فهرس المقال |
---|
البحث الأول: شعراء الفيحاء صورة زاهية للوطنية والعيش المشتركد. نزيه كبارة |
البحث الثاني: المرأة من الخاص الى العام، مسيرة النضال الصامتد. ھند الصوفي |
البحث الثالث: صحافة طرابلس والعيش المشتركأ. مايز الأدهمي |
البحث الرابع: إشكالية المدينة البحريةد. جان عبدالله توما |
شعراء الفيحاء صورة زاهية للوطنية والعيش المشترك
د. نزيه كبارة
حفلت طرابلس الفيحاء بعدد كبير من الشعراء في القرن العشرين. فقد شهد النصف الأول من القرن ولادة أكثر من سبعة وعشرين شاعراً، بالإضافة الى سبعة شعراء كانت ولادتهم في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر. وهذا التعداد يشمل الشعراء الذين بقوا على قيد الحياة في النصف الثاني من القرن العشرين.
لقد تنوعت أغراض الشعر التي نظم فيها شعراء الفيحاء: فقد نظموا في المديح وفي الرثاء، في الغزل والوجدانيات، في وصف الطبيعة وفي التأملات في الحياة والناس، في الدين والتصوف، كما نظموا في الموضوعات الوطنية والقومية.
واللافت في شعراء الفيحاء أنهم يمثلون روح المدينة وضميرها، يعبرون عن آلامها وأحزانها، ويصدحون في أفراحها، ويترجمون عن مشاعرها الوطنية والقومية والإنسانية... فما من حدث كان له في المدينة أو في دنيا العروبة دوي إلا ردّد صداه شاعر أو أكثر من الفيحاء.
فشعراء النصف الأول من القرن العشرين: تناولوا في قصائدهم الأحداث التي ألمت بالمدينة وبغيرها من البلدان العربية:
- فعبد الحميد الرافعي (1895-1932) يناشد العرب أن يهبوا من رقادهم وأن يثوروا ضد عصبة الاتحاد والترقي، وأن يجددوا مجد بني يعرب.
- يقول من قصيدة طويلة بعنوان (هبُوا بني العرب) مطلعها:
ما تصلحُ الدنيا ولا ناسُهــا ما لم يلِ الأقوام أجناسها
هُبُوا بني العرب إلامَ الكرى وقد دها الآمالَ دُهاتهـا
طلبتمُ الإصلاح من عصبـةٍ توترُ بالإفساد أقواسهـا
هم عصبة اللادينِ ويلُ أمها حيّاتُ وادٍ لم يُدَسْ رأسُها
باسم (اتحادٍ وترقٍ) لقــد غرَّتكُم والخدعُ أغراسُها
- والشاعر عبد الوهاب ساري (1892-1957) يُشيد بمعركة ميسلون وباستشهاد البطل يوسف العظمة. يقول
ميسلونُ وحدَها باعثةٌ في نفوس الصيد ذكرى المحتدِ
وفتاها، والظُبى لامعةٌ مثلـه كـل امرئٍ لم يجــدِ
ومضى... لكنْ الى كأنْ غاظَه فُقدان أهلِ الرُشدِ
إنما شقّ طريقا واضحا بالدم الزاكي لأبطال الغدِ
- وعطفت شعبان (1910-1992) يحث في العام 1936 شبان الحمى يحثهم على الجهاد في فلسطين . يقول من قصيدة بعنوان (فلسطين 1936) من ملحمة (جهاد):
يا شباب الحمى كفاكم رُقادا فوربي هذا الرقادُ حــــرامُ
أيسامُ البيتُ المقدس خسفـاً ويدرس المحارمَ الظُّــــلامُ
ويعيثُ المُغيرُ قتلا وذبحـاً في حِمانا كأننا أغنــــــام
أين أينَ الشبابُ من يعربٍ أين النصارى، يا قدسُ، والإسلام
أين أين الحماةُ أين الأبـاةُ الصيدُ منا، أين الملوك العظامُ؟
فاشرئبوا الى الوغى ففيها عز المنايا أو نصرة ومــرامُ
بالقنا يُستردُ حقٌ مضـاعُ فعلى القاعدين المــــلامُ...
- ورشيدُ الشهال (1909-1966) يقول من قصيدة، يشيد "بعصبة العمل القومي" التي راحت تنادي بوحدة العرب. وترسم علَم العروبة:
رفرِفْ بأوج العُلى والمجد يا علمُ واخفِق كأمسِكَ حتى تخضع الأمـمُ
فإنما العصبة الغراء حارســةٌ تحمي حماك ومن أعداكَ تنتقـــمُ
و"عصبة العمل القومي" فتيتهـا كالجن إن حاربوا، كالأسدِ إن هَجَموا
دمُ العروبة يجري في عروقهمُ وما العروبة إلا المجد والشــمم...
- وفي النصف الثاني من القرن العشرين لم تغِبْ عن قصائد شعراء الفيحاء مأساة فلسطين، ولا أحداث الجزائر، ولا حرب السويس (1956) التي انتصر فيها الشعب المصري بقيادة زعيمه جمال عبد الناصر، ولا نكسة حزيران من العام 1967، ولا حرب تشرين من العام 1973 وعبور القناة وتحطيم خط بارليف.. كما لم يغب عن قصائدهم الإشادة بالبطل الثائر ابن طرابلس فوزي باشا القاوقجي الذي قاتل في فلسطين، ولا الاعتزاز بالمقاومة الباسلة في الجنوب، كما لم ينسوا الحرب الأهلية التي تعرض لها اللبنانيون ولا فظائعها... فقد كان لكل هذه الأحداث صداها في قصائدهم، وعبروا عن مشاعر الناس وعواطفهم، بحيث يصح القول فيهم إنهم فعلاً، كانوا ضمير المدينة وروحها.
- فالشاعر نديم عبد الفتاح الرافعي (1901) يشيد بثورة الجزائر، يقول:
الله أكبر يــا جزائرْ لاحت مصابيحُ البشائرْ
شهدَ الورى لك بالبطو لة والرجولةِ والعباقرْ
أبناؤكِ الأبــرارُ في الميدانِ مغوارٌ وثائـرْ
فليهنأ الشعب المنــا ضلُ والمقاتلُ والمغامرْ
- ونديم الرافعي يشيد بمآتي الرئيس عبد الناصر وبتأميمه قناة السويس. يقول:
الله أكبرُ ما أسمى مساعيكــا نصرٌ من الله فتحٌ في أراضيكا
مرحى جمالُ لقد حررتَ واديكا فالنيلُ والهرمُ العالي يُحييكـا
هذي القناة وقد عادت مكرّمـةً من ردّها لذويها غير أميريكا
عادتْ لمصرٍ بحمد الله آمنــةً عودا يسجل بالحُسنى أياديكـا
تزهو وتختالُ في تيهٍ وفي طربٍ والشعبُ يهتفُ تمجيدا وتبريكا
- وعطفت شعبان يحيي البطل القائد فوزي القاوقجي ويشيد بنضاله في فلسطين يقول:
سكِِرت بنشوة مجدك الفيحاء ومشتْ ترنح قدَّها الخُيلاءُ
وجهُ العباقرةِ الغُزاةِ سماتُـهُ أما الصفاتُ فشيمةٌ عرباءُ
خاضَ القتال بثائـر متوثب عصفت ببحر إبائه الأنواءُ
وثباته قامت على نور الهدى عين المغير بضوئها عمياءُ
نذرَ الحياة لربِه ولقومِــه فالروحُ بذلٌ والحياةُ وفـاءُ
- وأحمد عزمي خياط (1918-1994) يشيد بالبطولات والنصر الذي حققته القوات المصرية والسورية في حرب تشرين، وفيها يذكر اختراق خط بارليف وانهياره. يقول من قصيدة بعنوان: (خرافة تنطوي أو حرب تشرين الأول)
أنا إن طرِبتُ لوثبةٍ عبرتْ بهـا لُـجَّ القناة كتائبُ الشجعانِ
حملت الى الشط السليب وأهلـه أملَ الحياة بعزةٍ وأمــانِ
وأنت على "برليف" وهو مشيـدٌ حصناً يصد عواديَ الحدثانِ
شاؤوه درعا في الخطوب ومنعةً وملاذ أمنٍ ثابت الأركــان
ظنُّوه أبعدَ في المنال ومـا دروا أن القصيَّ على الإرادة دانِ
وإذا الجحافلُ من هناك ومن هنا في أرض سيناء وفي الجولان...
- وبمناسبة ذكرى استقلال لبنان يشيد الشاعر كامل درويش (1917-1993) بالاستقلال الذي حققه الشعب اللبناني بتضامنه وتآخيه. يقول:
إنا فتحنا بالاستقلال نــافــذةً على حياة الهنا والسـعد والنعــمِ
على الربيع يُغني في حدائقــه حباً تواصل في الشـطآن والقمـم
والحب روح بلادي من ولادتها إن ضاع منها فلا يبقى سوى الرمم
إن التآخي في الإسلام جوهرهُ ودينَ عيسى لغيرِ الحب لم يقُــم
ولكن الشاعر يسوؤه ان تتفشى الأحقاد والأضغان وتتلاشى المحبة في لبنان. فيقول منددا بالحال الذي وصل اليها لبنان. يقول:
..هذي بلادي في الأحقاد غارقةٌ تنامُ في ضغنٍ تصحو على نقـــم
فالحب عنها تخلى عندما كفرتْ بالله، بالحق، بالإنسان، بالقيــــم
تتلو المحبةَ أفواهٌ مشدّقــــةٌ وتمزج الكفُ سمَّ الظلم بالدســـم
أين المحبة في لبنان أبصرهـا لا تسمعوني بها في الآي والنغــم
هل المحبة في الأكواخ جائعـةٌ قدورها تُشبع الأطفال بالوهــــم
أم المحبة في قصر القوي طغى حتى تحول من أنسٍ الى رحـــم
يمتص بالبقي جهد الشعب تسعفه حريةُ "النهب": خذْ ما شئت واجترم
- ويتحدث الشاعر محمد علي منقارة (1920-1985) عن الجنوب اللبناني وعن تضحياته، وعن الشهداء الذين قدمهم في سبيل قضية فلسطين والقضية الوطنية اللبنانية، فيقول بمناسبة العمل البطولي الذي أقدمت عليه سناء المحيدلي بتفجير نفسها في مصفحات العدو الإسرائيلي في العام 1980:
زفّكِ المجد يا عروس الجنوب لحبيبٍ ممنّـع محجــــوب
لخلودٍ مكوكبٍ بأهازيـــج فــــداءٍ في الغيد بكرٍ رهيب
إذ تشظيت في انفجـار مهيبٍ مزّق اللحمَ في العــدو الجليب
ونثرت المصفَّحات كأشــلاءٍ ترامت فوق الصعيـد الخضيب
بدماء الغُزاةِ بعض جـــزاءٍ لطغــــاةِ التقتيـل والتعذيب
كنتِ فينا أولى الشهيدات أحيتْ ذكريات الماضي العتيد الخصيب
كنت فينا فجرا جديدا سنــاءُ شـق ليـــلَ اليـأس المميت
- أما الشاعر الدكتور محمود بصبوص (1927-1995) فيحث الشعوب العربية على الثورة على واقعها الانهزامي – بعد اتفاقيات كمب دايفيد. ويصف واقع الأمة العربية فيقول منددا بزيارة السادات للقدس، وبانفراط عقد الوحدة يقول:
دويلاتٌ كقطعانٍ نراهـــــا تناطح بعضها حينا فحينـــا
نداء (الوحدة الكبرى) شعــارٌ سمعناهم به يتشدقونـــــا
فلما قام قائمها تنــــــادوا الى إجهاضها متسرّعينـــا
وزج رجالُها في السجن ظلمـا بأصفاد الحديد مكبلينــــا
وشاعت في (الكفانة) شرُّ فتوى لمنْ خفضوا (لأمريكا) الجبينا
أمن أجـل السلام يساق شعبٌ إلى أعدائــه المستكبرينـا
وراح كبيرهم للقدس يسعى ويحضنُ (بيغن) الخصمَ اللعينا
فقال جزاءَ ما اقترفتْ يداه وأضحى عِبرةً للخائنينــــا
واختم هذه الشواهد الشعرية بأبيات للشاعر الدكتور خريستو نجم (1942) يصور فيها مآسي الحرب الأهلية في لبنان متحسراً على لبنان الذبيح، منددا باقتتال الإخوة في حرب عبثية مجنونة، ويسمي الأشياء بأسمائها يقول:
... فالأرض خرابٌ يا مرتا والريح عويلْ
ودماءُ الإخوة صارخةٌ لو يسمعها قابيلْ
لو يسمعُ صوت الهامة تسأل عن هابيلْ
عن يوسف في الجُبِّ رموه، عن هاجر
واسماعيل
عن أصغر طفل قنصوه، عن لعنة أي
قتيل
في المتحف والشياح وخطّ الشام وسنِ
الفيل
في المرفأ والأسواق، وحول النبعة والبربير
في برج المرّ وفرن الشباك وكل نقاط
التفجير
في الموت الزاحف مجانا يمشطنا في كل
رصيف
في الموت الأعمى يصرعنا قُدّامَ الفُرن
لقاءَ رغيفْ
في الأوتار المقطوعة من صوت الأخويّ
شريف
في الجسر الواطي والعالي
وبجسر الباشا والوالي
والسردُ طويلْ
يتعبني هذا العدُّ ويُتعبكم كحجارٍ تمطر
من سجيل
طرابلس بلد العيش المشترك
عندما نؤكد ان طرابلس مدينة العيش المشترك والانفتاح، ومدينة التآخي بين أطياف المجتمع الطرابلسي، فإننا لا نغالي، ولا نزور التاريخ. ففي طرابلس:
تتجاور المساجد والكنائس لتمجد الإله الواحد الأحد
وفيها تنعقد أطيب العلاقات الأخوية بين الجيران
وفيها يتجاور في البناية الواحدة سكان من الطوائف المختلفة
وفيها تنمو العلاقات الاقتصادية والتجارية
وفي نقاباتها المهنية الحرة يتناوب على رئاسة النقابة مداورةً، المسيحيون والمسلمون، مما لا نجده في غير نقابات طرابلس.
وإلى طرابلس يتردد أبناء المناطق المجاورة من زغرتا والكورة والبترون ومن بشري وحصرون وبزغون... للإقامة فيها شتاء، أو للعمل في مؤسساتها وشركاتها.. أو للترفيه في مقاهيها ومنتزهاتها وصالاتها السينمائية، أو للتبضع من أسواقها، فطرابلس أم الفقير كما يطيب لأهل الجوار أن ينعتوها... أو للتعلم في مدارسها ومعاهدها..
لن أتحدث عن موقف نبيل وطني رائع وقفَه في العام 1860 مفتي طرابلس الشيخ محمد رشيد ميقاتي، يوم "جمع إليه تلاميذه ومريديه وأوصاهم بالمحافظة والعناية بالمواطنين المسيحيين من عبث الجاهلين وأن لا يشغلهم شاغلٌ عن الاهتمام بهم وملاطفتهم، فصدعوا بأمره فصينت طرابلس من الويلات التي حاقت بسواها"... مما أهاب بفؤاد باشا مفوض الدولة العثماني في رأب الصدع ومجازاة الأئمة أن يأتي إلى طرابلس خصيصاً يشكر لها هدوءها وراحتها، وزار الشيخ رشيد في داره... مثنياً على فضله وغيرته الثناء الجم... (نوفل ص57).
ولن أتناول في مداخلتي مدرسة بكفتين الداخلية التي أسستها الطائفة الأرثوذكسية الكريمة وتسامحها الديني، والتي "مع أنها كانت أرثوذكسية النشأة والعمدة، ورئاستها الشرفية لأسقف أرثوذكسي، فإن روح التساهل الديني كان يرفرف بين جدرانها فكان المسلم يذهب للصلاة مع شيخه، في غرفة مخصوصة، وله أن يصوم شهر رمضان، وهكذا المسيحي الماروني كان يذهب لاستماع القداس في بعض الكنائس المجاورة..." (نوفل ص123).
وهي المدرسة التي كان معلموها "مختلفو المذاهب والنحل" (خوري، ملامح من الحركات الثقافية في طرابلس خلال القرن التاسع عشر، ص23).
ولن أذكر ما قاله الأديب المهجري حبيب مسعود ابن بشري عندما مر في العام 1948 في منطقة القبة فسمع نواقيس القبة تنشر النعي بدقاتها الحزينة المتقاطعة "فسألت فقيل لي: قضى اليوم وجيهٌ مسلم في القبة عُرف بفضله واشتهر بمكرماته ونبالةِ خُلقه.. فهتفت بداهةً كما هتف أرخميدس من قبل: "قد وجدتها! قد وجدتها" وجدت ما كنت أتمناه وأحلم به فوجدتُ ما دعوتُ إليه وما أدعو... هذه نواقيس النصارى تُقرع حزنا على محمدي، وتشارك المسلمين في رُزئهم، وتنعى لمعاشر النصارى رجلا صالحا عبد الإله ذاته الذي يعبدون، ولكن بأسلوب آخر. ما ضرّ كثرة الدروب إذا كانت كلها تؤدي الى المطحنة؟ وما ضرُّ تعددِ المذاهب إذا كانت كلها متفقة على جوهر واحد؟ ... ما معنى الدين إن لم يكن أساسه الإخاء وأركانه التسامي؟ وما شأن الدين إن لم تكن سُنَّته المحبة وشرعته التسامح؟
ولن أذكر ما أوردته مجلة الجامعة لفرح أنطون نقلا عن جريدة بطرسبرج الروسية عن سليم دي نوفل، من تقريظ حول كتاباته عن الإسلام: "ان قراء كتابات المسيو دي نوفل لا يقرأون في كتبه أقوال مستشرق من الدرجة الأولى وعالمٍ متضلع بالفلسفة واللاهوت فقط، ولكنهم يقرأون أيضاً كتابة رجل يجري في عروقه دمٌ عربي، ثم قال: إن سعادة سليم دي نوفل قد أوضح للأوروبيين مشكلات الفقه الإسلامي، وهو يثني في كتاباته على العرب وعلى روحهم العظيمة.." (التراجم، ص121).
