د.فاروق حبلص
الجامعة اللبنانية- كلية الآداب- الفرع الثالث
هاتف منزل: 0096106400769
جوال: 0096103202568
Faroukh47@hotmail.com
المدلولات الإجتماعية
للديموغرافيا التاريخية وتموضع الأديان في مدينة طرابلس
في العصر العثماني
من خلال الوثائق الرسمية العثمانية.
دكتور فاروق حبلص
رئيس قسم التاريخ في الجامعة اللبنانية
كلية الآداب والعلوم الإنسانية
الفرع الثالث.
مؤتمر
"طرابلس عيش واحد"
تنظيم
جمعية العزم والسعادة والمركز الثقافي للحوار والدراسات
طرابلس.
27-28 آذار 2009
التصميم
- مقدمة.
- الإطار الجغرافي والزمني للبحث.
- مصادر ومراجع الدراسة.
- تعداد الطوائف ونسبة كل منها على الأخرى:
1- في القرن السادس عشر.
2- في القرن الثامن عشر.
3- في القرن العشرين.
- ملاحظات و إستنتاجات.
- التموضع الجغرافي للأديان داخل أحياء المدينة:
1- في القرن السادس عشر.
2- في القرن الثامن عشر.
3- في القرن العشرين.
- ملاحظات وإستنتاجات.
- المعطيات الدالّة على حسن العيش المشترك.
- العلاقة بين الطوائف الدينية في طرابلس. .
- مشاهد قاتمة من تاريخ العلاقة بين الطوائف الدينية في طرابلس
- خاتمة.
مقدمة:
يلاحظ المراقب الباحث في العقدين الأخرين من تاريخ لبنان المعاصر ، ظاهرة تكرارلقاءات الحوار المسيحي الإسلامي، ونمو حركة تنظيم المؤتمرات حول تاريخ العلاقات المسيحية الإسلامية، وتزايد الدراسات في هذا المجال. ولا شك أن مبعث توقيت هذه النشاطات إثر وقوع أحداث ذات طابع طائفي أنذرت بتفكك الدولة وزوال الكيان، كان الغيرة على الوطن والرغبة في لملمة أشلاء مجتمع تمزّقه الإصطفافات الطائفية. ولما عجز هؤلاء عن إيجاد ما يعينهم على ذلك في الحاضر، إستنجدوا بالتاريخ، وجمعوا منه مشاهد ومواقف تساعدهم للتدليل على إمكانية إلتقاء طوائفه، والتعايش فيما بينهم.
وبصرف النظر عن أهمية هذا العمل في تثبيت وحدة المجتمع والوطن، والتقدير الكامل للقائمين عليه، فإنه يؤدي إلى تظهير أحد أوجه التعايش، وإخفاء الوجه الآخر. فالذاكرة الشعبية لأبناء طرابلس، تختزن بداخلها صوراً عن التعاون والتآلف بين كافة الطوائف الدينية في مدينتهم التي كانت ولا تزال إسلامية بإمتياز منذ تحريرها من الصليبيين وحتى اليوم. لكن هذه الذاكرة نفسها، تحتفظ بأخبار مضايقات تعرّض لها النصارى في طرابلس، في حقبات معيّنة من تاريخها الحديث. إذن في الذاكرة صورتان متناقضتان عن تاريخ العلاقات بين الطوائف. وبالتالي فإن التركيز على واحدة منها وإخفاء الأخرى، يعتبر تزويراً للتاريخ، أو على الأقل تأريخاً غير دقيق، يهدف إلى إثبات فكرة معيّنة، وينطلق من موقف مسبق تمليه رغبات سامية بدون شك، لكنها آنية. كما أنه يريد صناعة المستقبل من ماض مبتور لا من الماضي بكل حيثياته وأحداثه.
لذلك سأعمل على بحث هذا الموضوع، ، من خلال الوثائق الرسمية العثمانية ومذكّرات أبناء المدينة، وإبراز مراحل التآلف بين الطوائف الدينية فيها، كما مراحل التنافر بينها، ومحاولة الوقوف على أسبابها بهدف وضع الحقائق أمام أجيال المستقبل، لتختار هي الطريق التي تناسبها. فإمّا أن تلتقي وتتحد في كيان واحد وتحت راية دولة واحدة، وإمّا أن تختلف وتفترق، ليرسم كل منها مستقبله بمعزل عن الآخر. أقول ذلك خدمة للأجيال الصاعدة، لإيماني العميق بأن ما يبنى على باطل فهو باطل، وهو بالتالي إلى زوال. فبإستطاعة المؤرّخ المؤدلج أن يبني تاريخاً على الأوهام والتمنيات، وقد ينجح مرحلياً في رؤية حلمه يتجسّد في دولة وكيان، لكن سرعان ما ينهار هذا الكيان ودولته عند تعرّضه لأبسط التحديات. ولنا في ذلك أمثلة كثيرة، منها الأنظمة الفاشية والنازية والكيان اليوغوسلافي وغيره من الكينات المصطنعة التي لفظها التاريخ لأنها بنيت على أفكار واهية لاتمتّ إلى الحقيقة التاريخية بصلة.
وهنا تبدو دراسة الديموغرافية التاريخية للطوائف الدينية في مدينة طرابلس ، مدخلاً يمكن الولوج منه إلى طبيعة العلاقة التي كانت قائمة بينها، ومنطلقاً للحديث عن تعايش أو تنافر بينها في الماضي.
مصادر الدراسة:
يعتمد هذا البحث على نوعين من المصادر، الوثائق العثمانية الرسمية، ومذكّرات أبناء المدينة.
-1- الوثائق الرسمية العثمانية: وهي موزّعة على ثلاث دوائر مختلفة:
أ- وثائق المحكمة الشرعية في طرابلس:
وهي وثائق تعهّد سكان حارات طرابلس لواليها سنة 1151ه/1738 بعدم إيواء الزرب في بيوتهم، وعددها 21 وثيقة. ووثائق بيع وإيجار البيوت في المدينة والأراضي الزراعية في خراجها، ووثائق إيجار الأوقاف الإسلامية فيها، وعددها حوالي ألفي وثيقة. ووثائق الدعاوى بين اليهود والنصارى، والبيورلديات الصادرة لهم بشأن خلافاتهم، وعددها حوالي عشرون وثيقة.
ب- دفاتر المهمّة:
وتتضمّن الأحكام السلطانية الصادرة إلى ولاة بلاد الشام في الفترة 1545-1565. وتتضمّن حوالي ثلاثين حكماً تعود إلى طرابلس، وتبيّن أوضاع أهل الذمّة فيها وأعدادهم وعلاقتهم بالمسلمين والدولة.
ج- السالنامات:
وفيها إحصائيات وتفاصيل مهمّة عن وظائف أهل الذمّة في طرابلس طرابلس في عصر التنظيمات. وعددها خمس سالنامات.
وقد شكّلت هذه الوثائق بأنواعها الثلاثة المصدر الأساسي لهذه الدراسة. فإستقرأتها تعداد السكان في كل مرحلة وتوزيعهم الطائفي ونسبهم. وبمقارنتها ببعضها، تمكّنت من معرفة تبدّل أماكن تمركز كل منها في أحياء المدينة القديمة. كما أن وثائق بيع العقارات وإيجارها، ووثائق الدعاوى، وفّرت لي المعطيات الأساسية عن العلاقة بين هذه الطوائف.
-2- مذكّرات أبناء المنطقة:
مثل البطريرك إسطفان الدويهي، وحكمت شريف، و التميمي وبهجت وغيرهم، وهي مذكّرات منشورة، بالإضافة إلى مذكّرات عبد الله غريّب الغير منشورة. هذه المذكّرات مليئة بالتناقضات، فهي تحاول التركيز على حسن العلاقة بين الطوائف الدينية في المدينة، لكنها لم تخف الأحداث الطائفية بينها. غير أن قراءة هذه المذكّرات على ضوء المعطيات التي تتضمّنها الوثائق الرسمية، ساعدتني في الوقوف على واقع العيش المشترك، كما كان في العصر العثماني.
الإطار الزمني والجغرافي للبحث:
يتناول هذا البحث العلاقة بين الطوائف الدينية في مدينة طرابلس، دون الدخول في تفاصيل هذه العلاقة في أريافها. ويعالج هذه العلاقة في فترة الحكم العثماني للمدينة 1516-1918.
1- تعداد السكان وتوزيعهم الطائفي:
يستدل من القيود الرسمية العثمانية، ومن مذكّرات الرحالة، وكتّاب الحوليات، أن مدينة طرابلس كانت طوال العصر العثماني، تضمّ كافّة الطوائف الدينية المنتشرة في بلاد الشام. ويمكن من خلال هذه القيود تتبّع تطور عدد مجمل سكان المدينة، وعدد كل طائفة دينية فيها، وتحديد أماكن إنتشارها داخل المدينة. إلاّ أن طابع الإختصار الذي يمليه علي هذا المؤتمر، جعلني أكتفي بدراسة ثلاث عينات من هذا الموضوع، الأولى في بداية الحكم العثماني في هذه المدينة، والثانية من أواسط القرن الثامن عشر، والثالثة من أواخر الحكم العثماني. وسأتناول في كل من هذه المراحل الثلاث، التوزيع الطائفي لجهة أعداد كل من هذه الطوائف، ونسبها على بعضها البعض، وأماكن تموضع كل منها في أحياء المدينة.
أ- عدد السكان وتوزيعهم الطائفي في القرن السادس عشر:
يتبيّن من دراسة دفاتر الطابو المحفوظة في أرشيف رئاسة مجلس الوزراء في إستنبول والعائدة لولاية طرابلس في القرن السادس عشر، أن عدد الذكور الناضجين في هذه المدينة بلغ في سنة 1519، ألفاً وخمسماية وسبعين ذكراً ناضجاً. كانوا موزّعين من حيث الإنتماء الديني على النحو الآتي:
التوزيع الديني للذكور الناضجين في مدينة طرابلس سنة 1519
الديانة العدد النسبة من المجموع العام
مسلمون 1183 75.35 %
نصارى 297 18.92 %
يهود 90 5.73 %
المجموع 1570 -
وإنطلاقاً من أعداد الذكور الناضجين يمكن التوصّل إلى معرفة العدد التقريبي لسكان المدينة في تلك المرحلة. وبعيداً عن لعبة التخمينات التي دخل بها الباحثون في دفاتر لطابو العثمانية، إذ ذهب بعضهم إلى إعتبار متوسّط أفراد العائلة خمسة أشخاص، وإعتبره البعض الآخر ستة أو سبعة أشخاص، فإن دراسة متأنية لوثائق حصر الإرث المدوّنة في سجلات الحكمة الشرعية في طرابلس، تبيّن أن متوسّط عدد أفراد الأسرة في هذه المدينة يقارب الستة أشخاص. لذلك سنعتمد هذا الرقم. وبذلك يمكن القول أن عدد سكان هذه المدينة بلغ في تلك السنة حوالي (1570 × 6 = 9420) تسعة آلاف وأربعماية وعشرين نسمة، موزّعين دينياً على النحو الآتي:
التوزيع الديني لسكان طرابلس سنة 1519
وفقاً لإنتماءاتهم الدينية وفقاً لإنتماءاتهم الدينية
مسلمون 7098 نسمة
نصارى 1782 نسمة
يهود 540 نسمة
المجموع 9420 نسمة
إذن بحسب دفاتر الطابو، كان المسلمون يشكّلون في مطلع الحكم العثماني، 75.35 % من مجموع سكان طرابلس (سنة 1519)، في حين شكّل أهل الذمّة فيها 24.65 % . وكان اليهود يشكّلون ما يقارب ثلث عدد النصارى في هذه المدينة. مع الإشارة إلى أن طرابلس لم تكن في ذلك الوقت المدينة الشاميّة المفضّلة لسكن اليهود الذين تواجدوا بأعداد أكبر في دمشق وصفد، حسبما يتبيّن من الأحكام السلطانية المتعلّقة ببلاد الشام والمسجّلة بما يعرف بدفاتر المهمّة .
بيد أن هذه الأرقام التي أعطتها دفاتر الطابو العائدة لولاية طرابلس عن عدد النصارى واليهود فيها، لم تكن دقيقة، وغير مطابقة للواقع. فقد جاء في دفاتر المهمّة العثمانية، حكم سلطاني صادر عن السلطان إلى دفتردار العرب سنة 1545، يفيد أن دفاتر الجزية في ولايات الشام وطرابلس وحلب، لم يسجّل فيها جميع بيوت أهل الذمّة، وأن حوالي خمسماية إلى ستماية عائلة من هؤلاء، لم تسجّّل في دفاتر أهل الذمّة العائدة لولاية طرابلس . أي أن هناك ما يقرب من 3000- 3600 نسمة زيادة عن الأعداد المذكورة للنصارى واليهود في طرابلس.
بالإضافة إلى ذلك، لا ندري إذا كان إجمالي عدد سكان مدينة طرابلس، قد تقلّص في سنة 1567، على نحو ما حصل في أريافها. فالوثائق الرسمية العثمانية تنصّ على أن ثمانين قرية في ولاية طرابلس تحولت في تلك السنة إلى خرب بعدما هجرها سكانها .
ب- عدد السكان وتوزيعهم الطائفي في القرن الثامن عشر:
بعد إنهيار النظام الإقطاعي، وتقهقر نظام السباهية، وتبدّل آلية جباية الضرائب مع تطبيق نظام الإلتزام، لم تعد الدولة العثمانية تهتم كثيراً بإجراء إحصائيات دورية للسكان، كما كان الحال في نظام الإقطاع العسكري-الإقتصادي. غير أن بعض الوثائق المدوّنة في سجلات المحكمة الشرعية في طرابلس، تعطينا فكرة عن تعداد السكان في هذه المدينة وتوزيعهم الطائفي في القرن الثامن عشر. وتعرف هذه الوثائق بحجج أهالي محلات طرابلس، وهي تعود إلى سنة 1151ه/1738. وفيها تعداد لأسماء أصحاب البيوت في المدينة، وفقاً للحارة التي يسكن فيها كل منهم. كان هدف والي طرابلس من هذه الوثائق، أخذ تعهّد على رب كلّ بيت في المدينة بأن لا يأوي في بيته أحداً من الزرب الفارين من دمشق بعدما قاتلهم واليها وإنتصر عليهم إثر تمرّدهم هناك، وقرّر ملاحقتهم في الولايات الأخرى. ما يهما من هذه الوثائق أنها تتضمّن أسماء أرباب الأسر في كافّة أحياء المدينة، ما يساعدنا في الوصول إلى تقدير معقول عن عدد سكانها في تلك السنة. كما أنها تساعدنا أيضاً في معرفة توزيع هؤلاء على الأديان، لأن الوثائق العثمانية كانت تفرّق بين المسلمين وأهل الذمّة، فنجد فيها عبارة الذمي فلان أمام أسماء النصارى، وكلمة اليهودي فلان أمام أسماء اليهود، كما نجد التفريق فيها بين أهل الذمّة والمسلمين بالقول للذمي فلان ولد فلان، وللمسلم فلان بن فلان.
وبعدما قمت بتعداد أسماء أصحاب البيوت الواردة في هذه الوثائق، تبيّن لي أن عدد بيوت طرابلس في تلك السنة بلغ 2108 بيتاً، موزّعين وفقاً لإنتماءاتهم الدينية على النحو الآتي 1742 بيتاً لمسلمين، 323 بيتاً لنصارى، و 43 بيتاً ليهود.
وإذا إعتمدنا الرقم ستة كمعدل وسطي لعدد نفوس كل أسرة أو بيت، يكون إجمالي عدد سكان طرابلس في تلك السنة 2108× 6 = 12648، إثني عشرة ألفاً وستماية وثمانية وأربعون نسمة. موزّعين من حيث الإنتماء الديني على النحو الآتي:
جدول التوزيع الطائفي في طرابلس سنة 1738
الديانة عدد النفوس النسبة المئوية
مسلمون 1742× 6 = 10452 نسمة 82.63 %
نصارى 323 × 6 = 1938 نسمة 15.32 %
يهود 43 × 6 = 258 نسمة 2.03 %
المجموع 2108× 6 = 12648 نسمة 100/%
ج- عدد السكان وتوزيعهم الطائفي في القرن العشرين:
سنة 1893 بلغ عدد سكان مدينة طرابلس 17027 نسمة ، موزّعين على النحو الآتي:
جدول عدد سكان طرابلس سنة 1893
الديانة العدد النسبة المئوية
مسلمون 13826 نسمة 81.2 %
غير مسلمين 3201 نسمة 18.8 %
نلاحظ هنا زيادة في عدد أهل الذمّة في طرابلس بمعدل 1.5 %، عما كانت عليه في القرن الثامن عشر، إذ كانت تساوي 17.35 % لتصبح 18.80 %.
وفي سنة 1322/1904 تزايد عدد سكان طرابلس بشكل ملحوظ، إذ أصبح يقارب 23289 نسمة، بينهم 19767 مسلمون ما يعادل 84.87 %، و3669 ذميّون ما نسبته 15.75 % .
ونلاحظ هنا أن نسبة أهل الذمّة على مجموع سكان المدينة، تدنّت في سنة 1904، بمعدل 3.05 % عما كانت عليه سنة 1893.
جدول توزيع السكان في مدينة طرابلس سنة 1904 .
الطائفة العدد النسبة المئوية
مسلمون 19767 نسمة 84.87 %
أرثوذكس 2332 نسمة 10.01 %
موارنة 1121 نسمة 4.8 %
بروتستانت 66 نسمة 0.28 %
كاثوليك 44 نسمة 0.18 %
أرمن 25 نسمة 0.1 %
لاتين 20 نسمة 0.085 %
يهود 61 نسمة 0.26 %
المجموع 23289 نسمة 100 %
ونلاحظ هنا تراجعاً ملحوظاً في عدد اليهود في طرابلس بالنسبة إلى عدد النصارى. إذ بلغت نسبتهم من مجمل أهل الذمّة في تلك السنة 1904، ما يعادل 1.66 % ، بعدما كانوا يشكّلون 11.74 % سنة 1738.
وفي سنة 1914 أصبح عدد سكان طرابلس 24036 نسمة موزّعين على النحو الآتي:
جدول توزيع سكان طرابلس سنة 1914.
الديانة العدد النسبة المئوية
مسلمون 19954 نسمة 83 %
ذميون 4074 نسمة 17 %
المجموع 24036 نسمة 100 %
ونلاحظ في هذا الجدول الأخير إرتفاع نسبة أهل الذمّة في طرابلس في سنة 1914 عمّا كانت عليه في مطلع القرن العشرين وفي القرن السابع عشر، لكنها ظلّت متراجعة بمعدل 7.65 % عما كانت عليه في القرن السادس عشر.
أمّا توزيع أهل الذمّة على الطوائف في تلك السنة 1914، فقد كان على النحو الآتي:
جدول عدد الطوائف المسيحية في طرابلس سنة 1914 .
الطائفة العدد النسبة المئوية من مجموع السكان
أرثوذكس 2643 نسمة 11 %
موارنة 1242 نسمة 5 %
بروتستانت 51 نسمة 0.2 %
كاثوليك 46 نسمة 0.19 %
لاتين 20 نسمة 0.08 %
يهود 72 نسمة 0.29 %
إذن يمكن الوقوف على تطور أعداد السكان في طرابلس طيلة الحكم العثماني لها، وفقاً للجدول الآتي:
جدول تطور عدد سكان طرابلس وتوزيعهم الطائفي في العصر العثماني.
الطائفة سنة 1519 سنة 1738 سنة 1914
العدد النسبة العدد النسبة العدد النسبة
مسلمون 7098 نسمة 75.35 % 10452 نسمة 82.63 % 19954 نسمة 83 %
نصارى 1782 نسمة 18.92 % 1983 نسمة 15.32 % 4002 نسمة 16.7 %
يهود 540 نسمة 5.73 % 258 نسمة 2.03% 72 نسمة 0.29 %
المجموع 9420 نسمة 12648 نسمة 24036 نسمة
من خلال قراءة هذه الجداول يمكن إيراد الملاحظات الآتية:
أولاً- حول العدد العام للسكان:
أ – كانت الزيادة السكانية في مدينة طرابلس ضئيلة طيلة الحكم العثماني، بحيث أن سكانها لم يزيدوا سوى 14616 نسمة، طيلة الفترة الممتدة من بداية القرن السادس عشر وحتى مطلع القرن العشرين، أي ما يعادل ضعف ونصف الضعف لما كان عليه في بداية تلك المرحلة.
ب- الفترة الأكثر وضوحاً في تدنّي الزيادة السكانية، كانت القرنين السادس عشر والسابع عشر. ذلك أن هذه الزيادة إقتصرت على 3228 نسمة أي ما يقارب 34.25 % فقط.
ج- على العكس من ذلك تضاعف عدد سكان طرابلس في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
ماهي أسباب هذه الظاهرة ؟
هذا النمو البطئ للسكان، لا يعود إلى إنخفاض في نسبة الولادات في تلك القرون، لآن وثائق الإرث وتصفية التركات وقسمتها، تبيّن أن متوسّط أفراد الأسرة قارب الستة أفراد تقريباً. غير أن زيادة نسبة الوفيات بسبب الأوبئة والمجاعات، وتكرار عمليات النزوح السكاني، شكّلتا الأسباب الرئيسة لهذه الظاهرة.
فقد أكّد أكثر من مصدر عثماني رسمي يعود إلى المرحلة الواقعة بين النصف الثاني من القرن السادس عشر، والربع الأول من القرن الثامن عشر، حصول عمليات نزوح سكاني متكررة عن العديد من مناطق في ولاية طرابلس في القرنين السادس عشر والسابع عشر. فقد جاء في الحكم السلطاني رقم (19 ث) أن أهالي ثمانين قرية واقعة في سنجق طرابلس قد هجروها، وأصبحت خراباً وطلب الحكم من القاضي التحقيق في الأمر وتبيان أسبابه، كما نلاحظ من نصه :
" حكم إلى قاضي طرابلس
أرسل أمير سنجق طرابلس محمد، رسولاً ليبلّغ عن أن أهالي ثمانين قرية من لوائه قد تشتتوا، فتعرّضت هذه القرى للخراب. ولهذا طلب إستصدار حكم شريف لأجل القيام بالنظر في الأمر، ولهذا فقد أمرت:
عند وصول حكمي الشريف تتحقّق فيما إذا كان الأمر مثلما عرض وما الذي أدى إلى خرابها ؟ وأين ذهبت رعاياها ؟. تكتب كل ذلك وتبلّغه. في 8 جمادى الأولى 975ه/10 تشرين الثاني 1567." .
وكذلك تؤكّد قيود المحكمة الشرعية في طرابلس تكرار عمليات النزوح في القرن السابع عشر عن قرى كثيرة من ولاية طرابلس. فنجد فيها ذكر إضمحلال عشرين قرية في عكار ونزوح سكانها عنها سنة 1666، كما نلاحظ من مقطع من الوثيقة الآتية:
" قضية إجارة قرا ومزارع بناحية عكار
بمجلس الشرع الشريف .... غبّ أن حضر كل من الحاج مرعي شيخ قرية حلبا و.......والجميع من المشايخ والأعيان بقرى ناحية عكار تابع قضاء طرابلس وقرّروا بالمجلس المشار إليه بأن من جملة قرى الناحية المزبورة جميع قرية ببنين وجميع قرية الجديدة وجميع قرية السفينة وجميع قرية إبزال وجميع قرية حبشيت وجميع قرية دنبو وجميع قرية خريبة الجرد وجميع قرية الحويش وجميع قرية نفس عكار وجميع قرية حدودا وجميع قرية بزبينا وجميع قرية تكريت وجميع قرية بيت ملات وجميع قرية عين ياقوب وجميع قرية عيات وجميع قرية حلبا وجميع قرية حيزوق وجميع جبرايل وجميع قرية رحبة مع لبة وجميع مزرعة قبولا، وأن القرى المذكورة إضمحلّت ونزح غالب أهاليها وتعطّلت أملاكها .... وأجّروا الآن من فخر الأماثل والأقران الشيخ قانصوه بن حمادة وهو إستلأجر منهم بماله لنفسه دون غيره جميع القرى المزبورة ..... وتعهّد المستأجر المذكور بتعمير القرى المستأجرة المرقومة وبردّ أهاليها إلى أماكنهم ومواطنهم على أن يمدّهم بأنواع التقوية من فدن وبدار وغيره ... وإن حصل من جهة السلطنة العلية مرحمة ومن والي الإيالة على الناحية المزبورة وتنزّل مالها بعد سنة تاريخه كذلك تنزّل عن القرى المزبورة بحسب مالها على أن المستأجر المزبور لم يؤجّر من أهاليه ولا أقاربه قرية من المأجور الزبور ولا يصرّفهم بشي من ذلك ... في أوائل ربيع الأول لسنة ثمان وسبعين وألف." .
