المدرسة العلمانية الفرنسية وتخرج منها سنة 1929، بعدها عُين مدرساً في المدرسة الجديدة تحت ادارة الشيخ كاظم الميقاتي.
في العام 1935 تزوج من السيدة غانية ابنة عمه الشيخ عارف المولوي، وقد جلها القدر في عزّ الصبا فتوفيت سنة 1946 ورزق منها بأربع بنات، ورفض من بعدها الزواج وتفرغ لتربية بناته فكان لهم الأب الصالح والأم الرؤوم، وأصبح راهباً وعلى رأسه طربوش أحمر.
الحاج سميح طويل القامة، وديع القسمات، على شيء من الحدة في المخالفات، عينان متقدتان، تشهدان بالنجابة والالمعية، لكن الشيخوخة في آخر أيامه سطت عليهما وأخذت بعضاً من البريق المتألق الذي تتلمسه مع ذلك في المعاني والكلمات، سائحاً بلطائف الأفكار المغلفة دائماً بالنقد السليم الذي لا يجرح بقدر ما يبلسم.
مهماته الوظيفية
بعد تخرجه سنة 1929 عُين مدرساً في المدرسة الجديدة ثم نقل الى مدرسة النموذج، وفي سنة 1949 أصبح مديراً لمدرسة لقمان في باب التبانة، ثم نقل سنة 1951 مديراً في مدرسة الحدادين، واقترح على وزارة التربية استبدال اسم مدرسة الحدادين الى مدرسة الغزالي (الامام المتصوف الذي لقب بحجة الاسلام) واستمر فيها مديراً حتى تقاعده سنة 1971 حيث منح وسام المعارف في احتفال كبير.
مواكبته للجمعيات
في الاربعينات من القرن الماضي انتسب الى جمعية مكارم الاخلاق الاسلامية كعضو عامل، وكان أول رئيس لهذه الجمعية سنة 1939 الشيخ علي شيخ العرب، ثم تسلم رئاستها الشيخ صلاح الدين ابو علي رئيس البعثة الازهرية سنة 1942، ورافق الشيخ صلاح بجولاته في المدينة لجمع التبرعات، وبعد رجوع الشيخ صلاح الى مصر انتخب المحامي عبد الغني سلطان رئيساً للجمعية، وبعد سنتين انتخب الحاج سميح مولوي رئيساً طيلة ثلاثة عقود،وعندما أخذت الشيخوخة منه منالها، أصبح الرئيس الفخري، وانتخب معالي الاستاذ عمر مسقاوي رئيساً لجمعية مكارم الأخلاق الإسلامية.
وفي الستينات سعى مع مجموعة من رفاقه وزملائه من أبناء طرابلس الى إنشاء مدرسة نموذجية تكون بعيدة عن السياسة والاحزاب وتعتمد على الكفاءة العلمية والقيم الأخلاقية في تعيين المعلمين والمعلمات، وتُبنى داخل أرض الفيحاء، فكانت مدرسة الروضة وجامع الروضة، وفي سنة 1988 كانت الفترة الأولى لعقد الشراكة قد مضت بين جمعية مكارم الاخلاق وجمعية رعاية الاطفال النسائية برئاسة السيدة علية ذوق، وتم تجديد عقد الشراكة الذي ينتهي في العام 2013، وتوسعت الروضة وتشامخت وأصبح لها فروع ومجلس أمناء يقوم برعاية هذا الصرح التربوي الكبير، ويسجل أهل طرابلس لهذه المؤسسة الناجحة، النهج السليم الذي تتبعه في الانفتاح على التطور الحديث مع الاحتفاظ بالأصالة الموروثة، ولا بد من التنويه الى الدور النهضوي الذي يضطلع به المدير العام الاستاذ محمد رشيد ميقاتي والذي يتمتع بمؤهلات إدارية وأكاديمية ومزايا أخلاقية تؤهله لحسن الإدارة.
وخلال الحرب الأهلية الدامية التي كسرت القلوب وفتتت العقول، كانت المستشفى الإسلامي بطرابلس ترزح تحت ضائقة مالية شديدة لاستقطابها العدد الأكبر من المصابين والجرحى من كل المناطق ومن كل الفئات، مما اضطر مديرها النائب والنقيب الاستاذ عدنان الجسر رحمه الله الى اطلاق نداء استغاثة لتقديم المساعدات الضرورية للمستشفى، واستجاب رجل المروءة والمهمات الصعبة الحاج سميح لهذه الصيحة وتوجه الى بعض دول الخيلج بتكليف من إدارة المستشفى لجمع التبرعات من الطرابلسيين واللبنانيين، ومن حسن حظي وجودي في تلك الفترة بالرياض، وقد رافقته في كل زياراته الى ابنائه وطلابه ومحبيه وقدموا المساعدات كل على قدر سعته، وبهذه المساعدات وغيرها من أصحاب الاريحية تابعت المستشفى تقديم خدماتها.
أما بعد، لعل الوفاء والحب يحدونا أن نقول الكلمة التي تملك الغلبة، لقد كان تأثير الحاج سميح المولوي عميقاً في المجتمع الطرابلسي، ورغم مرور ست سنوات على رحيله الا انه بقي في ذاكرة أبناء الفيحاء، لان وجوده كان يعطي للحياة الألق الممزوج بالإيمان والكبرياء، لانه واحد من جيل عملاق هو في تقدير التاريخ أميز أجيال طرابلس، الجيل الذي أعطى للوطنية والتربية والتعليم والثقافة الدور والضوء والسمو.
نفتقد الحاج سميح ونعب من ارث مكارم الاخلاق والوفاء الذي خلفه.
اجزل الله لك المثوبة والاجر على ما قدمته لبلدك ووطنك من عطاء موفور مذخور.