لكنني سأتناول في مداخلتي العلاقات الأخوية التي كانت تربط بين مثقفيها من أدباء وشعراء ومفكرين، مقيما الشواهد على سمو هذه العلاقات ونبلها.
1 – وأبدأ بتكريم الساعر عبد الحميد الرافعي في العام 1929 بمناسبة يوبيله الذهبي.
كانت لجنة التكريم برئاسة رئيس مجلس النواب – آنذاك – الشيخ محمد الجسر وضمت في عضويتها أدباء مسيحيين ومسلمين. من المسيحيين نذكر: جرجي يني المؤرخ – سابا زريق شاعر الفيحاء – لطف الله خلاط صاحب "الحوادث" – يعقوب الصراف – عبد الله نوفل (صاحب كتاب تراجم علماء طرابلس وأدبائها) وموسى نحاس، والدكتور ميشال رحمه والصحافي يوسف نصر صاحب "الرقيب".
ومن المسلمين: قاضي الشرع الشيخ أمين عز الدين – سامي صادق – عبد الحميد كرامي – كاظم ميقاتي – مصطفى عادل الهندي – الشيخ نديم الجسر – هاشم الذوق – الدكتور حسن رعد – والدكتور رشاد حجه.
وقد تبارى الشعراء في مديح الشاعر المكرّم وتقريظ شعره. ومن الشعراء الذين كرموه:
- سابا زريق – الشيخ اسماعيل الحافظ – نديم الملاح – فؤاد الملاح وعبد الستار السلطي – جمال الملاح.
ونكتفي ببعض أبيات من قصيدة الشيخ اسماعيل الحافظ: يقول
لمن القريض صفت إليه الهامُ وأحاطهُ الإعجابُ والإعظامُ
لم أدرِ حين بدتْ طلائعُ آيـهِ فكرّ يجود بهنّ أم إلهـــام
يتألق الإبداع فيه وفوقــه من هدْي أعلامِ الهدى أعلامُ
والقصيدة طويلة في 76 بيتاً.
- وعندما أصدر عبد الله نوفل كتابه المرجع (تراجم علماء طرابلس وأدبائها، وترجم فيه لماية وخمسين شاعرا وناثرا وعالما جليلا... تبارى الأدباء والشعراء والعلماء في تقريظه والثناء على الجهد الكبير الذي بذله مؤلفه.
من الذين قرظوا الكتاب: الشيخ محمد يمن أفندي الجسر رئيس المجلس النيابي اللبناني – الشيخ اسماعيل افندي الحافظ مفتش المحاكم الشرعية في حكومة فلسطين – العالم الجليل والفاضل النبيل عبد اللطيف أفندي سلطان مدير تحريرات طرابلس سابقا – الألمعي والكاتب الضليع الخواجة وليم كاتسفليس من كبار أدباء الجالية السورية في الولايات المتحدة – شاعر الفيحاء الغريد الاستاذ سابا أفندي زريق – الشاعر المجيد الرقيق جميل افندي زريق – الشاعر المتفنن المطبوع الحاج محمد فؤاد أفندي الملاح – الشاعر الناثر الأديب انطونيوس أفندي بركات (التراجم ص286 – 295).
ومما قاله الشيخ محمد الجسر في تقريظه، وبه يختم رسالته الى عبد الله نوفل:
"ولقد كنت اتتبع تراجم العلماء والأدباء الذين أتيت على ذكرهم في "مباحثك" فأشعر بثقل المسؤولية الأدبية التي حملتها على منكبيك، وألمس ما كنت تعانيه من المتاعب والمشاق في سبيل الحصول على ما وصلت إليه وتم تحقيقه على يديك.
أخذ الله بيدك في عملك، وأيدك بروح من عنده، وحفظك للتاريخ والوطن ذخرا ونصيرا. لقد تعبت كثيرا فحق لك الحمد وخيرا والثناء كبيرا". (التراجم، ص289)
3 – وعندما توفي عبد الحميد الرافعي: نشر في رثائه شاعر الفيحاء سابا زريق قصيدة مطلعها:
عمادَ القوافي لا أجيئك راثيا فما زلت حيا تستحث القوافيا
وكان سابا زريق على علاقة وثيقة بالكثير من رصفائه شعراء المدينة وأعلامها. لذلك لا نستغرب أن ينطلق لسانه، ولا سيما بالرثاء، فقد رثي الشيخ محمد الجسر في الحفلة التأبينية الكبرى التي أقيمت في كلية المقاصد في بيروت بقصيدة عنوانها (ما مات) في 65 بيتاً مطلعها:
في ذمة الله والتاريخ ذكراه طودٌ هوى فأعلَّ الأرز مهواه
ورثى كذلك الدكتور عبد اللطيف البيسار الذي كانت له أياد بيضاء على مدينته بقصيدة من 45 بيتا، مطلعها:
مصيبةٌ حلّت على المبضع لو كان يدري ما الأسى أو يعي
كما رثى كذلك الشاعر عبد الستار السلطي بقصيدة مطلعها:
ولّى وخوفُ الحق ملءُ إهابه وأطايب الأخلاق من أطيابه
ولسابا زريق موقفان لا بد من تسجيلهما، وقد سجلهما شعرا:
الموقف الأول: قصيدة شارك فيها في عيد المولد النبوي الشريف، مطلعها
فاضى نورٌ مُذهّبُ اللألاءِ رابيا كالعُباب في الأجواء
وفيها يقول:
اليتيمُ الأميُّ يرفعـه الله سماءً ما فوقها من سمـــاء
فجّرَ النورَ طفل يثرب فا نشقَّ حجاب الغواية العميــاء
وجلاها للخافقين صِراطا شرعة العدل والهدى والمضاء...
والموقف الثاني: إشادته بزيارة وفد كبير من المسلمين في عيد الميلاد لمطرانية الروم الأرثوذكس. يقول:
قوموا انظروا ثمّ أعجوبةً تكذّب في الشرق ذاك المحالْ
فإني رأيتُ، وبي دهشةٌ صليبَ المسيح بقلب الهـلالْ
ومن الأمانة أن نلفت على ن الشاعر سابا زريق لم يكن طائفياً ولا مذهبياً اسمعه يقول من قصيدة عنوانها (دين الإخاء)
لا الدين يرضيني ولا دعواته إن فُسِّرت معتلةً آياتُـــــهُ
تلك الشريعة لا شريعة فوقها عندي وكل فتىً له نظراتُـــه
والناس عائلةٌ يؤلف بينهــم أصلٌ نمت من طينةٍ ذرَّاتـــه
الدين لا يسطيع ربطَ قلوبهم بسوى الإخاء متينةً حلقاتُـــه
كم مسلمٍ عندي غداة وزنتُهُ رجحتْ على ابن عقيدتي وزناتُهُ
الدين للديان، أما في الثرى فالدين أن تبني الإخاءَ بُناتُـــهُ
وناصيف طربيه صاحب جريدة "الأجيال" الطرابلسية يهنئ الشيخ أمين عز الدين بمناسبة تعيينه قاضياً شرعياً في طرابلس. يقول من قصيدة:
مقام الشرع في الفيحاء سامٍ لـه في كل معضلة شؤون
فكيف وقد علاه اليوم شهم لــه الأحكام في فقه تدين
له في الدين والدنيا مقـام وفي متن القضا رأي مبين (ديوان الشعر الشمالي)
ويقول في رثاء عبد الحميد الرافعي من قصيدة مطلعها:
خطف الحِمام حياة كبر شاعر في قطر سوريا وفي البيداء (ديوان 2009)
ويرثي الشاعر عبد الكريم شنينة الأديبة والشاعرة ابنة طرابلس ناديا نصار، فيقول من قصيدة طويلة (60 بيتاً) مطلعها:
لا تسلني عشيةَ الأحزانِ عن شموع الحروف والألوانِ
وفيها :
ناديا، ناديا، أرجعُ نــداءٍ أنتِ، يا أختُ، أم أنين كمانِ
أم صدى زهرةٍ تفاوح لحنا في تقاسيم ريشةِ العجّــان
ويصف سقمها وأوجاعها فيقول:
هدّكِ السُقم وابتلتك المقــا دير بأرزائها وبالحدثــانِ
فتماسكتِ هيطلاً من غُصونٍ وتناثرت ضوعاً من بيـانِ
إنها روحُك الطهورُ تهاوت في سطور القلوب والديوانِ
وأختم بالإشارة الى ان الرابطة الأدبية الشمالية التي أسست في العام 1938 ضمت أدباء من طرابلس وأقضية الشمال، وفي مجلتها "الأفكار" تقرأ أسماء.. فإلى المؤسس جورج اسحق الخوري – حسيب غالب – يوسف الخوري يونس – أحمد الصافي النجفي – يوسف مراد – أسعد السبعلي – انطون عيسى الخوري – عبد الله شحادة – ضياء الدين عارف – ضياء فكري – أكرم الصوفي – جيهان غزاوي – الشيخ علي مطرجي – ثريا صوفي – محمد علي منقارة – وجيه الأيوبي – مظهر علم الدين – علي شلق – صلاح الدين جمال ...الخ.
كما ان المجلس الثقافي للبنان الشمالي الذي أسس في العام 1970 كان مؤسسوه أدباء وفنانين وشعراء مسيحيين ومسلمين، من طرابلس وأقضية محافظة الشمال. فقد ورد في محضر الجلسة الأولى أسماء الذين حضروا الاجتماع الأول التأسيسي وهم السادة:
طه الصابونجي – يوحنا قمير – يوسف الخوري – الأب بطرس ضو – حسن الحجة – جبران جبور – نجدة هاجر – فضيلة رفاعي – فوزي غازي – صلاح مطر – فريد نجار – ادوار بستاني – جورج ديب – حسيب غالب – نسيم نصر – الفرد خوري – شفيق جحا – عبد المجيد نعنعي – ميشال بصبوص – يوسف سعد الله الخوري (المحضر مؤرخ في 29 حزيران 1969. والاجتماع انعقد في قاعة بلدية طرابلس).
مؤتمر: طرابلس العيش الواحد
27-28: فندق كواليتي - إن
د. هند الصوفي
من الخاص الى الخاص: المرأة والنضال الصامت
"تؤمن بشيء وتعمل بما لا تؤمن به محاولة الجمع بين التحرر والتقاليد"
جبران
حاولت العبور من بوابة المؤتمر للبحث والتنقيب عن المرأة في طرابلس ومعضلات العيش الواحد. وبالمناسبة أود أن اشكر إدارة المؤتمر على أهمية هذا العنوان. لا يجوز أن نفقد تاريخا وتراثا إن أردنا أن نستشرف المستقبل، وأن نضع له أسسا نستمدها من قيم متجذرة، علها تحد من أزماتنا "اللبنانية".
"طرابلس العيش الواحد" عنوان نابع من الذات المتمثلة في الشخصية الطرابلسية وفي خيارات أهل البلد. قد يكون هذا المصطلح أكثر أخلاصاً من كل معاني التضليل التي تفرضها حال "العيش المشترك" بما هي شعار يشوبه أكثر من تناقض، اصطنعه الفكر السياسي اللبناني. يوهمنا أننا نشارك في رسم السياسات العامة والعمل السياسي، ويوهمنا بالمساواة أمام القوانين، بينما هو يقوم على فكرة مناقضة للثوابت والمبادئ الديمقراطية بدءا من تقسيم المجتمع إلى طوائف، ومن نظام المحاصصة بين هذه الطوائف. فلا معنى أن تكون مبدعاً في خدمتك للشأن العام، ولا صادقاً في وطنيتك وبارعاً في اختصاصك، الأبواب موصدة في وجهك إن لم يكن لطائفتك مقعد متاح في مجال عملك. كم من المواهب تنطوي وكم من التنازلات تقدم لأنك عاجز أمام هذه الحواجز! "العيش المشترك" يفرض قدره، من حيث تطرفه أمام مسارات التطور، أما العيش الواحد فهو تلقائي، عفوي، مبني على المحبة والحرص في تفادي الفتن، والاحترام الذي تفرضه الأديان، وهو مترسخ في شخصية أهل المدينة تاريخيا. فما كان دور المرأة بين قيم العيش الواحد والعيش المشترك؟ وكيف لنا أن نستثمر هذه الدراسة في بناء فكر جديد واستشراف النظم المرنة والآيلة إلى بناء دولة الحق...
ارتكز هذا البحث على المقابلات الشخصية أولا، وقد تمت مع غالبية الجمعيات النسائية في المدينة، مع القيادات السالفة أو أهلها أو من عقبها في إدارة الجمعيات. ومع الذاكرة الشفهية المتنقلة في شخصيات عاصروا أحداثاً وحفظوا تاريخا من الرجال والنساء على حد سواء. كما تم الاستعانة باستبيان لمسح المعلومات في دراسة للمجلس النسائي اللبناني عام 1993، وكانت حصتي الجمعيات النسائية في طرابلس والشمال. إضافة الى استبيان خصص لقياس الأدلة التي تشير الى ممارسة طائفية/لاطائفية من خلال السلوكيات الإنتخابية، والى وعي نسائي/نسوي وإلى برامج مشتركة، ورؤى وطنية وردات فعل إبان الأزمات. شملت الإستمارة بطاقة تعرف على الجمعية، وعلى الأوضاع الديمغرافية والاجتماعية والمهنية للمنتسبين فيها، إضافة إلى اتجاهاتهم ومواقفهم تجاه الديمقراطية والتنميط الجندري، وسوف نوجز مؤشراتها ومبيناتها خلال البحث... وقد كان لي الحظ أن أشارك بالعديد من المواقف والآليات، بحكم وجودي في صلب العمل النسائي اللبناني، وأن أتابع النشاطات عن كسب، وان أقوم بكل موضوعية بمراجعة وتقييم ونقد للذات، قبل الإفصاح عن خصوصيات العمل النسائي والعيش الواحد... أين العيش الواحد من الخطاب النسائي، ماذا حملت المرأة من منطلقات للتأثير في العام، او للتغيير في بنى مؤسساته. وهل اثر ذلك فعليا على هويتها العامة والخاصة؟ سوف نقسم البحث إلى 3 مراحل تاريخية، لكننا لن نلتزم بالسرد إلا بما هو مفيد بإشكالية العيش الواحد:
- فترة ما قبل الاستقلال، من الخاص إلى العام: التعليم والتأسيس
- من الاستقلال إلى الحرب الأهلية: العصر الذهبي
- الفترة المعاصرة: تفاعل قضايا الجندر
1- فترة ما قبل الاستقلال، من الخاص الى العام: التعليم والتأسيس
بدأ السجال مع قاسم امين قبل ان تسترده النساء الطليعيات وصحافة المرأة التي راجت بمسعى عام من الرجل والمرأة على حد سواء. دعى قاسم امين في "تحرير المرأة 1899"، و"المرأة الجديدة 1900" الى الإمتثال بالحضارة الأوروبية، فاتخذ موضوع المرأة منحا وطنيا أثار ضجة كبيرة. حيث أن التخلف العربي هو نتيجة لتخلف النساء. وقد أصبح هذا الموضوع في اخذ ورد طوال نصف قرن. علما أن رفاعة الطهطاوي في كتابه "المرشد الامين في تربية البنات والبنين 1872"، قد تسبب في قرار تعليم الفتاة، وتناول مسائل الحجاب. مما دفع بالمناضلات المتحررات إلى الكتابة في "المؤيد"، كالباحثة ملك حفني، ولاحقا هدى شعراوي التي أيدتها وقادت مسيرة النساء في مصر وبلاد الشام. من هنا، لم يكن تحرير المرأة نتيجة لجهود أحادية أو نسائية ولو بمبادرة رجالية، بل نتيجة عناصر مختلفة سياسية وأدبية ومتحولات اجتماعية نهضوية تؤيد الانفتاح على الغرب مع الحفاظ على الهوية والذات.
في لبنان دعى فارس شدياق وبطرس البستاني إلى تعليم الفتاة منذ 1849. بدأ التعليم لدى الطبقات العليا والمسيحية منها خاصة بفعل افتتاح مدارس الإرساليات الأجنبية التي رعت تعليم الإناث في القرن التاسع عشر. في بادئ الأمر كانت التلميذات من الطائفة المسيحية، ومن ثم شاع الإختلاط بين الطائفتين حين أدخل وجهاء المدينة بناتهم إلى هذه المدارس من اجل التعليم، وكن قلة في بدايات القرن العشرين. وكانت العلاقة بين الراهبات والاعيان والفعاليات جيدة جدا. تتكلم الذاكرة المدينية عن نخوة الشيخ محمد الجسر الذي امن الاعاشات للراهبات أبان الحرب.