وكذلك تشير هذه الوثائق إلى إضمحلال المواسم في الزاوية في تلك المرحلة، وتخريب بعض قراها تماماً بعدما هجرها أهلها مثل قرية علما . وقد إتّسع نطاق التهجير ليطال قرى عديدة من مقاطعة الزاوية الأمر الذي حدا بوالي طرابلس إلى تخفيض ظرائبها كما نلاحظ من نصّ البيورلدي الآتي:
" بعد السلام على الشيخ ناصر الدين سلّمه الله. والتالي نعرّفكم هو أن جميع أحوالكم وأحوال الناحية وما صار من إضمحلال وغيره بقي معلومنا فلزم أنّا عملنا مرحمة إلى الناحية وعملنا مالها في هذه السنة ثلاث عشر ألف غرش وخمسماية وحرّرنا لهم ورقة بذلك ليطيب خاطرهم وحررنا لكم هذه الورقة المراد في حال وصولها تجيء إلى الناحية وتكونوا طيبين الخاطر من ساير الوجوه وتباشروا في تعمير البلاد وترديد الرعايا بكل ما يمكن. وفي خصوص مال السنة الماضية إذا جيت وتحاسبت مع أولاد البلاد ومع تسليماتكم إلى الخزينة من أصل مال عهدتكم نعمل لكم إنعام بثلاث أكياس دراهم ألف وخمسماية غرش ..." .
وتبقى الوثائق التي تتحدّث عن نزوح سكاني عن الكثير من المراكز السكنية في ولاية طرابلس صامتة عن ذكر أسباب هذا النزوح. غير أن شروط الوالي على ملتزم ناحية عكار سنة 1666 الشيخ قانصوه حمادة بعدم إشراك أهاليه وأقاربه في جمع الضرائب من عكار يؤشّر على أن خراب تلك القرى كان على يد آل حمادة.
ويذكر مؤرخو الحوليات أن مناطق حكم آل حمادة قلّما عرفت الهدوء والإستقرار في تلك المرحلة، بسبب خلافاتهم التكررة مع ولاة طرابلس. وتبيّن هذه المصادر أن هذه الخلافات إنعكست دائماً خراباً ودماراً على تلك المناطق، مما حمل أهلها على هجرها والتفتيش عن مكان أكثر أماناً وإطمئناناً.
إضافة إلى هذه الحروب، جاءت الكوارث الطبيعية أنذاك لتزيد الضغط على السكان وتدفعهم لترك أماكنهم. ففي سنة 1636 ضرب الجفاف المناطق المحيطة بطرابلس وغزاها الجراد. وفي النصف الثاني من القرن السابع عشر تكرّرت زيارات الجراد والطاعون والسيول والجفاف، وزادت معاناة السكان. ففي سنة 1661 ضرب الطاعون المنطقة وأهلك العديد من أبنائها. ثم تلاه محل في المواسم وإرتفاع في الأسعار. وفي سنة 1673 ضرب الجفاف المنطقة، وأتلف الثلج والصقيع ما كان أفلت من قواطع الجراد ، فهجر الكثير من السكان قراهم جرّاء ذلك حسبما ذكر الدويهي.
ثانياً – حول تبدّل نسب الطوائف الدينية في طرابلس:
أ- نلاحظ تزايداً دائماً في أعداد المسلمين في المدينة. فإرتفعت نسبتهم على المجموع العام لسكان المدينة من 75.35 % من سنة 1519، إلى 82.63 % سنة 1738، إلى 83 % سنة 1914.
ب- في مقابل ذلك كان تزايد النصارى ضئيلاً، إذ بلغ 156 نسمة من سنة 1519 إلى سنة 1738، و 2064 نسمة من سنة 1738 إلى سنة 1914. أو بمعنى آخر إرتفع عددهم سنة 1738، بنسبة 8.75 % ، مقارنة بما كان عليه سنة 1519، كما إرتفع سنة 1914 بنسبة 106.5 % عمّا كان عليه سنة 1738. غيرأن نسبتهم على المجموع العام لسكان المدينة إنخفضت إلى 15.32 % سنة 1738، بعدما كانت تقارب 18.92 % سنة 1519، ثم إرتفعت قليلاً لتصبح 16.65 % سنة 1914.
وتبيّن بعض الوثائق الرسمية العثمانية أن هذا النقص يعود إلى نزوح أعداد من النصارى عن طرابلس. ففي دعوى أقامها اليهود على النصارى في هذه المدينة سنة 1088ه/1677، وردت عبارة تفيد أن 1/6 من النصارى نزحوا عنها قبيل تلك السنة . وقد أكّد الدويهي حصول هذا النزوح في منتصف القرن السابع عشر،وعزا أسبابه لكثرة الضرائب التي فرضها بعض الولاة، وظلم القشلاق الذين أطلقت يدهم في جمعها. وذكر أن هؤلاء النازحين قصدوا منطقة بعلبك . كما قال أن محل المواسم أحياناً أخرى كان السبب في هذه الهجرات، فقال في تعليل سبب النزوح سنة 1673: " ... وكانت الدنيا معربطة، ومن قلّة السعد، ذاقت الناس مرارة الموت وتشتتوا عن مواطنهم ..." .
ج- تناقص عدد اليهود 282 نسمة بين سنتي 1519-1738، وإنخفضت نسبتهم من 5.73 % من المجموع العام لسكان المدينة سنة 1519، إلى 2.03 % سنة 1738، أي بمعدل 3.6 % من المجموع العام لسكان المدينة و 52.2 % من عدد اليهود، وأصبح اليهود يشكّلون 11.74 % من أهل الذمّة سنة 1738، بعدما كانوا يشكلون 23.25 % من إجمالي أهل الذمّة في المدينة سنة 1519. غير أننا نلاحظ زيادة في عدد اليهود في طرابلس سنة 1914 بحيث أصبحوا 72 نسمة، بعدما كانوا 61 نسمة سنة 1904. لكنهم تناقصوا بشكل ملحوظ في فترة الحكم العثماني لهذه المدينة، فتدنّت نسبتهم من 5.73 % من مجمل سكانها في القرن السادس عشر، إلى 2.03 % في القرن الثامن عشر، إلى 0.29 % في مطلع القرن العشرين.
ويتبيّن من مضمون الدعوى التي أقامها اليهود على النصارى في طرابلس سنة 1677، تناقص عدد اليهود أيضاً في تلك السنة، بحيث أصبحوا يشكّلون 1/50 من عدد النصارى . غير أن عدد هؤلاء عاد ليزداد بعد ذلك التاريخ، فبلغ سنة 1738 ، 1/7.5 من عدد النصارى، لكنه لم يتعد نصف عدد الطائفة اليهودية في مطلع القرن السادس عشر.
ورغم أن المصادر التاريخية لا تعطي الأسباب المباشرة لهذه الظاهرة، فإن المعطيات التاريخية المتوافرة لدينا تسمح لنا بإيراد الأسباب الآتية:
1 - هرب اليهود من طرابلس إبان إنتفاضة سكانها سنة 1730-1731:
كان ظلم المتنفّذين اليهود لأبناء سائر الطوائف، سبباً في جعلهم جماعة غير محبوبة من الغير فالوثائق العثمانية تشير إلى أوامر العاصمة لولاة بلاد الشام عامّة بعدم إستخدام اليهود في الوظائف الكبرى لأنهم يظلمون الناس ، كما نلاحظ من المقطع الآتي من نصّ حكم سلطاني صادر في 6 تشرين الأول سنة 1565:
" حكم إلى بكلربكي وقاضي الشام.
أنت بكونك قاضياً أرسلت رسالة تذكر فيها: أن الطائفة اليهودية المعروفة بالسامرية، يستخدمهم الأمناء والصوباشيون كتّاباً عندهم، لكونهم عارفين بأمور الخط العربي وخط السياقة. وهم طائفة شريرة ومفسدة يقومون بأنواع التزوير والتحايل على أهل الإسلام، ويتسببون بأخذ أموالهم بغير وجه حق. ويقوم ضعفاء الرعايا والفلاحين بخدمتهم خوفاً منهم، فينبغي منعهم. ...." .
كما جاء في حكم سلطاني آخر صادر سنة 1570 أن " .... إلاّ أنّ أبناء الطائفة المذكورة ( اي اليهود) يمارسون الظلم والإعتداء .... فإزدادت بذلك شكاوى الرعايا والفقراء منهم ...." .
وقد أكّد القنصل الفرنسي في طرابلس على هذا الدور السلبي الذي لعبه اليهود المقرّبون من ولاة طرابلس، فذكر في معرض تقريره عن إنتفاضة السكان ضد الوالي إبراهيم باشا سنة 1730-1731 ما يلي: " ... إن إبراهيم باشا والي طرابلس الذي يحكم هذه المدينة منذ أربع سنوات، تحوّل بتأثير من نصائح كتخداه إبراهيم دي ليون اليهودي وبعض مساعديه الآخرين، إلى محتكر لجميع البضائع والحبوب التي كان يبيعها بأسعار مضاعفة. لذلك بات مكروهاً من شعبه الذي أصبح في حالة بؤس شديد. ..." . وبنتيجة ذلك، إنتفض سكان طرابلس في تلك السنة في وجه الوالي إبراهيم باشا ودخلوا السرايا، وإنتقموا من أعوان الوالي. و" ... وتابع الإنكشارية بغضب كبير ذبح أولئك الذين أوحوا للباشا بظلم الشعب. ثمّ فتّشوا عن إبراهيم دي ليون في جميع أحياء المدينة يريدون قتله لأنه المدبّر الأول للمظالم التي إرتكبها الباشا بحق الشعب. إلاّ أن هذا اليهودي قد إختبأ منذ بداية الثورة، ولم يتمكّن أحد من العثور عليه. ..." .
وهنا نطرح إحتمال أن يكون أقرباء دي ليون وعدد من أبناء طائفته المقرّبن إليه، قد غادروا المدينة معه سنة 1731، خوفاً من أن تطالهم أعمال الإنتقام. وإذا صحّت هذه الفرضية، فإنها تبدو مقبولة في شرح ظاهرة تناقص عدد اليهود في طرابلس سنة 1738، أي بعيد النقمة الجارفة ضدهم بسبع سنوات.
2- تغيير مكان سكنهم تهرباً من الجزية:
إتّبع اليهود وسائل مختلفة للتهرّب من أداء الجزية. منها تغيير مكان الإقامة. ويرجّح أن عدداً منهم إنتقل من طرابلس ومن مدن أخرى في بلاد الشام إلى صفد وإتّخذها مقراً دائماً لإقامته. وقد تمكّن هؤلاء من الإفلات من الجزيدارية لعدة سنوات في مكان سكنهم الجديد حسبما ذكر الحكم السلطاني الصادر سنة 1545، والموجّه إلى دفتردار العرب، كما يتبيّن من المقطع الآتي من نصّ الحكم:
" حكم إلى دفتردار العرب.
سجّل يهود صفد عندما تمّ تحرير الولاية في السابق 850 خانة ( عائلة) على وجه المقطوع، ثمّ وفدت أيضاً عوائل كثيرة وأضيفت إلى العوائل المذكورة. وفي الحقيقة إن الخانات الأساسية هي أكثر مما سجّل بشكل مقطوع ولو تمّ التدوين بشكل عادل فإنه سيظهر زيادة بمقدار ألف أو ألفي خانة. وإن الخانات الزائدة لا تدفع الخراج مدّعين بأنهم سجّلوا بشكل مقطوع ...." .
3- الهجرة هرباً من تسديد الديون:
تدلّ الوثائق العائدة لأمور التجارة في طرابلس، على أن عدداً لا بأس به من التجار اليهود قد هرّب أمواله إلى ولايات أخرى قبل إعلان إفلاسه. ثم أقدم بعد والحصول على حكم شرعي بإعفائه من الديون المترتبة عليه، إلى الإنتقال إلى حيث هرّب أمواله، لإستئناف مزاولة تجارته هناك. فقد دلّت وثائق الإعسارالمدوّنة في سجلات المحكمة الشرعية في طرابلس ، أن معظم التجار الذين أعلنوا إفلاسهم في هذه المدينة، كانوا من اليهود. كما نلاحظ من وثائق أخرى أن معظم هؤلاء قد سافروا إلى مصر بعد الإفراج عنهم، وعاودوا ممارسة التجارة هناك ، ما يعني أنههم إدّعوا الإفلاس للتخلّص من ديونهم.
والملاحظة الأخيرة التي يمكن إيرادها هنا، أن هذا المزيج من الإنتماءات الدينية، لم يكن طارئاً أو عابراً، بل إنه شكّل صفة لازمت مجتمع المدينة طيلة القرون الأربعة التي تشكّل الإطار الزمني لبحثنا. ويمكن إعتبار هذا التنوّع الطائفي الدائم في هذه المدينة، المرآة التي تعكس مساحة واسعة من حريّة المعتقد الديني، ورغبة كافّة سكانها على إختلاف إنتماءاتهم الدينية، بالتعايش مع بعضهم البعض، أو على الأقل رغبتهم في عدم الإقتتال فيما بينهم.
2- التموضع الجغرافي للأديان داخل أحياء طرابلس:
تمدّنا الوثائق العثمانية بمعطيات مهمّة تتعلّق بتموضع الطوائف الدينية في أحياء المدينة في كافّة مراحل الحكم العثماني. وسنلاحق هذا التموضع في ثلاث مراحل، على نحو ما فعلنا في دراسةعدد السكان، لنلاحظ مدى إندماج الطوائف الدينية في هذه المدينة، أو تقوقها وإنعزال كل منها في أحياء خاصّة بها.
أ- التموضع الطائفي في القرن السادس عشر:
إعتماداً على الطابو دفتري رقم 68 تارخ 1519، أورد الدكتور عصام خليفة توزيع الطوائف الدينية في مدينة طرابلس في تلك السنة على النحو الآتي:
جدول توزيع السكان على أحياء طرابلس وفقاً لإنتماءاتهم الدينية سنة 1519 .
إسم المحلّة مسلمون نصارى يهود
عددهم النسبة عددهم النسبة عددهم النسبة
جامع كبير 70 83.33 % 14 16.67% 0 0%
حارة النيني 77 100% 0 0 % 0 % 0 %
سقاق الأكوز 35 100% 0 0% 0 0%
سوق الطواقية 69 97.18% 2 2.82% 0 0%
مسجد القرشي 35 27.34% 65 50.78% 28 21.88%
خان عديمي 35 46.05% 41 53.95% 0 0%
سوق أسندمر 14 100% 0 0% 0 0%
زقاق الطويل 20 100% 0 0% 0 0%
زقاق المصري 44 100% 0 0% 0 0%
مسجد الخشب وزقاق الخولي 70 93.33% 5 6.67% 0 0%
حصن صنجيل 32 45.71% 38 54.29% 0 0%
زقاق شيخ علي 29 100% 0 0% 0 0%
عوينات 30 100% 0 0% 0 0%
شيخ فضل الله 29 100% 0 0% 0 0%
نوري 6 35.9% 11 64.71% 0 0%
باب المدينة 117 98.32% 2 1.68% 0 0%
حجارين 23 53.49% 20 46.51% 0 0%
محلّة باب أق طرق 58 100% 0 0% 0 0%
زقاق الحمّص 88 100% 0 0% 0 0%
بين الجسرين 29 100% 0 0 %0 0 0%
عقبة الحمراوي 44 100% 0 0% 0 0%
محلّة الطواحين 44 100% 0 0% 0 0%
ساحة الحمصي 69 90.79% 7 9.21% 0 0%
جسر العتيق 116 100% 0 0% 0 0%
محلّة النصارى المعروفة بتبانة 0 0% 92 100% 0 0%
محلّة اليهود 0 0% 0 0% 62 100%
مذا نلاحظ في هذا الجول ؟
- كانت طرابلس مقسّمة إلى 26 حياّ سكنياً، يتوزّع المسلمون على أربعة وعشرين حياً منها.
- وجود 14 حياً كانت مسكوناً من مسلمين فقط.
- وجود حارة واحدة خاصّة باليهود، كانت تضمّ العدد الأكبر منهم في المدينة، 62 ذكراً ناضجاً من أصل 90.
- وجود حارة خاصّة بالنصارى، كانت تضمّ أقليّة منهم، 92 ذكراً ناضجاً من أصل 297.
- وجود حي واحد مشترك، سكن فيه مسلمون ونصارى ويهود.
- وجود 9 أحياء كانت مشركة بين المسلمين والنصارى.
- نستنتج من هذا التمركز لللأديان في أحياء طرابلس في القرن السادس عشر، وجود رغبة أو عدم ممانعة عند عدد من أفراد المدينة بالعيش جنباً إلى جنب بصرف النظر عن الإنتماء الديني، مسلمين يهود أو نصارى. لكن هؤلاء كانوا قلّة قليلة، 65 عائلةً مسيحية أي 21.9 % من نصارى المدينة، و 28 عائلة يهودية أي ما نسبته 31 % من اليهود فيها.
غير أن إختلاط النصارى بالمسلمين كان أكبر من ذلك. إذ أننا نجد 140 عائلة من النصارى، أي ما نسبته 47 % من مجمل عددهم في المدينة، سكنت مع المسلمين في أحياء مختلطة.
في مقابل ذلك، نجد أن 69 % من اليهود سكنوا في حي خاصٍ بهم، وخال من سائر الطوائف، و31 % من النصارى فضّلوا أيضا الإنزواء في حين خاص بهم.
ب- التموضع الطائفي في القرن الثامن عشر:
تتضمّن سجلات المحكمة الشرعية في طرابلس، وثائق تعهّد سكان أحياء المدينة للوالي بعدم إيواء الزرب. وتعود هذه الوثائق إلى سنة 1738، ويبلغ عددها عدد أحياء المدينة في تلك السنة، أربعة وعشرين حياً. وهي تساعد في معرفة عدد السكان وتوزيع الطائفي في المدينة في ذلك التاريخ. ذلك أن الوالي جمع أرباب البيوت في كل حي على حدة، وأخذ عليهم تعهّداً بعدم إيواء الزرب. ولكي يؤكّد على تعهّدهم، طلب من الكاتب تدوين إسم كل منهم في وثيقة التعهّد العائدة لحيه. وبحسب طريقة تدوين الأسماء في ذلك العصر، فقد كتبت أسماء النصارى في هذه الوثائق بوضع كلمة ذمّي أمام إسم كل منهم، وكلمة ولد أمام إسم والده. فيقال الذمي فلان ولد فلان. ودوّنت أسماء اليهود على الشكل التالي: اليهودي فلان ولد فلان. أمّا المسلمون فقد كان يشار إليهم بفلان بن فلان.
وبنتيجة إحصاء أسماء المذكورين في كل محلّة على حدة حسب إنتماءاتهم الدينية، مسلمين نصارى، ويهود، تمكنت من تحديد تمركز كل طائفة في أحياء طرابلس في تلك السنة، كما يظهر من الجدول الآتي:
جدول عدد بيوت أحياء طرابلس حسب الإنتماء الديني لأصحابها سنة 1738.
إسم المحلّة المسلمون النصارى اليهود
عدد بيوتهم نسبتهم عدد بيوتهم نسبتهم عدد بيوتهم نسبتهم
الأي كوز 51 64 % 31 36 % 0 0 %
عديمي المسلمين 18 58.4 % 20 41.6 % 0 0 %
زقاق الحمّص 96 98.7 % 1 1.03 % 0 0 %
الناعورة 40 100 % 0 0 % 0 0 %
عديمي النصارى 21 26.6 % 58 73.4 % 0 0 %
التربيعة 114 86.4 % 18 13.6 % 0 0 %
الصباغة 154 90.6 % 16 9.4 % 0 0 %
ساحة عميرة 70 100 % 0 0 % 0 0 %
باب الحديد 145 100 % 0 0 % 0 0 %
محلّة اليهود 15 22.7 % 8 12.12 % 43 65.1 %
الرمانة 64 97 % 2 3 % 0 0 %
العوينات 158 100 % 0 0 % 0 0 %
سويقة الخيل 191 85 % 34 15 % 0 0 %
القنواتي 86 94.6 % 5 5.4 % 0 0 %
قبّة النصر 41 89.2 % 5 10.8 % 0 0 %
بين الجسرين 175 100 % 0 0 % 0 0 %
سويقة النوري 132 83.6 % 26 16.4 % 0 0 %
القواسير 4 12.23 % 29 87.87 % 0 0 %
اليعقوبية 19 19 37.26 % 32 62.74 % 0 0 %
الحجّارين 9 19.15 % 38 80.85 % 0 0 %
باب التبانة 139 100 % 0 0 % 0 0 %
ماذا يتبيّن لنا من هذا الجدول ؟
- وجود 6 أحياء يسكنها مسلمون فقط.
- وجود محلّة واحدة يغلب عليها سكن اليهود، مع أقلية مسلمة وأقلية من النصارى.
- عدم وجود محلة مخصصة لليهود، وأخرى مخصصة للنصارى، رغم أن هناك حارة تحمل إسم حارة اليهود، وأخرى تحمل إسم حارة عديمي النصارى. ولا شكّ أن هاتين التسميتين تغشان الباحث، وتحملانه على إفتراض وجود محلة خاصة باليهود وأخرى خاصّة بالنصارى. غير أن التعمّق في أسماء سكان هاتين المحلّتين يبدد هذه الفرضية.
- وجود 14 محلّة مختلطة بين مسلمين ونصارى.
منها 4 محلات غالبية سكانها نصارى، وهي: اليعقوبية (23 بيتاً للنصارى) و(19 بيتاً لمسلمين). والحجارين فيها ( 38 بيتاً للنصارى) و ( 9 بيوت للمسلمين)، والقواسير فيها ( 29 بيتاً للنصارى) و( 4 بيوت لمسلمين)، وعديمي النصارى فيها ( 58 بيتاً للنصارى) و( 21 بيتاً لمسلمين).
ومنها محلّة واحدة هي محلّة عديمي المسلمين كان فيها تعادل بالسكن بين الديانتين ( 20 بيتاً للنصارى مقابل 18 بيتاً للمسلمين).
ومنها 9 محلات فيها أكثرية إسلامية وهي: النوري ( 132 بيتاً للمسلمين) و ( 26 بيتاً للنصارى)، قبّة النصر (41 بيتاً للمسلمين) و( 5 للنصارى)،الأيكوز ( 51 بيتاً للمسلمين) و ( 31 بيتاً للنصارى)، القنواتي ( 86 بيتاً للمسلمين) و ( 5 للنصارى)، سويقة الخيل ( 191 بيتاً للمسلمين) و ( 34 بيتاً للنصارى)، الرمانة ( 64 بيتاً للمسلمين) و (2 بيتين فقط للنصارى)، الصاغة ( 154 بيتاً للمسلمين) و (16 بيتاً للنصارى)، التربيعة ( 114 بيتاً للمسلمين) و( 18 بيتاً للنصارى)، زقاق الحمّص ( 96 بيتاً للمسلمين) و ( بيتاً واحداً للنصارى).
بنتيجة هذا التموضع في الأحياء، يتبيّن لنا الأمور الآتية:
- سنة 1738 أصبح 97.5 % من النصارى يعيشون في جوار المسلمين، بينما كانت هذه النسبة تشكل 47 % في القرن السادس عشر.
- في حين إنخفضت نسبة النصارى المقيمين مع اليهود في حي واحد، من 21.9 % في القرن السادس عشر، إلى 2.5 % في القرن الثامن عشر.
- عدم وجود نصارى راغبين في السكن في حي خاص بهم.
- تقوقع اليهود في حي واحد، إلى جانب أقلية مختلطة إسلامية مسيحية.
وبمقارنة تمركز الطوائف الدينية في طرابلس بين بداية الحكم العثماني والقرن الثامن عشر، تتبيّن لنا المعطيات اللآتية:
-1- أن إختلاط المسلمين والنصارى وإنفتاحهم على بعضهم البعض، كان ينمو ويزداد ويسير نحو الإنفلاش. ذلك أن عدد المحلات المختلطة، أصبح في القرن الثامن عشر أربع عشرة محلّة يسكنها نصارى ومسلمون، بعدما كان يقتصر على ثماني محلات في مطلع الحكم العثماني. كما تقلّص عدد المحلات التي يسكنها مسلمون فقط من ست عشرة محلّة سنة 1519، ليصبح ست محلات سنة 1738. أمّا محلّة باب التبانة فقد أصبحت إسلامية صرفة، بعدما كانت سنة 1519 مسيحية بالكامل.
-2- تبدّل ملحوظ في الأحياء التي شكّلت مراكز تجمّع للنصارى. كانت التبانة مثلاً وحارة النصارى، مركزين ملحوظين لسكن هؤلاء في القرن السادس عشر، ثمّ أصبحت التبانة خالية منهم في سنة 1738. كما أنهم تحولوا إلى أقلية في حارة اليهود في تلك السنة. في حين أصبحت محلات عديمي النصارى والقواسير واليعقوبية والحجارين مراكز ثقل مسيحي في سنة 1738. كما إنهم إتجهوا إلى السكن في محلّة الأكوز التي كانت خالية منهم في مطلع الحكم العثماني. وفي أواخر الحكم العثماني هجر النصارى محلات الأكوز ومسجد الخشب والقواسير .، بإتجاه التربيعة والرمانة والنورية حيث أصبحوا يشكّلون غالبية سكان هذه المحلات، بعدما كانوا أقلية فيها في القرن الثامن عشر.
ونلاحظ من التوزيع الجغرافي للأحياء التي يسكنها النصارى ، أنها كانت منفلشة على مساحات متباعدة من المدينة. كما أنها كانت هي والمحلّة التي يسكنها اليهود، بعيدة عن مركز السلطات في المدينة، وأعني بها السراي الحكومي والمحكمة الشرعية. وذلك عكس ما يفترض علماء الإجتماع والتاريخ الإجتماعي، من أن الأقليات كانت تسكن دائماً في محيط الدوائر الحكومية حيث تشعر بالأمان. ما يعني إرتياح أهل الذمّة إلى السكن بجوار المسلمين، وأن السلطة المحليّة في المدينة لم تكن تشكّل بنظرهم حاجز أمان بينهم وبين المسلمين. وتبدو هذه النقطة الأخيرة أكثر وضوحاً في وثائق بيع وإيجار البيوت في العصر العثماني. حيث تبيّن هذه الوثائق أن بيوت النصارى في الحي الواحد، لم تكن متجاورة دائماً، بل كانت موزّعة بين بيوت المسلمين وملاصقة لها في معظم الأحيان.
-3- على العكس من ذلك فإن إقدام اليهود على التقوقع في حي واحد، بعدما كانوا يسكنون في حيين في القرن السادس عشر، يعكس وضعهم الإنعزالي في غيتو داخل مجتمع المدينة.
ج- التموضع الطائفي في القرن العشرين:
ويبدو أن الإختلاط في السكن بين المسلمين والنصارى، إستمر حتى أواخر الحكم العثماني في المدينة، مع ملاحظة غلبة عدد النصارى في محلات التربيعة والرمانة والنورية . أمّا اليهود فقد بقي سكنهم محصوراً في حي واحد حمل إسم محلّة اليهود أو الدباغة.
خريطة الأحياء القديمة في طرابلس، في القرن الثامن عشر.
من وضع فاروق حبلص.
تمّ وضعها بناء على سجلات المحكمة الشرعية في طرابلس.
خريطة توزيع الأديان على أحياء طرابلس سنة 1738.
من وضع الدكتور فاروق حبلص
تمّ وضعها وتحديد أماكن تمركز الطوائف بناءاً لسجلات المحكمة الشرعية في طرابلس.
د- إستنتاجات:
ماذا تعني هذه المعطيات الوثائقية على صعيد العلاقة بين المسلمين والنصارى واليهود في مدينة طرابلس في العصر العثماني ؟
إنّ ظاهرة تقوقع جميع اليهود وإنعزالهم في حي واحد، منذ القرن السابع عشر، بعدما كان عدد منهم يسكن في حي مشترك مع المسلمين والنصارى قبل هذا التاريخ، تعكس ولادة رغبة عند هذه الطائفة بعدم الإختلاط بسائر أبناء المدينة، أو رغبة عند المسلمين والنصارى بعدم مجاورتهم. وسواء كانت هذه الظاهرة نتيجة لهذه الفرضية أو تلك، فإن عددا كبيراً من الوثائق، يساعدنا في الوقوف على طبيعة العلاقة بين اليهود وكل من النصارى والمسلمين في المدينة.
إن الشراكة التي قامت بين مسلمين ونصارى في ملكية عقارات زراعية وبيوت سكنية، وفي مجالات إستثمار أخرى، كما دلّت وثائق المحكمة الشرعية في طرابلس، لم نجد شراكة موازية لها بين مسلمين ويهود، ما يعكس عدم الثقة بين أبناء هاتين الطائفتين. بل على العكس من ذلك فقد دلّت وثائق الإعثار، على أن اليهود إقتنصوا الفرص للإحتيال على زملائهم التجار المسلمين في المدينة. كما أن النافذين منهم لم يتورّعوا عن ظلم الناس وحمل الولاة على رفع الأسعار وتجويع السكان. ولا شك أن هذه التصرفات تسببت في حذر الناس عند التعامل معهم. على ضوء ذلك يمكن تفسير ظاهرة عدم توزّع مساكن اليهود بين مساكن المسلمين.على ضوء ذلك يمكن تفسير ظاهرة تقوقعهم جميعاً في حي واحد منذ القرن الثامن عشر
بصرف النظر عن أسباب هذا الإنفلاش الدائم في سكن النصارى في طرابلس ومجاورتهم للمسلمين فيها في المرحلة العثمانية، والذي قد يعود لأسباب إقتصادية، فإنه يعتبر بنظر البعض دليلاً على حسن العيش المشترك في هذه المدينة في تلك المرحلة. قد يكون هذا الإستنتاج صحيحاً، لكنه ليس كذلك بالضرورة وبالمطلق. فالتجاور في السكن بين أصحاب معتقدات دينية وفكرية مختلفة، لا يعتبر بالتالي دليلاً قاطعاً على حسن العيش بينهم. وما نشاهده اليوم من إشتداد النزعة الطائفية، وبلوغها حد الإقتتال أحياناً كثيرة، بين أبناء الحي الواحد في أكثر من مدينة لبنانية، يكفي ليبيّن لنا سذاجة هذا الإستنتاج، أو عدم كفايته، ويدفعنا إلى التعمّق أكثر في بحث طبيعة العلاقات بين هذه الطوائف الدينية المختلفة التي سكنت مدينة واحدة. وهنا لا بدّ من الأخذ بالمسلّمات الآتية: 1- قد يُكره المرء لأسباب معيّنة على العمل عند من لا يحب، والسكن في مكان لا يعجبه، ومجاورة من لا يرغب بجواره. وبالتالي فإن توزيع مساكن أقلية مذهبية بين مساكن غالبية من دين مختلف، لا يعني بالضرورة حسن العلاقة بينهما، لكنه يعني عدم الاقتتال بينهما.
من هنا نستخلص أن تجاور مساكن النصارى على أحياء ذات أكثرية إسلامية في طرابلس، هو دليل عدم حدوث اقتتال طائفي في هذه المدينة في المراحل التاريخية التي تغطيها هذه الوثائق، أي في العصر العثماني. غير أن هذا التوزيع لا يشكّل دليلاَ كافياَ على انتفاء الحالة الطائفية من نفوس السكان، وقد توجد هذه الحالة من دون أن تؤدي بالضرورة إلى الاقتتال. فقد يسكن المرء مضطراَ قرب أناس لا يكنّ لهم الاحترام والمودة، ولا يتسامح معهم، لكنّه في الوقت عينه لا يسبب لهم الأذى. ومثل هذا السكن لا يعبّر إطلاقاَ عن حسن العيش بين الطوائف، إذ ربما كان ناتجاَ عن ضرورات الحياة وضيق الأوضاع الماديّة اللذين يجبران الإنسان على القبول بما لا يرضيه، طالما أن ليس فيه ضررٌ آنيٌ ومباشر عليه. وبالتالي فقد يكون قبول بعض النصارى بشراء بيوت مجاورة لبيوت مسلمين والعكس، بسبب عدم تمكّنهم دائما من إيجاد بيوت محاطة بمساكن نصارى مثلهم؛ وقد يكون أيضاَ جرّاء استقلالية المسكن الذي يشتريه، فهو محاط ببيوت أناس من طوائف أخرى، لكنه في النهاية مستقل عنها، ولا علاقة مباشرة بينه وبين هؤلاء.
.
المعطيات الدالّة على حسن العيش المشترك بين المسلمين والنصارى:
إذن، إذا كنا نرغب في التفتيش عن حقيقة وواقع ما كان عليه العيش بين الطوائف الدينية في الماضي القريب، علينا أن لا نكتفي بهذه المعطيات، وأن نفتشّ عن معطيات أخرى، أكثر دلالة، نجدها في وثائق المحكمة الشرعية وروايات كتّاب الحوليات. ونذكر من وثائق المحكمة الشرعية، انواع الوثائق الآتية:
1- وثائق بيع وإيجار البيوت المدوّنة في المحكمة الشرعية في طرابلس: فبعض هذه الوثائق يبيّن وجود بيوت للنصارى، كانت تشترك مع بيوت لمسلمين، في حقّ المرور من مدخل مشترك وعبر دهليز مشترك ودرج سلّم مشترك . كما نجد وثائق تبيّن أن عائلة مُسلمة وأخرى نصرانية كانتا تقتسمان السكن في دار واحدة . هذا بالإضافة إلى وجود دور ملكيتها مشتركة بين مسلمين ونصارى، مثل شراكة آل غريّب النصارى مع آل شوبش المسلمين في ملكية دار ، وشراكة آل السيوفي النصارى في ملكية دار مع آل كرامة .
2- وثائق الدعاوى: منها دعاوى منازعات مدوّنة في سجلات المحكمة الشرعية في طرابلس: فيها شهادات أدلى بها نصارى أمام القاضي في المحكمة لصالح مسلمين ضد نصارى . وأخرى صادرة عن مسلمين ضد مسلمين ولصالح نصارى . كا نجد وثيقة تفيد عن تضامن النصارى في حي العديمي، مع المسلمين ضد الرهبان الأجانب المقيمين في هذا الحي .
3- وثائق التوكيل: ونجد بينها وثائق تبيّن أن نصارى أوكلوا مسلمين لشراء عقارات لهم من نصارى آخرين . بالإضافة إلى أربع وكالات بيع صادرة عن نصارى لمسلمين لبيع عقارات لهم ، وثلاث وكالات تداعي ومدافعة ومرافعة من نصارى لمسلمين لينوبوا عنهم في التداعي في المحكمة ضد خصومهم . ووكالة واحدة من مسلم لنصراني أوكل إليه فيها تخليص تجارة له .
4- وثائق إيجار الأوقاف الإسلامية: ونجد بينها وثائق تبيّن أن متولي الأوقاف الإسلامية في طرابلس، كانوا يقبلون تأجير أراض أو منشآت معمارية تابعة لمسلمين إلى نصارى بطريق الجدك والمساقات والحكر .
إن المعطيات التاريخية التي تتضمّنها مثل هذه الوثائق، تعكس عمق العلاقة بين المسلمين والنصارى في طرابلس وتسمح لنا بالحديث عن حسن التعايش بينهم. فهي تثبت أن قسماً كبيراً من أبناء طرابلس قَبِِلَ، ليس بمجاورة أبناء طائفة أخرى، بل بالاشتراك معهم في سكن دار واحدة والدخول إليها من مدخل واحد معهم، واستخدام فسحة داخلية واحدة مشتركة بينهما، بل واستخدام مطبخ واحد مشترك، وأدب خانة واحدة مشتركة أحياناَ، وهذا ما كان ليتمّ لولا أن حالة من الانفتاح الواسع والاحترام والثقة بل والمحبة ميّزت العلاقة بين الشريكين وعائلة كل منهما. وعندما يجد الباحث أن نصف وثائق بيع وشراء مساكن تخصّ النصارى في سنة واحدة، تدلّ على وجود هذه الشراكة بين هؤلاء ومسلمين، فلا بد له من أن يتخطى الحديث عن حسن العلاقة بين أبناء هاتين الديانتين، والإقرار بوحدة العيش بينهما.
كما أن إيجارات الأراضي الزراعية والمنشآت المبنية الموقوفة التابعة للأوقاف الإسلامية التي رأيناها، كانت جميعها من نوع الحِكر والمساقات والجدك. أي أنها كانت جميعها تنتهي بتمليك المستأجر لكل ما يزرعه في أرض الوقف المستأجرة أو يبنيه في ملك الوقف، ملكية دائمة يورّثها لبنيه من بعده. فإقدام المسلمين إذن على تأجير أراضيهم لنصارى على هذا النحو، يدلّ بوضوح على أن العلاقة بينهما لم تقف عند حد المظاهر والاحترام المتبادل وحسب، بل تعدت ذلك إلى تأمين فرص الاستثمار والتملّك، وتحسين الأوضاع المادية لكلا الطرفين.
كذلك تدلّ شهادات النصارى في المحكمة الشرعية في طرابلس، لصالح مسلمين ضد نصارى، وشهادات مسلمين ضد مسلمين لصالح نصارى، أن الانتماء الديني لم يكن يدخل في اعتبارات السكان من كلا الديانتين في علاقاتهم ببعضهم على المستويات الاقتصادية والاجتماعية وفي كافّة نواحي الحياة اليومية.
إن تضامن سكان حي العديمي (في طرابلس) مسلمين ونصارى، ضد الرهبان الأجانب ، يدلّ دلالة واضحة على أن النصارى في طرابلس لم يدعوا الانتماء الديني الذي جمعهم بالرهبان يطغى على الاعتبارات الأخرى التي كانت تجمعهم بأبناء حيهم المسلمين. ما يدلّ على وعي عميق، وعلى تقديم مصلحة المجتمع على الإعتبارات الطائفية الضيّقة. ويدلّ كذلك تضامن مجموعة خيّاطين مسلمين ونصارى، في شكوى ضد خياط مسلم خالف أصول حرفتهم، دليلاَ أيضاَ على انعدام المنطق الطائفي بين عناصر هذه الشريحة الحِرَفية.
ولعل إقدام نصارى على توكيل مسلمين ببيع وشراء عقارات نيابة عنهم، والمرافعة عنهم في المحكمة، يشكّل أبرز دليل على صفاء النوايا لكلا الطرفين. وتتضّح الصورة أكثر إذا ما علمنا أنه بموجب هذه الوكالات كان الوكيل المسلم يخوّل بيع أو شراء عقارات لموكّله النصراني من بائع أو شار نصراني مثله، و الدفاع عنه ضد نصراني مثله أيضاَ. ومثل هذا الأمر لم يكن ليتم لولا اطمئنان المسلمين والنصارى لبعضهم البعض وثقتهم ببعضهم.
من هنا يمكن القول أن قراءة الديموغرافية التاريخية لتموضع الأديان في طرابلس بمعزل عن هذه المعطيات، لا تمكننا من التدليل على حسن العيش المشترك بين المسلمين والنصارى بشكل قطعي.
بالإضافة إلى هذه المعطيات التي وردت في الوثائق، فقد جاء في كتابات أصحاب الحوليات ما يؤكّد حسن العيش، ومساعدة المسلمين للنصارى من أجل تمكينهم من تخطّي المحن والمضايقات التي تعرّضوا لها من قبل الدولة العثمانية. فقد ذكر البطريرك الدويهي أن صمود الموارنة في جزيرة قبرص أزعج العثمانيون، لذلك عمد السلطان سليم الثاني إلى الإنتقام من الموارنة في الدولة بعد سقوط الجزيرة بيدة سنة 1570. وقد طالت أعمال الإنتقام الموارنة في ولاية طرابلس. عندما أرسل العثمانيون القشلاق إلى هذه الولاية، فنهبوا دير ميفوق وبلاد جبة بشري وضبطوا أوقاف الأديرة فيها. ويبدو أن المسلمين في هذه المدينة إستهجنوا هذه الأعمال، وعملوا على مساعدة جيرانهم النصارى لتحرير ممتلكات أديرتهم. فتوسّط مفتي طرابلس إبن الجاموس لدى الوالي لفكّ حجز أرزاق دير مار سركيس في إهدن، كما توسّط ناصر بن يوسف كرامة الطرابلسي لفكّ حجز أملاك دير قنوبين .
وفي السياق نفسه، ذكر عبد الله غريّب روايات عديدة عن تعاون المسلمين في طرابلس مع الأرثوذكس، وسعيهم لمنع ظلم الولاة لهؤلاء. وسنكتفي بذكر روايتين منها. قال عبد الله غريّب: " حينما قامت نصارى شمالي لبنان على الحاكم المتوالي، وذبحته، أرسل حاكم طرابلس قوّة عسكرية وألقت القبض على أكثر وجوه شمالي لبنان وزجّهم في السجن. فحضر حينذاك جماعة من شمالي لبنان إلى أميون ليستنجدوا بمشايخ بيت العازار، ليتوسّطوا مسيحيي طرابلس للمداخلة مع الحكام لإطلاق سراحهم وخلاصهم من موت محقق كان يتوعّدهم. فحضر البعض من أميون لبيت غريّب في طرابلس وأفهموهم الغاية التي حضروا لأجلها. فتوجّه حالاً حنا غريّب إلى صديقه شيخ البداوي .... فتأهّل الشيخ بصديقه وسأله ما الخبر. .... أرجوك يا شيخي أن تستعمل دهاك ونفوذك وذكاك وتخلّص وتنقذ هؤلاء المساكين الأبرياء. فقال له الشيخ لا ينشغل بالك أقلّ فكر من جهتهم، في هذه الليلة يبيتوا في دارك. ... ركب الشيخ حمارته ... إلى أن وصل إلى سراي الحكومة، فهرولت المأمورين لتقبيل أياديه. وإذ هو قعد على سفرة السلّم العليا. فبلغ خبر مجيئه مسامع الحاكم الذي أسرع وهرول لملاقاته. فرآه قاعداً على سفرة السلّم، فترجّاه بأن ينهض ويدخل إلى القاعة. فأبى الشيخ محتجاّ قائلاً أنا لا أدخل السرايا التي هي مغارة لصوص والظلم والإستبداد بين جدرانها. فقال له الحاكم شرّف لنتحاكى بالأمر، فأبى الرضوخ لأمر الحاكم. .... نهض الشيخ وإصطحب معه المسجونين وذهب تواً إلى دار حنا غريّب وسلّمه إياهم ..." . وكذلك ذكر عبد الله غريّب رواية وقوف مفتي طرابلس إلى جانب النصارى عندما أرادوا تجديد بناء كنيستة لهم في المدينة فقال: "أن المدينة كانت تضمّ كنيسة قديمة تعرف بكنيسة مار نيقولاوس، وكان موقعها في حي الرمانة تحت القلعة وبجوار جامع الأويسية. وفي سنة 1809، بدت هذه الكنيسة صغيرة وبعيدة عن سكن عدد كبير من أبناء الطائفة الأرثوذكسية" الذين أصبحوا بحكم النمو السكاني والعمراني، يسكنون في أماكن بعيدة عنها في الطرف الغربي من المدينة. لذلك اجتمع وجهاء الطائفة، وارتأوا تغيير موضعها وبناء كنيسة جديدة عوضاَ عنها، تحمل نفس اسمها. ثم طلبوا الإذن من الدولة ببناء الكنيسة الجديدة، لأن بناء أية مؤسسة دينية، سواء كانت جامعاَ أم كنيسة، كان يتطلّب موافقة مسبقة من الدولة العثمانية. وقد وافقت الدولة على ذلك، شرط أن لا تزيد مساحة البناء الجديد عن مساحة الكنيسة القديمة. لكن النصارى زادوا على المساحة المرخّص بها. وعلمت سلطات المدينة بذلك جرّاء وشاية أحد النصارى. فغضب والي طرابلس يوسف باشا الكنج، وقرّر الكشف بنفسه على الكنيسة للتحقق من ذلك وإزالة المخالفة. عندها لجأ وجهاء الطائفة الأرثوذكسية المشرفون على البناء إلى مفتي المسلمين في طرابلس، من أجل التوسّط مع الوالي وإقناعه بالتغاضي عن المخالفة وعدم هدم الزيادة. فحضر المفتي مع الوالي للكشف، وتدخّل مع العمّال في إجراءات كيل مساحة البناء، ونجح في طمس المخالفة عن عين الوالي، ثم عاد الجميع، وتابع العمّال البناء مثلما أراد وجهاء الأرثوذكس .
مشاهد قاتمة في تاريخ العلاقة بين الطوائف الدينية في طرابلس:
بيد أن هذا الشريط الطويل من مشاهد العيش المشترك الذي ركّز عليه أصحاب الحوليات، وأظهرته الوثائق الرسمية، يتجاهل أو يتناسى أحداث طائفية أليمة، عكّرت صفو العلاقة بين الجماعات الدينية، ولا تزال تشوّش الذاكرة الشعبية إلى يومنا هذا، وتهدّد وحدة مجتمعنا. فكتابات أصحاب الحوليات تضجّ بمثل هذه القلاقل الطائفية التي وقعت من وقت لآخر، وتزايدت وتيرتها في القرن التاسع عشر مع تزايد التدخّل الأجنبي في الدولة العثمانية. لذلك أصبح التغاضي عنها بمثابة الهروب إلى الأمام، وإنتقاصاً من موضوعية المؤرّخ ومصداقيّته في نقل أخبار الماضي.
وإن كانت الوثائق العثمانية لا تدل لا على وئام بين المسلمين واليهود في طرابلس، ولا على عداء بينهما، فإنها تدلّ صراحة على حالة مقاطعة دائمة بين اليهود والنصارى في هذه المدينة، بل وعلى عداء بينهما. فالوثائق الرسمية لا تدلّ على قيام مشاريع إستثمارية مشتركة بين يهودي ونصراني، ولا على وجود ملكية واحدة مشتركة، بين يهودي ونصراني لا بيتاً ولا أرضاً زراعية. بل على العكس من ذلك تدلّ الوثائق على أن العلاقات بين هاتين الطائفتين، كانت دائماً مضطربة، وأن الخلافات بينهما كانت دائمة بسبب توزيع التكاليف الإقطاعية وضريبة الجزية بينهما، ولأسباب أخرى موروثة على حد ما جاء في بعض الوثائق. فقد كانت الدولة العثمانية في بداية حكمها في بلاد الشام، تنظر إلى أهل الذمّة ككتلة واحدة، وكانت تلزّم التكاليف الإضافية والجزية المرتّبة على هاتين الطائفتين لأحد النصارى. وكانت في مقابل ذلك تترك لهم حرّية توزيعها عليهم، دون أن تتدخّل هي في ذلك. ولكن يبدو أنهما كانا يختلفان دائماً على توزيعها فيما بينهما. وفي سنة 1738، تقدّم وجهاء اليهود من سلطات المدينة، بشكوى مدّعين فيها أن النصارى، حمّلوهم مبالغ أكثر مما يترتّب عليهم، وإلتمسوا من القائم مقام في المدينة محمد بك الأسعد (المرعبي) فصلهم عن النصارى في جباية الضرائب. وإلتمسوا منه تعيين واحد منهم لجبايتها. فقبل القائم مقام بذلك، ثم حضر المسؤلون الروحيون لكلا الطرفين إلى القاضي الشرعي، حيث تمّت تسوية الموضوع، وفكّ الإرتباط بينهما، وعيّن على اليهود واحداً منهم لجباية جزيتهم، وآخر نصراني لجباية جزية النصارى، كما يبدو من نصّ الدعوى الآتي:
" دعوى اليهود على النصارى
بمجلس الشرع الشريف المشار إليه، بعد أن إشتكت طائفة اليهود القاطنين بطرابلس لفخر الأماجد محمد آغا القائمقام وتضرّروا من طايفة النصارى سكان طرابلس، بأن صاير لهم غدر منهم بسبب العداوة القديمة بين الطايفتين، ويعاملوهم بالأغراض، وإلتمسوا منه بيورلدياً بأن يكونوا فرقة واحدة باباهم، ومهما طلب منهم من خدمة ميري وصاليان أو باج خمر أو غير ذلك المطلوبة منهم، وأنهم يوقفوا لما يطلب منهم رجلاً منهم يتعاطى أشغالهم ولا يحصل منهم تعدّي على بعضهم بخلاف الشرع والقانون. فكتب لهم بيورلدياً بذلك. وحضر مطران طايفة النصارى الذمي نقولا، وأقري البيورلدي عليه، فقبل ذلك وتعهّد أن لا يدع أحداً من النصارى يطالب طايفة اليهود بشئ مما يطلب منهم، بل طائفة النصارى تقوم بما يطلب منهم، وطايفة اليهود تقوم بما يطلب منهم، إقراراً بصدق من اليهودي صليمان الحاخام على اليهود، تصديقاً شرعياً. وإختارت طائفة اليهود أن يكون اليهودي موصى ولد جابر متقيّداً بما يطلب منهم ومتكلّماً عنهم. فقبل ذلك في المجلس. ونبّه الحاكم الشرعي المشار إليه على نقولا المطران بأن لا يدع أحداً من النصارى يقارش اليهود بوجه، تنبيهاً شرعياً. فسطّر ما وقع بالطلب في العشرين من جمادى الأول سنة أحد وخمسين وماية وألف." .