فلا نستغرب أن باكورة العمل النسائي ولدت مع رائدات مسيحيات متعلمات انشأن الجمعيات من اجل دوافع إنسانية من جهة، ولتوظيف معارفهن بعد التخرج. هذا وكن قد اكتسبن مفاهيم حقوق الإنسان ومعارف الانفتاح الذي تنشره الإرساليات الأجنبية بالذات.
كان التعليم على "غفلة من الزمن الأنثوي" على حد تعبير عزة بيضون، وهو الزمن الذي يحين معه سن الحجاب والتحضير للزواج. ولما قامت الحرب الأولى، كانت سياسة حزب الاتحاد والترقي ترمي الى تتريك البلاد عن طريق المرأة، ودخل في عداد برنامجها تحرير المرأة في الأقطار العربية-العثمانية، وتعليمها باعتبارها الأم، فأوفدوا إلى بلاد الشام فريقا من المعلمات التركيات، وقد صادروا المدارس والكليات الاجنبية المقفلة بسبب الحرب وتسلمتها هذه البعثة. في البدء، اقبلت الاوساط الشعبية على هذه المدارس. وكانت سببا في إرسال عدد من البعثات التعليمية النسائية الى تركيا لتلقي العلم والعودة للتعليم في تلك المدارس. وسعى عزمي بك والي بيروت الى تحرير المرأة راغبا في رفع مستوى المسلمة الى مستوى غيرها من المواطنات "يعني المسيحيات"، فانشا في بيروت ناد للفتاة المسلمة عام 1917.
في هذه الأجواء، وصلت السيدة القديرة "ناجيا خانم" وأختها إلى طرابلس حيث عينت مديرة لأول مدرسة رسمية للبنات ( مدرسة النموذج اليوم). يتكلم الجميع عن شخصيتها الكبيرة وعن فهمها وعلمها وعن تفانيها في العمل، فانفتحت أمامها بيوت أعيان المدينة، وقد ظلت الى نهاية حياتها فيها ودفنت هنا. كانت تسكن مع أختها ولم تتزوج بالرغم من التقدير الكبير الذي كان يكنه اليها العديد من رجالات المدينة... وقد تجاوبت إلى حد كبير مع نبض المدينة، وتتذكر التلميذات المسيحيات والمسلمات هذه المديرة التي شجعت المواهب والخطابة والمسرح في كنف المدرسة، وكان لديها تصميم على ترقية الفتاة. وقد تألقت من بين معلمات اللغة العربية أليس المرج (عن سليمى الخطيب)، وساميا شمبور فيما بعد. بينما كانت معلمات اللغة الفرنسية من فرنسا. يتبادر لنا وفقا لأقوال المستجوبين، أن المدرسة كانت خير مجال للقاء بين البنات والمدرسات من كل الطوائف حيث بدأت تحاك الصداقات. فعليا كان لكل حارة سكانها، ولو أن الأوقاف والأراضي كانت مشتركة (حارة النصارى وحارة اليهود). وكان الإختلاط رائج بين الرجال وفي المقاهي، ينتقل إلى النساء ولو بشكل محدود لدى فئات كانت ترفض الكشف أمام الرجل.
- يعود تسجيل الجمعيات النسائية إلى العام 1899، تاريخ إنشاء "البر المسيحي" التي أسستها مريانا المر. كان هدفها ديني اجتماعي، وكانت تجمع في بيتها السيدات الاميات لتفسر لهن الرسالة والانجيل، ولتهيئهن اجتماعيا. وكن يستشرنها بكل قضاياهم العائلية. من ثم تطورت لتطال فئات من الفقراء تساعدهم عينيا وماديا. بعد وفاة السيدة المر، أوقفت الجمعية الى حين تأسس "بيت الشيخوخة" في الميناء بإشراف المربية الكبيرة ناتالي عازار التي استحوذت على اسم الجمعية للاستفادة من العلم والخبر مع الجهات الحكومية.
- "السيدة الأرثوذكسية لعضد اليتامى (1906)"، اسمها يدل على هويتها، تأسست على يد البطريرك غريغوريوس حداد حين كانت البلاد تعاني من وطأة الاحتلال العثماني. فاستدعى مجموعة من السيدات وخاصة المتعلمات لتأليف جمعية وضع لها خطة عمل من اجل إعانة اليتيم. لبيبة صدقة، ماتيلدا كرم، زهية صائغ، هيلانة كرم، اليصابات رملاوي، حنة عازار والكاتبة برت بندلي من الاعضاء، ولاحقا اصبحت بوليت كرم رئيسة متميزة بعلمها وانفتاحها وقدرتها التمويلية وفصحها في كتابة الاشعار وسردها باللغتين العربية والفرنسية. بنت الجمعية الميتم الارثوذكسي (1958)، وأنشأت بيت الطالبات (1991) من اجل مساعدة الطالبات في متابعة دراستهن في الجامعات.
- أما "الجمعية الخيرية المارونية للسيدات"، وسميت أيضاً جمعية إغاثة الفقراء للسيدات المارونيات، فقد أنشأت في دوائر كنيسة مار مارون عام 1920، وحصلت على علم وخبر 1946. رئيستها "ايلين الجميل رفول"، ومؤسساتها ماري رحمه، هند رحمة، وماري لشيا بولس والسيدة ماري الحاج رفيع. اهتمت في مساعدة الفقراء والمحتاجين والمرضى والمنكوبين. وكما يتبين من أسماء العوائل، فإن غالبية العضوات من الاقضية المحيطة بطرابلس ومن الذين نزحوا إلى المدينة طلبا للعلم وللتجارة. وكانت طرابلس آنذاك مركزا تجاريا وإداريا هاما بعلاقته بولاية الشام من جهة وبالمدن اللبنانية من جهة أخرى. فطرابلس مدينة قديمة إذا ما قورنت ببيروت الحديثة العهد.
- "جمعية نهضة السيدات الأرثوذكسية (1924)" تأسست بمبادرة كريمة من رجالات من عائلة غريب وأقرباءهم من أجل تعليم بنات الطائفة، فقدموا الأرض بجوار كنيسة مار جاورجيوس (عائلة غريب ومسعد). وكلف إلى السيدات برئاسة كريمة صيبعة عاصي مهمة إدارتها. أنشأت "مدرسة البنات الوطنية للروم الارثوذكس" بتشجيع من المطران طحان راعي ابرشية طرابلس. عملت السيدات في الخياطة والتطريز وتقديم الزهر في المآتم والافراح بهدف التمويل. وقد دعمها الميسورون من الطائفة، وكافأها البطرك بتقديم قطعة أرض في الزاهرية. من مينرفا دموس غريب التي أنشأت القسم الثانوي وفعلت العلاقات بين الطوائف، إلى انجال صراف والسيدة الفاضلة ايميه نحاس أطال الله بعمرها والتي أفاضت بالتبادل والانفتاح القائم بين الطوائف عل غير صعيد، بدءا من طلاب المدرسة التابعة للجمعية حيث درست، إلى الجمعيات حيث نشطت والتقت مجددا مع أصحاب العمر من الطوائف الأخرى. فأدى هذا التخالط إلى المشاركة في العادات خلال صيام رمضان والفصح. تؤكد السيدة نحاس على دور أباها الذي كان يتردد الى المقاهي، ملتقى أعيان البلد من الطرفين، والذي كان يصر أن تسلم على أصدقاءه متى جاءوا البيت... وحتى لما توفي أخاها، أغلق سوق التل خلال مرور جنازنه.
وكنا آنذاك في نهاية الحرب الأولى التي تعتبر نقطة تحول مهمة في تاريخ المجتمع اللبناني الحديث: من الاعلان عن ولادة دولة لبنان الكبير وانجاز الدستور وتوزيع المناصب على أسس طائفية، الى الاحصائيات التي أشارت الى تقارب بين عدد المسلمين والمسيحيين، ومن ولادة العمل الحزبي والحركة النقابية إلى رفع شعارات مطلبية ووطنية أهمها المساواة في الحقوق وبين الرجل والمرأة وحماية الطفولة ومنع تشغيل الأطفال والتعليم الإلزامي ودخول المرأة إلى سوق العمل والحق في العمل والتعليم والأجر المتساوي، لعبت الصحافة الدور الأساسي في طرح قضايا المرأة ومشكلات السفور والحجاب والمشاركة في العمل السياسي والنشاطات الفنية. وقد قدر الزعماء أعمال المرأة بحيث أن المؤتمر السوري ناقش عام 1920 مسالة انتخاب النساء. لكنهم لم يتفقوا والسبب كان وما زال "عدم ملاءمة الظروف القائمة".
- وتنوه أيميه غريب نحاس إلى الدور الهام الذي لعبته "اقبال ذوق عزالدين" في التقارب بين الطوائف من خلال الصليب الأحمر الذي أسس عام 1925 حيث كان فرنسيا- لبنانيا وقد تميزت السيدة غرة النقاش في تطوعها آنذاك بالقرب من سيدة مجتمع راقية من ال الصراف (عن السيدة القنصل هيلدا مسعد).
ويعود للسيدة عز الدين الدور في تأسيس فرع الصليب الأحمر اللبناني في طرابلس (1946)، وفي جعله إطاراً موحدا لنخبة نسائية فاعلة لا يهم من اي طائفة أتت. مما صهر تكوين الشخصية النسائية الطرابلسية ودورها في المدينة. ومن شخصياته الأوائل ماجدة شعراني التي أعطت دروسا في التفاني بالعمل التطوعي، ونجوى علم الدين ومنيرفا غريب وليلى حبيب. تميز بنشاطاته التمويلية التي بدأت عند راهبات المحبة (العازارية) بأعمال تقليدية من المطرزات وثياب الأطفال من اجل دعم حضانة الأطفال القائمة لديهن. ومن ثم انتقل الأعضاء الى السرايا حيث أنشأوا أول مدرسة للتمريض. وقد رعى احتفالاته السنوية كبار الشخصيات المحلية. يذكر ان محاضر الجلسات كانت تدون باللغتين العربية والفرنسية، وكان هنالك كاتبتين...
- حاملات الطيب الأرثوذكسية (1936)، حديثة العهد والطرح، أهدافها عمل الخير والاحسان ومساعدة البؤساء ولها دار عجزة. أسستها ادما قيصر نحاس، ادال نعمة خلاط، فوتين عبد الله خلاط، وادال يوسف خلاط والقنصل هيلدا مسعد. لعبت شخصية هذه الأخيرة دورا بارزا في صلة الوصل مع جمعيات بيروت وخاصة بعد الاستقلال وبعد إنشاء المجلس النسائي اللبناني حيث كانت أول من شارك في هيئته الإدارية ممثلة أهل الشمال. وكانت قد أتمت دراستها في راهبات المحبة طرابلس ومن بعدها لدى راهبات البوزانسون في بيروت. هذه الجمعية تزامنت مع بداية إنشاء الجمعيات النسائية لدى الطائفة الأسلامية.
في حين وجدت الجمعيات النسائية الإسلامية في بيروت منذ العشرينات حيث شاركت السيدات في مؤتمرات قامت في بيروت(1928) والشام (1933)، وكانت المطالب النسائية تنادي بإلغاء الحجاب، وبحقوق البنت في الزواج وفي التعليم، وبالقضايا الوطنية ومنها تمتين اللغة العربية وتاريخ العرب وتشجيع الإنتاج الوطني، وبالقضايا الاجتماعية من حماية الطفولة والشباب والكهولة ومحاربة عمل الحانات والقمار والخمر... أما في طرابلس، بدأت الخطوة خجولة. والباكورة هي "دار اليتيمة الإسلامية" (دار اليتيمة 1935-1936) أسست على يد خيرة من السيدات مجملهم من آل الذوق (متمولون ولديهم بنك ذوق وعبد الواحد)، وعلى رأسهم إقبال وعلية الذوق. وقد تألقت شخصية إقبال ذوق عز الدين لأنها أول من تمرد على الحجاب مستبدلة إياه بالقبعة على الطريقة الأوروبية. الكل تذكر القبعة فقط، وللأسف نسي ما هو أهم. فالقبعة رمز للتفرنج، ولتقليد الأجنبي ومن خلاله المسيحي الذي يمثله وينتمي إلى ثقافته. إضافة إلى أنها مدلول لجانب غير مقنع في خطاب المرأة التحرري. ولكن ، هذه السيدة كانت شجاعة في انجازاتها، لها هيبتها الإنسانية، حازت على احترام الجميع واستمالت أهل الخير إلى قضيتها. فكان ان أنجزت دار اليتيمة التي ما زالت من المنشآت الأساسية في شارع عزمي بك.
- بعدها بسنة، أنشأت جمعية رعاية الأطفال النسائية برئاسة عليا ذوق شوقي(1937) وكوكبة أخرى من آل الذوق الكرام. وتعود أهمية هذه الجمعية من جراء الطرح الراقي لمشروعها. مشروع طليعي بامتياز، يعبر عن إضافة جديدة للمرأة المسلمة في المدينة، وانطلاقة لوعي نسائي/وطني/ مجتمعي كما سنبين. هنا بالذات، لم يقتصر التبادل على "تقليد" المسيحيات، ولكن كان إيماناً بأهمية دور المرأة المتفاعلة مع رياح الأفكار النهضوية والتقدمية والحداثية معا. في حين كانت الجمعيات تبرز انتماءها الديني في اسمها، اختارت النسوة الخطاب التربوي التعليمي والتوجه الوطني المقاوم ، وألصقت بها صفة "النسائية" بدلا من الإسلامية. وقد طمئنت جمهورها و"الرجل الطرابلسي" بالأساس عن حسن نيتها في طرح شعارا قوميا وطنيا مغايرا للسائد "الرعائي والخيري". وخير ما يعبر عنه هذه الكلمات التي أخذتها من بطاقة دعوة ارسلت للسيدات من أجل دعم إنشاء الجمعية. وقد ذكر من تذكر ان الفكرة تعود إلى يمن بحيري (ام رضوان الشهال). تبدأ الرسالة الظريفة والأنيقة في شكلها وطباعتها في الدعوة إلى منزل والدها المرحوم "أبو كامل البحيري". ربما كان لدى هذه العائلة مطبعة على ما أتذكر، إذ زوقت البطاقة بصور ثلاثية الأبعاد، لا تمت إلى التحريم التصويري بأي صلة: امرأة عصرية أنيقة شاعرية مع ابنة في حجرها، تقاطيعها أجنبية، تؤشر إلى أهمية التحديث والاقتباس عن الغرب كمنحى جديد حدد خطوط الحياة العصرية. يقول البرت حوراني أن العائلات البرجوازية كانت تقلد الأوروبي وباتت تقتني اللوحات الزيتية لتزين فيها البيوت. إلا ان ما يثير انتباهنا هو موقف المسلمة المتعلمة والمتمرسة في العمل الجماعي. فالدعوة هي للاطلاع على قانون الجمعية، وعلى انجازاتها في الستة أشهر الأولى من تأسيسها، "وتراها مناسبة لمد يد العون أما بدفع الاشتراك 150 غرش سوري، او ما تسمح به نفسك لهذا المشروع الحيوي الجديد الضروري لبلد ربينا به وعشنا فيه". وتتابع "وانت يا سيدتي تعلمين قلة المدارس الوطنية عندنا وتعلمين ولا شك حاجة أطفالنا لمدرسة تربهم على المبادئ القومية الصحيحة التي هي الحجر الأساسي في بناء المجتمع ومصيبتنا الكبرى هي تعدد المدارس الأجنبية التي تبث كل منها روحا تختلف عن الثانية لذلك اختلفت الميول وتشعبت الأهواء وذهب كل فرد منا مذهبا بعيدا عن وطنه وقومه. فمن يأخذ على عاتقه مهمة تثقيف هؤلاء الأطفال وتربيتهم لهو أمر يتوقف عليه رقي الأمة وازدهارها واستقلالها... فتكسبين شرف العمل لإعلاء شأن الوطن والله ولي التوفيق" (انظر الملاحق). اذا، بإسم الوطنية والقومية والاستقلال يتبلور خطاب المرأة مبينا وعيها السياسي. ويترجم في العام في إنشاء صرح تعليمي يعتمد على أساليب ووسائل التربية الحديثة، وعلى بناء الفرد كمواطن صالح، وعلى عدم تخصيص هذا المشروع بالإناث بل بالجنسين. وكما يبدو، بادرت وكانت سباقة إلى تصميم لوغو خاص بها (ملحق رقم 5). وكما يتبين لنا، يشير "اللوغو" الى رسم مقتبس عن الغرب، يرمز للأمومة، وللسيدة العذراء، رمز الأمومة والتضحية. اختارته السيدات دلالة لجمعيتهن، عن قصد او غير قصد، قد يدل ذلك إما عن عدم رفض للرموز المسيحية متى دلت على أهداف الجمعية، إما عن عدم معرفتهن بالتراث الفني الغربي، وبالتالي، فهذه الصورة تمثل الأمومة التي تخاطب من خلالها الرجل والمجتمع، لطمئنته عن دورهن الأول كأمهات. وما يضيف هذه الصورة هيبة ووقارا واقتناعا، هو حجاب المرأة/الأم/العذراء...