ومن هذه الأحداث الأليمة ما نقله الدويهي عن إقدام المسلمين في بيروت على الإستيلاء على كنيسة للموارنة فيها، كرد فعل على تعاطف الموارنة في بلاد الشام مع أبناء طائفتهم في قبرص إبان حصار العثمانيين لها سنة 1570 . كذلك تعرّض الأرثوذكس في طرابلس سنة 1821 إلى مضايقات من أبنائها المسلمين، عقب وصول أخبار ثورة اليونان ضد العثمانيين، وما أشيع عن تعاطفهم مع الثوار، ما إضطرّ النصارى إلى الهروب من المدينة واللجوء إلى القرى الجبلية للإحتماء فيها . وكذلك تعرّض الأرثوذكس في بيروت سنة 1826، إلى مضايقات. وقد روى نوفل نوفل ما جرى لهم بالقول:
" ... في تلك السنة ( أي سنة 1826) قدم إلى بيروت مركباً للأروام، ووقفوا تجاه برج أبي هدير، وخرج منها جماعة إلى البرّ، ونصبوا السلالم شرقي بيروت على السور، ودنت السفن من الميناء. وعند الصباح دخل بعضهم المدينة على السلالم، وأطلقت المدافع قنابلها على البلدة فإضطرب المسلمون وهجموا على الأروام الذين دخلوا المدينة، فقتلوا منهم نفراً، وردّوا الآخرين إلى أصحابهم وراء السور. ثم تجدّد القتال فإرتدت الأروام إلى مراكبهم التي ذهبت نحو الغناس .... ثمّ قدّم المسلمون الشكوى على نصارى بيروت بأن مجيء اليونان كان بإيعازهم، وأنهم قبلوا بعضاً من الداخلين في بيوتهم، فأمرت الحكومة بالقبض على النصارى وهاج المسلمون يطلبون الإنتقام. فلما شعر النصارى بذلك فرّوا إلى الجبل، فقبض المسلمون على من أدركوه منهم وحبسوا بأمر الحكومة، وفتحت حوانيتهم، وكتبت بضائعهم بحضور القاضي، فذهب ريعها ضياعاً، وثمنه ثلثماية ألف غرش." .
وهنالك أحداث كثيرة مماثلة، لم نهتم بسرد وقائعها، إنما يهمنا الوقوف عند أسبابها. وهنا نلاحظ أن لا أساس محلّي لهذه الأحداث، ولم يكن أحد من أبناء المدينة طرفاً رئيساً فيها أو مسبباً لها، وأنها كانت جميعها لأسباب سياسية خارجية، لا علاقة لأبناء المدينة بها، ولا مصلحة لهم فيها. فتعاطف الموارنة في بلاد الشام مع الموارنة في قبرص ضد الدولة العثمانية جلب لهم نقمة جيرانهم السنّة. وتعاطف الأرثوذكس في بيروت وطرابلس مع ثورة الأرثوذكس في اليونان ضد العثمانيين، جرّ نقمة المسلمين في هاتين المدينتين عليهم وألحق بهم الأذى. في مقابل ذلك كان تعاطف المسلمين مع الدولة العثمانية وتأييدهم لها، يعكّر صفو علاقاتهم بالطوائف الدينية الأخرى في مدنهم. إذن ينحصر ذنب أبناء طرابلس في التسبب بوقوع أحداث طائفية، في أنهم تطلّعوا في لحظة ما إلى الخارج، وفضّلوا أبناء طائفتهم الدينية البعيدين، على جيرانهم من الطوائف الأخرى، وغلّبوا إنتماءهم الطائفي على إنتمائهم المجتمعي والجغرافي، وقدّموا الرابطة المذهبية على روابط الشراكة الحياتية والإقتصادية والإنسانية. فتعاطف المسلمون مع الدولة العثمانية السنّية، وتعاطف الأرثوذكس مع اليونان لمجرّد أنها أرثوذكسية، كما تعاطف الموارنة في طرابلس و جبل لبنان مع الموارنة في قبرص. والجدير ذكره أن تعاطف هؤلاء بجميع إتجاهاته، لم يغير شيئاً في وجهة الأحداث لا في قبرص، ولا في اليونان ولا في الدولة العثمانية، بل إن سلبياته إنحصرت في إساءة الطوائف الدينية في مدينة طرابلس إلى بعضها البعض. وهكذا كان ولا يزال التطلّع إلى الخارج، والإرتباط به على حساب الشركاء في الداخل، السبب شبه الوحيد لتعكير صفو العيش المشترك الذي ميّز تاريخ هذه المدينة بل وتاريخ لبنان بكل مناطقه الجغرافية.
وهناك أحداث كثيرة أخرى تعرّض لها النصارى في بلاد الشام، لكن الحقيقة تقضي بالقول أن السكان المحليين، سواء كانوا مسلمين أو نصارى، لم يكونوا مسؤلين عنها ولا شركاء فيها، بل كانت الدولة العثمانية وسلطاتها المحليّة هي المسؤلة الوحيدة عن ذلك. نذكر منها ما حدث من ملاحقة النصارى سنة 1821، ونهب بيوتهم في طرابلس من قبل رجال الدولة، فيما عرف بسنة مصطفى آغا أبو كرباج . وغالباً ما كان المسلمون يقفون إلى جانب النصارى في مثل هذه الحالات، ويعلمون على مساعدتهم بما أوتوا من قوّة ونفوذ.
وعلى خط موازٍ لتوتر العلاقات بين المسلمين والنصارى أحياناً، يشاهد الباحث توتّراً آخر وقع بين الحين والآخر بين الطوائف المسيحية في المدينة. ففي القرن الثامن عشر، وقع خلاف بين رهبان الرهبانية اللبنانية، وإنتهى سنة 1744 إلى إنقسامها إلى رهبانيتين: بلدية وحلبية. وقد إنعكس هذا الخلاف على الموارنة في طرابلس، فأصدر البطريرك الماروني مرسوماً إلى الوكيل العام المقيم في أنطوش الرهبانية في طرابلس بأن يضبط كل شيئ موجود في الأنطوش وأن يضاعف سهره بحيث لا يفقد شيء من موجوداته وأن يستعين عند اللزوم بالقنصل الفرنسي في طرابلس للمحافظة على أملاك الرهبانية البلدية.
وفي أواسط القرن الثامن عشر إشتدّ الخلاف بين الموارنة والكاثوليك، ما أدى إلى تدخّل البابا، ومن ثمّ أصدرر البطريرك الماروني أمراً إلى الرهبان الكاثوليك الذين دخلوا في المارونية بالعودة إلى كنيستهم الكاثوليكية. وفي القرن التاسع عشر إندلع الخلاف بين الموارنة والسريان الكاثوليك في طرابلس على ملكية كنيسة سيدة الحارة وأوقافها. وكانت هذه الكنيسة ملكاً لطائفة السريان الكاثوليك، فوضع الموارنة يدهم عليها وإستولوا على أوقافها، فتدخّل الأمير بشير الشهابي الثاني لحلّ هذا النزاع. ولكن الخلاف لم ينته إلاّ بتحوّل أعداد كبيرة من السريان في طرابلس إلى المذهب الماروني، ما حمل بطريرك السريان أغناطيوس السابع جروة 1820-1851، على السماح للموارنة بإستعمال الكنيسة وإستغلال أوقافها.
ولم تكن العلاقة بين الكاثوليك والأرثوذكس بأفضل من ذلك بسبب سعي الكاثوليك إلى نشر مذهبهم بين الأرثوذكس .
وقد إتّسعت الخلافات بين الطوائف المسيحية فيما بينها، وتزايدت تعدّياتها على بعضها البعض، كما تطوّرت خلافاتها مع اليهود ، مما إضطر السلطان العثماني على التدخّل لمنع تفاقمها، فأصدر سنة 1852 ثلاثة فرمانات لكل من اليهود والروم الكاثوليك والروم الأرثوذكس، بوجوب الإلتزام بالقوانين، والإمتناع عن الإساءة إلى بعضهم البعض .
خاتمة
تميّز تاريخ طرابلس الحديث بلوحات رائعة تعكس حسن العيش المشترك بين كافّة الطوائف الدينية فيها. وتدلّ الوثائق والمصادر على أن هذه المدينة، لم تكن يوماً مسرحاً لأحداث طائفية واسعة على غرار ما حصل في دمشق وجبل لبنان سنة 1845 و 1860. غير أن بعض المصادر تفيد أن العلاقة بين الطوائف الدينية فيها، كانت أحياناً، عرضة لخضات وإنتكاسات ظرفية عابرة لا يجوز تجاهلها، والإكتفاء بإظهارالمواقف المتسامحة والنبيلة، لئلاّ تتحوّل هذه الإنتكاسات إلى سوسة تنخر في بنية المجتمع، وتهوي به عند إشتداد رياح التغيير.
وهنا تبرز أهمية كتابة الماضي بصدق وجرأة، وتعليله بمفاهيم عصره، وعدم إسقاط مفاهيم حاضرة عليه، وتقديمه للقارىء كما كان، دون تحوير أو تزوير بما يناسب مصالحنا الآنية، ودون أن ننصّب أنفسنا قضاة لتجريم هذا أو الحكم ببراءة ذاك. فليس ثمّة طائفة دينية، أو جماعة سياسية، أو عائلة معيّنة مسؤلة اليوم عن أخطاء إرتكبها أجدادها في الماضي بحقّ الوطن أو المجتمع أو الإنسانية. بهذه الذهنية نستطيع كسر حاجز الخجل من ذِكر الإنتكاسات التي طرأت على العلاقة بين الطوائف. بل إنه لا بدّ لنا لدى الحديث عن التاريخ، من تناول ما إعتراه من مشاكل وأحداث، ليس بهدف إحيائها وبعثها مجدّداّ، بل بهدف تشريحها وتبيان أسبابها، وإبراز مآسيها وإنعكاساتها السلبية على المهزوم والمنتصر على السواء، لكي تشكّل عبرة لنا ولأجيالنا الصاعدة، فتدفعها بإتجاه نبذ الغرائز الطائفية، والحرص على عدم الإنحدار مجدّداّ إلى مستواها. بذلك تتحقّق الفائدة من التاريخ، ونبتعد عن أخطائنا، بدلاً من تضييع الوقت في تبريرها، أو تخفيفها، أو إلقاء التهم على بعضنا البعض.
ملحق رقم 1
ملحق رقم 2 .
ملحق رقم 3 : صور عن وثائق تعهّد سكان الأحياء في طرابلس .
د.فاروق حبلص
أرثوذكس طرابلس في القرن التاسع عشر
الشمّاس: إبراهيم دربلي
يرجع تاريخ الوجود المسيحيّ المشرقيّ في طرابلس إلى عهد رسل السيّد المسيح، وفيها تعرّض المسيحيّون لما تعرّض له أبناء هذا الشرق، فأصابتهم رياح الخلافات العقائديّة المسيحيّة، وظفر بمدينتهم المسلمون يوم انطلقوا من الجزيرة العربيّة وكما استهدفهم الإفرنج المحتلّين زمن احتلالهم لشرقنا.
أعاد المماليك عام 1289م كتابة تاريخ المدينة وتاريخ المسيحيّة فيها، وقاموا بنقلها من ضفاف البحر إلى حمى القلعة، لتتحلّق حول الجامع المنصوريّ الكبير فسكنتها أعراق وديانات مختلفة، سكنها المسلمون من أهل السنّة وكانوا الأغلبيّة كما سكنها المسيحيّون واليهود.
من المحتمل أن يكون المماليك قد شجّعوا المسيحيّة اليعقوبيّة كما شجّعوا الإسلام الشافعيّ، في حين قام العثمانيّون، وبعد دخولهم المدينة، بتشجيع العنصر الروميّ، الأمر الذي أدّى إلى طغيان اللون الأرثوذكسيّ على المسيحيّة الطرابلسيّة صبيحة القرن التاسع عشر، وسيزداد التنوّع المسيحيّ مع بداية القرن العشرين، مع ظهور الكاثوليك، اللاتين والبروتستنت، من دون أن ننسى الوجود الماروني القديم والذي شهد نمواً لافتاً مع بداية القرن العشرين .
أوّلاً: النمو الديموغرافي لأرثوذكس طرابلس:
يصل أنطوان عبد النور، فيما كتبه عن طرابلس، إلى نتيجة مفادها أن التجمّع السكّاني في المدينة بلغ مع نهاية القرن الثامن عشر حوالي 15 ألف نسمة . هذا الرقم هو ما قدّره تقرير فرنسيّ لسكّان مدينة طرابلس في العام 1812 حين ذكر أنّ مجموع سكّان المدينة يصل إلى 14,200 نسمة ليرتفع إلى 15,000 في فصل الشتاء على أثر انحدار الموارنة من جبالهم؛ وتوزّع سكّان المدينة على الشكل التالي: 100 حرس شواطئ، 800 من الأشراف، 1300 من الإنكشاريّة، 9000 مسلم، 2700 من الأرثوذكس، 200 من الموارنة و100 من اليهود، ويشير القنصل الفرنسيّ إلى أنّ هذا الرقم يتضمّن التجمّع السكّاني في منطقة الميناء والذي يقدّره بثلاثة آلاف نسمة، وكان أغلبهم من المسيحيين .
وبخلاف تلك الصورة التفصيليّة عن سكّان المدينة، وصلنا عن منتصف ذلك القرن إحصاءات عامّة، منها تقرير روسيّ يعرض لعدد الأرثوذكس فيجعلهم 7،800 نسمة في أبرشيّة طرابلس . وأشار القنصل بلانش، إلى ارتفاع في عدد سكّان طرابلس، ويقدّر ذلك العدد ﺑ24,000 نسمة موزّعين على الشكل التالي: 18,000 نسمة في البلدة و4,000 نسمة في الميناء .
ومع بداية القرن العشرين، عادت الإحصاءات التفصيليّة للظهور، وقد وصلنا منها ما كتبه كلّ من حكمت شريف وصاحبي كتاب ولاية بيروت.
فاستناداً إلى ما قدّمه القنصل أوغست أندريا وإلى ما بيّنه كل من عمر تدمريّ عن سنة 1519م ، وحكمت شريف عن سنة 1905م وصاحبي كتاب ولاية بيروت عن سنة 1914م ، أتينا بالجدول (1) لنعرض من خلاله لأبرز المتغيّرات الديموغرافيّة التي لحقت بالمدينة خلال الحقبة العثمانيّة :
جدول: (1) المعطيات الإحصائيّة التي تناولت مدينة طرابلس ما بين عاميّ 1543م و1914م.
سنة مسلمون أرثوذكس موارنة كاثوليك بروتستنت يهود المجموع
1519 1155 298 - - 90 1543
1812 11200 2700 200 - - 100 14200
1905 23943 6485 1338 70 69 61 31991
1914 24110 6791 1476 66 51 72 32571
يلاحظ من خلال هذا الجدول ارتفاع عدد سكّان طرابلس بصورة مميّزة خلال القرن التاسع عشر، ما يشير إلى تحسّن الظروف الصحيّة وإلى نمو المدينة على حساب الريف. كما يلفتنا في هذه الأرقام تراجع عدد اليهود، وظهور البروتستنت والكاثوليك في أواخر القرن التاسع عشر . أمّا من حيث نموّ عدد السكّان في المدينة خلال العهد العثمانيّ، وتفصيل ذلك النموّ ما بين المسلمين والأرثوذكس، فقد اعتمدنا على الجدول (2) لنؤكّد على النمو المتصاعد لسكّان مدينة طرابلس خلال القرن التاسع عشر، مع ملاحظة ارتفاع معدّلات النمو السنويّة للمسيحيّين عامّةً إزاء المسلمين، وانخفاض الزيادة السنويّة للأرثوذكس عن المعدّلات المسيحيّة، مع ارتفاعها عن معدّلات المسلمين.
جدول: 2-3 معدّلات النموّ السنويّة لسكّان طرابلس ما بين إحصاء 1519م وإحصاءات القرن التاسع عشر.
السكّان مسلمون مسيحيّون أرثوذكس
1519-1812 3.4٪ 3.6٪ 3.6٪ 3.3٪
1519-1905 5.9٪ 5.9٪ 7.7٪ 6.2٪
1519-1914 5.8٪ 5.8٪ 7.9٪ 6.3٪
كما ظهرت معدّلات الزيادة السنويّة للمسيحيّين في المدينة والتي بلغت 5،9٪ حسب الجدول السابق، مرتفعة عن الزيادة التي طالت المسيحيين الواقعين في ولاية طرابلس والتي بلغت 1.73٪ ما بين عاميّ 1580م و 1882م ، ما يشير إلى نزوح سكّان الريف المسيحيّين إلى مدينة طرابلس خلال تلك الحقبة.
أمّا خلال القرن التاسع عشر فيظهر الجدول (3) ارتفاع الزيادة السنويّة للمسيحيّين بشكل عامّ عن الزيادة السنويّة للمسلمين، بينما شكّلت الزيادة السنويّة لأبناء الطائفة المارونيّة النسبة الأعلى بين المسيحيّين. في حين رأينا أنّ الزيادة الأرثوذكسيّة شهدت ارتفاعاً على الزيادة الإسلاميّة.
جدول: 3 معدّلات النمو السنويّة ما بين عاميّ 1812م – 1905م وعامَي 1812م -1914م.
السكّان مسلمون مسيحيّون أرثوذكس موارنة
1812-1905 1.3٪ 1.2٪ 1.9٪ 1.5٪ 6.1٪
1812-1914 1.3٪ 1.1٪ 1.9٪ 1.5٪ 6.3٪
وتسمح لنا هذه النسب باستخلاص الملاحظات التالية:
- شكّلت طرابلس مكاناً مرغوباً عند مسيحييّ الريف، وخاصّةً الموارنة منهم، ما حدا بهم للنزوح والسكن فيها.
- شكّلت طرابلس مدينة آمنة لسكّانها من مسيحيّين ومسلمين.
لقد توزَّع سكّان طرابلس بين منطقتيّ البلدة والميناء، ففي العام 1812م ضمّت منطقة الميناء حوالي 3000 نسمة من أصل 14200نسمة سكنت طرابلس وكان أغلب سكّانها من الأرثوذكس، وكانت كلّ تجارة طرابلس الخارجيّة تقام فيها حيث وجدت المخازن الكبرى والخان المعتبر . استفاد أرثوذكس الميناء من موقعهم البحريّ، وانشغلوا بالتجارة مع الخارج، كما اهتمّوا بأعمال الصيد وببناء السفن.
ومن تقدير القنصل الفرنسيّ لعدد سكّان الميناء ﺑ 3000 نسمة وإشارته إلى أنّ أغلبهم كانوا من الأرثوذكس، ما يسمح لنا بافتراض مفاده أنّ عددهم كان لا يقلّ عن الثلثين، وبذلك نقدّر عدد الأرثوذكس في منطقة الميناء بـ 2000 نسمة، وفي منطقة البلدة بـ 700 نسمة . ويكون عدد المسلمين في منطقة الميناء حوالي 1000نسمة، في حين ضمّت البلدة 10200 نسمة .
فانطلاقاً من هذه التقديرات، أتينا بالجدول (4) الذي يبيّن معدّلات الزيادة السنويّة لأبناء بعض الطوائف الطرابلسيّة خلال القرن 19:
جدول: (4) معدّلات الزيادة السنويّة التي طاولت أبناء الطوائف الإسلاميّة، الأرثوذكسيّة والمارونيّة خلال القرن التاسع عشر في منطقتيّ البلدة والميناء.
البلدة الميناء
ما بين عاميّ 1812-1905 1812-1914 1812-1905 1812-1914
مسلمون 1٪ 0.9٪ 3.4٪ 3.1٪
أرثوذكس 2.5٪ 2.7٪ 1.2٪ 1٪
موارنة 5٪ 5.1٪ 2.3٪ 2.3٪
يلحظ الجدول النمو السكّاني الكبير الذي شهدته مدينة الميناء خلال القرن التاسع عشر، حيث سكنتها أغلب الطوائف ولاسيّما أبناء الطائفتين السنيّة والمارونيّة، ما أدّى إلى انخفاض نسبة الأرثوذكس فيها لتصل إلى 48.5٪، بعد أن كانوا الأغلبيّة في أوّائل القرن. وعلى ذلك تكون الميناء هي التي شكّلت المستوعب الأكبر للقادمين الجدد من مسلمين ومسيحيّين المهتمّين بنشاطها التجاريّ.
وفي البلدة، ومع استمرار استقبالها للموارنة، ارتفعت النسبة الأرثوذكسيّة ، لتصل في أواخر القرن إلى10٪ من السكّان وكانت حوالي 5٪ في أوّله.
جدول: (5) عدد الذكور والإناث في منطقتيّ البلدة والميناء، موزّعين على أبناء الطوائف.
البلدة الميناء
الذكور الإناث الذكور الإناث
مسلمون 10250 9704 2136 2020
أرثوذكس 1500 1143 2389 1759
موارنة 628 614 124 110
كاثوليك 33 33
بروتستانت 24 27
يهود 35 37
ومن تفنيد صاحبي "ولاية بيروت" لأعداد الذكور والإناث لدى أبناء الطوائف الطرابلسيّة (الجدول 6) ، لاحظنا تقارباً بأعداد الذكور والإناث لدى أبناء الطائفتين الإسلاميّة والمارونيّة، في كلّ من منطقتيّ البلدة والميناء. ما يشير إلى أنّ من نزح إلى المدينة من أتباع الطائفتين قام بالاستقرار فيهما، في حين يدلّ ارتفاع عدد الذكور عند الأرثوذكس عن عدد الإناث، ولاسيّما في منطقة الميناء، إلى اتّخاذ النزوح الأرثوذكسيّ للشكل المؤقّت.
جدول (6) عدد ذكور وإناث الطوائف في منطقتيّ البلدة والميناء وفقاً لإحصاء 1914.
البلدة الميناء
الذكور الإناث الذكور الإناث
مسلمون 10250 9704 2136 2020
أرثوذكس 1500 1143 2389 1759
موارنة 628 614 124 110
كاثوليك 33 33
بروتستانت 24 27
يهود 35 37
ثانياً: الأوضاع الاقتصاديّة، والاهتمامات المهنيّة:
يُعيد بعض الباحثين نموّ عدد سكّان طرابلس عمّا كانت عليه في القرن السادس عشر، إلى الاستقرار الذي عرفته المدينة فشكّلت إطاراً آمناً التجأ إليه أهالي القرى المحيطة بها، ويعيدون تراجع دورها الاقتصاديّ خلال القرن التاسع عشر، إلى انحسار علاقتها التجاريّة مع مصر وإلى النموّ الاقتصاديّ في كلّ من اللاذقيّة ، وبيروت .
وما ذكرناه آنفاً يؤكّد الدور الآمن الذي لعبته المدينة، وخاصّةً في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، غير أنّه يتعارض مع اعتبار طرابلس مدينة قد تراجع اقتصادها، طالما أنّها استمرّت باستقبال الوافدين إليها. كما أنّ هنالك بعض الدلائل التي تشير إلى استمرار المدينة باجتذاب التجّار الفرنسيّين حتّى ما بعد انتقال مركز القنصليّة الفرنسيّة إلى بيروت . ويكون من الأفضل القول عن اقتصاد المدينة بأنّه كان ينمو بطريقة أبطأ من النمو الاقتصاديّ الذي لحق ببقيّة مدن المنطقة، خاصّة ما بعد إنشاء شبكة الخطوط الحديديّة التي ربطت بيروت بدمشق، فاستبعدت طرابلس عن دورها التجاريّ التاريخيّ.
ولمقاربة نمط اقتصاد أرثوذكس طرابلس خلال ذلك القرن، نستعرض لما نقله لنا صاحبا "ولاية بيروت" فأكّدا على الاهتمام التجاريّ لأرثوذكس المدينة، ويصفان إيّاهم بالقابضين على تجارة المدينة حتى منتصف القرن التاسع عشر، ويشيران إلى أنّ أولئك الأرثوذكس كانوا من أصحاب الثروات الكبيرة، في حين كان المسلمون من المزارعين. ثم شرع المسلمون باستقراض المال من الأرثوذكس، وأخذوا يتعاطون التجارة. في حين أهمل الأرثوذكس التجارة مستندين على ثروتهم النقديّة، وأمعنوا في إقراض النقود بفوائد فاحشة، "حتى غشيهم البحران المالي سنة 1872 ودام خمس سنين"، ويشير الكاتبان إلى تضافر العديد من النكسات الاقتصاديّة التي أدّت إلى خسارة الأرثوذكس لأموالهم .
في إمكان الباحث التاريخيّ أن يطعن ببعض جوانب تلك الرواية الاقتصاديّة، خاصّة في الوصف الذي قدّمته عن مسلمي المدينة، على أنّ تلك الرواية تبقى صورة واضحة لما وصل إليه حال أغنياء الأرثوذكس على مشارف الحرب العالميّة الأولى.
من الثابت تاريخياً، نجاح بعض الأرثوذكس بتجارتهم مع الخارج وبامتهانهم لحرفة القلم؛ ففي عهد الالتزام كان منهم من تسلّم إدارة الديوان، وقلم التحريرات، وكان بإمكان حاكم طرابلس أن ينتدب منهم مرافقاً لقافلة الحجّاج إلى مكّة، ليكون مسؤولاً عن صرف الأموال التي تتطلّبها القافلة. وكان المردود المالي لتلك الوظائف كبيراً إذ ساهمت برفع منزلة آل غريّب الماليّة وكانت تجارتهم وأموالهم قد زالت على أثر الثورة الفرنسيّة .