تميزت هذه الجمعية ليس فقط بالخطاب والشكل الحديث، بالأساليب المبتكرة لتمويل نشاطاتها. استقطبت من المتعلمات ممن تطوعن في التعليم، وسجلت أطفالاً من غير المسلمين، وعملت في أعداد المسرحيات، واختارت لها أبطالا من مدارس البنات (مدرسة ناجية خانم)، ودربتهن على التمثيل، ليقدمن عروضا للنساء على مسرح البيروكه الشهير في التل (وادي العقيق)، أو في مدرسة الروم. وكانت مناسبة لتبادل الخبرات وإرساء قواعد العيش الواحد والمحبة والمساعدة لمعية مسلمة ناشئة. لهذه المسرحيات أبعاد وقيم أخلاقية، فلم تذكر البطاقة اسم البنات الممثلات اللواتي قمن بكل الادوار الرجالية والنسائية (ملحق 6). وكما وقد تضمنت البطاقة المزينة والمطبوعة في مطابع الاحد/بيروت النص التالي: "الرجاء عدم اصطحاب الأطفال والخادمات".
هكذا بنيت المدرسة طوبا طوبا، ونجحت في استمالة العناصر الشابة التي قدمت ما قدمت من عطاء بسبب أهدافها النبيلة. ام نزيه ذوق مظلوم تفصل "النزالات" وتبيعها، والسيدة صباحات صابونجي تقيم دورة في الطبخ وتحضير الحلويات، وتبيع الغاتو لصالح الجمعية، والباقي ينظمن حفلة تنكرية لاقت الصدى الحسن... من هنا نرى كم تميزت هذه الجمعية في نشاطاتها، إذ تخطت معارض المطرزات التي كانت أساساً لعمل المرأة في الجمعيات، وركزت على نشاطات ذات بعد ثقافي من مسرح إلى استقبال شخصيات وشعراء (عمر الزعني وقرادياته...)، وعملت كثيرا من اجل توعية المرأة والأم في مجال الصحة والتربية.
ومن السيدات اللواتي أسسن وعملن فائقة ويمن الميقاتي، وأم عفت سلكا (شخصية ظريفة، كلمتها نافذة في مجتمع النساء والرجال في المدينة)، فوزية فضح الله ميقاتي، ويمن ذوق وطبعا السيدة نبيلة كبارة ذوق التي شغلت مركز رئيسة لاحقا. أما هند ذوق، فقد مثلت الجمعية مرارا في بيروت للتنسيق مع التحركات النسائية المطالبة بالحقوق السياسية للمرأة. وكان علاقات التبادل وطيدة مع المقاصد ومع ابتهاج قدورة ومع الاتحاد النسائي العربي...
سارت الجمعية، تكبر وتتطور سنة تلو الأخرى، والقيمون عليها يعملون بصمت ويتطوعون ويندفعون، ولا يمكننا أن ننسى الدور الكبير للمربية سعاد نعمان غازي في إدارتها. المدرسة مختلطة، لا بأس فالتلاميذ من بيئة موحدة والجو عائلي إلى حد ما. لكن هذا الطرح بحد ذاته ثوروي، ولم يكن سائدا حتى لدى الإرساليات. ولما مرت المدرسة بإرباك أمام المسؤوليات المترتبة عليها، مدت لها جمعية مكارم الأخلاق يد المعونة، وأصبحت توأما لها وفتح الحاج سميح مولوي ملف الإختلاط متمنيا على السيدات فصل البنين عن البنات. نستنتج من ذلك أن رؤية السيدات كانت مغايرة، قدمن التنازلات لتلافي الخلافات. وعادة، كانت الجمعيات النسائية تتأسس لمساندة الجمعية الرجالية، هنا كان الوضع منعكسا.
لاقت الجمعيات الناشئة المسلمة دعما من أخواتهن في الجانب المسيحي، فكان هنالك تبادل الخبرات، واشتركن في وحدة العوائق والمشاكل لتي تعاني منها النساء. هذا وإن دور رجالات الدين الذين دعموا المبادرات المسيحية قد أيقظ رجالات النهضة الإسلامية في طرابلس على دعم النسوة وعلى مساندتهن في إيجاد دور لهن، خاصة عندما كانت الأمور تتعلق برعاية الأيتام والمعوذين.
توطدت العلاقات والتعاون بين الجمعيات النسائية، فكن يشاركن في النكبات (النكبة والقضية الفلسطينية، الطوفان...)، والنضال من أجل الاستقلال. وخلافا لما كان عليه الحال في بيروت، لم تبرز على الإطلاق خلافات معلنة بين الطرفين. فهن تلاقين في المدارس المعدودة في البلد، كما أن أعيان المدينة بدأوا يسجلون بناتهم لدى الراهبات لاكتساب المهارات الأجنبية. وقد تعمم الوعي بأهمية علم البنات من أجل سلامة العائلة. وقد ذكرت اللواتي درسن لدى الراهبات عن دورهن العظيم في مسار الانفتاح على الغرب. كما تعرفن على الدين المسيحي وقصص العهد القديم، ومارسن الفنون، وتلاقين مع أخواتهن معتبرين الآية الكريمة "ولتجدن أقرب الناس للذين آمنوا الذين قالوا أنا نصارى...".
أما فيما بعد، فقد دخلت المسلمات ولو بشكل محدود، في السلك التعليمي لدى الراهبات أمثال السيدة عفت عكاري (تلميذة المدرسة) وزوجة الشهيد صبحي الصالح.
بما أن تاريخ النساء لا تصنعه الجمعيات النسائية لوحدها. هنالك العديد من النساء اللواتي لا نعرف عنهن الكثير. أم العبد، أم محمد وغيرها... شخصيات شعبية طريفة في الأحياء والحواري، أو مهنيات لامعات أغفل التاريخ عن ذكرهن الخ... لقد كان للمدينة حصتها من المجلات والصحف النسائية التي فجرت ثورة على الجهل والأمية، وعرف من بينها روز اليوسف التي أصبحت فاطمة اليوسف فيما بعد والتي كانت رائدة الصحافة المصرية، الفيرا لطوف (1938، المستقبل) (الخطيب ص.110). وحين شرعت المسلمات في اكتساب العلم وفي الذهاب الى الخارج، تخرجت د. هدية الرفاعي (1937) أول طبيبة مسلمة من دمشق، بينما تخرجت انيسة صيبعة من طرابلس من كلية الطب في ادمبورغ، لتكون أولى الطبيبات في الشرق (1899)، ( الخطيب، ص.129)، واختها سميا صيبعة كانت أول صيدلانية. في زمنهم، أي في أواخر القرن 19، كانت البنات تفضلن الدراسة في الغرب نظرا لقساوة المجتمع في نظرته للمرأة، فالإنخراط في الجامعة كان يعتبر نوع من الاسترجال السمج.
ولا يسعنا ان ننسى نساءاً لم يذكرهم التاريخ الذكوري، تميزوا بالإبداع، ونعرف منهم السيدة فضيلة الرافعي زوجة الشيخ نديم الجسر من خلال اللوحات الفنية التي تركتها لنا، إرثاً تشكيلياً هاماً. ترى من علمها؟ من أحضر لها الألوان والأشكال؟ ... ربما يجب ان نفرد لهؤلاء المبدعات والمبدعين دراسة لاحقة. هنالك أيضاً غنيمة علم الدين معصراني التي كان لها طرازا انطباعيا... تتكلم والدتي عن عازفة عود تتردد على البيوت في المناسبات ولدى استقبالات أمها الأسبوعية. كما تذكر معلمة الموسيقى ... وإذا أجيز لنا أن نلخص هذه المرحلة يمكننا أن نقول:
1- ظهرت الجمعيات النسائية في طرابلس منذ أواخر القرن ال19 وبدايات القرن العشرين، بهدف المحبة الإنسانية. يعود الفضل لسيدات مقتدرات ميسورات، انشأن المدارس ورعين الأيتام والعائلات المحتاجة. وقد سبقت الجمعيات المسيحية بما يناهز الثلاثين عاما على نشأة أول جمعية نسائية مسلمة. لكنه يجب أن ننوه أن المبادرة الأولى أتت من قبل الرجال الذين رسموا الخطط وأوكلوا بها إلى النساء...
2- نشأت الجمعيات المسيحية بحماية الكنيسة ورعاية البطرك. لم يكن الأمر كذلك بالنسبة للجمعيات المسلمة التي غالبا ما كان الزوج والعائلة من أهم الممولين لها.
3- كلا الجمعيات اعتمدت على العائلية والقبلية التي لا تزال فاعلة في الوراثة الرئاسية.
4- كان اسم الجمعيات يتضمن صفة الانتساب الطائفي لكلا الجهتين خاصة بالنسبة للجهة المسيحية. كما أن الأسماء بالنسبة للجمعيات المسلمة مقتبسة عن جمعيات بيروت: على سبيل المثال "دار الأيتام الإسلامية في بيروت وأنشئت 1922"، ودار اليتيمة الإسلامية في طرابلس 1935"، كذلك بالنسبة لجمعية رعاية الطفل في بيروت مقابلة بجمعية رعاية الأطفال في طرابلس. ونحن نعلم كيف أن القيمات على هذه الجمعيات كان لهن صلات قربى وارتباطات عائلية مع العاصمة.
5- تشكلت الجمعيات من لون مذهبي واحد، ولا يعني ذلك أي مضمون عدائي تجاه الآخر. فالأمر يتعلق بمشروعية هذه الجمعية وترويج أهدافها أمام المحسنين. وكانت الفئة المستفيدة هي أيضاً من الطائفة والمذهب عينه. وجرت العادة ان تتبادل الجمعيات الخدمات والتعاضد. ما ان تقوم جمعية ما بنشاط حتى تهب الجمعيات النسائية الأخرى بشراء البطاقات والدعم والترويج بين أعضائها من مبدأ المناصرة والتعاضد ورد الجميل.
6- صورة المرأة غالبا ما كانت واحدة: متعلمة، اجتماعية ومنفتحة، وسفورا في العديد من الأحيان. ويذكر البعض تقصير هؤلاء النسوة في واجباتهن العائلية... في الثلاثينات لم تتجرأ المرأة على السفور، ومنديلها يتضمن عدة طبقات. من تجرأن كن السيدتان سلمى وكافيا بارودي في الأربعينات. ولولا شاعر طرابلس الكبير رجائي بارودي أخاهم، لما حدث ذلك. وكانت إحداهن تعمل في الأي.ب.س، وكانت كافيا شاعرة (لها ديوان ميم الذكور) وتحضرن الحفلات المختلطة والراقصة، وتسبحن.... وقد تعرضن لسخرية ومهانة أهل البلد.
7- لم يكن عمل الجمعيات في طرابلس نسوياً، بل رعائياً أو تربوياً ذو منحى وطني.
8- اعتمدت الحملات التمويلية غالبا على أعمال السيدات اليدوية والمطرزات. غالبا ما كان الأزواج والعائلة القريبة من الميسورين في طليعة ممولي هذه الجمعيات. كما أن الهبات تشكلت من الزكاة من جهة ومن التبرعات الكنسية والمؤمنين من جهة أخرى.
9- الأخوة بالرضاعة: كانت العلاقات بين الجانبين على أحلى ما يرام، خاصة أنه درجت العادة بين النساء تبادل الرضاعة، أو المساعدة في الرضاعة حين تكون الأم غير جاهزة. فعرف الكثير من الأخوة بالرضاعة بين النساء ومن كلا الطرفين (في الصبحيات وفي اللقاءات، كانت السيدة الجاهزة والموجودة ترضع الطفل الذي يبكي. كذلك هنالك العديد من الأطفال الذين رضعوا من نساء مأجورات، أو جيران لسبب ما...) كان حدثا للذكرى مدى الحياة (خاصة إذا كانوا من الطائفة ذاتها حيث لا يجوز زواج الأخوة بالرضاعة).
من الاستقلال إلى الحرب الاهلية: العصر الذهبي
في تشرين الثاني 1943، مظاهرات في بيروت ضد الفرنسيين، مجموعة نساء من البسطة تلتقي بمجموعة نساء مسيحيات من الاشرفية في ساحة البرج، فيسقط الحجاب وتختلط المجموعتين وتندمجان في مظاهرة واحدة، تعرضت النسوة للرصاص، وعلى مدار 3 أيام طالبت بالإفراج عن رجالات البلاد. وكان هذا الشرخ بين المجموعتين مرده إلى القضية الفلسطينية التي كونت الوعي السياسي العربي. فانتظمت الحركات النسائية في كل وطن عربي للتنسيق (1938)، وانبثقت عنها هيئة عربية عليا تتكلم باسم المرأة العربية. وقد مالت الجمعيات المسلمة النشأة إلى البعد العربي، بينما كان التوجه لدى الجمعيات المسيحية لبناني.
وسرعان ما وعت المرأة أنها تتحول الى تعبئة تستعمل في المناسبات الوطنية، لتعود بعدها الى الرعاية الخيرية الاجتماعية أي : "العمل الذي يلاءم طبيعتها". حتى ذلك الوقت، كانت قضايا المرأة من الأمور المجهولة أو المطموسة، وكانت حكرا على بلدان الغرب. وكان التعامل مع قضاياها يرتكز الى كونها "أما". تقول مطر: «كان الكلام عن المرأة في العالم العربي يرتبط بمختلف الصفات السيئة: «امرأة بشعر طويل ونظر قصير وعقل صغير... امرأة قاصرة... امرأة تابعة.
في هذه الأجواء، وقفت ثريا عدرة على شرفة منزلها في طرابلس تنظر إلى المظاهرة النسائية في وجه الانتداب الفرنسي. وتنبّهت إلى أنه لا بد من تشكيل جمعية نسائية تختلف عن تلك الخيرية أو الرعوية التي كانت منتشرة. فأنشأت "لجنة حقوق المرأة"(1946)، وانتظرت طويلاً قبل أن تنال العلم والخبر. حظي عملهن بدعم الأهالي، لأنه كانت نابعا من معاناة الأهالي اليومية ومشكلاتهم وأزماتهم. تعتبر هذه الجمعية من الجمعيات النسوية المنحى في مطالبها، وهي ملحقة بالحزب الشيوعي. يذكر الجميع شخصية هذه المرأة الملتزمة التي حاولت تغيير مسيرة النساء، لكنها اصطدمت أسوة بغيرها بالنظام البطركي الذي يبعد النساء من دائرة القرار الحزبي.
في عام 1952، تقدمت سيدات رائدات في العمل النسائي، بطلب حق المرأة في المشاركة في العملية السياسية، اقتراعاً وانتخاباً. وأصدرت الحكومة، آنذاك، مرسوماً يقرّ بـ"حق المرأة المتعلمة في أن "تنتخب وتُنتخب". والمرأة المتعلمة هي تلك التي أتمت المرحلة الابتدائية من التعليم. إلاّ أن لجنة حقوق المرأة رفضت هذا المرسوم، مطالبة بمساواة المرأة بالرجل، وضغطت لتغيير المرسوم الذي عُدّل، عام 1953، ليشكل حق المرأة اللبنانية أن تنتخب وتُنتخب.
توجّهات لجنة حقوق المرأة اللبنانية، لم تقتصر يوماً على قضايا المرأة من دون سواها، بل طاولت الشؤون العامة الحياتية والمطلبية: وصول المياه إلى القرى أو الطرقات التي تسهل حياة الأسرة، والتوظيف، وما إلى هنالك... وفي 8 أذار 1948، منعت السيدات من الاحتفال بيوم المرأة العالمي بذريعة أنه «مناسبة مستوردة». واعتقلت المناضلات. وأصبحوا يحتفلون بـ «يوم التبولة» مستبدلين المناسبة اسمياً فقط. وعملن في الكواليس وفي ظروف صعبة إلى أن حصلن على الموافقة على العلم والخبر عام 1970. لكن الاحتفال بيوم المرأة العالمي بقي محظوراً عليهن حتى عام 1975، حيت لم يعد من ممانعة في إقامته.
الخمسينات حملت معها رياح التغيير الإيجابي. أعطيت المرأة حق الإقتراع بعد المشاحنات مع الحكومة. وقد ذكرت د. حنيفة الخطيب أسماء من طرابلس شاركن في هذه الفترة القلقة من تاريخنا، أمثال نجلاء سلطان وحبيبة شعبان يكن. تقدمن بالعرائض إلى رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء من اجل حق الانتخاب وفقا لشرعة الأمم المتحدة وللمادة 7 من الدستور. وتظاهرن حتى نيل الحق كاملا في 1953، فكانت مناسبة لترشيح 3 سيدات لمجلس بلدية بيروت، وفزن، بينما لم يكن في طرابلس من ترشيح نسائي قبل انتخابات 1963، لسيدة من عائلة الرفاعي.
وقد نشطت في هذه الحقبة مناضلات حزبيات وتقدميات من الأحزاب اليسارية وانشأن المنظمات من الطرفين، نذكر فكتوريا الشهال مثلا. ولكن، لم يكن لهن أي دور قيادي. ومع إطلاق المشروع الشهابي دخل فاعلين جدد وتغيرت البنى التقليدية. ووجدت الدولة في الجمعيات النسائية خاصة طرفا لحل الآفات الاجتماعية، فأنشأت "مصلحة العمل الاجتماعي" التي أعطت بعدا تنمويا للعمل العام، الذي ارتقى نحو إرساء مبادئ العدالة.
ان بروز أنماط جديدة لم يلغ القديمة منها. فكانت القاعدة التي تتحكم في هذا التحول تتمثل في تراكب، وتراكم النماذج المختلفة متجاورة ومتعايشة معا. شهد ذلك الوقت نشأة العديد من الجمعيات المسلمة في طرابلس.