1- المهن الإداريّة والتجاريّة:
تشير الدلائل التاريخيّة إلى اهتمام وثبات الأرثوذكس بالوظائف الإداريّة، فمن بعد انهزام بربر وانسحبه من طرابلس استمرّ كاتبه الأوّل نعمة غريّب في مركزه، وكان نعمة من المخلصين لبربر، مِن مَن صمدوا معه أثناء حصاره في القلعة . وفي زمن الاحتلال المصريّ لطرابلس برز نعمة نوفل كرئيس محاسبة لخزينة طرابلس ، وفي تلك الفترة اهتمّ المصريّون بإبعاد كلّ من شارك في الجهاز الإداريّ السابق ما عدا الكتّاب المسيحيّين .
أتت مهارة أولئك الأرثوذكس في الأعمال الإداريّة من تملّكهم لمهنتهم؛ حرفة القلم. وهي حرفة كسائر الحرف لها أسرار تجتهد العائلات بحفظها وبنقلها لأبنائها. وكان من الطبيعيّ بمن امتلك ذلك السرّ أن ينجح بالتجارة الخارجيّة، وأن ينشئ علاقات مع زعماء الداخل والخارج. كما كان من الطبيعيّ أن يشتهر أولئك المتعلّمون بأدوارهم في السلك الدبلوماسيّ كقناصل أو كتراجم للدول الأوروبيّة، كآل كتسفليس وآل نوفل. ومع أنّنا لم نجد دليلاً يؤكّد المردود المالي المباشر لتلك الوظائف الدبلوماسيّة، إلا أنّه لا يمكن أن ننسى مردودها الغير مباشر، فأغلب الذين ارتبطوا بالسفارات الأوروبيّة كانوا من التجّار .
وكان مع بدء إعادة النظر بالهيكليّات الإداريّة في زمن الاحتلال المصريّ، أن شرّع الوجود الأرثوذكسيّ الإداريّ من خلال مجلس الشورى، فتمثّل الأرثوذكس بشخصين في ذلك المجلس . وسيستفيد الأرثوذكس من علومهم في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مع بدء العمل بالإصلاحات العثمانيّة، ليتوزّعوا على الإدارات والمجالس المستحدثة في السلطنة العثمانيّة كـ"مجلس المبعوثان"؛ فكان نقولا نوفل مبعوثاً عن طرابلس في ذلك المجلس سنة 1877م .
ومن خلال العيّنة التي تناولها عبد الله نوفل في كتابه والتي تتألّف من 63 مسلماً و62 مسيحيّاً يشكّلون 125 عالماّ من أبناء طرابلس وأدبائها في القرن التاسع عشر ، استطعنا أن نتبيّن أماكن عمل 52 مسلماً و52 مسيحياً، توزّعوا على المناطق التالية:
جدول:7 المناطق التي عمل فيها بعض علماء طرابلس في القرن التاسع عشر.
في طرابلس بين طرابلس ومحيطها في محيط طرابلس بين طرابلس ومصر في مصر في تركيا بين طرابلس وتركيا في المهجر بين طرابلس والمهجر
مسلم 35 11 3 0 2 1 0 0 0
مسيحيّ 18 5 8 11 5 0 1 3 1
يظهر من خلال الجدول (7) الارتباط المعيشيّ المباشر لأغلب المسلمين بمدينتهم طرابلس، وكان أكثر هؤلاء العلماء المسلمين من علماء الدين، حيث حَمَل 46 عالماً منهم ألقاباً دينيّاً، وكان منهم 17 شيخاً مِن مَن أكملوا علومهم الدينيّة في مصر. كما يبيّن الجدول الارتباط المعيشيّ لأرثوذكس طرابلس بمصر وبالمناطق التي أحاطت بطرابلس، ما يعني اجتذاب الوظائف المستحدثة بفضل الإصلاحات العثمانيّة للعالم الأرثوذكسيّ، في حين لم تكن المدينة قادرة على استيعاب أو إغراء كلّ أولئك العلماء فقاموا بتركها.
2- الاهتمام بالعلم:
في مقدّمة كتابه "زبدة الصحائف في سياسة المعارف"، يعرض نوفل نوفل لأسباب امتهان ورغبة الأرثوذكسيّ بحرفة القلم فيقول "... صرفت زمان الفتوّة الذي يليق به التعليم كعادة امثالي في ذلك الوقت غير ملتفت لغير اللغة التركيّة لكونها في وطني لغة أصحاب الملك والسيادة ومعرفتها لمن يرغب في التقرّب إليهم مفتاح الفوز والسعادة وخاصّةً لبني النصرانية الذين لم يكن لهم وقتئذ في بلادنا وسيلة للدخول في باب الحكومة الا الخدمة في اقلام المحاسبات الميرية فكانت هذه اللغة بمفردها عند بعض العائلات التي اعتادت التقدم بواسطة هذه الصناعة هي الامر الجوهري لاصابة الغرض وما عداها من المعارف والاداب لا يلتفت اليه الا بطريق العرض لما ان الانشاآت والمحررات العربيّة لم تكن اذ ذاك جديرة بمزيد الاعتناء في الدواوين العثمانية...".
يعرض نوفل لحالة العلم والمتعلّمين في كلّ زمان، فلا يُطلب العلم لذاته وإنما لما يُقدّمه لحامله من عمل ومن مكانة اجتماعيّة وسياسيّة. فاهتمّ الأرثوذكسيّ بتعلّم لغّة الحاكم التركيّ، واهتمّ بتعلّم بعض اللغّات الأوروبيّة لنيل أعلى المرتّبات الوظيفيّة، وليتمكّن من التجارة الخارجيّة .
وسيسري ذلك المفهوم بين عموم أرثوذكس القرن 19، فنرى سعي بعض العائلات المتواضعة وراء تلك الحرفة كعائلة حدّاد في البلدة . وسيأخذ ذلك المفهوم بعداً جديداً في منطقة الميناء، حيث أسّس الأرثوذكس مدرسة، وأحضروا أستاذاً ليعلّم أولادهم وعلى نفقتهم الخاصّة . وكأن تلك العائلات شاءت أن تنهض من حالتها لتُجاري أهل البلدة في الثروة والعلم، وكان من نتيجة ذلك السعيّ أن برز أصحاب علم من منطقة الميناء في النصف الثاني من القرن كآل نعّوم، كما برز أصحاب ثروات كآل كرم.
ومع شيوع المدارس بين أرثوذكس طرابلس وفي عموم السلطنة، كُشف سرّ حرفة القلم، وانحسر مردودها الماليّ.
3- الاهتمامات المصرفيّة:
في أواخر ذلك القرن اهتمّ بعض الأرثوذكس بالأعمال المصرفيّة، وكانت من الأعمال المستحدثة في السلطنة. ومن تلك المصارف كان ما أقامها السادة انطانيوس وحنّا فاضل اللذان أسّسا أوّل مصرف في طرابلس ، وسليم حبيب الذي كان من كبار صيارفة الثغر ، كما برز في تلك المهنة ديب نصّور ، ويوسف نجّار .
وللتعريف بتلك المصارف، لفتنا طلب قرض قدّمته الجمعيّة الخيريّة الأرثوذكسيّة من مصرف آل الذوق وعبد الواحد، بهدف تسديد ديونها المستحقّة على أحد الأرثوذكسيّين. وفي ذلك تلميح إلى الفوائد الكبيرة التي كان يتقاضاها الأرثوذكس حتّى من كنيستهم.
أمّا وثائق آل نصّور، فتشير إلى أنّ أغلب التعاملات التي قام بها السيّد ديب نصّور كانت مع أبناء الطائفة المسيحيّة .
كان بعض الأرثوذكس مع بداية القرن، من كبار تجّار وأغنياء المدينة. وبتأثير من التطوّرات الاقتصاديّة والسياسيّة التي حملها ذلك القرن، وبسبب الخيارات المهنيّة الأرثوذكسية وتعدّيات الدولة العثمانيّة على الإغنياء الأرثوذكس، خرج الأرثوذكسيّ من مدينته، وهاجر إلى مصر فأصبح أكثر غنى من أغنياء طرابلس. أمّا ما كان يُشاهد من ثروة في أيدي الأسر المسيحيّة في المدينة فكان ناتجاً عن الثروة التي تُكتسب في الخارج وتدخل إلى طرابلس، وبذلك خلا الجو للمسلمين فتفرّدوا بتجارة طرابلس وظلّت بأيديهم حتى الحرب العالميّة الأولى .
ثالثاً- الحركة الداخليّة:
1- الحزبيّة:
من خلال تتبعنا لأسماء الأرثوذكس الذين عملوا في ديوان بربر آغا، ومن خلال ملاحظتنا للأحداث الانتقاميّة التي سجّلت أثناء غيابه عن المدينة، تبيَّنت لنا التحزّبات السياسيّة الأرثوذكسية. فنعمة الله غريّب الذي عيّنه بربر آغا " باش كاتب" ، على كافة مناطقه ، يلقّبه الخوري "بكاخية بربر ومحاسب طرابلس" ، وهومن ثبت مع بربر أثناء حصاره في قلعة طرابلس قرابة الستة أشهر مع عياله وأتباعه ، ونتيجة ولائه لبربر تعرّض منزل آل غريّب للهدم في الفترة التي أُخرج فيها بربر من المدينة .
أمّا المعلّم صدقه فكان من كتّاب بربر ووكيله في بعض الأعمال الإداريّة ، ونجا منزل آل صدقة من الهدم من قبل خصوم بربر بفضل تحرّك وممانعة أهل المدينة . وإضافة إلى هاتين العائلتين يذكر المؤرّخون أنّه في الفترة التي هُدم فيها منزل آل غريّب، تمّت مصادرة منزل آل صرّاف بعد أن هجره أهله ، وتعرّض المنزل للهدم في مرحلة لاحقة . أما آل خلاط فكان كبيرهم من حاشية بربر ، وقام بربر بنجدة العائلة من تعدّيات أبي كرباج الموظّف العثمانيّ . كما كان آل الطحّان من حاشية ببربر وبسبب أحد أبناء تلك العائلة حصل إشكال بين بربر والقنصل الفرنسيّ . وتحزّب لبربر آل كاتسفليس، وقامت بينهما علاقة مميّزة؛ فأمّن آل كاتسفليس الغطاء السياسيّ الخارجيّ الذي احتاجه بربر في صموده أمام ولاة دمشق.
ولم تنحصر العلاقة بين بربر والأرثوذكس على بعض الشخصيّات الوجيهة، بل تعدّتها إلى عامّة أرثوذكس المدينة، فعند شيوع خبر قدوم جنود الباشا لحصار بربر، أسرع الأرثوذكس إلى كنيستهم يسألون الله حفظ بربر وأن يُبعد عنهم الخطر القادم . وعندما كان بربر يستبسل في الدفاع عن القلعة التي تحصّن داخلها، كُشِفَت له محاولة للانقلاب عليه فأخرج مَن كان عِندَهُ مِنَ المسلمين، وأقام مكانهم أهالي البر والفلاحين ، ويخبرنا القنصل الفرنسيّ بهويّتهم حين يقول أنّ المسيحيين كان كُثراً في خدمة بربر المحاصر، ويشير القنصل الفرنسيّ إلى أنّه بعد أن عاد بربر إلى المدينة كمتسلّم من قبل والي عكا، استقبله محازبوه وعامة الشعب وكان أكثرهم من الأرثوذكس .
على أن هذا لا يجب أن يدفعنا إلى افتراض مفاده أن جميع أرثوذكس طرابلس، كانوا من مؤيدي بربر. فآل نوفل كانوا من المتحزبين لآل الأسعد في عكّار، وعندما ظهر ولاؤهم أمام بربر أمر بقتل أحدهم المسمّى "نوفلاً"، وكان كاتباً عنده؛ وهذه الحادثة جعلت بربر حاقداً طيلة فترة حكمه على عائلة نوفل . كما قام بربر بوضع نعمه صوايا "عميل علي بك" في السجن لكونه ساعد علي الأسعد في دين كان يتبرم في تسديده لبربر ، وتوفي ابن نعمة المسمى اندراوس صوايا متأثّراً بجروح لحقت به على أثر تعذيبه من قبل بربر، لكونه تجاسر في الكلام على هذا الأخير في فترة حكم آل الأسعد .
شابهت الحركات الحزبيّة في طرابلس مثيلاتها في ذلك الزمان، وتمايزت عنها بطبيعة بربر صاحب الأصول البسيطة. ولعلّ تلك الأصول كانت سبباً دفع ببعض وجهاء السنّة من الأفنديّة إلى معارضته ، في حين مال بعض الوجهاء وأغلب العامة من سنّة وأرثوذكس إلى بربر وقاموا بثورة على حكم آل الأسعد بعد أن تمّ التعدّي على منزل آل صدقة .
وخلال حُكم المصريين لطرابلس تغيّرت ظروف العمل السياسيّ، واستمرّت الأزمات الحزبيّة السابقة مع عودة بربر إلى حكم طرابلس، لتبلغ ذروتها بعمليّة قتل نعمه نوفل. صحيح أن بربر ونعمة نوفل كانا يعملان لصالح الحكم المصري في طرابلس ، إلا أنّ العداء بين بربر ومناصريه من جهة وآل نوفل من جهة أخرى، لا يمكن أن يُنتسى عند معالجة حادثة قتل نعمة نوفل. لقد ساهم نعمة بتشجيع المسيحيين على خلع الواجبات الملقاة على عاتقهم والمتأتيّة من كونهم من أهل الذمّة ، واستغلّت العائلات الأرثوذكسيّة المناوئة لنعمة نوفل ردة فعل المسلمين على ما قام به نعمة نوفل، لتنتقم منه من خلال تجاوبها مع النداء الذي أطلقه أهل طرابلس بقتل نعمة الله نوفل .
ومع تطبيق الإصلاحات وإعادة العمل بالدستور العثمانيّ من بعد انتصار الثوّار الاتحاديّين في العام 1908م ، التفّ حولهم مسيحيّو السلطنة، وعارضتهم الأحزاب الإسلاميّة المحافظة .
تجلّت تلك الحركة في طرابلس بظهور محازبين للحزب الاتحادي ومحازبين للتيار الإسلامي المحافظ، وظهر الأرثوذكس في هذا الجو السياسي كمتعاطفين مع الحزب الاتحاديّ. فيوسف الحكيم المولود في مدينة اللاذقيّة، والذي عمل في طرابلس خلال تلك الفترة، يُبدي ميلاً للحزب الاتحاديّ معتبراً العمل بالدستور الأمل الذي ستنهض معه الدولة . ونشط مثقّفو طرابلس الأرثوذكس في إظهار تعاطفهم مع تلك الثورة فكتبت كلّ من فريدة عطيّة ولبيبة صوايا رواية في الانقلاب العثمانيّ، وأمسك أنطون زريق عن الطعن بالحكم العثماني عبر جريدته الارتقاء التي أنشأها في الولايات المتحدة الأمريكيّة، وقدِم لزيارة أهله . وبذلك لم نلحظ أيّة انقسامات أرثوذكسيّة سياسيّة في تلك المرحلة، بل ظهر الأرثوذكس منحازين لفريق واحد هو فريق الحُكم الجديد.
2- المدارس:
تأخّر استثمار الإرساليّات الكاثوليكيّة للعطش الأرثوذكسيّ إلى التعلّم، فحتّى منتصف القرن كان لتلك الإرساليّات وجود شبه رمزيّ، فكانت أغلب الأديار فارغة كدير الكبوشيّين ودير الكرمليين اللذين كانا مؤجّرين . وستشتدّ همّة القنصل الفرنسيّ بالطلب من حكومته الإسراع بفتح المدارس وتحسينها تخوّفاً من الأذى الذي يمكن أن تسبّبه البروتستنتيّة على الموارنة وسائر المسيحيّين التابعين لكنيسة روما .
شكّل العلم المقدّم من قبل البروتستنت خطراً على النفوذ الفرنسيّ بين التابعين لكنيسة روما، فأسرع الفرنسيون بتقديم الدعم الماديّ للإرساليّات الكاثوليكيّة. وبذلك اتخذ العلم بعداً جديداً، أُضيف إلى بعده العمليّ باعتباره وسيلة من وسائل التقدّم الماديّ، إذ أصبح عاملاً في تغيير دين البشر وانتماءاتهم السياسيّة. وهذا ما وعته الكنيسة الأرثوذكسيّة فبعثت إلى طرابلس سنة 1837، زمن الاحتلال المصريّ الداعم للوجود الكاثوليكي، الخوري اسبيرودون صرّوف ليس فقط لإرشاد الأرثوذكس وإنما أيضاً لتعليمهم، حيث كان من البارعين بقواعد اللغة العربيّة .
هدفت الإرساليّات الكاثوليكيّة إلى نشر الدين المسيحيّ بين مسلمي الشرق، وانتهى بها الأمر إلى محاولة كثلكة الأرثوذكس، واقتناص الرعيّة من سلطة الوجهاء عن طريق إباحة سرّ القلم. فشهد الربع الأخير من القرن تناغماً بين الوجهاء والسلطة الكنسيّة، أنتج مدارس نافست المدارس الغربيّة إن كان من حيث المادّة التعليميّة من لغّات فرنسيّة وانكليزيّة وإن كان من حيث تقديم المهارات للفتيات لينافِسنَ مشغل الحياكة الكاثوليكي . فانتقل العلم من أحضان العائلة التناسليّة إلى رحاب العائلة الروحيّة، وتمّت المحافظة على الهويّة الدينيّة والصمود في وجه المدّ الكاثوليكيّ .
لم يتوقّف الأرثوذكس عند مرحلة التعليم الابتدائيّ فنراهم يجتهدون لفتح مدرسة بكفتين على الرغم من التكاليف الباهظة التي تكبّدوها في هذا السبيل. وهو ما سيدفعهم إلى قبول تسليم مدارس الطائفة الإبتدائيّة إلى " الجمعيّة الإمبراطوريّة الأرثوذكسيّة الفلسطينيّة" .
وطالما ارتبط الانتماء الدينيّ بالولاء السياسيّ واكبت الدولة العثمانيّة نموّ المدارس الأرثوذكسيّة وقدّمت أرضاً لبناء مدرسة أرثوذكسيّة . وكان من الطبيعيّ أن يعمل في تلك المدارس شيوخ مسلمون، من دون أن يعني ذلك التحام التجمّعين السنّي والأرثوذكسيّ في تجمّع واحد.
رابعاً- الهويّة الأرثوذكسيّة:
أول ما يستوقف المرء عند اطّلاعه على الوثائق الدبلوماسيّة الفرنسيّة، وخاصّةً تلك التي كتبت مع بداية القرن التاسع عشر، هي تسمية الأرثوذكس باليونانيين المنشقين. وهي عبارة استعملها القنصل الفرنسيّ ليدلّ على الصبغة الدينية لأولئك المسيحيين المنتمين إلى كنيسة منشقّة عن الكنيسة الكاثوليكية، وللدلالة على سيطرة العنصر اليوناني على الحالة الدينيّة لأرثوذكس السلطنة. غير أنّ تلك التسمية أحارت القنصل الفرنسيّ في طرابلس، لكون اليونانيين بالاسم وبالطقوس، لا يعرفون لغة آبائهم .
لم يفهم القنصل الفرنسيّ تركيبة طرابلس، فقسّم الناس بحسب ثقافته إلى نوعين: تركي ويوناني، رابطاً الإيمان بالانتماء القومي، لذلك أذهلته طرابلس فلا "اليونان" الأرثوذكس يتقنون اليونانيّة ولا "الأتراك" المسلمون يتكلّمون التركيّة بل الجميع يتكلّم باللغة العربيّة وينظمون الشعر بها.
تشكّلت الهويّة الأرثوذكسيّة في طرابلس خلال "عهد الإلتزام"، من العوامل التالية:
- الإنتماء العائليّ.
- مفهوم أهل الذمّة، الذي نظّم حقوق وواجبات المسيحيّين في الدولة الإسلامية، وجعلهم منضوين تحت إطار العائلة الطائفيّة.
- الانتماء المكاني لمدينة طرابلس.
ويؤكّد تلك العوامل ما خطّه الكاتب الأرثوذكسيّ "الفقير الذليل الياس ابن جبرايل عيسى الياس " في ختام نسخ "كراس ترتيب تكريس كنيسة جديدة" في العام 1839 مسيحية، حيث ذكر بأنّه "الطرابلسي وطناً والأرثوذكسي مذهباً" . فهذا الكاتب يحدّد هويّته بنسبه العائليّ، بموقعه الديني ضمن المنظومة الإسلاميّة، وبانتماءه المدينيّ الذي رفعه إلى مرتبة الانتماء الوطنيّ؛ فلم يقل بأنّه عثمانيّ، كما لم يقل بأنه مصريّ وهو من خطّ كتابه في أواخر مرحلة الاحتلال المصريّ لبلاد الشام. كذلك لم يشر الكاتب إلى انتماء يونانيّ وكانت اليونان قد نالت استقلالها قبل ذلك التاريخ، وكان أرثوذكس المدينة يُنعتون بالGRECS أي باليونانيّين من القنصل الفرنسيّ.
والأسلوب الذي عبّر من خلاله "الياس" عن هويّته، لم يكن أسلوباً فرديّاً أو حالةً أرثوذكسيّة، فها هو نوفل بن نعمة الله بن جرجس نوفل، يعرِّف عن نفسه في كتابه "جويب، كليمات الشيخ نصر الدين بك الغضنفري" بأنه طرابلسيّ إنجيلي . هذان الكاتبان هما من أبناء المدينة حيث نعما فيها بالعيش الكريم على أساس إيمانهما المعترف به من الدولة العثمانية الحاملة للخلافة الإسلاميّة.
لقد حدّدت التشريعات الإسلاميّة عنصراً هاماً من عناصر هويّة أبناء المدينة، فانتمى أهل السنّة للأمّة الإسلاميّة وانتمى الأرثوذكس لأهل الذمّة، ما سمح بقيام مجتمعين، تكاملا اقتصادياً على أرض واحدة ، ذلك التكامل الذي شكّل الضابط الداخليّ لإيقاع المدينة.
أمّا باقي عناصر هويّة أبناء طرابلس فاستمدّت أصولها من "عهد الالتزام" حين اعتمدت الدولة في تعيّين حكّامها على مبدأ التلزيم أو المزايدة في الجباية، ما سمح بتغيّير الحكّام وتخاصمهم، فتقزّمت علاقة الدولة بالرعيّة إلى مستوى المادّة، وشُرّع لأبناء ذلك العصر عمليّة التعلّق بزعامائهم المحليّين، وطالبوا مساندتهم في الأوقات الصعبة لحمايتهم من بطش الحاكم الجابي.
اتّكل المسلمون السنّة على زعمائهم من أصحاب النفوذ الديني الرسميّ من مفتين وقضاة، بينما استحسن الأرثوذكس اللجوء إلى وجهائهم أصحاب الثروات من التجّار والموظّفين الكبار.
فبعض الدلائل التي وصلتنا من أوائل ذلك القرن، تشير إلى سيطرة الوجهاء على التجمّع الأرثوذكسيّ. ففي حديث القنصل الفرنسيّ عن أرثوذكس طرابلس لا يسمّي إلا بعض وجهائهم كآل كاتسفليس ، ونُسب الأرثوذكس من قبل أحد القناصل إلى جان كاتسفليس . وفي زمن الوجود المصريّ نلمح الأسقف يتوسّل من آل غريب المساعدة لردّ المسلمين عن دير الناطور .
مع بدء عهد الإصلاحات أو التنظيمات لاح فجر جديد لبعض المسيحيين. فأقدم نوفل نوفل على ترجمة قوانين المجالس البلديّة وكتاب دستور الدولة العلية فكافأته الدولة بثلاثمائة ليرة ، وشدّد في كتاباته على تبرئة السلطان والإسلام من مظالم الولاة، موضحاً بأنّ السلطان لم يكن ليبتعد عما في الكتاب والسنّة غير أن الظلم كان في من يقلّده المناصب من مدنيّة وعسكريّة، من ليس أهلاً للوظيفة التي تقلّدها، حتى أصبح كل ما يصدر عن الولاة من الجور والتعدّي وسوء الأحكام يُنسب عند الأجانب إلى الشريعة الإسلاميّة كأنها هي التي تجيزه أو تأمر به ، وبذلك أكّد نوفل على رغبة المسيحيّين بالانتقال إلى مرحلة جديدة في الحكم، من خلال الإصلاحات المتوقّع لها أن تردع الولاة الظالمين.
ومن تلك القراءة السياسية سينطلق نوفل ليبرّر الموقف المسيحي في الديار العثمانية، حيث كانوا لا يتأخّرون عن اللجوء إلى الأجانب من ذوي الوجاهة ليحتموا من المظالم التي كان يجريها أولئك الحكّام الجائرون.
لا يُنكر نوفل حقيقة التجاء المسيحيين إلى الأجانب ويعيب عليهم هذا العمل، ويرى أن الخلاص من تلك التبعيّة تقع على عاتق الدستور العثمانيّ. كان نوفل من المؤيّدين لدولة دستوريّة تُراعى فيها حقوق الأقلّيات المسيحيّة، ويعيش المسيحيّ تحت كنف سلطان صالح يعتمد في حكمه على الكتاب والسنّة.
ومن الأمثلة على ما ذكره نوفل عن علاقة الأرثوذكسيّ بالدول الأجنبيّة كروسيا، يشهد القنصل الفرنسي في طرابلس في أوائل القرن، بأنه في بلد لا يوجد فيه روسي واحد، كان التعلّق الأرثوذكسيّ بالروس في أقصى قوّته . ويخبرنا القنصل بأنّه لمّا توغل نابوليون في روسيا في أوائل القرن التاسع عشر، شكّل الفرنسيون في طرابلس هيئة إعلامية عملت على إعلام المسلمين بالمستجدّات العسكريّة على الساحة الروسيّة، واهتمّ الفرنسيون بإعلام السكّان بسقوط موسكو وأجروا الترتيل في الكنيسة القنصليّة ، في حين كتم الأرثوذكس ما عندهم من معلومات . وبعد انسحاب الفرنسيّين من موسكو خرج الأرثوذكس عن صمتهم، واندفعوا للغناء معلنين على الملأ تعاطفهم مع روسيا . وبغضّ النظر عن طبيعة العلاقة التي قامت ما بين أرثوذكس طرابلس والدولة الروسيّة، تبقى المسألة في الهوّة التي أنشأها الحاكم العثمانيّ مع كافّة رعاياه ومن بينها أرثوذكس طرابلس.
وفي المرحلة التي تلت إعلان الإصلاحات الخيريّة في العام 1856م، لاحظنا من خلال دساتير المجالس الأرثوذكسيّة الطرابلسيّة إشارات تعبّر عن الانتماء العثمانيّ من دون أن يعني ذلك القبول الكيانيّ لأغلب الأرثوذكس بذلك المفهوم. فأكّد مجلّس الملّة في طرابلس شام، في المادة الثالثة من نظامه، بأنّه ينظر في جميع المسائل التي تعرض عليه من قبل "المطرانخانة والحكومة السنية فيما يتعلّق بأمور الملّة بطرابلس..." موضّحاً أن قراراته لن تكون مضادة للناموس المقدّس وللترتيب الكنائسي وللأحكام المقررة من قبل حكومة "دولتنا العليا" . غير أنّنا لم نلحظ ترجمةً واضحة لما عبّر عنه دستور مجلس الملّة في الإجراءات التي كانت تقوم بها بعض الجمعيّات والتي كان يُشرف عليها ذلك المجلس، فنرى المجلس الطائفي في الميناء لا يتعامل بجديّة مع موضوع "البدلات العسكريّة" فتتكدّس على الطائفة المتأخّرات أو "البقايا" التي بلغت في العام 1300ﻫ مبلغ 1699 غرش ولتصل في العام 1308ﻫ إلى 36264,35 غرش فتكدّس على الطائفة مبلغ 70258,14 غرش .
كذلك لاحظنا عدم اهتمام الأرثوذكس بموضوع إحصاء الرعيّة: فلما كان قد وصل للجمعيّة طلب من قبل المتصرّف عن طريق مطران طرابلس السيّد صفرونيوس، بخصوص "التولدات والمناكحات والوفيات ونقل المكان" ردّت الجمعيّة بكتاب تبرّر فيه تلكّأها عن تنفيذ المطلوب لكونها لم تزل جاهلة للتعليمات... . هذا الردّ المحمّل بالأعذار الإدارية المقبولة في الشكل والذي يتناسب مع الوضع المترهّل للدولة العثمانية، حيث أنّ ردّ الجمعية لم يستتبعه أي جواب من قبل الحكومة، لن يكون هو نفسه بعد عدّة سنوات وتحديداً في عهد المطران غريغوريوس حداد. ففي عهد ذلك المطران أعادت الحكومة الطلب بإجراء الإحصاء، فارتأت الجمعيّة بحضور المطران، بأنّه لسبب عدم توفّر قيود بالوفيات في المطرانية ونظراً لعدم كفاية دفتر المعموديّة ودفتر النفوس، تمّ تكليف لجنة من أربعة أشخاص، أبلغت أسماؤهم "لجناب المتصرّف مع طلب التماس حدود أمرها لمأمور النفوس وطلب للاجتماع معهم وأخذ دفتر رسمي"، وتمّ الاتفاق بين أعضاء الجمعيّة على أن يكون الإحصاء منتهياً في نهاية السنة المارتيّة الحاليّة .
من خلال مقارنتنا لكيفيّة تعاطي الجمعيّة مع الدولة في الحادثتين السابقتين، نستنتج أن الجسم الكنسيّ الرسميّ قد أصبح، بمرور الزمن، أكثر قبولاً لفكرة الدولة العثمانيّة. ما يعزّز من مكانة الإصلاحات العثمانيّة بكونها ساهمت في دعم البعد الوطني العثماني على حساب الانتماء المكانيّ، فغابت الهويّة المكانيّة للشخص "الطرابلسيّ" من الأوراق الرسميّة واستعيض عنها بالعثماني .
ومع بداية القرن العشرين، ينبري لطف الله خلاط ليُثبّت المفاهيم الوطنيّة وليُدافع عن طرابلس وعن حقوق وهواجس مسيحيّيها من خلال ما كان يكتبه بأسلوبه الجريء على صفحات جريدته "الحوادث" .
حملت تلك المرحلة مشكلة تمثيل الأقلّيات في الدولة الإسلاميّة، فلم يعد الأرثوذكس في طرابلس يقبلون بمنطق أهل الذمّة، بل أصبحوا من المطالبين بالوطنيّة وبحقّهم في الوصول إلى المراكز السياسيّة. ولحلّ المشاكل المستحدثة اقترح لطف الله خلاط إنشاء جمعيّة سياسيّة للمسيحيين العرب، منطلقاً من فكرة مفادها أنّ المسيحيّ إذا رأى له "جامعة" تعمل في جسم السلطنة أدرك أنه عضو حيّ لا عضواً ثرياً ليس إلا، وعندئذ يشعر كلّ مسيحيّ بأنّه متمتّع بحقيقة الحكم الدستوريّ لأنّ للأقليّة من يمثّلها كما أنّ للأكثريّة من يمثّلها، وما على العثمانيين إلا أنّ يسعدوا بسعي المسيحيين لإنشاء جمعيتهم السياسيّة كونها البرهان على ثقتهم بحكومتهم بأنها للكلّ والدليل على نمو العاطفة الوطنيّة في صدورهم . وتغيب الدولة العثمانيّة من دون تحقيق تقدّم بارز في مشكلة تمثيل الأقليّات فتبقى مشكلة ماثلةً حتّى زمانا الحاضر، وتمّ التعبير عنها من نوفل نوفل في بيانه الذي أصدره في 9 حزيران 2004 على أثر الانتخابات البلديّة في بلديّة طرابلس، حين لم ينجح أيّ من المرشّحين الأرثوذكس في الوصول إلى عضويّة المجلس البلديّ للمدينة.
وفي موضوع علاقة الأرثوذكسيّ بالدول الأجنبيّة، لاحظنا استمرار علاقة الأرثوذكسيّ في النصف الثاني من القرن، مع كلّ من روسيا واليونان. ومن الأمثلة على ذلك الموقف الأرثوذكسيّ من ثورة يوسف كرم؛ فخلال ستينات القرن التاسع عشر اعتبر وزير الخارجيّة الفرنسيّة أنّ التعاطف الأرثوذكسيّ وتصرّفات مطران طرابلس إزاء تلك الثورة هما بدافع من الروس . ونعتقدّ أنّه لولا الضغط الروسيّ لما وقف الأرثوذكس مع كرم، لقيام رجاله بسلب وتهجير أرثوذكس الكورة .
واستمرّ التعاطي الأرثوذكسي مع الدولة الروسية في عهد المتصرفية، فنرى القنصل العام الروسي في بيروت، وأثناء زيارته لمدرسة بكفتين، يعد بنقل مسألة أراضي الحريشة إلى حكومته، تلك المنطقة التي كثُرت فيها الأراضي التابعة للوقف الأرثوذكسيّ، والتي طالب أهالي القلمون وطرابلس بنزعها من متصرّفيّة جبل لبنان وإلحاقها بمتصرّفيّة طرابلس . كما برز في تلك المرحلة الاهتمام الأرثوذكسيّ بالشأن الروسي، فألّف نسيم نوفل كتاباً عند وفاة الإمبراطور الروسيّ اسكندر الثالث ، وقامت الجمعيّة الخيريّة الأرثوذكسيّة بدفع مصاريف الاحتفال بجنازة "المرحوم الإمبراطور اسكندر" . وأعلن "المسيو جورج كاتسفليس" نائب قنصل دولة روسيا بأنه سيقيم قدّاساً احتفالياً على نيّة جلالة القيصر على أن يليه استقبال للمهنّئين .
خامساً- الانفتاح الاجتماعيّ.
شكّل الأرثوذكس مجتماً طائفياً ضمن مناطق سكنهم على طول البلاد العثمانيّة، وكانوا من الملتزمين بالأطر العثمانيّة التي شرّعت وجودهم، فكانوا أهل ذمّة في عهود ما قبل التنظيمات، مواطنين في زمن الإصلاحات. والتزمت دساتير جمعياتهم بإطاعة الناموس الشريف وإرادة الدولة السنيّة، والتزموا في أحوالهم الشخصيّة بتطبيق الشريعة الإسلامية على المذهب الحنفيّ، والناموس الشريف.
وقد تأكّد لنا من خلال وثيقتين توضحان قسمة ميراثين ، أن الأرثوذكس والمسيحيّين بشكل عام كانوا يطبّقون المذهب الحنفي في عمليّة التوريث . غير أنّّ بعض الأرثوذكس كانوا يعمدون إلى التهرّب من تطبيق أحكام عمليّة التوريث عن طريق إقرار الوالد في حياته، بتملّك أولاده الذكور لما في يده .
ولم يكن أعضاء الجمعيّات الأرثوذكسيّة من المتضلّعين في الأمور القضائيّة، فنراهم يرجعون في بعض القضايا إلى المطران ، ولم يتردّدوا في الطلب من المتخاصمين بمراجعة المفتي .
كذلك لم يجد الأرثوذكسيّ حرج في قبول رموز الدولة المسلمة فارتدت الإناث حلاً على شكل هلال ، وتضمّنت وثائق الزواج الأرثوذكسيّة "مهر" الفتاة ، وقدّمت "العلامة" للفتاة عند خطبتها . كما لم يجد الأرثوذكسيّ حرجاً في استعمال التعابير الإسلاميّة، كتلك التي ذُكرت في إحدى محاضر مجلس الملّة "كسب رضا المولى عز وجلّ" وكان ذلك المجلس قد استهلّ محضره الأوّل بعبارة "باسم الاب والابن والروح القدس آمين" .
ومن التعابير الأدبيّة الإسلاميّة المستعملة من أرثوذكس ذلك الزمان، ما قاله مخاييل صدقه في مدح أحد الأرثوذكس :
فيا كعبةً للفضل يا كعبة الندى رحالاً إليك العالمون لقد شدّوا
كما قال مخائيل ديبو في رثاء رشيد كرامه مفتي طرابلس :
أيا ابن المصطفى تفديك روحي وقد تفدي مواليها العبيد
إذا جار القضاة عليّ يوماً فلا أخشى ومفتينا الرشيد
كذلك لم يبخل المسلم على المسيحيّ بالعلم، فعالم الفقه والحديث الشيخ مصطفى بن عبد الحميد كرامه كان لا يضنّ على أيّ طالب أتاه من أيّ مذهب كان ، ولم يستثن الشيخ ابراهيم فتّال المحامي من تعليمه المسيحيّين . وكذلك لم يشعر المسلم بالحرج لادّعائه على الأرثوذكسيّ أمام محكمة أرثوذكسيّة ، أو لحضوره للشهادة أمام تلك المحكمة .
أكّدت الدلائل التاريخيّة على تعايش الأرثوذكس والسنّة في طرابلس خلال القرن التاسع عشر ، وكان من أشدّها وضوحاً الحالة الآمنة التي شهدتها المدينة خلال مذابح 1860، فلم تدخل الفتنة أبوابها لرجاحة عقل أبنائها من مسلمين ومسيحيّين .
وستتغيّر ملامح المدينة مع بداية القرن العشرين، مع تغيّر هويّة أبنائها. فخلال تلك المرحلة تعرّض المسلمون لانقلاب في أنماطهم الدينيّة، مع بروز الحركة الإصلاحيّة الإسلاميّة والمناداة بالقوميّة العربيّة على أصوات هزائم الدولة العثمانيّة. أمّا الأرثوذكس فأصابت رياح الغرب وجودهم الدينيّ، وانقسموا بين عرب ويونان. كما ساهمت المتغيّرات الاقتصاديّة والديموغرافيا التي عرضناها سابقاً في تغيّر حالة المدينة ما أثّر على العقد الإجتماعيّ الداخليّ الذي لطالما شكّل صمّام الأمان في طرابلس. قلبت رياح القرن التاسع عشر طرابلس وضربت هويّة أبنائها فتلوّنت بثوب محافظ خائف ، وظهر الأرثوذكس متقاربين ملتفتين إلى تقوية علاقاتهم الداخليّة وتثبيتها، وهو ما يشير إليه كُتيّب "مجموعة عوائد طرابلس بين الارثوذكس سنة 1880"، الذي يحتوي على سلسلة من القوانين الأرثوذكسيّة الخاصّة التي تراعي العادات والحياة الاجتماعيّة من الخطبة إلى حفل الزفاف والولادة وصولاً إلى المآتم .
ومع عودة الحياة السياسيّة إلى المدينة مع الاتحاديّين، طرحت الهواجس المسيحيّة والإسلاميّة من مستقبل مدينتهم وتطلّعاتهم المستقبليّة ببلد راق، ولم يستيقظ أبناء المدينة من تلك الأزمات إلا ليصحوا على صوت الغرب الحاضر بقوّة من خلال الانتداب الفرنسيّ. وعلى ضوء تلك الصورة، يكون من المفيد دراسة ما ستقدّمه لنا من دلائل إضافيّة الوثائق المكتشفة حديثاً كوثائق "محفوظات بطريركيّة أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس"، لنتلمّس التغيير الذي ظهر في المدينة قبل الحرب العالميّة الأولى.
من وثائق مطرانيّة طرابلس الأرثوذكسيّة
من وثائق عائلة نصّور
من وثائق عائلة قمر
المراجع والمصادر
أ- الحوليات:
1- بابا، محمّد كامل. طرابلس في التاريخ، جروس برس، طرابلس، 1995.
2- التميمي، رفيق وبهجت، محمّد. ولاية بيروت، دار لحد خاطر، بيروت، 1979.
3- الجسر، حسين. نزهة الفكر في مناقب الشيخ محمّد الجسر، بيروت المطبعة الأدبيّة، 1306ﻫ.
4- خوري، إغناطيوس. مصطفى بربر آغا حاكم طرابلس واللاذقيّة 1767- 1834، جروس برس ودار الخليل، الطبعة الثانيّة، آذار 1985.
5- شريف، حكمت. تاريخ طرابلس الشام من أقدم أزمانها إلى هذه الأيام، حققه يكن منى وخوري مارون، دار حكمت شريف ودار الإيمان، طرابلس- لبنان 1987ﻫ.
6- نوفل، عبد الله. تراجم علماء طرابلس وأدبائها، المنشورات الجامعة، 1984.
7- نوفل، نوفل. كشف اللثام عن محيّا الحكومة والأحكام في إقليمي مصر وبرّ الشام، أوجزه يني جرجي، حققه أبي فاضل ميشال ونخول جان، جروس برس 1990.
ب- الكتب العربيّة:
1- أبيض، أنيس. الحياة العلميّة ومراكز العلم في طرابلس خلال القرن التاسع عشر، جروس برس.
2- تدمري، عبد السلام. آثار طرابلس الإسلاميّة، دار الإيمان، طرابلس- لبنان، 1994.
3- حبلص، فاروق. طرابلس المساجد والكنائس قراءة في النقوش الكتابيّة، دار الإنشاء للصحافة والطباعة والنشر، الطبعة الأولى 1988.
4- عطيّة، عاطف. لطف الله خلاط، الصحافة بين الدين والسياسة، دار النهار، بيروت، 1999.
5- عماد، عبد الغني. مجتمع طرابلس في زمن التحوّلات العثمانيّة، دار الإنشاء للصحافة والطباعة والنشر، طرابلس، نيسان 2002.
ج- الكتب الأجنبيّة:
1- Mantran, Robert. Histoire de l'empire ottoman, Fayard, lille, 1989.
د- الوثائق العربيّة:
1- أرشيف مطرانية طرابلس للروم الأرثوذكس.
2- أرشيف كنيسة القديس جاورجيوس- الميناء.
3- رستم، أسد." الأصول العربيّة لتاريخ سورية في عهد محمّد علي". أربعة أجزاء. منشورات المكتبة البولسيّة: 1988.
4- رستم، أسد." المحفوظات الملكيّة المصريّة". أربعة أجزاء، منشورات المكتبة البولسيّة: 1987.
د- الوثائق الأجنبيّة:
a- Adel Ismail:" Documents diplomatiques et consulaires relatifs l'histoire du Liban et des pays du Proche- Orient, du XVII siècle à nos jours". Edition des œuvres politiques et historiques. Série continue depuis 1975. Beyrouth 1975-1995.
ﻫ- الدوريّات:
1- المؤتمر الأوّل لتاريخ ولاية طرابلس إبان الحقبة العثمانيّة( أيّار 1995) الأعمال الكاملة إصدار الجامعة اللبنانيّة، كلّية الآداب والعلوم الإنسانيّة- الفرع الثالث.
محاضرة الأب كرم رزق
أُلقيت بتاريخ 27/03/2009 الساعة الرابعة
في طرابلس خلال المؤتمر
طرابلس من خلال كتابات الرحّالة
بين القرنين السادس عشر والسابع عشر
سلامٌ على اطرابلوس ومَن بها سلامُ مُحِبّ عَزَّ عنها اصطبارُهُ
يُقضِّي لياليهِ بنَوحٍ وأدمُع ويَمضي كما يُمضي الليالي نهارُه
حضرة العمداء والأساتذة،
حضرة السيّدات والسادة،
حضرة الطلاّب،
أتقدَم بخالص الشكر لمنظّمي هذا المؤتمر لتفضّلهم بدعوتي للمشاركة فيه، وأتمنّى لهم التوفيق، وللمؤتمر النجاح. امّا مداخلتي فتقتصر على كتابات الرحَالة عن طرابلس بين القرنين السادس عشر والسابع عشر.
تشكّل كتابة الرحلة نوعاً أدبيّاً خاصّاً، رافق الإنسان منذ أن بدأ يتنقّل من مكان إلى آخر سعياً وراء الرزق، أو طلباً للإجتماع، أو حبّاً بالإطلاع والإكتشاف. يعبّر هذا النوع عن أحاسيس صاحبه وأفكاره وتأمّلاته ورؤاه...
وهو يروي الإختبارات والمشاهدات التي عاشها الرحّالة على شكل مذكّرات. وقد إرتبط بالحجّ إلى الأماكن المقدّسة لدى أصحاب الديانات السماويّة.
يخضع أيضاً هذا النوع من المصادر للنقد التاريخي. فالرحّالة الغربيّون إعتادوا أن يأتوا إلى بلاد الشرق بأفكارهم المسبقة وتحفّظاتهم، وغالباً ما كانوا يكرّرون كتابات بعضهم البعض.
إشتهر العرب أيضاً بهذا النوع الأدبي. فلمع منهم ناصر خسرو، الإدريسي، وإبن جبير، وياقوت الحموي، وأبو الفداء، وإبن بطوطة. وخصّ بعض هؤلاء لبنان بصفحات هي بمثابة لوحات تذكارية دوّنوا فيها مشاهداتهم، وتأثيراتهم. ونالت طرابلس حظّاً وافراً. وربما شكّلت شهادة إبن بطّوطة عن طرابلس أهم أثر لدى الرحّالة العرب عن المدينة، وهذا نصّها:
"ثمّ وصلت إلى مدينة طرابلس، وهي إحدى قواعد الشام وبلدانها الضخام، تخترقها الأنهار وتحفّها البساتين والأشجار، ويكتنفها البحر بمرافقه العميقة والبرّ بخيّراته المقيمة. ولها الأسواق العجيبة والمسارح الخصيبة، والبحر على ميلين منها، وهي حديثة البناء. وأمّا طرابلس القديمة فكانت على ضفّة البحر، وتملّكها الروم زماناً. فلما إسترجعها الملك الظافر خربت وإتُخذت هذه الحديثة. وبهذه المدينة نحو من أربعين من أمراء الأتراك. وأميرها طيلان الحاجب المعروف بملك الأمراء، ومسكنه منه بالدار المعروفة بدار السعادة. ومن عوائده أن يركب في كلّ يوم إثنين وخميس، ويركب معه الأمراء والعساكر، ويخرج إلى ظاهر المدينة. فإذا عاد إليها وقارب الوصول إلى منزله، ترجلّ الأمراء ونزلوا عن دوابّهم ومشوا بين يديه حتى يدخل منزله وينصرفون. وتُضرب الطبلخانة عند دار كلّ أمير منهم بعد صلاة المغرب من كلّ يوم، وتوقد المشاعل".
ويذكر أسماء أعلام طرابلس، منهم ثلاثة أخوة مشهورون بالإدارة العامّة:
"وممّن كان بها من الأعلام كاتب السرّ بهاء الدين أبي غانم أحد الفضلاء الحسباء معروف بالسخاء والكرم، وأخوه حسام الدين هو شيخ القدس الشريف، وقد ذكرناه، وأخوهما علاء الدين كاتب السرّ بدمشق. ومنهم وكيل بيت المال قُوام الدين بن مكين من أكابر الرجال، ومنهم قاضي قضاتها شمس الدين بن النقيب من أعلام علماء الشام".
ولربّما هيّأت هذه الشهادة في هيكليّتها ومضمونها لما أورده العُطيفي في رحلته، كما سنرى لاحقاً.
ولقد تكثّفت الرحلات مع مطلع العصور الحديثة، عصور الإكتشافات والتفتيش عن المواد الأوّلية والأسواق التجاريّة. وهكذا سلك الطريق السائح والعالم والتاجر والمهاجر. ولقد إتّسعت الدرب لجميع السائرين عليها، ولو تنوّعت أجناسهم وثقافاتهم وأهدافهم.
تسنّى للأبّ إغناطيوس سعاده، مدير مجلّة المنارة، أن يجمع كمّاً وافراً من هذه النصوص التي تتعلّق بمختلف مناطق لبنان، فعرّبها وضمّنها كتاباً صدر حديثاً . وبنشره هذا المؤلّف يكون قد أدّى خدمة للقرّاء والباحثين.
ولعلَّ من أقدم الآثار التي تتكلّم عن طرابلس في سياق الكلام عن لبنان، ما يرد في الكتاب المقدّس العهد القديم، سفر المكابيين الثاني، الفصل الرابع عشر، الآية الأولى .
فأيّة صورة كوّن هؤلاء الرحّالة عن هذه المدينة الفيحاء؟
ترتكز هذه الدراسة على أكثر من عشرين رحلة، توجّه أصحابها إلى الشرق، وهم من مختلف البلدان واللغات والمقامات والمهن، كما تبيّنه البيبليوغرافيا في نهاية الدراسة.
ولمنهجة روايات الرحّالة، وضعت تصنيفاً يتيح المقارنة، ويتضمّن العناوين التالية: وجهة الرحلة، موقع المدينة، المرفأ، حركة التبادل، تجارة وزراعة، السكّان، المباني.
ولكنّي سأتوقّف عند ثلاثة منهم، هم دنديني، ودارفيو ورمضان بن موسى العُطيفي.
أولاً: رحلة دنديني
تشكِّل هذه الرحلة مصدراً مهمّاً لمعرفة أحوال الأمبراطورية العثمانية في نهاية القرن السادس عشر، وكذلك عوائد وتقاليد رعاياها، لا سيّما في لبنان. ولكننا نكتفي هنا بما يخص طرابلس.
جاء الراهب اليسوعي دنديني إلى الشرق سنة 1596، بصفة قاصد رسولي للبابا كليمنت الثامن، ليتحرّى عن عقائد الكنيسة المارونية وأنظمتها، نظراً للشكاوي والوشايات التي بلغت إلى روما "حتّى نسب البعض إليها التلطّخ بوصمة البدع والأضاليل" . وكذلك ليرتّب شؤون الطلاّب الذين يؤمون المدرسة المارونية، إن لجهة إختيارهم، أو لجهة بحث المهام التي ستسند إليهم لدى عودتهم وإستقرارهم في نطاق البطريركية المارونية.
وصل دنديني إلى لبنان عن طريق ميناء طرابلس في الخامس والعشرين من آب 1596.
وغادر أيضاً عن نفس الطريق في نهاية السنة عينها، بعد أن إحتفل في المدينة بعيد الميلاد مع الجالية الأجنبيّة، لاسيّما الإيطاليين منهم.