- "الشابات المسلمات"، والإسم ترجمة لجمعية مسيحية عالمية المنحى "الشابات المسيحيات" التي كان لها وجود في بيروت وطرابلس. دائما كان المسيحي سباقا وقدوة يجب اللحاق به. لكن الشابات المسيحيات تجاوزت قاعدتها وضمت إليها عضوات مسلمات عملن لأهدافها الإنسانية، فلم تكن تفرق بين الفئة المستفيدة منها، سواء من المسيحيين او المسلمين، علما ان مجلس الكنائس العالمي هو الممول الأساسي لهذه الجمعية.
درست جهيدة شعبان في المدرسة الاميركية، ونشطت في الجمعيات الطرابلسية الى ان أسست عام 1948 فرعا "للشابات المسلمات" في طرابلس. وتميزت هذه الجمعية بإنجاز مشاريع تنقص البلد: مدرسة ابتدائية عام 1950 للطالبات اللواتي فاتهن قطار التعليم، و مدرسة مهنية للخياطة والتفصيل وكانت اول مدرسة مهنية للفتيات في المدينة، ومستوصف خيري مجاني تديره ممرضة قانونية وصيدلي1957، ومدرسة للتمريض بإدارة الدكتور عبد القادر حسيني. خرجت دفعات كبيرة بشهادات رسمية، ومنهن من تابع دراسات عليا وعمل في الخارج. سعت الجمعية الى تثقيف أعضائها واستقلت عن الجمعية الأم عندما نالت علم وخبر منفصل 1960. فأسست دور حضانة في الميناء 1961 الذي استوعب ما يزيد عن 100 طفل يقدم لهم 3 وجبات يوميا وألبسة. وللأسف، سرقت المدارس أبان الحوادث بما فيها السجلات والمستندات، ولم يبق فيها الا السقف والارض: تقول الرئيسة بنفحتها الأدبية: "وقفنا أمام الخراب وضياع جهود سنين مضت والأسى على الوجوه بقلوب حزينة... والألم في الأفئدة عميق". ومن المؤسسات: علية عدره ميقاتي، إسعاف غندور، حياة حمزة، سلمى السيد وزهرة شعبان. واهتمت الجمعية بالثقافة والفنون والإبداع.
أما السيدة حبيبة شعبان يكن، أخت السيدة جهيدة فقد لعبت أدواراً قيادية منذ أيام الدراسة. فكانت رئيسة اللجنة الخطابية مثلا، لأهمية هذا الاختصاص الذي فقد في التعليم الحديث. وكانت تدعى إلى الخطابة وهي صغيرة السن في المحافل الرسمية. ثم أصبحت أمين سر لجمعية متخرجات المدرسة الإنجيلية الأميركية. وعندما انتقلت إلى بيروت أصبحت أمينة سر الاتحاد النسائي العربي اللبناني الذي كان قائما في بيروت قبل أن يصبح "المجلس النسائي اللبناني"، ولجان الأحياء في بيروت، وعضوا في دار الأيتام الإسلامية في بيروت. وقد ألفت التمثيليات التي كانت تعرض في المناسبات المجتمعية، كما كان يوكل إليها مهمة نص كلمات الافتتاحية وإلقاءها. "ولما اكتمل نضوجها، وأصبحت غنية بالمعرفة والخبرة" كما تقول عن ذاتها، أنشأت جمعية الشابات المسلمات و"كانت حلم طفولتها وأمنية شبابها (1947). والغاية منها تحرير المرأة من الجهل والحرمان، فنقدم لها العلم صغيرة، وكبيرة ونعدها للحياة العملية، لتكسب عيشها بكرامة. فلا تكون عالة على المجتمع". وأنشأت مدرسة من 4 طوابق تضمنت مدرسة ابتدائية، مهنية (علوم جديدة سكرتاريا وخياطة وتصفيف شعر وآلة كاتبة) ومكافحة الأمية. هذه السيدة كانت مؤلفة للقصص الصغيرة ومحاضرة بالعربية والانكليزية في لبنان والقاهرة والشام وأميركا ولها مقالات في السياسة والدين والاجتماع وكتب ترجمت عن الانكليزية "الإسلام دين الإنسانية"، "الطلاق في الإسلام". مثلت لبنان عدة مرات في مؤتمرات عربية ودولية، ومنحتها الدولة وسام المعارف الذهبي من الدرجة الأولى (1950)، ووسام الاستحقاق اللبناني المذهب (1954)، ووسام الأرز من رتبة فارس في عهد سليمان فرنجية، ووسام اللجنة الوطنية للسنة العالمية للطفل (1979).
- جمعية التضامن الاجتماعي، أسستها المربية سليمى مولوي الخطيب (1964). فقد درست في النموذج عند ناجيا خانم، وتابعت في مدرسة الروم حيث اللحمة بين الطالبات تتجاوز الانتماءات الطائفية. كانت في حداثة من سنها عندما طلب منها ان تدلي بحديت لإذاعة الشرق عن دور المرأة في الاستنهاض بعد الاستقلال 1943 لتكون أول من تكلم في الإذاعة ولم تلاق هذه المجاذفة الصدى الحسن لدى الرجال، وكانوا يعتبروا صوت المرأة محرم أو "عورة". فلاقى ذلك استهجان من قبل عائلتها التي سعت الى تحجيبها، قالت لا...، رفضت، وطلبت الاحتكام إلى الشيخ صلاح الدين أبوعلي من بعثة الأزهر، وقد ذاع صيته الطيب في المدينة آنذاك. فاصطحبها العم سميح مولوي هناك، وعندما جابهته برفضها في وضع الحجاب لأنه من شانه ان يضعف صلتها بالناس وهي تربوية في مهنتها، لديها رسالة يجب ان توصلها إلى المجتمع، اقتنع هذا الأخير قائلا "يا ريت كل السافرات مثلك..." (عن سليمى الخطيب).
هدفت الجمعية الى تمكين النساء بالعمل في الخياطة والمطرزات، وهي ما زالت تقيم المعارض السنوية، ومشغلها من أهم ما ينتج محليا ولبنانيا. كرمت السيدة سليمى من قبل الدولة ونالت الأوسمة ورفعت من مستوى العمل الاجتماعي. شاركت في عدة مظاهرات نسائية منها يوم وفاة عبد الناصر. وتقول ان المرأة لم تكن بدرجة من الوعي، لذا لم تجد لها دور في النسيج المديني. ولا ثقة لها بنفسها. إلا انها نؤكد على دورها الأساسي والأول هو في العائلة.
كانت عضوة في الكشاف العربي، جمعية مختلطة على مستوى القيادة وتشمل كل الطوائف؟ وتتذكر أعمال الإغاثة أيام الفيضان...
- وفي أواخر الستينات، دعت الجمعية إلى لقاء موسع مع الجمعيات النسائية الأخرى في المدينة من أجل التنسيق والعمل الموحد في مشاريع جماعية تفيد البلد. لقي هذا المشروع الصدى الكبير. لكنه علق الى ان أتت الى طرابلس السيدة ميمي غبريل زوجة المحافظ اسكندر غبريل وتبنت هذا المشروع في بدء الحرب، ولاقت من صباحات صابونجي زوج المفتي كل الترحيب والدعم. فالتأمت الجمعيات النسائية للعمل سويا وللحفاظ على المسلمات والعيش الواحد في المدينة، وللإمساك بالأخلاقيات المتوارثة من كلا الطرفين. فتحت أبواب دار الإفتاء أمام الجمع، وكن يلتقين كلما دعت الحاجة. وقد شاركن في التجمع الوطني للعمل الإجتماعي الذي أنشأه المجتمع الأهلي والمدني خلال الحرب في الرابطة الثقافية بهدف السعي الذاتي لتنظيم المجتمع في ظل غياب الدولة. كما وأنهن تبنين مشاريع رعائية أهمها المساعدة في الكتب المدرسية، وتوزيع المساعدات العينية. وانتظمن دون علم وخبر بهدف تعزيز روح التعاون والمحبة. وكان لهن الدور الكبير إبان اجتياح بيروت، وأعمال اغاثية كلما دعت الحاجة. كما صدر عنهن بيانات واستنكارات، وقد عملن من اجل تعميم ثقافة السلام، ونبذ الحرب الأهلية. وتعاضدن في دعم مشاريع كل جمعية منهن. وبعد الحرب، أعدن انتظامهن في إطار المجلس النسائي اللبناني بإدارة الدكتورة امان شعراني التي اكتسبت تقدير المراة اللبنانية من كل المناطق. إلى أن أصبحت الهيئات النسائية الموحدة تضم اكثر من 30 جمعية نسائية ومختلطة، بما فيها عكار وزغرتا. وشكلت لوبيا تحكم بانتخابات المجلس فكان الحظ ان يفوز 3 رئيسات تعاقبن على رئاسته من طرابلس: امان شعراني، اقبال دوغان وفائقة تركية. وكان لها ممثلين من الطائفتين. إلى جانب دورها في دعم المرشحات في البلدية او في النيابة (غادى ابراهيم، امان شعراني). إلا أن للمؤسسات الدور الأساسي في دعم استقرار هذا التجمع وثبات هذا الخط الوسطي المبني على المحبة والأخوة. نذكر منهن على سبيل المثال: القنصل هيلدا مسعد والسيدة نجوى علم الدين انجيل وايميه نحاس، ماري رفيع، نهى رفيع، وآمنة عرب الخ...
وان اسم هذا التجمع يتضمن فحواه: الهيئات النسائية الموحدة، كان هنالك إصراراً على إيجاد هذه الصيغة الرافضة لواقع الحرب والتي انما تعبر عن دور أعلنت عنه النساء أنهن موحدات. والجميع شعر بقيمة هذا الدور، فلا عجب مثلا ان يكون عنوان احد البيانات الذي ظهر في الانتخابات النيابية للعام 2000 : "نحن عديدات لكننا واحدة". كنا ضنينات على الاجماع دائما وعلى الالتقاء على ارض مشتركة. شمل البيان المذكور المطالب النسائية ووزع في لقاء في الميناء (مكارم الاخلاق).
أيها السادة، يعود هذا النجاح النسائي الى عوامل عدة:
- في النظام الأبوي السائد، اعتادت النساء على تقديم التنازلات من أجل الصالح العائلي، لذلك لم يفشل المشروع امام الطموحات الفردية.
- ترغب المرأة في إنجاح العمل التي تقوم به لإثبات الذات.
- تميل النساء الى حل النزاعات والأزمات حبيا.
- تقول الكونغرسوومن " جان سكاكوفسكي" انه هنالك أخوية تجمع بين النساء في العالم بغض النظر عن انتماءهم الديني او غيره. وتنادي النساء من اجل التعاون للخير والعدالة...
نستنتج:
1- كانت هذه الحقبة غنية في إنشاء العديد من الجمعيات النسائية التقليدية المنحة، نذكر منها "الخدمات الخيرية/ الميناء"، أسستها فدوى خير الدين عبد الوهاب الهندي في 1965، والغاية منها مساعدة اجتماعية للفقراء والمحتاجين وصرف الوصفات الطبية، ومسح الوضع العائلي وتوعية الامهات. ولا نغفل دور "جمعية المساعدات الإجتماعية في أبي سمرا، وقد أسستها ساميا شمبور (من تلميذات ناجيا خانم)، وأنشأت مدرسة للتمريض ما زالت قائمة وروضة للأطفال. إضافة إلى جمعية حراسة الرعية، وهي جمعية أسستها بمباركة باباوية السيدة سابين عبد، وجمعية حماية الاحداث المسيحية... وقد شاركت النساء في التعبير عن رفضها لواقع الحرب، وتذكر حنيفة الخطيب في كتابها عن الحركة النسائية ( ص.171)، زيارات النساء للرؤساء من اجل منع العنف والفتن وإزالة الحواجز، حيث أن الرئيس الشهيد رشيد كرامي، قد شجع ودفع النساء من أجل إزالة الحواجز ولو رمزيا... هذا ما فعلن.
2- أن النساء نجحن في الاصطفاف في تجمع إنساني الكبير (35 جمعية) لم يوازيه أي تجمع آخر في المدينة. في حين لم يتمكن الرجال أو الجمعيات الرجالية من الانتظام في مظلة تتضمن أكثر من 5 جمعيات. وإن حصل يكون من أجل مشروع زمني محدد ينتهي مفعوله فورا بعد انتهاءه (التجمع الوطني للعمل الإجتماعي). والسبب هو في شهوة السلطة التي تفشل العمل قبل أن يبدأ.
3- في حين كانت الحرب قد قوقعت الجمعيات التي باتت معزولة بحدود طائفية ومذهبية في كل المناطق اللبنانية، ومنها من وقع تحت هيمنة الميليشيات المحلية، اختلف المشهد في طرابلس حيث قامت الجمعيات النسائية الموحدة بالعديد من الأعمال مشتركة وأخذت دور الدولة الرعائي والتنموي. وقد شجعت المرأة الحياة الإقتصادية من جراء دخولها في مشاريع ريعية خدماتية بعد هجرة الرجال الى الخليج، وقدمت الجمعيات النشاطات الثقافية الراقية والمبدعة بدافع تمويلي، مما وطد مكانة المرأة محليا. ولعبت النساء الدور الهام العابر للطوائف خوفاً من الانزلاق نحو هلاك البلد. فكان أن همت على التهدئة وإرساء قواعد الحوار والتسامح بعد ان كانت مبادرة في بدء الحرب على الحفاظ على أملاك الجار المسيحي... على نقلها وتهريبها من أيدي المدسوسين والمغامرين من الشباب المسلح...
4- تألقت بعض السيدات في مناصب متقدمة: السيدة انصاف سلطان في المجال الديبلوماسي، وسوسن الصحفي دندنشي أول منتسبة لنقابة المحامين في طرابلس، عام 1961. 5- ما جمع السيدات هو قضايا مشتركة جعلت لديهن مناعة في الانجراف الطائفي.
الفترة المعاصرة وتفاعل قضايا الجندر
في الثمانينات والتسعينات نشأت أنماط جديدة من الجمعيات النسائية والمختلطة في المدينة:
- جمعيات ذات صبغة مطلبية نسوية : "العمل النسوي" و"مناهضة العنف ضد المرأة".
جمعيات مختلطة دفاعية: عابرة للمناطق والطوائف كالإعاقة والبيئة، وقضايا التراث والثقافة. خلقت المطالب البيئية والإعاقة وعيا جديدا تمثل من خلال المشاركة الأهلية الجامعة لكل الطوائف في صفوفها، للمرأة والرجل على حد سواء. وقد أدرجت جمعيات الإعاقة عادة مستجدة على المدينة من خلال إقامة افطارات رمضانية مختلطة. أما الجمعيات التقليدية، فظلت على ما هي، وتراجع حال بعضها، وركب البعض الآخر موجة العصر، مثالا جمعية رعاية الاطفال التي تحول نضالها إلى اقتراح قوانين من أجل احترام شرعة حقوق الطفل وتطبيق إلزامية التعليم، إضافة الى برامج تعزيز المواطنية، كما تحولت بعض الجمعيات الى تمكين النساء بدلا من مساعدتهن ماديا فقط. هذه القضايا العامة وحدت ما بين الجمعيات الذين نظموا مسيرة وطنية جامعة لكل لبنان، قوامها الإعاقة والبيئة والنساء، من أجل وضع نهاية للحرب الأهلية.
- جمعيات نسائية "طبقية": ك"اللايونز والإينرويل"، ولهما شكل مغاير من ناحية التنظيم ومن حيث الارتباط بأخوية عالمية. لكن عضوات هذه الجمعيات قد طرحن دورا جديدا في المشاركة بأعمال التنمية والإغاثة. فانتظمن على حدة من التنسيق مع الجمعيات الأخرى.
- جمعيات لفوج جديد من نساء السياسيين، تقدم خدمات رعائية لمصالح شخصية.
- جمعيات تابعة لجهات حزبية، عقائدية أو فقط وهمية.
طائفية، أهلية، رعائية، او ذات صبغة مدنية، تشابكت الجمعيات النسائية فيما بينها وحاولت الإلتقاء على ارض مشتركة، مستعينة بالطروحات الديمقراطية وثقافة حقوق الانسان. وقد أنشأت وزارة الشؤون الاجتماعية في التسعينات من اجل توطيد التعاون بين المجتمع المدني والدولة الآخذة بخطة الانماء والاعمار. فتعاظم دور المؤسسات والمنظمات، واصبح لها مركزا معولماً في اللجنة الاقتصادية-الاجتماعية التابعة للامم المتحدة، ومنحا لتمويل المشاريع... فمن شعار المرأة والتنمية، باتت المرأة في صلب التنمية إلى أن ادخل حاليا "الجندر" في مبادئ التنمية.
اهتمت الأمم المتحدة بالمرأة معلنة عقد المرأة من 75-85، الذي انتهى بمؤتمر عالمي. بعد 10 سنوات أقيم مؤتمر بيجين (1995) الذي أحدث بتوصياته ثورة بين النساء وأرغمت الدولة على المصادقة عليها. تقول إحداهن: "رجعت من بيجين امرأة جديدة...". وقد شاركت الهيئات النسائية الموحدة بالتحضيرات لهذا المؤتمر من خلال ندوات وورش عمل استغرقت 3 سنوات. كانت مناسبة للانفتاح على العالم الجديد والمحاور العولمية التي تجمع بين نساء الأرض بعد التقوقع ابان الحرب. مما طرح وعيا عاما إزاء قضايا النساء ومشاركتهم في القرار، واقتحام مواضيع "تابو"، كانت في البدء محرمة (العنف). كما تعددت الأبحاث والدراسات عن المرأة (تأسس تجمع الباحثات اللبنانيات من أساتذة الجامعات واصدر دراسات جندرية). والتزمت الدولة بإيجاد الحلول المناسبة من اجل تحقيق المشاركة والمساواة وتكافؤ الفرص بين الجنسين. للأسف لم يترجم هذا الكلام فعليا، وان جاءت الوعود في خطابات القسم هنا أوفي البيانات الوزارية. عمليا هنالك تعسر في "فكفكة" أو خلخلة مرتكزات النظام الأبوي الذي مازال يحتكر القرار.