وهكذا يكون دنديني قد كرّس ثلاثة فصول لطرابلس من رحلته الرائعة، وهي تباعاً التاسع، والسادس والسابع والثلاثون. فالفصل التاسع هو الأكمل والأجمل .
كيف بدت طرابلس لدنديني؟
1. إنّها بوابة لبنان، منها دخل إليه قادماً من البندقية عبر خطّ بحري مرسوم المعالم، ومنها خرج عائداً الى روما سالكاً نفس الطريق البحري.
2. المرفأ والتجارة
تحرس المرفأ خمس أبراج، وهو عامر، تؤمّه القوافل: 60 جملاً،... غنيّ بالصادرات وبالتجارة. ومن أهمّ الصادرات المواد التالية: حرير، رماد، قطن مغزول، عنب، صابون، شموع. تتمّ هذه التجارة مع البندقيّة، ثمّ مع كامل أوروبا.
3. الزراعة
عاين دنديني الحقول المزروعة في جوار طرابلس، وأحصى أنواع الأشجار المثمرة التي تنبت فيها، مثل التوت والليمون وغيرها، فكتب:
"متّعت النظر في حقول خضراء بمثابة بستان كبير وفسيح تملأه أشجار التوت والليمون التي تبث رائحة عطرة، دون أن أتكلّم عن أشجار مثمرة أخرى مألوفة (communs) أكثر ممّا عندنا من الدردار، والصفصاف، والسنديان والجوز".
يؤكّد دنديني على ظاهرة البحبوحة في المدينة، وعلى طابعها التجاري.
4. موقع طرابلس: تقع على أسفل الجبل، مقابل البحر، تعلوها على صخرة قلعة تشرف عليها.
5. السكّان
لاحظ دنديني الطابع المختلط لسكّان المدينة. يشكّل الأتراك العدد الأكبر منهم. ويسكنها أيضاً عدد من الروم (Grecs)، والموارنة. الأوّلون يقطنون بيوتها داخل المدينة. والآخرون خارجاً عنها في قرية تعلوها، ربّما في حارة الحصارنة بحسب الدويهي.
ويسكنها أيضاً يهود من أصل إسباني وبرتغالي. "ومن عادتهم في تجارتهم ومعاملتهم خداع المسيحيين والإحتيال عليهم، ولاسيّما التجّار الإيطاليين الذين قلّ عددهم في هذه الأسكلة بعد أن غادر أهل البندقيّة هذه الشواطىء إلى إسكندرونة" . تتفق معظم نصوص الرحّالة على صورة الإحتراز من التجّار اليهود في بعض المرافىء. وكان دنديني قد توجّس خيفة من بعضهم وهو في مرفأ البندقية.
نزل دنديني في المدينة ضيفاً كريماً على أحد التجّار البنادقة الميسورين. وإعتنى برفيقه المريض في نفس البيت. وعاد إلى المرفأ حيث الكمرك ليستخلص البضائع التي جلبها معه من إيطاليا، وهي كناية عن عدّة صناديق تحتوي على أدوات كنسيّة، كبدلات للتقديس، وكؤوس وقوالب لخبز البرشان، وكتب القدّاس والصلوات، وثوب ثمين من البروكار للبطريرك. إستحصل الزائر على كامل أغراضه دون صعوبة تُذكر، ممّا يدلّ على إنتظام حركة المرفأ، وعمل الجمارك.
6. المباني
لا يتكلّم دنديني عن المباني ودور العبادة والبيوت، بل يذكر فقط كنيسة صغيرة تخصّ الجالية الإيطالية. ولكنّه يستفيض عن وصف العمائم وفروقاتها بين المسلمين والمسيحيين واليهود. هذا وقد صعد إلى سطح بيت مضيفه لإستنشاق الهواء وإستكشاف المدينة. وشاهد على السطوح القريبة نساءً يهوديّات يتنزّهن. فأدرك عندئذٍ ما ذكره الكتاب المقدّس عن داود الملك وما كان من أمره مع بتشابع... وهو أكدّ أنّه شاهد أموراً خاصّة أي مميّزات أخرى، ولم يرد أن يفصح عنها.
تعطي رواية دنديني عن المدينة صورة مشرقة. يسكنها عدّة أقوام يعيشون فيها بإلفة وإطمئنان، ما عدا بعض التجّار اليهود. بقيت التجارة أيضاً مزدهرة في المدينة بالرغم من نزوح بعض البنادقة إلى إسكندرون. وكان قد تبعهم التجّار الفرنسيّون. وهكذا تشير هذه المعلومات إلى بعض المشاكل في مرفأ المدينة، وخصوصاً الى المنافسة بين المرافىء، ولا سيّما مع الإسكندرون.
ثانياً: رحلة دارفيو
كان دارفيو أحد المستشرقين الذين اتَّقنوا اللغة العربية والتركية. وقد استعان به البلاط الملكي في فرنسا لهذه الغاية، قبل أن يتعيّن قنصلاً لبلاده في حلب. وترك أيضاً مذكَرات مهمّة عن البلدان التي زارها في نطاق الأمبراطورية العثمانية.
وهكذا، بعد ما يزيد على مضي الستين سنة، زار لوران دارفيو (Laurent d’Arvieux) طرابلس، وترك عنها في مذكّراته حوالي خمس صفحات. ماذا جاء فيها؟
قدم دارفيو إلى طرابلس من بيروت. مكث فيها حوالي 15 يوماً في ضيافة القنصل الفرنسي مركو (Marco)، وعبّر عن فرحه مدّة إقامته في المدينة.
1. الموقع
يعيد القنصل دارفيو أصل المدينة إلى اليونانية. وهي تقع في قعر الوادي، يحيط بها جبلان شاهقان. تخرج من إحداها ينابيع كثيرة تسقي المزروعات التي تغطّيها، وتجعلها غاية في الجمال. إنّ حجم المدينة صغير . وتحميها أسوار فيها أبراج.
2. المرفأ
كان من أعظم المرافىء قديماً. ولكنّه أهمل. فالبواخر الكبيرة تنتظر حمولتها بعيداً. يحمي المرفأ ستّة أبراج. وفيه مخازن ومستودعات للبضائع التي تتنتظر تصديرها.
وفي المرفأ جامع، وكنيسة صغيرة، ومركز للكمرك، حيث تدفع الضرائب على كلّ البضائع التي تدخل أو تخرج.
3. التجارة
إنّ التجارة لَمزدهرة في المدينة، وهي نزيهة.
تؤمُّها منتوجات مصر بكميّات كبيرة، وكذلك البضائع من البلدان البعيدة.
إنّ أهمّ سلعة هي الحرير، فهو متين، ومحبوك، لذلك يُستعمل في أعمال التذهيب والفضّة.
وتصدر أيضاً كميّات كبيرة من الرماد إلى مارساي والبندقيّة لصناعة الخزف. وأيضاً الصابون، العنب المجفّف، السجاد، الأقمشة المحليّة من حرير وصوف وقطن.
هذه البضائع تجذب التجّار الفرنسيين، والإنكليز، والهولنديين والبندقيين.
وكان الفرنسيّون نقلوا تجارتهم إلى حلب، ومعها القنصلية بسبب تجاوزات بعض الولاة، ولكنّهم عادوا إليها بعد تدخّل الصدر الأعظم. ولهم فيها نيابة قنصليّة.
4. الزراعة
تحيط بالمدينة العديد من البساتين حيث يغرس التوت الأبيض لإطعام دود الحرير، وشجر المشمش، والبرتقال، والحامض، والتين، والرمان، والكرمة، وكل أنواع الزهور.
إنّ التربة لَخصبة جدّاً، وهي مرويّة بالسواقي التي تتدفّق من الجبال المحيطة بالمدينة، وتحولها إلى فردوس أرضي.
وأهمّ وسيلة للريّ والشرب هو النهر الذي ينبع من أسفل جبل الأرز.
5. السكّان
إنّ سكّان طرابلس أناس نزهاء كفاية، يحبّون النظافة، ولهم هوى سكّان المدن. الأغلبيّة منهم من الأتراك، وعدد كبير من المسيحيين، قليل من المغاربة، وأقلّ من ذلك طائفة من اليهود. وهؤلاء يمكثون في المدن حيث تجذبهم التجارة، ولكنّهم غير محبوبين.
يمتلك الروم عدّة كنائس، ولهم كتدرائية، وأسقف مقيم، ولفيف من الكهنة.
الرهبان الكبوشيّون يمتلكون ديراً، وكنيسة، وبستاناً جميلاً. يحترمهم الأهالي، ويحسنون إليهم. وللكرمل الحفاة بيت يلجأون إليه عندما يأتون من جبل الكرمل.
6. المباني
البيوت جميلة ومريحة ومتينة. ومعظمها لها أسبلة ونوافير وبساتين وسطوح.
وفيها مساجد جميلة.
وحمّامات عامّة رائعة.
وأسواق مقبّبة بحجارة مقصوبة. وخانات تشابه ما في صيدا، ولكنّها أكبر، وأجمل، وأنظف، وأحسن إضاءة.
وخان الفرنج فيه خزان وسبيل ماء يتدفّق دائماً.
أمّا بيت قنصل فرنسا فهو كبير وجميل، فيه كنيسة صغيرة، وغرف، وشقق، ومكاتب، ومخازن، وكل ما يجعل البيت مريحاً.
تشرف القلعة التي شيّدها غودفرا دي بويون على المدينة، وهي مربّعة تحميها أبراج وأسوار عريضة. تسيطر عليها الجبال، ولكنّها قد فقدت من منعتها.
وتقوم الكلّية المولاوية على بعد نصف ربع فرسخ من المدينة، على سفح الجبل حيث يمرّ النهر، وهو يدعوها "بدير الدراويش" .
يلتقي دنديني ودارفيو في روايتهم عن طرابلس،
وكلّ منهما له صفة دبلوماسيّة، الأوّل يمثّل الكرسي الرسولي في روما، والآخر البلاط الملكي في فرنسا. وأهمّ نقاط الإلتقاء:
1. إنّ طرابلس مدينة مختلطة يسكنها المسلمون بأغلبيّة ساحقة، ويتبعهم الروم، واليهود، والتجّار الأجانب من مختلف الجنسيّات، وتسود بينهم الإلفة والمعاطاة الحسنة.
2. إنَّ أحوال الأهالي الماديّة على يسر بسبب إزدهار التبادل التجاري، ووفرة الإنتاج الزراعي. ويظهر مستوى المعيشة المرموق في بناء البيوت الجميلة، وخصوصاً في أطباع الناس الهادئة.
ويتّفق تماماً ما رواه دارفيو مع ما كتبه يوحنّا مبارك، وهو أحد تلامذة المدرسة المارونيّة، الذي لم يكمل دروسه في المدرسة المارونية في روما، ولا تدرجه إلى الرتبة الكهنوتيّة، وهو يقول بعد زيارته للمدينة :
"تبعد طرابلس عن البحر ميلاً واحداً أو أكثر بقليل. في مينائها مدينة صغيرة يقطن فيها مسلمون وروم وموارنة، وفيها محلات تجارية لكل أنواع الملبوسات، وعلى شاطئها سبعة أبراج ... وبدخول المدينة، تشاهَد قصور جميلة تنساب فيها سبل المياه وتوزّع خاصة على مقام قنصل الفلامنكيين وعلى وسط القاعة والمطبخ وغرف النوم. وهذا المقام من أجمل ما يُشاهد في المدينة التي يسكنها مسلمون وعبرانيون وأرمن وموارنة. وفيها فندق كبير للتجار الفرنسيين، كما فيها رهبان مار فرنسيس وكبوشيون وكرمليون حُفاة". "والمدينة مقسّمة داخليّاً بشكل جيّد بحسب أنواع التجارات: فلكل واحد منهم محلّه، كالخيّاطين، وصانعي الأحذية، وباعة الحرير ومتجرهم يشبه الكنيسة، ويباع فيها أيضاً filati, ceneri والدجاج والخيطان والعنب الدمشقي الذي يأتون به من بعلبك".
ثالثاً: رحلة العُطيفي
زار العُطيفي لبنان سنة 1043ھ = 1633م، فسلك طريق دمشق، بعلبك، إهدن، طرابلس ، ومن ثم غادرها الى حلب.
تقع طرابلس قرب البحر، بيد أنّ البساتين تفصل فيما بينهما. وإسمها يدلّ على ثلاث مدن بحسب الفيروزبادي. يجتازها نهر "عظيم"، وتشرف عليها قلعة.
1. المرفأ والتجارة
لا يتكلّم العُطيفي مطلقاً عن التجارة أو المرفأ، ولكّنه يذكر مرّة واحدة عرضاً "المراكب" التي شاهدها وهو برفقة الشيخ محمّد الصيداوي من مكان "رأس النهر" .
2. الزراعة
يستفيض الزائر في وصف البساتين وجمالها نثراً وشعراً. وهي تعطي أنواعاً كثيرة من الفواكه، لاسيّما الحمضيات .
3. الحياة الفكرية والسياسية
تمتاز رحلة العُطيفي بأنّها تلقي ضوءاً على الناحية الأدبيّة والسياسية في المدينة. فقد إلتقى الرحّالة عدداً من الأدباء، وتبارى معهم في قرض الشعر.
وزار الوالي في دارته، وهو الأمير علي سيفا، وقد خصّص الحاكم كأسلافه مكاناً في بلاطه للأدباء والشعراء.
وإمتدح الرحّالة حكم آل سيفا، وقارنهم مع البرامكة . وغمز من قناة فخر الدين وخلافاته معهم، ونكبته على يد السردار أحمد كجك .
وعدّد أسماء الشيوخ الرسميين وبعض الأعيان. وتوقّف عند ذكر المساجد المهمّة القائمة في المدينة.
أهملت رحلة العُطيفي معطيات مهمّة لجهة التجارة والسكّان، غير أنّها أكّدت على هناء العيش في طرابلس وعلى البحبوحة التي كانت تتمتّع فيها المدينة في النصف الأوَّل من القرن السابع عشر . وهكذا تتقاطع موضوعاته مع من سبقه من الرحّالة، خصوصاً من تناولتهم هذه الدراسة.
أمّا بالنسبة للحركة السكانية، فتفتقر الرحلات الى معلومات احصائيّة أكيدة في هذه المرحلة. فالأب بيسون يقدّر عدد سكان المدينة بحوالي خمس وعشرين الف نسمة غالبيتهم من المسلمين، يسكن بينهم حوالي الألف مسيحي . تُهيّء هذه التقديرات الى المعلومات التي تعطيها سجلاّت المحكمة الشرعية في طرابلس في القرنين الثامن والتاسع عشر، والتي قد تناولتها دراسات قيّمة .
ولسدّ الثغرات في المرحلة التي نعالجها، أي القرنين السادس والسابع عشر، لا بدّ من الرجوع إلى أنواع أخرى من المصادر، لا سيّما إلى الحوليات، وعلى رأسها تاريخ الأزمنة للبطريرك إسطفانوس الدويهي .
ومهما بلغت أهميّة نصوص الرحّالة، فهي تبقى في سياق الروايات المتقطّعة، غير المتواصلة، والمتكرّرة أحياناً. لذلك تبدو صورة طرابلس من خلالها ناقصة غير مكتملة.
ولكنّها ولو إفتقدت إلى الطرافة، فهي تؤكّد على وضع قائم في زمن معيّن. وتعوّض عن فراغٍ ولّده غياب الأصول.
ملحق: خرائط للرحلات الثلاث.
1. رحلة دنديني
2. رحلة دارفيو
3. رحلة العُطيفي
بيبليوغرافيا
1. النابلسي عبد الغني بن اسماعيل؛ العطيفي رمضان بن موسى، رحلتان الى لبنان، تحقيق صلاح الدين المنجد و اسطفان فيلد، المعهد الألماني للأبحاث الشرقية في بيروت، 21، بيروت، 1979.
2. رحلة ابن بطّوطة، دار صادر ودار بيروت، 1964.
3. رحلة الأب إيرونيموس دنديني إلى لبنان سنة 1596، عرّبها يوسف يزبك العمشيتي، مطبعة جريدة العلم، بيت شباب.
4. الأبّ إغناطيوس سعاده، م.ل، لبنان في كتابات الرحّالة، دروس ونصوص، منشورات الرّسل، 2008.
5. الزعبي محمد خالد (الشيخ)، "آل سيفا بين الواقع والإتّهام"، في المؤتمر الأوَل لتاريخ عكار. عكار في التاريخ العثماني 1516-1918، طرابلس، 1995، ص. 97-136.
6. حبلص فاروق، "العلاقة بين النصارى واليهود في طرابلس وعلاقتهم بالمسلمين والسلطات العثمانية فيها في القرنين 17-18"، في الأقليّات والقوميات في السلطنة العثمانية بعد 1516، منشورات الجمعية التاريخية اللبنانية، الفنار، 2001، ص. 405-437.
7. سليمان حاتم، "الأقليات غير الإسلامية في طرابلس من خلال سجلاّت المحكمة الشرعية"، في الأقليّات والقوميات في السلطنة العثمانية بعد 1516، منشورات الجمعية التاريخية اللبنانية، الفنار، 2001، ص. 439-476.
8. D’ARVIEUX Laurent, Mémoires, Introduction de Antoine Abdelnour, Beyrouth, 1981.
9. BAUMGARTEN Martin, The Travels of Martin Baumgarten, a Nobleman of Germany, through Egypt, Arabia, Palestine and Syria, London, 1704.
10. BESSON Joseph, La Syrie et la Terre Sainte au XVIIème siècle, Nouvelle édition, Poitiers-Paris, 1862.
11. DANDINI Jérôme (P.), Voyage du Mont-Liban, traduit de l’italien par P. Richard Simon et suivi des remarques, édition revue et augmentée par P. Karam Rizk, Sources de l’Histoire du Liban et du Proche-Orient 2, Kaslik, Liban, 2005.
12. GIRARD Aurélien, « Voyage du Mont Liban », Archives de sciences sociales des religions, 142 (2008).
13. MAUNDRELL Henry, A Journey from Aleppo to Jerusalem, at Easter, A.D. 1697. Also, A Journal form Grand Cairo to Mount Sinai, and back again, London, 1810.
14. SALIBI Kamal, “The Sayfas and the eyelet of Tripoli” in Arabica, XX, 1, 1973, p. 25-52.
1. الرحّالة
AFFAGART Greffin, Relation de Terre Sainte (1533-1534), publié et annoté par J. Chavanon, Librairie Victor Lecoffre, Paris, 1902.
“Itinerario e peregrinaçao do muy reverendo Antonio Soares de Alberguaria monge professo do real mosteiro de Alcobaça”. Itinerario a Casa Sancta do Padre Frei Antonio Soares monge professo de Alcobaça. Lisbona, Biblioteca Nacional, Code Alcobacences, N. 369, 336, f.
ARANDA Antonio (DE), Verdadera información de la Tierra Sancta… agora nuevamente en esta última impression muy corregida y emendada, Alcalá, 1563.
D’ARVIEUX Laurent, Mémoires, Introduction de Antoine Abdelnour, Beyrouth, 1981.
AVEIRO Pantaleao (DE), Itinerario de Terra Santa e suas particularidades, 7ème édition, Coimbra, 1927.
BAUMGARTEN Martin, The Travels of Martin Baumgarten, a Nobleman of Germany, through Egypt, Arabia, Palestine and Syria, London, 1704.
BEAUVAU Henry (DE), Relation journalière du voyage du Levant, faict et descrit par Messire Henry de Beauvau, Baron dudit lieu, Tour, 1608. طُبع في دار النهار للنشر 2001، عن الطبعة الثانية للكتاب سنة 1615.
BESSON Joseph (p.j.), La Syrie et la Terre Sainte au XVIIème siècle, Nouvelle édition, Poitiers-Paris, 1862.
CARALI Paolo, Il Libano nel 1643, « Relazione del P. Tommazo Vitale da Monte Regale dominicano », in S.I.E.M., Napoli, 1937.قرألي بولس، "لبنان في السنة 1643، نقلاً عن تقرير الأب فيتالي"، المجلة البطريركية، طرابلس، 1938، ص. 3-25، (أو عدد كانون الثاني 1935)
CASTILLO Antonio (DEL), El devoto peregrino, Viage de Tierra Sancta, Madrid, 1654.
CHESNEAU Jean, Le Voyage de Monsieur d’Aramon, Ambassadeur pour le Roy en Levant, escrit par noble homme Jean Chesneau l’un des secrétaires dudict seigneur ambassadeur, publié et annoté par Ch. Schefer, en 1887, reprint of the edition London 1887 in The Islamic World in Foreign Travel Accounts, 37, Institute for the History of Arabic-Islamic Science, Johann Wolfgang Goethe University, Frankfurt am Main, 1995.
DANDINI Jérôme (P.), Voyage du Mont-Liban, traduit de l’italien par P. Richard Simon et suivit des remarques, édition revue et augmentée par P. Karam Rizk, Sources de l’Histoire du Liban et du Proche-Orient 2, Kaslik, Liban, 2005.
GERRERO Francisco, El viage de Hierusalem, Sevilla, 1592; GERRERO Francisco, Itinerario a Terra Santa, Lisboa occidental, 1734.
GOUJON Jacques, Histoire et voyage de la Terre Sainte, Lyon, 1671.
LA CROIX François Pétis (DE), La Turquie Chrétienne sous la puissante protection de Louis le Grand, protecteur unique du christianisme en Orient. Contenant l’état présent des Nations et des Eglises grecque, arménienne et maronite dans l’empire otoman. Par M. De La Croix, ci-devant Secrétaire de l’Ambassade de sa Majesté à la Porte. Paris…1695. Avec privilège du Roi.
LA ROQUE Jean (DE), Voyage de Syrie et du Mont-Liban, Introduction, notes et Index par Jean Raymond, Dar Lahd Khater, Beyrouth, 1981.
MAGRI MALTESE Domenico, Breve racconto del Viaggio al Monte Libano, Roma, 1655. كميل افرام البستاني، سرد مقتضب في رحلة الى جبل لبنان، دار لحد خاطر، بيروت، 1985.
MAUNDRELL Henry, A Journey from Aleppo to Jerusalem, at Easter, A.D. 1697. Also, A Journal form Grand Cairo to Mount Sinai, and back again, London, 1810.
MEDINA Antonio (DE), OFM, Tratado de los misterios de la Tierra Sancta, Salamanca, Herederos de Juan de Canova, 1573.
Relation par Jean Carlier de Pinon, du voyage fait par lui dans le Levant, en la compagnie de Jean-Jacques Breuning (Février 1579 - 23 Janvier 1580), BN. Ms. 6092, Papier XVI, s.
ST PIERRE Puget (DE), Histoire des Druses, Peuple du Liban, formé par une colonie de François, avec des notes politiques et géographiques, Cailleau, Paris, 1763.
THEVENOT Jean (DE), Relation d’un voyage fait au Levant, Claude Barrin, Paris, 1664.
VERA Juan Ceverio (de), Viage de la Tierra Sancta, Roma, 1596; Madrid, 1597.
Les voyages du seigneur de Villamont, Rouen, 1608. Cité dans une note de Ch. Schefer dans son édition du libre de Chesneau Jean, Le Voyage de Monsieur d’Aramon, Ambassadeur pour le Roy en Levant, escrit par noble homme Jean Chesneau l’un des secrétaires dudict seigneur ambassadeur, 1887.
النابلسي عبد الغني بن اسماعيل؛ العطيفي رمضان بن موسى، رحلتان الى لبنان، تحقيق صلاح الدين المنجد و اسطفان ﭭيلد، المعهد الألماني للأبحاث الشرقية في بيروت، 21، بيروت، 1979، "رحلة الى طرابلس الشام"، ص. 13-21.
رحلة الأب ايرونيموس دنديني الى لبنان سنة 1596، عرّبها يوسف يزبك العمشيتي، مطبعة جريدة العلم، بيت شباب، 1933.
العلويون في طرابلس/ بداية القرن الماضي
الدكتور خليل شتوي
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وبدء الإنتداب الفرنسي على سوريا ولبنان كانت مدينة طرابلس إضافة إلى قضائها وقضاء عكار ضمن ما يعرف بسنجق طرابلس والذي ضمّ أيضاً قضائي حصن الأكراد وصافيتا، وكانت ولاية بيروت تضم سنجق بيروت وسنجق طرابلس إضافة إلى سنجق اللاذقية. وبالتالي فأن طرابلس في بداية القرن الماضي كانت المركز الإداري لمجموعة سكنية متعددة الطوائف والمذاهب تشكل الطائفة العلوية نسبة تتراوح بين 15 و20% من مجموع سكانها وهي نسبة متقاربة من مجموع سكان ولاية بيروت الممتدة من اللاذقية شمالاً إلى قضائي صور ومرجعيون جنوباً. وبغض النظر عن الأهداف السياسية للحكومة الفرنسية فإن هذا التقسيم إضافة إلى عدم وجود حواجز طبيعية (سلسلة جبال أو وديان) قد كرس فعلياً التواصل ما بين مدن الساحل السوري-اللبناني مع بلدات وقرى ما يعرف بجبال العلويين مع الإشارة إلى أن هذه القرى والبلدات وكذلك مدن الساحل السوري هي أقرب مسافة إلى طرابلس منها إلى حلب وحمص ودمشق. (عدد العلويين في الساحل السوري في تلك الفترة الزمنية راوح بين 250 و 350ألف)
استمر العمل بهذا التقسيم الإداري إلى حين صدور القرارين 318 و319 في 1/9/1920 حين أعلن المفوض العام للحكومة الفرنسية الجنرال غورو ولادة دولتين.