لكن المروءة النسائية ما زالت قائمة وإن غيرت اتجاهها. فالرياح النسوية تعصف وتبث دون كلل أو ملل. والمؤتمرات اللبنانية والعربية لا تهدأ، وورشات العمل والتثقيف الجندري اكسبت جمعياتنا المهارات والمعارف المعاصرة: القوانين المجحفة واتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة "السيداو" – الكوتا كآلية مرحلية للمشاركة في القرار السياسي، آليات مناهضة العنف... ووعت أهمية دور المرأة وما تقوده من تغييرات ومطالب، وتوسعت واستمالت إليها الجمعيات الناشئة (جمعية وثبة الفتاة من جبل محسن...).
فكان لطرابلس فريق عمل جدي ونافذ تعاطى في قضايا وطنية وتنموية محلية الى جانب قضايا الطفولة. وتضمنت البيانات دعوة إلى تطبيق اتفاق الطائف وأنشاء مجلس الشيوخ واللجنة الوطنية لالغاء الطائفية، وتطبيق القرار 425 من خلال تظاهرة في يوم المرأة العالمي 1998. أضف الى ذلك دعم إشراك النساء في القرار من خلال اتخاذ التدابير الآيلة الى ذلك. وأصبحت مسبحة مع كل مولد حكومة، تبادر النساء الى المطالبة بالمشاركة، ودائما كان الرد "هلأ ما وقتها". وقد دعمت ترشيح النساء وتقديم البرامج والمعارف من أجل ذلك. ومن الطرافة هنا أن نذكر حادثة غريبة فوجئنا بها، إلا أنها تنم على استغلال المرأة في مجتمعنا بأبشع الصور. في اجتماع جماهيري هدف تشجيع النساء في الانتخابات الاختيارية والبلدبة، فاجأتنا إحدى المرشحات للمخترة بصورة زوجها بدلا منها على الملصق الخاص بها، وبعد التحقق، عرفنا أن المختار الفعلي هو زوجها لانه يعمل في تخليص المعاملات، وهو معروف ومشهور في منطقته. ولكن لا يحق له الترشح (فجنسيته سورية)... لذا كان يروج لصورته (المعروفة)، ويستعار اسم زوجته...
وهنا لا بد من التوقف أمام التطورات المعاصرة:
1- عندما كانت النساء تطرح شعارا وطنيا، كان الجميع يدعم ويشارك ويبارك (مسيرة تطبيق القرار 425، الحروب الاسرائلية والكوارث المحلية)، اما عندما تدعو لدعم مشاركتها في القرار مثلا، يبدو الأمر أكثر تعقيدا إذ تتعرض إلى مناهضة معلنة...
2- تعممت في هذه الآونة تعابير مثل "المجتمع المدني" و"دولة المؤسسات". مما جعل الجميع مسؤولاً في عملية الاستنهاض. ولم يعد الممول الأساسي لمشاريع الجمعيات النسائية يقتصر على الحسنين من الطائفة نفسها، بل تداخلت العطاءات بين الطوائف دعما لمشاريع انسانية، أو وطنية...
3- تبقى التسعينات والألفية الجديدة بمثابة العصر الذهبي من حيث المراكز التي تبوأت فيها النساء. فازت نيلا كرم تاجر كأول نقيبة لأطباء الأسنان، ودلال سلهب كأول عضو في نقابة المحامين، وبشرة دبج كأول عضوة في بلدية الميناء، كما سميرة بغدادي، ليلى طيشوري ومرفت الهوز كعضوات في بلدية طرابلس. لكن كل خضة سياسية تعود بنا كمجتمع مدني إلى الوراء عشرات السنين وتجذّر في النفوس عصبيات بعيدة عن تراثنا...
4- أصبحت تجربة الهيئات النسائية لما لها من ريادة متجذرة في المدينة. لقد تفردت بها جمعيات طرابلس النسائية، ونجحت في ترجمة العيش الواحد في المدينة بأبهى صوره. طبعت 35 سنة من النضال الصامت في المدينة. فكرة نضجت عملا وإنجازا أدى إلى تشكيل اخوية نسائية تحمل قضايا مشتركة بين مجموعات تعددية تصل بعضها الى حد التطرف أحيانا، لكنها تتعالى عن كل فردية ضيقة.
الخطاب الموحد: معضلات وتحديات
كيف يتوحد الخطاب النسائي المعاصر مع تحديات التعصب والطائفية ومعضلات التعددية والإنتماءات العقائدية والسياسية المتضاربة؟ في نظرة لنتائج الاستبيانات، توضح ما يلي:
1- بين النسوية والنسائية: الخطاب النسائي في طرابلس ليس الا بالمعتدل الوسطي المتلاقي بين الطوائف والمذاهب. لا يعارض خطاب الرجل بل يبحث في ثناياه عن أي تعديل يعبر عن رؤية المرأة. مثال على ذلك قضية الأحوال الشخصية والتي هي خلافية بامتياز. فلا تتعرض النساء الى النصوص المقدسة واذ تريد رفع سن الحضانة تحجج بالضرورات الحالية التي أطالت من سنين الدراسة وجعلت الطفل طفلا حتى يكمل علمه، بينما كان في القدم يدخل سوق العمل في التاسعة من عمره. هذا الطرح يرفق بأهمية توحيد القوانين التي تطال الأطفال بين الطوائف والمذاهب، فإن لم يكن باستطاعة المواطن اللبناني أن يتبع قوانين موحدة نظراً للاختلافات في نظام الطوائف، فليكن على الأقل للأطفال قوانين موحدة (تم مؤخرا تعديل رفع سن الحضانة الى 14 عام لدى غالبية المذاهب والسنية منها...). من هذا المنطلق تتجنب الجمعيات المطالب الخلافية ك"الزواج المدني"، وعبثا حاولت المرحومة ناتالي عازار أن تقنع المجموعة به. ذلك لا ينفي ارباكا حيال تفسير بعض الأحكام الواردة في الاتفاقيات الدولية لما فيها من اللبس يحذر منه البعض. كمن يقول أن "السيداو" يبرر المثلية او الاجهاض. فعليا لا تدخل هذه النقاط ضمن أوليات النساء وحين تطالبن برفع التحفظات يكون مثلا على قانون الجنسية.
في المفهوم الغربي للكلمة، الديناميكية النسائية في المدينة لم تكن يوما نسوية لا في الممارسة ولا في المطالب. اختارت المرأة المسار التغييري الطويل المدى تفاديا لاي صدام. وانتهجت سلوك التقارب بين الفقه الاسلامي وقوانين الأحوال الشخصية، سلوك يفترض هذه الأخيرة من ال"معاملات" وليست من ال"عبادات". هكذا تتلاقى النساء... و بالإجماع.
2- بين الممارسة الطائفية والمدنية: أفضل أن استعمل مصطلح المدنية بدلا من العلمانية، كونه يعني بدقة فصل الدين عن مؤسسات الدولة مع الإلتزام التام بالمعتقد وبما لا يتعارض معه. للهيئات النسائية اتجاهات معقدة وقد تكون متباينة أحياناً، مع أنها تفوقت في الحفاظ على وحدة الصف في أهلك الظروف. لم تحمل السلاح يوما كنساء الكتائب، على النقيض، استاءت النساء من زجهن المتواصل في الحروب، وكم منهن استطعن ان يؤثرن في محيطهن لعدم التطرف وكم منهن أعدن ارتباط الأخوة بين الطرائف، تفاديا للقطيعة.
في قراءة للانتخابات الأخيرة للمجلس النسائي اللبناني، بينت الأدلة على ان النساء الطرابلسيات منهن ترى أنه حان الوقت لتغيير القوانين المبنية على المحاصصة الطائفية في المجلس، على مستوى القيادة، بينما يرى 1/6 أن الاضمن هو في تعاقب الرئاسة بين الطائفتين. وحين أن المناطق الأخرى كرست المذهبية على مستوى نائبات الرئيسة، نرى أن المنطقة الوحيدة التي تجاهلت بموضوعية الاختيار على المعيار الطائفي هي محافظة الشمال، مكتفية بطرح شعارات الكفاءة والأهلية. هذا وقد كان المجلس النسائي في بيروت حريصا على وحدته مذ توحد بعد الإستقلال. لكن بعض الممارسات برزت بيت الحين والآخر أدت إلى انشقاق بعض الجمعيات (الجامعيات اللبنانيات واتحاد الجامعيات مثلا... ).
تفصح الجمعيات عن رغبتها في العبور نحو اللاطائفية، ولكن عندما يقترب الاستحقاق تتلكأ المساعي. لقد بينت الدراسات أن الجمعيات التغييرية هي أكثر ديمقراطية لكنها أكثر طائفية من الجمعيات الأخرى. يعود السبب الى وجود الرجال فيها، حيث انه هنالك خوف مبطن وغير معلن من جراء هيمنة أحد الفرقاء في قيادة الجمعية، وغالبا ما يترجم بتوافقية بين الطوائف.
3- الديمقراطية في الممارسة: الديمقراطية عصية عن التجذر في الأداء ضمن الجمعيات والنسائية منها. فهي تتقيد بالولاء العائلي، والوراثة فيها أمر شائع. وقد بينت الدراسة أن القواعد المتبعة لا تؤشر الى تبني الممارسة الديمقراطية نهجا. فيمكن للانتخابات الدورية ان تتعايش مع ممارسات لا ديمقراطية. لا من جهد لتبادل السلطات، لا مداورة، لا محاسبة ولا مساءلة في الثقافة السلوكية، فهي صورة مصغرة عن الواقع اللبناني وتجر عيوبه. "الصراع السلمي" واللجوء الى التوافق هو النهج السائد لتجنب الخلافات. الرئيس لا يتغير إلا بالموت أو الضرورة القصوى ولو أن القانون لا يسمح. ان مخالفة القوانين شائعة، والقرارات مسقطة... أما عندما تحتاج إلى استحداث او تعديل قانون، فهناك الكارثة إذ يصاغ بناء لمصلحة فردية... أليست كل هذه مؤشرات كافية لقياس السلوك الديمقراطي.
إن التعقيد في الديمقراطية يكمن في تفاوت التعريف لها ولممارستها. قد يعود ذلك الى تربية المرأة والى طبيعتها المبنية على التنازل. لذا بينت الدراسات أن النساء تتفادى الخلاف وهو إشكالي لديهن وباعث للقلق، وكما تقول بيضون، إن مصدر هذا القلق هو بالتحديد وجه من "تقاليدهن" التي قمن بإرصانها في الخاص. يرد "هرمن ولويس (1989) ذلك لان النساء "تكبت خلافاتهن مع الآخرين ومع النساء بشكل خاص، والدوافع خوفهن من إحداث شرخ في تناغم الجماعة". أما مرنر (1989) فيدلي أن "السبب العميق هو في تنشئتهن على كبت غضبهن"، ليبين من جراء ذلك ان الرقي بالممارسة الديمقراطية ليس هما نسائيا على الاطلاق.
4- الانا وراء القضية العامة: منذ البدء، سوغت المطالب والأهداف كشرط لتحقيق رفعة الوطن وانتشاله من التخلف. فعليا هناك قضايا شخصية وفردية تتوارى خلف الأهداف العامة. هل هو تحرر المجتمع ام تحرر للمرأة. النساء، وربات البيوت بالتحديد، بحاجة أن يحققن ذواتهن، وأن يجدن فسحة لهن بعيدة عن مشاكل العائلة، تسد فراغا لديهن، وعمل الجمعيات يسمى بالعطاء لذا فهو وسيلة مقبولة للخروج إلى العام ولاكتساب محبة الناس ولتثبيت الثقة بالذات ولممارسة التأثير في الرأي العام. تقول قيادات في مجال التنمية العالمية ان المنظمات النسائية القاعدية المنتشرة في كل أنحاء العالم ستكون لها القوى الرئيسية لإحلال العدالة الاجتماعية في القرن 21. فقد عهدن إلى طمئنة الرجل عن قدسية الدور الأهم في البيت. وانتهجن مبدأ السلاسة وليس التسلط لنيل ما تريده. لذا بقيت الحركة النسائية تحت جناح الاحزاب والجمعيات الرجالية خوفا من اللحاق بالنسوية الغربية. ولذا لم تطرح المرأة قضاياها "عارية" اذا صح التعبير، (المصطلح لعزة بيضون). تقول كيوان: "هنالك خجل في الوعي النسوي يتلطى النساء وراءه بالعمل الاجتماعي، ... هو تشبثا بالمفاهيم التقليدية" (1993).
5- المشاركة في القرار: للمرة الأولى تفصح النساء دون مواربة عن المطالبة بالكوتا كحل إجراءي للمشاركة في صنع القرار. فالمرأة هنا صريحة، مباشرة غير اعتذارية وغير متراجعة. بدا العمل على مبدأ الكوتا منذ 1996. كان لفريق الشمال في المجلس النسائي دورا هاما في طرح وبلورة هذا المفهوم ونشره في المحيط بناءا على توصيات بيجين وعلى بنود اتفاقية "السيداو" وعلى الخطة العربية للنهوض بالمرأة... لكن النساء تتجنب السياسة عامة وترى فيها عالما فاسدا. يقول " فيشر" (1999): "غالبا ما تبدي النساء نفورا من العمل السياسي، فتحاول تحييد الجمعية عن هذا المجال قدر المستطاع".
6- الوعي الجندري: يتمحور الخلاف هنا بين الأجيال وليس بين الطوائف. الجمعيات التقليدية منمطة جندريا، والجمعيات الشابة أكثر تمردا. لذا لم تنجح السيدات فعليا بالتغيير الجلي خاصة على صعيد القرار. عندما ترشحت أمان شعراني للانتخابات، أيقنت أن الاستعداد والتهيئة النسائية غير كافية لها في حملتها وانها لا تستطيع أن تعتمد على الجمعيات خاصة أن هذه الأخيرة مرتهنة ومسلوبة الإرادة. اعتادت السيدات على تجنب المعارك الخاسرة.
7- الإضافات الثقافية والإبداعية: رعت الجمعيات المواهب واستقدمت العروض الثقافية الراقية التي من شأنها تثقيف الجمهور وذلك منذ أيام الحرب الأهلية. فشهدنا كبار الفنانين (أمين الباشا (جمعية المحافظة على التراث) وغيراغوسيان (جمعية تشجيع الموسيقى والفنون الجميلة/ثقافات...)، إضافة إلى أهم العازفين والموسيقيين والمسرحيين (عبد الرحمن الباشا، وليد عقل، وليد حوراني، رفيق علي أحمد،....).
8- المرأة والتكنولوجيا: لا تزال الجمعيات النسائية متعسرة في التعايش مع التقدم التكنولوجي، وغالبية النساء لا تستعمل الكومبيوتر، ما يعيق ارتقاء النضال وما يعسر التحول الى جماعة ضاغطة.
9- من هن المنتسبات: لم تعد الجمعيات حكرا على الميسورات، بل أننا نشهد ظاهرة مقلقة ترى في الجمعيات وسيلة لربح المال، فأمسى لكل حارة جمعيتها أو جمعياتها المتنافسة على أبواب المقتدرين. تقول "أم محمد"، مفتاح انتخابي، و شخصية شعبية مقتدرة وظريفة، تعمل في أحد الأحياء لرفع شأن المرأة الفقيرة، أنها ما زالت منذ 5 ستوات تنتظر ميلغ 450000 ليرة لبنانية للحصول على العلم والخبر... هذا وإن نسبة كبيرة من أعضاء الجمعيات يعملن بعدة جمعيات، وما يقارب ال 40% منهن لهن علاقات مميزة مع الآخر من غير طائفتهن، بينما ما زالت الجمعيات الرعائية تتكون من مذهب واحد بشكل عام.
10- من هي الجمعيات: جمعيات دينية رعائية، ثقافية وطنية، عائلية تربوية، فروع نسائية لمساندة جمعية رجال، برامج خيرية تتجنب الخطاب النسائي، تابعة سياسيا، تقدمية تتجاهل وضع النساء فيها، ديمقراطية تربط قضايا المرأة بالتغيير، مدنية، تغييرية، كلها تنظيمات تتعايش مع التقليد والمحدث، تسعى إلى استنهاض المجتمع وتفعيل المواطنية والتأثير في رسم السياسات العامة بدرجة أو بأخرى. وقد جاءت مسوغات هذا التحول بالتفاعل والتلاقي مع الطروحات العالمية.
11- المرأة والعنف: ان تناول مسائل مثل العنف الواقع على النساء وكسر جدار الصمت ملامة للنظام الطائفي القائم الذي فشل في الدفاع وحماية الأشخاص وتحقيق العدالة والمساواة. وبالتالي، فهي مناسبة محقة لفتح ثغرة في النظام القائم على دونية المرأة، مهما كانت طائفتها، وطفوليتها النفسية وقصور قدراتها العقلية والأخلاقية. لذا تعمل المرأة على خلخلة النظام الأبوي القائم من خلال التعدي على مرتكزاته ببطء ولكن باستمرارية.