الأولى دولة لبنان الكبير بحدوده الحالية والثانية دولة العلويين والتي ضمت إلى سنجق اللاذقية الجزء الشمالي من سنجق طرابلس أي قضائي صافيتا وحصن الأكراد. وتراجعت وفق هذا التقسيم الجديد نسبة العلويين سواء في سنجق لبنان الشمالي أو في الدولة اللبنانية. أما عن مدينة طرابلس والتي شكلت مع ضاحيتها منطقة إدارية مستقلة فلم يتغير عدد سكانها من الطائفة العلوية وفق كتاب صادر لضابط فرنسي أقام في طرابلس في العقد الثاني من العشرينات (ترجم الكتاب اللواء المتقاعد ياسين سويد) فإن عدد العلويين في المدينة قد بلغ 600 من أصل 18000 أي بنسبة 3%.
• التعداد والإحصاء
في العام 1913 أجرت الدولة العثمانية احصاءً عاماً للسكان وفق توزعهم الطائفي، ولا يبين هذا الإحصاء وجود علويين في مدينة طرابلس (المؤرخ فاروق حبلص) مع الإشارة إلى احتمال اغفال الدولة العثمانية لذكر العلويين كطائفة سواء في لبنان وسوريا وتركيا.
في العام 1921 أجرت الدولة اللبنانية احصاءً عاماً للسكان وتوزعهم وفق الإنتماء الطائفي وتبرز جداول الإحصاء عدد المنتمين إلى الطوائف، كل طائفة على حدة، باستثتاء العلويين الذين جمعهم مع اللاتين بند "مختلف" وقد بلغ عددهم أي العلويين واللاتين 8231 نسمة أي ما نسبته 1.47 من المجموع العام للسكان اللبنانيين والبالغ عددهم 558933.
في العام 1932 أجرت حكومة أوغست باشا أديب إحصاءً ثانياً للسكان بلغ بموجبه عدد المقيمين على الأراضي اللبنانية 793396 نسمة موزعين أيضاً على الطوائف ما عدا أيضاً العلويين واللاتين والذين بلغ عددهم 6393 نسمة أي ما نسبته 0.8 من مجموع السكان، أي بتراجع نسبته 0.7 عن عددهم في الإحصاء الأول. وتبين جداول إحصاء العالم 1932 تراجع نسبة الدروز والمسيحيين (بإستثناءالبروتستانت) وزيادة نسب الطائفتين السنية والشيعية.
في العام 1942(31 كانون الثاني) جرى تعداد للسكان في سجلات الاحوال الشخصية وتبين أن عدد الأهالي الوطنين قد بلغ 1014506 من ضمنهم وللمرة الأولى عدد اللاتين بشكل منفرد، (3044 ) وضمن بند "مختلف" أيضاً 6112 فرداً (والمفترض أن يكون هذا الرقم يعكس عدد اللبنانيين من الطائفة العلوية).
ونظراً لغياب احصاء رسمي يبين عدد العلويين اللبنانيين فأن جداول الشطب للانتخابات المتتالية تعكس بصورة دقيقة نسبة العلويين في لبنان و التي تتراوح ما بين 0.7و0.8من مجموع الناخبين. بينما بلغت نسبة الناخبين اللاتين 0.4 من مجموع عدد الناخبين، أي أن نسبة الناخبين العلويين واللاتين هى فى حدود 1.2 وهي معدل لنسب أعدادهم في إحصاء1921 , 1931 وفي تعداد 1942.
عدد الناخبين العلويين وبالتالي تقريباً عدد السكان(القاعدة المتبعة لتعداد السكان: عدد الناخبين x1.8) لا يعكس بالضرورة العدد الفعلي للعلويين اللبنانيين نظراً لأن عدداً غير محدود من العلويين قد تم قيده في سجلات الأحوال الشخصية كمنتم إلى طائفة اسلامية اخرى سنية أو شيعية، كما أن عدداً آخرغير محدد قد لجأ الى تغيير مذهبه قيداً وذلك للتمكن من اتمام معاملات الزواج(رفض المحكمة الشرعية السنية و بشكل متقطع اجراء عقود زواج علويين مع سنيات) أو سعياً إلى دخول الإدارة العامة و التوظيف. من جهة اخرى يتم التداول من حين إلى آخربعدد للعلويين يناهز 100 ألف أي ما نسبته 2.5 % من مجموع السكان و هو رقم لا يعكس الواقع أيضاً وبالإمكان وفق هذه المعطيات تقدير عدد العلويين اللبنانيين ما بين 60 و80 ألف مواطن.
و في مراجعة لمراسيم التجنس الصادرة في الجريدة الرسمية و ذلك بدءاً بالعام 1926 وانتهاءاً بالعام 1965 فإن عدد العائلات العلوية التي اكتسبت الجنسية اللبنانية بموجب مرسوم لا يتجاوز مئة عائلة (دراسة لم تنشر لكاتب المقال) في حين أن المجنسين من الطائفة العلوية المرسوم 5247 تاريخ 30/6/1994 قد بلغ 2929 عائلة أي 3% من مجموع المجنسين (دراسة للباحث كمال فغالي).
* مواقع السكن والعمل:
موقع السكن الأساسي للعلويين في طرابلس كان منطقة التبانة بجناحيها الغربي والشرقي والذي يفصل بينهما شارع سوريا، في الجانب الشرقي تركز سكن العلويين بداية في حي السيدة حيث كنيسة ومدرسة السيدة العذراء للرهبانية المارونية، في الجانب الغربي سكنوا في حي البعل الموازي لشارع سوريا حيث تسكن غالبية من الطائفة السنية. لم يقتصر سكن العلويين في بداية القرن على منطقة التبانة وحدها نظراً لضيق المساحة الجغرافية وعدد المساكن المتوفرة وبالتالي فأن نسبة وإن غير مرتفعة سكنت أحياء المدينة الأخرى، ومع ازدياد عدد السكان كان لا بد من التمدد والإنتشار، ألتمدد حصل ليشكل تواصلاً ما بين حي السيدة وحي التبانة الأساسي فامتد البناء إلى الشارع المعروف بشارع الجامع حيث مسجد الإمام علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) إضافة إلى ما يسمى بكواع القبة، واستمر التمدد نحو الشمال لنشهد حي "الحارة الجديدة" ونحو الشرق بإتجاه الساحة المعروفة بساحة الأميركان.
جبل محسن آنذاك كان عبارة عن أرض زيتون تملكها من ضمن عائلات أخرى عائلة محسن من أبي سمراء، بعل محسن لم يشهد حركة عمرانية إلا في نهاية الخمسينات وبداية الستينات مع الإشارة إلى أن اولى المباني التي شيدت في الحي تحمل اسم "البخعوني" تيمناً ببخعون بلدة آل جمال. المنطقة التي سكنتها غالبية العلويين لم تكن ذات غالبية علوية، هي منطقة سكنية مختلطة يتجاور فيها المسلم والمسيحي، هذا الواقع السكني بقي على هذه الصورة حتى بداية الحرب الأهلية التي كان من نتائجها فرز سكاني مذهبي لتتحول منطقة سكن العلويين إلى منطقة سكن "علوية"، كما ساهم النزاع المسلح في المدينة وطابعه المذهبي في فترات متلاحقة إلى وقف إنتشار سكن العلويين في الأحياء الأخرى للمدينة.
• موقع العمل
العلويون الذين عمل غالبيتهم في قطاع التجارة بداية، كانت لهم محالهم التجارية في سوق القمح أولاً ثم امتداداً ألى الجسر فسوق البازركان وصولاً إلى خان الخياطين كما كان للعلويين وما زال تواجد في الشارع الأساسي لمنطقة التل.
وكما شهد موقع السكن تغييراً بفعل النزاع المسلح، كذلك انخفض عدد المراكز التجارية التي يملكها أو يشغلها علويون في المدينة والذين انكفأ قسم منهم إلى منطقة بعل محسن أو آثروا ترك المدينة.
• الوضع الإجتماعي:
غالبية العلويين في بدايات القرن الماضي كانت تنتمي إلى "الطبقة الكادحة"، الميسور منهم من كان يملك متجره، ومنهم من كان يملك ألمتجر والمسكن ومع الزمن هناك من امتلك المبنى، ولا يختلف العلويون بذلك عن الغالبية التي سكنت منطقة التبانة آنذاك ولا عن الأحياء الواقعة شرقي نهر أبوعلي كالحدادين والسويقة. ولكن بالرغم من مشاركة العلويين في الحياة العامة والسياسية على صعيد المدينة، إلا أنه لم تبرز منهم شخصية لعبت دوراً مهماً أو متقدماً كما تدل على ذلك مراجعة أرشيف الصحافة المحلية للمدينة.
• العلاقة الطائفية
في طرابلس حيث التواجد الأكثري للعلويين فإن المرجع الشرعي المعتمد إدارياً لهم ومنذ بدايات القرن الماضي كانت المحكمة الشرعية السنية فكانت عقود الزواج والطلاق تعقد في إطار هذه المحكمة والتي كانت تنظر أيضاً بقضايا الأحوال الشخصية للعلويين وذلك رغم الإختلافات المذهبية ما بين الطائفتين. واستمر العلويون في التعامل مع المحكمة الشرعية السنية حتى بعد نشوء محكمة جعفرية في طرابلس في تشرين الأول من العام 1974. وإلى حين بناء مسجد الإمام علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) فان الصلاة على الميت كانت تقام في مساجد خاصة بالطائفة السنية، إذا جاز التعبير، كما كان رجال دين من الطائفة السنية يقومون أيضاً بالمراسم الأخرى المتعلقة بالوفاة.
الجانب الأهم في العلاقة الإجتماعية ما بين أبناء الطائفتين السنية والعلوية هو نسبة التزاوج المختلط والذي بلغ وفق دراسة للدكتور يوسف كفروني (دار البلاد – 2008) نسبة تقارب أو تزيد عن 30%، 34% من العلويين زوجاتهم سنيات، 27.3 من العلويات تزوجن من سنيين.
• العلويون والمدينة
بالنظر إلى الإختلاط الطائفي والمذهبي: سواء في مواقع السكن أو في مواقع العمل، كان التواصل هو عنوان العلاقة التي جمعت العلويين بأبناء مدينتهم ولم تشهد هذه العلاقة أي أزمة عامة أو مهمة بإستثناء أحداث فردية اتخذت طابعاً مذهبياً. من ناحية أخرى لم يتبوأ أي علوي منصباً أو موقعاَ سواء على صعيد المدينة أو في لبنان بالطبع، إذ اقتصر تمثيلهم في العقود الرابعة والخامسة والسادسة على "التمثيل الإختياري – مخاتير"، وتعاقب على هذا الموقع: محمد الشامي- محمود ادريس – محمد ناصر – محمود الشامي، أما دخولهم الإدارة اللبنانية فقد بدأ خجولاً ومتأخراً ومتواضعاً وكان ذلك في إطار التعليم وكان من أول خريجي دار المعلمين في بيروت الأستاذ صلاح عكاري ليتبعه تعيين مدرسين من حملة الشهادات التكميلية آنذاك، وخارج إطار التعليم فان أول ضابط من الطائفة العلوية التحق بالمدرسة الحربية لم يكن مسجلاً كعلوي قيداً، في حين لجأ قسم آخر ممن تبعه إلى تغيير مذهبه، الموقع الأول المنتخب لعلوي في المدينة كان عضوية مجلس بلدية طرابلس في انتخابات العام 1963 والذي شغله الأستاذ أحمد حسن خليل، كما اسند المنصب الإداري الأول في المدينة وهو موقع رئاسة دائرة المساحة (فئة ثالثة) إلى المهندس أحمد درويش. وبالطبع فأن هذا التمثيل لا يتناسب مع عدد وكفاءات العلويين في لبنان.
بداية التحول على أكثر من صعيد: إجتماعي – ثقافي – مهني،بدأت في منتصف الخمسينات وهي مرحلة شهدت إنشاء جمعيات ومؤسسات تربوية وحيث كان التعليم الموقع الأول لنشاطاتهم نظراً لعدم وجود مدارس رسمية في مناطق سكنهم فكان دور المربين صلاح الشامي – سعد أبوحلقة – يونس حسن في تأسيس مدارس إبتدائية في طرفي موقع سكن العلويين: حارة البرانية والملولة.
إضافة إلى التعليم، أنشأ أحمد الشيخ وفي أواخر الخمسينات الرابطة الخيرية الإسلامية العلوية والتي أشرفت على بناء مسجد الإمام علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) بتبرعات من العلويين، فقرائهم قبل أثريائهم، كما شهدت هذه الحقبة صدور صحيفة "يقظة لبنان" وهي صحيفة محلية كانت تنشر أخبار الحي والمدينة والوطن ولا زال ناشر الصحيفة العصامي جميل العلي يتابع قدر ما استطاع عمله، صحافي آخر برز أيضاً هو الأستاذ ابراهيم رمضان، على الصعيد الرياضي عصامي آخر هو الأستاذ بدر عليشة الذي أنشأ نادي الكفاح الرياضي المشارك في منتخب وفي دورات أقليمية ودولية عدة. كما برز في الحقل الرياضي أيضاً كل من جميل درويش الذي كان له الدور الأساسي في بلوغ فريق حركة الشباب مصاف أندية الدرجة الأولى، وكذلك يوسف بدور. حقبة الستينات شهدت تخرج الدفعة الأولى من المحامين ليتبعهم خريجو دور المعلمين وبدءاً من أواخر الستينات ظهر خريجو كليات الطب والهندسة والصيدلة.
هذا هو واقع العلويين في طرابلس في الفترة الممتدة ما بين 1918/ 1968 وهو مختلف عن الواقع الحالي، تراجع الإنتشار وتقلص الإمتداد وفقد التواصل، طرابلس عيش واحد معاً، نعم في الحقبة الأولى، ما بعد النزاع المسلح الأول والثاني والأخير لا بد من الإعتراف بأنه "عيش واحد ولكن كلاً على حدة". من هنا واجبنا جميعاً أن نستخلص ألعبر مما حدث لخلق الظروف المناسبة لإعادة العلاقات ما بين أبناء المدينة إلى سابق عهدها وأن تكون المرحلة السابقة – مرحلة النزاع – هي الإستثناء الذي يؤكد على القاعدة: طرابلس للجميع ولا تحيا بفقدان أو عزل طرف من مكوناتها.
توزع اللبنانيين وفق الطوائف :
مداخلات ومناقشات الجلسة الثانية:
شكر الدكتور نزيه كبارة الذي ترأس هذه الجلسة الباحثين الذين أعدوا بحوثا هامة في تاريخ العيش المشترك منذ القرن السادس عشر وحتى الحقبة المعاصرة ،ثم فتح المجال للمناقشات
الدكتور فاروق حبلص : الى الدكتور شتوي ، هناك نقطة مهمة حول تطور وجود العلويين في المنطقة تلفت الانتباه وهي انه في الاحصائيات العثمانية حتى العام 1914 و1917 ليس هناك من ذكر لأي وجود علوي في الاحصائيات العثمانية في طرابلس . وحضرتك قلت بان وجود العلويين بدأ في عام 1918 ، وبالتالي السؤال الذي يطرح نفسه ما هو سبب انتقال العلويين الى طرابلس ؟
الدكتورخليل شتوي : ما تم ذكره من وجود العلويين مرتبط باحصاءات 1920 ولا يمكن ان يكون هناك انتقال للعلويين حصل بهذه الكثافة بفترة زمنية قصيرة . وسنعود الى توثيق هذه الامور وبالتأكيد قبل نشرها في الكتاب. الكثير من العلويين حين يتكلم احدهم يقول في زمن بني عمار او في زمن المماليك ، ولا أريد العودة الى الماضي ، نحن نتكلم عن دولة لبنان الكبير التي أنشأت عام 1920 .هل كان هناك وجود للعلويين ؟؟ غير الممكن حتى ولو قمنا بعملية شحن جوي بنقل خمسة آلاف او ستة آلاف فرد من مدن علوية الى طرابلس .
الامر الآخر ، وخلال وجود الدولة العلوية ، لم نشهد تحولا معاكسا .
النقطة الثانية وللتذكير، لدي دراسة عن المجنسين وفق مراسيم التجنيس ، منذ عام 1926 الى عام 1965 بالاسم والطائفة والبلد ، ليس هناك أكثر من عشرات العائلات العلوية التي اكتسبت الجنسية اللبنانية بمرسوم .
الامر الثالث استطرادا ، في المرسوم الأخير للتجنيس عام 1994 عدد العلويين الذين اكتسبوا الجنسية اللبنانية في هذا المرسوم 2929 عائلة ما نسبته 3 بالمئة .
اكتساب الجنسية بمرسوم أتى بعد الاحصاء ، بينما قبل الاحصاء ليس من مراسيم ، أي ان هناك فترة طويلة ما بين احصاء 1920 واحصاء 1932 ، وما أقول هو انه في سجلات الدولة العثمانية التي نرى فيها وجود للاحصائيات وتفاصيل دقيقة ولو كان في تلك الفترة وجود للعلويين لكان ذكر في هذه الاحصائيات .
مداخلة للاستاذ مقبل ملك : بموضوع الاحصاءات كلنا يعلم أنه في العام 1917 لم يكن كل المقيمين على الأرض اللبنانية يحبون ان يتسجلو بالاحصاءات التي كانت تنشأ ، إما تهربا من الخدمة العسكرية او تهربا من الضرائب او عدم الرغبة في الانتماء الى دولة او نظام لم يكونوا قد اقتنعوا به بعد ، ولذلك نلاحظ ان تطور احصاءات المقيمين اختلفت بإعداد كبيرة وهذه المعلومات جئت بها من خلال البحوث التي شاركت فيها وعملت فيها .
مداخلة الاستاذ محمد يحيي عضو بلدية طرابلس وكاتب عدل : لقد تبين لنا لا ريب من خلال البحوث التي قدمت في هذ الجلسة وفي الجلسة السابقة التي قدمها محاضرون اكفاء وبحوثا قيمة، تبين بان الطائفية والمذهبية لم يكن لها أي أثر في تاريخنا ولم يكن لا أي أثر في تراثنا الثقافي انما كانت هذه العواطف دخيلة في القرنين الأخيرين التاسع عشر والعشرين في زمن الاستعمار ، واكبراستعمار كان هو الاستعمار البريطاني الذي كان يحرص على فكرة "فرق تسد" ، هذه النعرات كان يغذيها الاستعمار من أجل تفريقنا ، فالى متى تعمل عواطفنا في سلوكنا والى متى نبقى هكذا ، هذه حالنا ، علينا ان نعمل عقولنا في جميع تصرفاتنا وسلوكياتنا علينا ان نعمل العقل بدل العواطف ، هذه النعرات الطائفية والمذهبية ليس لها أثر عندنا انها دخيلة علينا فالى متى نبقى هكذا ، يجب أن نعتبر، أكثرنا وطنية هو أكثرنا حبا لوطننا بجميع طوائفه وبجميع مذاهبه وبجميع أحزابه وبجميع أهله وبجميع انتماءاته ، يجب ان يكون أكثرنا وطنية أكثرنا سعة للصدر للحوار ولقبول الآخر وشكرا لكم .
مداخلة الاستاذ عبد اللطيف كريم : باختصار وبما يتعلق بمعادلة الدكتور فاروق حبلص ، بانه لا يجوز لعلاقتنا ان تأخذنا خارج الوثيقة التي يجب ان تعتمد . الوثائق التي يجب ان نميز فيما بينها ، فهي تختلف ، وفي كتابي الذي ألفته عن بربر اغا ، استندت الى قناصل فرنسا في طرابلس بين عامي 1800 و1840 وبالتالي فالقناصل كانوا متخصصين لمراقبة الأحداث بأجرتهم وكانوا يكتبون عن الحدث أول بأول وبالتفصيل ، وبالتالي كانوا بعيدين كثيرا عن الهوى ، وعندما اكتب عنهم وكاني أكتب عن مراجع أقرب ما تكون الى الصدقية وبالتالي فالصورة الصحيحة قالت لنا في تلك الفترة أي بين 1800 و1835 كانت طرابلس ثائرة على السلطة العثمانية ، وكانت السلطة في طرابلس بيد رجل طرابلسي ، هو الوحيد الذي حكم طرابلس منذ ايام المماليك وحتى ايام العثمانيين وهو مصطفى آغا بربر ، حكم المدينة خلافا للسطنة العثمانية ، بدليل الاحكام بالاعدام المتوالية والتي صدرت ضده ، ولكن السلطنة بقدها وقديدها لم تستطع ان تزحزحه عن حكم طرابلس بسبب تمسك سكان طرابلس به ، وهذا الامر موجود وموثق بكل الرسائل التي كتبها القناصل الى الخارجية الفرنسية ، وهي موجودة في ارشيف الخارجية الفرنسية ، وقد تكرم السفير الدكتور عادل اسماعيل ، وهو مرجع من اهم مراجع التاريخ بالشرق الأوسط ، بادخالها في مجموعة من الكتب القيمة جدا ، وبعد ان الفت كتاب كتاب بربر اغا ، راودني سؤال وسأطرحه عليكم وخصوصا على المؤتمرين هنا الداخلين في موضوع مهم وهو توثيق المراجع الطرابلسية : هل كان بربر هو القائد الثوري الذي اخذ طرابلس الى هذا المركز ام ان طرابلس هي التي أخذته ؟ الدكتور عبد الغني عماد في كتابه المجتمع الطرابلسي يقول ان طرابلس ما بين القرن الثامن عشر والتاسع عشر قامت بعشر ثورات او انتفاضات على الباب العالي ودفعت ثمنها غال جدا ، ولكن طرابلس استطاعت بالرغم من كل هذا ان تبقى صامدة وان تجابه العثمانيين بمعركتين من أشرس المعارك ، عام 1709 عندما حاصرها والي الشام سبعة أشهر لدرجة انه قطع الماء عن سكانها ، خلاصة القول ان هذه المدينة هي مدينة متمردة وعصية وصعبة وترفض الظلم ...
وما أريد قوله أنه يجب ان نميز بين الوثائق ولا يمكن ان نأخذها كلها وان نعتمد عليها .
الامر الآخر ، في تلك الفترة ، وفي حديثنا عن الطائفية فعندما حكمت طرابلس نفسها بدات تشيع في طرابلس اللاطائفية ،ويكفي ان نراجع تاريخ وعلاقات بربر اغا ، وهناك دراسة وضعت عام 1812عن طرابلس من قبل مبعوث نابليون بونابرت ، قمت بترجمتها واقدمها لاعمال المؤتمر ، تقول بان سكان طرابلس في تلك الفترة ( 14200 نسمة ) ، من بينهم (7900) يسميهم اتراكا "أي سنة " وبينم2700 يسميهم يونانيين أي الروم الأرثوذكس وتقول بان هناك 200 كاثوليك "موارنة و100 يهودي ، وتقول بالوقت عينه بان الموارنة الكاثوليك كانوا 200 ولكن كانوا في الشتاء يزيد عددهم ليطيح بـ 1000 لانهم كانوا ينزحون من الجبال هربا من الثلوج ويسكنون ضفتي نهر أبو علي ،المهم انا اتمنى ان نتلمس من خلال هذه الوثائق الميزة التي كانت تتميز بها طرابلس وانا أتعصب لهذ المدينة التي كانت مميزة بالعهد الفينيقي والعهد البيزنطي والعهد العثماني وفي كل العهود ، وبرأيي أنا فإن لهجتنا في كل منطقة تختلف عن منطقة اخرى وحتى بالمستوى الإجتماعي كانت تختلف كل منطقة عن أخرى .
اما بالنسبة للدكتور شتوي ، فبكل الاحصاءات التي قدمها لم يقل بالتفصيل كم كان عدد العلويين عندما دخل الفرنسيين الى المدينة بل قال بانهم كانوا في " السنجق" والسنجق لا يعني طرابلس ، وان العدد بعد الـ 1920 ازداد كثيرا بسبب الوضع الاقتصادي الجيد في طرابلس وأقبلوا اليها . وشعرت ومن خلال محاضرته بانه وهو يدافع عن العيش المشترك يوجهه الينا ، فأقول له : نحن واخواننا العلويين عشنا معهم أكثر من اخوة ومن أصدقائي كان سليم خلوف وابراهيم الخليل ولم نشعر باننا نختلف فيما بيننا الا بعد العام 1976 كما تفضلت ، وهذا عيب على طرابلس وعيب على الدخيل الذي فرق بيننا في طرابلس .