يحمل عمل النساء تجديدا وتقليدا في الوقت نفسه. جميعا بقين محافظات على التقاليد. لم يعادين الرجال لكنهن افترقن في الأسلوب. الأكثر جهرا عمدن إلى استمالة الرجال لقضياهن. مما أثمر إلى تعديل القوانين المجحفة. فئة الإسلاميين ترفض المسقط من الخارج، وهي ما تزال فئة تابعة تعيد الاجتهادات الرجالية ذاتها، في حين يشهد العالم ظاهرة نواة لنسوية إسلامية يرتفع صوتها لانها تجهد لإعادة قراءة النصوص من وجهة نظر نسائية باحثة عن العدالة والانصاف الموجودين في جوهر الدين.
هل يمكننا أن نستنتج ان النساء خرقت النظام الأبوي؟
- عملها في العام عزز خبرتها، ورفعها ومكنها. أصبح لها موقعا لدعم من هو بحاجة إليها. لكنها لم تناهض الواقع الاجتماعي السياسي الثقافي مما ينفي حصول إضافات مهمة للنساء.
- ان الأدبيات النسائية المحلية لا تتأثر بالتنميط الجندري بل تعيد إنتاجه.
- من مناصرة المجتمع ومشاركة للرجل في المواطنية، باتت النساء تجاهر في رغبتها للعب دور في الحياة العامة، وتصرح بعضها عن رؤية خاصة.
- من الناحية الطائفية، هناك جوار ودي بين الطوائف، بين الخطاب التقليدي والخطاب المستحدث، بين الجمعيات التقليدية الخيرية، بين جمعيات الجندر والمواطنة وذلك دون غلبة لنمط على آخر. انها مواكبة حرة غير مقيدة منفتحة على الاتجاهات العربية والعالمية والمحلية انفتاحا كرسته الاتفاقات الدولية. وأصبح العمل الاجتماعي يجاور التقليد والتجديد ويتفاعل لدى كل الأطياف والألوان، تتلاق المرأة او ترفض النظام الجندري، لا باس، ففي ذلك ابلغ تعبير عن إضافة النساء على حياتنا العامة، وانجازاتهن هي مكون مؤثر في التغيير الاجتماعي. سنتابع الطريق! (تقول ليندا مطر- يوم المرأة العالمي 2009 )
- يجب ان يتمحور عمل المرأة حول رفع الروح الوطنية وتكريس المواطنة ونشر قيمها ثقافة وممارسة، وبناء نظام قائم على عدم التمييز بين المواطنين على أساس ديني أو مذهبي أو حزبي أو جنسي أو فكري.
- لم تعد منظماتنا فتية، عليها أن تبتكر أساليب عمل جديدة في التعامل مع الأزمة، وفي البحث عن أفضل أساليب للتحرك (انترنيت أو أي وسيلة أخرى )، وللتأثير على المواطنين في درء وإطفاء فتيل الفتن وفي تغيير المفاهيم والقوانين المجحفة.
- هناك تمييزا بين الجنسين تكرسه الثقافة وانماط السلوك والممارسات المنبثقة عنها. هذه الثقافة تتصف بدينامية مرتفعة، فالمرأة التي واجهت كل المتغيرات ما زالت حاضرة وقادرة على المشاركة الفعلية في البناء الحقيقي. والتحركات على تعديل القوانين لن تتوقف لتجعل من الحركة النسائية قائدة للتغيير في المستقبل.
يتطلب ذلك جهودا ومثابرة وصبرا وتحديا، قد لا تقطف النسوة ثمار جهودهن، قد تتركه للأجيال القادمة! لا يهم ما دامت رياح التغيير في القرن 21 بدأت مع كل الأطياف، متعددات متوحدات في النضال...
المصادر
- حنيفة الخطي، تاريخ تطور الحركة النسائية في لبنان، دار الحداثة، بيروت، 1984، 226ص.
- عزة شرارة بيضون، نساء وجمعيات، دار النهار، بيروت، 2002، 233ص.
-هند الصوفي عساف، الجمعيات الأهلية والمدنية ودورها الحالي والمستقبلي في التأثير على السياسات العامة"، ورقة عمل في مؤتمر "دور المواطن والهيئات غير الحكومية في رسم السياسات العامة"، 16-17 ايلول 1999، اوتيل ماريوت، ملتقى الهيئات الإنسانية ومجلس النواب.
- نجلاء حمادة، "المرتكزات لخطاب تحرير المرأة في زمن قاسم امين"، في كتاب جابر عصفور (منسق)، مائة عام على تحرير المرأة"، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ص 119-127 .
- أمان شعراني (إعداد)، الجمعيات المنتسبة للمجلس النسائي اللبناني، منشورات المجلس النسائي، بيروت، 1996.
- "الكوتا ممارسة وتطبيق"، منشورات المجلس النسائي اللبناني، بيروت، 1998
- جوسلين خويري، "سيرة ذاتية"، باحثات، العدد 4، صص377-397.
- انطوان مسرة وطوني عطالله (تنسيق)، لور غريب: نصف قرن دفاعا عن حقوق المراة"، ارشيف لور مغيزل، مؤسسة جوزف ولور غريب، بيروت، 1999.
- Fisher,H., The first sex: the natural talents of women …, RandomHouse. N.Y , 1999.
- Clarke, G., "NGOs and politics in developing world", political Studies, Vo. 46, 1998, 36-52.
- Martin, P.Y, "Rethinking Feminist organization", Gender & Society. Vo.4, No.2, 1990. 182-206.
Interviews
1- السيدة هبلدا مسعد
2- السيدة ايميه نحاس
3- السيدة بوليت كرم
4- السيدة آمنة عرب
5- السيدة عفيفة عبد الوهاب
6- السيدة ماري رفيع
7- السيدة سابين عبد
8- السيدة فائقة ميقاتي
9- السيدة سلمى علم الدين
10- السيدة دودي ذوق
11- السيدة صباحات صابنجي
12- السيدة ناريمان ذوق
13- السيدة نعمت فنج
14- السيدة فائقة تركية
15- السيدة سليمى الخطيب
16- فائقة ميقاتي
17- عدنان الشهال
18- الحاج رشاد ميقاتي.
19- السيدة اوديت غريب شماس
20- الاستاذ عبد اللطيف كريم
الملاحق
1- صورة عن بطاقات دعوة لجمعية رعاية الاطفال
2- صورة لشعار (لوغو) جمعية رعاية الأطفال (أول شعار لجمعية نسائية في المدينة).
3- بطاقات دعوة لمسرحية (جمعية رعاية الأطفال)
4- صورة لرسالة مدونة يدويا تتضمن تاريخ جمعية البر المسيحي
5- صورة لرسالة مدونة يدويا تتضمن تاريخ جمعية حاملات الطيب
6- صورة لرسالة مدونة يدويا تتضمن تاريخ جمعية الشابات المسلمات(جهيدة شعبان)
7- صورة لرسالة مدونة يدويا تتضمن تاريخ جمعية الشابات المسلمات(حبيبة شعبان)
8- صورة لرسالة مدونة يدويا تتضمن تاريخ جمعية ضد اليتامى.
9- صورة عن تاريخ تأسيس الخدمات الخيرية/الميناء
كلمة الأستاذ مايز الأدهمي
لو لم تكن الكلمة وسيلة للتفاهم الفكري بين الناس لما استطاعوا التعاون والتقدّم والرقيّ.. هذه الكلمة بقيت صوتاً مدوياً تائهاً، حتى يسّر الله لها الاقتران بالحرف، فتجسّدت فيه صروحاً شامخة تنتقل بانتظام تراثاً خيّراً من الفرد الى المجتمع، بالكلمة استعر النضال في العالم ولا يزال.. ومن الحاجة الى الكلمة تعدّدت وسائل النشر.. فمن نطقية سماعية معزّزة بالبصر، الى وسائل النشر الكتابية، الى ما هي عليه الآن من تقدّم ورقيّ وسعة انتشار. والصحافة ليست فناً محدثاً، بل هي نشأت مع الانسان منذ ضمته مجموعات تعيش سوية... وما النقوش الحجرية، كما عرف في مصر والصين وغيرها من الأمم إلاّ ضرباً من ضروب الصحافة في العصور القديمة... * * * كيف يمكن القاء الضوء على حالة مجتمع تعرّض للكثير من الهزات والأزمات السياسية والإقتصادية، انعكست على كامل مكونات هذا المجتمع بعناصره البشرية والجغرافية، وعلى مدى أكثر من قرن من الزمان؟ صحيح أن الأزمات أمر طبيعي في مسيرة الأمم والشعوب، ولكن غير الطبيعي ان يظهر وراء كل أزمة، أياً كان نوعها، وفي بلد صغير كلبنان، شبح حرب أهلية!.. لقد كتب الكثير حول الوضع السياسي للبنان وخضوعه للسلطة العثمانية، ثم انتمائه لدعوة قيام دولة عربية واحدة... فإلى اعلان دولة لبنان الكبير، فالانتداب... والاستقلال، إلا أن كل ما كتب، وفي مختلف المراحل كان في معرض الدفاع عن موقع فريق دون الآخر.. أو من وجهة نظر خاصة لا تستوفي شروط البحث العلمي الموضوعي، مع استثناء بعض البحوث الموجزة التي ظهرت في أوقات متفرقة وكتبها باحثون من ذوي الاختصاص، ونشرت في غالبيتها على شكل مقالات في صحف ومجلات متفرقة ودوريات أكاديمية.. وأنا لا أدعي هنا أن هذا البحث الموجز يخرج عن هذا السياق، ولكنه يعرض الأمور كما هي دون أن يصدر أحكاماً حولها. إذ الأمر متروك لتفكير كل منا والنظرة التي يضفيها على الحدث المعروض أمامه!.. إن الانقسام التاريخي في لبنان حول الهوية والدور والعلاقات بالمحيط كان السمة الأساسية التي صبغت كل تحرك سياسي على المستويات كافة منذ أن بدأ الصراع بعد إعلان الدستور العثماني بين التتريك والتعريب... ومرّ هذا الإنقسام بأطوار متعددة، كان خفياً أحياناً... وأحياناً واضحاً بفجاجة... وككل مكوّن من مكونات المجتمع، مرت الصحافة بأطوار متعددة على مدى تاريخ الوطن اللبناني... ففي مرحلة السلطنة العثمانية، كانت في غالبها قائمة على مظاهر الإخلاص للسلطان في كل مناسبة... ولما جاء عهد الدستور اصبح التناظر بين حزب الاتحاد والترقي وحزب الائتلاف سمة أساسية في المجتمع، ما أدى الى قوافل الشهداء الذين أعدمهم السفاح في دمشق وبيروت.. ويروي يوسف الحكيم في ذكرياته أنه لما اشتد الخلاف بينه وبين المتصرف راغب بك، توقفت جريدة طرابلس عن الصدور التزاماً بالحياد بين الفريقين، وحين سأل المتصرف الشيخ محمد الجسر أن «يقيه مبعوث طرابلس هجمات أهلها عليّ» رد الشيخ الجسر بالقول: «يجب عليّ سعادة المتصرف بصفتي نائباً عن طرابلس ان أكون لسان حالها، وها هي بكبارها وصغارها مع النائب العام العدلي ناقمة على تصرفاتكم» واضح هنا ان اختلاف الانتماء الديني لم يمنع الشيخ محمد الجسر من الوقوف في صف الدفاع عن النائب العام العدلي يوسف الحكيم المسيحي في وجه المتصرف المسلم.. وسيتأخر ظهور الاشكالية «مسيحي - مسلم» الى ما بعد إعلان دولة لبنان الكبير!.. * * * في 5 حزيران 1916، ثار الشريف حسين ضد الاتراك بتشجيع من بريطانيا وأعلن استقلال العرب عن الحكم العثماني ونادى بنفسه ملكاً على البلاد العربية... وكان سبق ذلك قيام فريق معاد للدولة العثمانية بالاتصال بالحلفاء، ما أدى عامي 1915 و1916 الى إعدام ثلاثة وثلاثين شخصاً بتهمة الخيانة العظمى على يدي جمال باشا، ما أثار النقمة على الحكومة والجيش وجميع الأتراك. ومع ثورة الشريف حسين، تحمس القوميون العرب، ومن بينهم بعض المسيحيين بعد ان سرت الإشاعات عن مساعدة بريطانيا لشريف مكة بعد الحرب على إقامة امبراطورية عربية تضم الجزيرة والولايات السورية والعراق... وعلى أثر هذه الاشاعات هبّ أغلبية المسيحيين في لبنان، معلنين رفضهم الانضمام الى أية دولة عربية كبرى قد يتم إنشاؤها. إنهزم الأتراك ودخل الأمير فيصل الى دمشق وأقام فيها حكومة عربية باسم الشريف حسين... وانهارت السلطة العثمانية، ولكن كل ذلك لم يدم طويلاً، حيث بادرت السلطات الفرنسية الى تثبيت إدارة لبنان برئاسة حبيب باشا السعد... وعندها بدأت تتكشف نيات فرنسا الاستعمارية في بلدان المشرق وتضامنت بريطانيا معها بخلاف التزامها مع الشريف حسين... وظهرت اتفاقية «سايكس - بيكو» ومضامينها.. وفي خطاب ألقاه في حلب قال الأمير فيصل: ان العرب هم عرب قبل موسى وعيسى ومحمد، وإن الوحدة الوطنية هي قومية وليست دينية وحذّر من إثارة الفتن بين المواطنين باسم الدين، وهدّد بأشد العقوبات لكل من يقدم على ذلك. ... وعاد البطريرك الحويّك من فرنسا يحمل في جعبته رسالة من رئيس الوزراء الفرنسي كليمنصو تنص ان فرنسا «عند رسمها لحدود لبنان ستأخذ في الحسبان قبل كل شيء ضرورة الاحتفاظ بمناطق سهلية للجبل ومنفذ بحري ضروري لازدهارها. وفي 31 آب 1920 أصدر الجنرال غورو القرار 318 ويقضي بضم المدن التالية الى جبل لبنان لإيجاد دولة لبنان الكبير وهذه المدن هي: بيروت - صيدا - صور - مرجعيون - ولاية طرابلس مع قضاء عكار وأقضية البقاع وبعلبك وحاصبيا وراشيا. ويذكر محمد جميل بيهم في هذا الصدد ان إعلان دولة لبنان الكبير كان مؤلماً للوحدويين ولم ينحصر ألمهم فيما وقع من التجزئة، وإنما لشعورهم بأن وراء ذلك مخططاً يرمي الى إضفاء صبغة ملّية على هذا الكيان الجديد، يساعد فرنسا على إقامة مركز استراتيجي دائم لها في الشرق الأدنى. واعتبر فيليب حتّي ان لبنان كسب فعلاً مساحات ومرافئ جديدة، ولكن هذا الكسب في مساحة الأرض، كان يقابله عدم تجانس في السكان ونقص في التمازج والترابط. أما جورج أنطونيوس فقد أكد بدوره ان المسيحيين أصبحوا أقلية وأن هذا الكيان إنما هو كيان مفتعل، واعتبر ان توسيع حدود لبنان دلالة على قصر النظر لأنه إجراء حرم سوريا من منافذها الطبيعية الى البحر، والأسوأ من ذلك ان هذا الإجراء أوجد عنصراً من عناصر النزاع في بلد حافل بدوافع الفرقة. أما د.مسعود ضاهر فقال ان نظام لبنان الجديد أوجد سبباً للتنازع على السلطة قد يحوّل الوطن الى مزرعة يجري التسابق بين المسؤولين فيه لابتزازه وانتزاع حصصهم الوظيفية والمادية، ما يهدد بتحويله الى نظام طائفي لكيان سياسي. وربما لأجل هذا المنحى الذي أخذه النظام تعددت فيه الانفجارات الطائفية والصراعات السياسية التي نعيش ارتداداتها حتى اليوم والتي أوصلت البلاد الى حافة الانهيار. لأجل ذلك، ابتعد المسلمون عن إدارات الدولة، ورفضوا الانخراط في تولي المناصب والوظائف، الى ان أعلنت الجمهورية اللبنانية، وكانت صيغتها طائفية صرفة، فرفضوا أيضاً المشاركة في صياغة الدستور الجديد رفضاً مطلقاً معتبرين دولة لبنان الكبير هذه، دولة من صنع الاستعمار هدفها تمزيق أواصر الوحدة بين لبنان وسوريا، وما عقد من مؤتمرات وحدوية (مؤتمرات الساحل) بعد ذلك في كلا البلدين بين 1928 و1936 دليل قاطع على عدم تمازج اللبنانيين فكراً ونهجاً وسياسة وعلى صبغ لبنان بصبغة طائفية مذهبية. * * * بدأت اشكالية «عربي - تركي» تتحول سريعاً الي اشكالية «مسيحي - مسلم» تحت سلطة انتداب ساهم في خلق وتعزيز النفور بين ابناء الوطن الواحد خدمة لأغراضه وأهدافه، وحيث لاقى تجاوباً عند بعض الأطراف المستفيدة من هذا التقسيم، ولأن الصحافة مرآة الشعب، فقد تنوعت توجهات الصحف في لبنان فكانت هناك صحف تدعو للكيان اللبناني، وأخرى تناوئ ذلك وتدعو لإعادة ما ضمه الانتداب الى لبنان الصغير من مدن وأقضية، ونادت بعض الصحف في طرابلس بفصل مسألة ولاية طرابلس عن القضايا الأخرى، وساهمت تصريحات من هنا وبيانات من هناك في احتدام معارك صحافية بين المعارضين والموالين.. وكانت المناظرات بين الصحافيين تجري ببعض الحدة في توجيه الكلام. ومن أمثلة ذلك: هجوم جريدة الوحدة اللبنانية (توفيق عواد) على محافظ طرابلس سليم بك تقلا واتهامه بالمروق والخيانة العظمى... ودفاع جريدة الشباب التي كان يصدرها سميح القصير عن المحافظ بالإشارة الى صاحب الجريدة بالتصغير (توتو عواد)، وكان السبب المباشر طلب المحافظ تقلا من السلطات في بيروت ابلاغ البطريرك عدم المرور بطرابلس في طريقه الى الديمان حتى لا يؤدي ذلك الى صدامات بين مستقبليه وبقية المواطنين، حفاظاً على الأمن في طرابلس، وذلك بسبب مواقف البطريرك في فرنسا بالنسبة لرفض الدعوة الوحدوية والمطالبة بالكيان. وكتبت جريدة «الشباب» حول الموضوع تقول: إن طرابلس تحترم غبطة البطريرك الماروني كل الاحترام، من حيث أنه الرئيس الأعلى للطائفة المارونية الشقيقة، واذا كانت لا تريد المساهمة في استقبال غبطته في أوبته من باريس فلذلك أسباب سياسية محضة وهي تعتبره ما دام يعمل في الحقل السياسي خصماً لأمانيها وأحلامها، فكيف تريدونها ان تشترك في استقبال غبطته من رحلة سياسية بذل فيها كل ما لديه من قوة في سبيل الحيلولة دون تحقيق أمنية طرابلس الوطنية!. يضيف: إن طرابلس مستعدّة في كل حين ان تستقبل غبطة البطريرك بالإجلال والإعظام والترحيب، وهي تعرفه رجل خير وفضل وعلم وعاطفة إنسانية نبيلة وعظيم من عظماء البلاد، ولكن في غير هذه الظروف وفي غير هذا الوقت ولكلٍّ رأيه. وفي مجال المطالبة بحقوق الطائفة كتبت أيضاً: إن الطائفة الاسلامية في لبنان ما تزال تنتظر بفارغ صبر يوم الشروع بتطبيق المراسلة 6 مكرّر وهي لا تطلب أكثر من أن تُعطى الحقوق التي لها، فإذا أرادوا لكيانهم هذا ان يتّجه في الطريق المستقيم صعداً الى مراقي النجاح والفلاح، فليمدّوا لنا أيديهم بصفاء وليعطوا ما لقيصر لقيصر وما للناس للناس.. وفي خطاب للمطران مبارك في الكنيس اليهودي في بيروت قال: ان العرب لئام يقابلون الجميل بالكفران والإنعام عليهم بالمذابح والطرد. ووجّه كلامه مخاطباً اليهود: ان لبنان مستعد ان يفتح لكم صدره وهو يكفيكم ويكفينا (الضمير الأخير طبعاً عائد للموارنة) كان لهذا الخطاب دويّ استياء عظيم. وفي مجال المناوشات بين الصحافيين حول اشكالية «مسيحي - مسلم»، كتبت صحيفة «صدى الشمال» - العدد 966 - أيار 1937 تقول: إذا كان المسلمون يتمتعون بأكثر من حقوقهم في الوظائف 10 بالمائة فضلاً عن احتكارهم رئاستي الحكومة والأمة ويتنعمون أكثر من غيرهم بمنافع المشاريع العمومية ويتساوون مع غيرهم بالضرائب، فماذا يريد المؤتمر الاسلامي بعد كل ذلك وبعد ان تأكد ان طائفته تقبض من أموال الخزينة أكثر مما تستحق؟ أيريد ان يقبض أرواح المسيحيين وخصوصاً الموارنة؟. ثم يدعو من لا يعجبه الحال ولا تروقه الإقامة في البلاد الى الرحيل عنها؟. ورد سميح القصير في «الشباب» يقول: لقد قلنا ان هناك مؤامرات سياسية تدبّر في الخفاء وفي الأوساط الإكليركية لزعزعة الوزارة الأحدبية عن كراسي الحكم مستندين الى حملات جريدة «البشير» على حكومة الأحدب، ووصف فريد انطون (صاحب صدى الشمال) بأوصاف مختلفة ردّا على بعض الشتائم التي أوردها انطون في صحيفته. من جهة أخرى، حملت مجلة «الحوادث» لواء الدفاع عن مصالح طرابلس وعن مصالح الطائفة الأرثوذكسية ومثّل صاحبها لطف الله خلاط الطائفة والصحافة الطرابلسية في الاجابة على أسئلة لجنة كينغ - كراين الدولية المكلفة استقصاء الآراء حول مستقبل لبنان والمنطقة قبل إعلان دولة لبنان الكبير 1920. لقد أحدث قرار الجنرال غورو بإعلان دولة لبنان الكبير تغييراً أساسياً في علاقة المسلم بالدولة المنتدبة من النواحي السياسية والاجتماعية والدينية واستمر المسلمون في هذه الفترة ينهجون نهجاً وحدوياً، واعتبروا لبنان جزءًا لا يتجزأ من العالم العربي، وأنه عربي مثل غيره من البلدان العربية الأخرى. ولما كانت النزعة الوحدوية هي الهدف المباشر لهم بدأوا يرفضون المناصب السياسية والادارية في لبنان الكبير، كذلك رفض هؤلاء المشاركة بالاحصاء العام، رافضين إحصاءهم ضمن عديد السكان اللبنانيين. وبعد أن عيّنت الحكومة الفرنسية الجنرال ويغان 1923- 1924 خلفاً للجنرال غورو، وصل الى بيروت وسط موجة من الفوضى والاضطرابات والفتن الطائفية، وقام أنصار الوحدة بتقديم مذكرة للجنرال ويغان طالبوا فيها بإعادة الوحدة الى البلاد السورية لأن ضم ولاية بيروت مع متصرفية جبل لبنان، قد تم بدون موافقة الأهالي وبدون استفتاء. وما أن بدأ الجنرال ويغان يتعرف الى أحوال البلاد السورية ويستجيب لرغبات سكانها بإعلان اتحاد دولتي حلب ودمشق، حتى اضطر الى ترك منصبه إثر تبدل الجو السياسي في فرنسا، الناجم عن انتخابات عام 1924، الذي أوصل التحالف اليساري الى الحكم. شهد حكم المفوض السامي ساراي العديد من التطورات السياسية والعسكرية سواء في لبنان او في سوريا وفي مقدمتها الثورة السورية الكبرى التي انطلقت في تموز عام 1925 في المناطق الدرزية السورية، ثم ما لبثت ان عمّت المناطق السورية اللبنانية أيضاً. وعمدت سلطات الانتداب للتفرقة الطائفية فبدأت بتسليح الموالين لها من المسيحيين للوقوف ضد ثورة 1925، وجاءت بأحد موارنة زغرتا للدفاع عنهم، وهو المدعو بطرس كرم، إلاّ ان قادة الثورة كانوا واعين للشرك الذي نصبه الفرنسيون. وليس صدفة ان يقبض أحد زعماء الثورة، «شكيب وهّاب» على ستة عشر رجلاً من عصابة كرم ويطلق سراحهم قائلاً لهم: «إذهبوا يا إخواني وبلّغوا جميع المسيحيين أننا لا نريد بهم شراً ولا نرغب في محاربتهم بل نود قتال الفرنسيين». من ناحية ثانية، حرص المجلس النيابي بإيعاز من السلطات الفرنسية على اتخاذ قرار في الأول من كانون الأول 1925 ضد الثورة السورية مندداً بها وبدخولها الى جنوب لبنان، مؤكداً على عزلة لبنان وانفصاله عن سوريا واصفاً الثوار بالخوارج، غير ان بعض النواب المسلمين رفضوا ما جاء في القرار، وكان في مقدمة هؤلاء: عمر الداعوق، عمر بيهم، جميل تلحوق وفؤاد أرسلان. في 23 أيار 1926، أقرّ الدستور في المجلس النيابي وقد كرّس وجود الانتداب الفرنسي، واتخذ العلم الفرنسي علماً للبنان وأكد على حدود دولة لبنان الكبير وكرّس الطائفية. كما جعل اللغة الفرنسية لغة رسمية للدولة الى جانب العربية. كما ان الدستور لا ينص على دين او طائفة رئيس الجمهورية. لأجل ذلك حرصت فرنسا على تولية رئيس مسيحي غير ماروني مهام رئاسة الجمهورية فاختارت شارل دباس ليكون أول رئيس للجمهورية اللبنانية. أما من جهة معارضة اختيار شارل دباس رئيساً للجمهورية، فإنها لم تأت من جانب المسلمين بقدر ما جاءت من المسيحيين أنفسهم بالذات من الموارنة، فقد طالب البطريرك الماروني بأن يكون منصب الرئاسة الأولى للموارنة لأنه حق للطائفة المارونية التي تمثل الأكثر عدداً في لبنان على حدّ قوله. في 23 تموز عام 1928، عقد مؤتمر في دمشق باسم «مؤتمر الساحل» برئاسة عبد الحميد كرامي حيث أكد على وحدة البلاد السورية بما فيها المناطق التي ضمت الى لبنان القديم (المتصرفية). وطالب بضم جبل الدروز وبلاد العلويين والبلاد التي ضمت الى لبنان القديم دولة مستقلة ذات وحدة سياسية لا تتجزأ وذات سيادة. أما ردات الفعل العربية على هذا المؤتمر، فقد كانت محاولة حكومة حبيب باشا القضاء على اللغة العربية بجعل اللهجة العامية لغة رسمية. وقد صرّح حينها وزير المعارف لأحد الأعيان البارزين بأن القصد من ذلك هو «إيجاد لغة مستقلة عن اللغة العربية تتخذها الجمهورية اللبنانية، اللغة الأساسية زيادة في تفكيك عرى الاتحاد بينها وبين سائر سوريا، ويعزّ عليّ ان يتناسى أهل لبنان ان اللغة العربية ليست هي لغة الاسلام فحسب، وإنما هي لغة العرب كافة». هذه الممارسات الطائفية لعبت دوراً بارزاً في عهد حكومة بشارة الخوري التي تألفت في 10 أيار 1929 ما دفع الصحافي الكبير جبران تويني الى مهاجمة تلك الاتجاهات والى انتقاد فكرة التعصب وفكرة «نصرنة» او «مورنة» لبنان. ودافع عن العروبة والقومية العربية بردّه على صحيفة «الشرق» لأنها زعمت «ان لبنان بلد غير عربي وأن حضارته نصرانية...» قائلاً: «أنه من الخطأ القول بأن لبنان ذو حضارة نصرانية، بل هو بلد عربي أكان أهله فينيقيين ام آراميين ام سرياناً، فقد استعربوا وامتزجوا في هذه البوتقة العربية وأصبحوا يؤلفون مع عرب لبنان قوماً عربياً». كما ندّد بفكرة الوطن القومي المسيحي والوطن القومي الصهيوني على السواء «فلا نسلّم ان يكون لبنان وطناً قومياً مسيحياً، بل هو بلد عربي الجنس واللسان». وطالبت «جمعية اتحاد الشبيبة الاسلامية» بأن تكون رئاسة الجمهورية هذه المرّة لشخص مسلم بعد ان تولاها «إخواننا المسيحيون مدة تزيد على ست سنوات». وأكدت صحيفة «لسان الحال» رفضها لتصريحات المطران اغناطيوس مبارك المعادية لوصول مسلم لرئاسة الجمهورية وأنه يجب أن يكون من الطائفة المارونية. ونظراً للمشاحنات السياسية والخلافات الطائفية، قام المفوض السامي الفرنسي بونسو بتعليق الدستور في 9 أيار 1932 وحلّ المجلس النيابي والوزارة وثبّت الرئيس شارل دباس رئيساً للجمهورية لأجل غير مسمى. والأمر الثابت ان سبب تعليق الدستور إنما كان للحيلولة دون وصول مسلم لرئاسة الجمهورية اللبنانية. وقد أرسل المسلمون برقيات الى رئيس الجمهورية الفرنسية والى رئيس وزرائه والى عصبة الأمم في جنيف والى المفوض السامي الفرنسي، طالبت كلها بأن يمارس المسلمون حقهم السياسي «وأن الترشيح لرئاسة الجمهورية هو من أبسط حقوقهم الطبيعية والمشروعة..». حتى ان الشيخ محمد الجسر الذي يعتبر من الموالين للفرنسيين انتقد الممارسات الفرنسية الطائفية التي تقوم على مبدأ «إقامة وطن قومي مسيحي يضم أغلبية إسلامية في لبنان». جرت الانتخابات الرئاسية في أوائل 1936 وفاز إميل إدة، وجعل المفوض السامي مدة رئاسته ثلاث سنوات ثم جعلها فيما بعد ست سنوات، فما كان من القوى الاسلامية الوحدوية والمسيحية إلاّ ان تداعت لعقد مؤتمر في 10 آذار 1936 في دار سليم علي سلام وبرئاسته، وكان الاتجاه الغالب في هذا المؤتمر ضرورة إقامة الوحدة بين لبنان وسوريا. وقد أشار نائب القنصل البريطاني في بيروت «فورلونغ» في 17 تشرين الثاني 1936 الى ان الفئات الاسلامية لاسيما في طرابلس قامت بتدبير حملة ضد احتوائها وإدخالها في إطار لبنان. إعتبر الرئيس إميل إدة في أحد تصريحاته للصحافة الفرنسية بأن المعاهدة مع فرنسا هي نوع من الرابط التاريخي معها، بينما اعتبرها السوريون بأنها نوع من التحرر. وفي حين أعلن اللبنانيون بأن هذه المعاهدة يجب ان تدوم لمدة 25 عاماً، فإذا بالسوريين يعلنون ان على القوات الفرنسية ان تنسحب. في هذه الفترة، اتجّه النشاط السياسي نحو الحقل البرلماني حيث انقسم البرلمان الى كتلتين: الأولى، الكتلة الوطنية على رأسها إميل إدة والتي كانت تطالب ببقاء الجيوش الفرنسية، والكتلة الثانية، هي الكتلة الدستورية برئاسة بشارة الخوري وتطالب بالحد من صلاحيات السلطة المنتدبة. أما الهمّ الأساسي لأركان المفوضية العليا، فكان يتمثل بكيفية تحقيق اندماج المسلمين في الحياة السياسية اللبنانية على النحو الذي يمنع نشوء حركة وحدوية ضمن المجلس النيابي، فاتجهت السياسة الفرنسية الى التقرب من المسلمين بعد ان أوقفت الكتلة الوطنية السورية دعمها للوحدويين اثر استلامها مقاليد الحكم في سوريا. ولما استمر تخوف القوى الاسلامية من ممارسات الدولة وتأييدها للقوى الطائفية، بدأت الأوساط المارونية تشعر بأهمية استمالة المسلمين، فعمد رئيس الجمهورية في أول عام 1937 الى إسناد رئاسة الوزراء الى مسلم سنّي، هو النائب خير الدين الأحدب، ولكن هذه المحاولة لم تنه الاتجاهات الطائفية في لبنان، بل ازدادت حدة ليس على أساس طائفي فحسب، بل على أساس مذهبي، وعبّر الزعيم الطرابلسي الوحدوي عبدالحميد كرامي للصحافيين بقوله: «لقد تركنا إخواننا في دمشق لذلك يصبح من واجبنا المطالبة بحقوقنا في لبنان». وفي حديث للبطريرك تناقلته الصحف، وكان يرافقه المطران الحاج، مطران دمشق، والمطران عبد مطران طرابلس، نقل على لسانه قوله: نحن الموارنة فرنسيو الشرق!؟.. كما نقل على لسان المطران عبد قوله: ان علاقات الصداقة التي ما انقطعت طوال العصور هي استمرار لحوادث الصليبيين الحماسية!؟.. وردّ سميح القصير على هذين التصريحين في صحيفته «الشباب» (العدد 151 - 8 تموز 1937) قائلاً: نأسف ان يتعرض سيادة المطران عبد الى ذكرى الحروب الصليبية، فالمسلمين في هذه الحروب لم يكونوا غير مدافعين عن أوطانهم وعن حرياتهم ولم يكونوا المسبّبين لتلك الحروب. وإذا كانت السياسة المارونية لا تزال في هذا الشرق تستمد حيويتها وذكرياتها المشجية من الحروب الصليبية، وفي مثل هذا القرن الذي شاعت فيه العلوم وانتشرت الأفكار القومية، فنحن نحملها مسؤولية الانصراف من ناحيتنا الى تغذية سياستنا بروح العصبية العربية والمبادئ الدينية. ولا بد ان نقول لإخواننا المارونيين ان سياسة بعض رجال الدين منكم، هي جد خاطئة وأنها أشد خطراً عليكم منّا وأن الشرق شرق، والغرب غرب، فمحال ان تنضب البحار!». هذا الصراع المستمر منذ أكثر من قرن، بين رؤيتين ونظريتين وتوجهين لكل فئة من الفئات المتواجدة على الأرض اللبنانية، والذي يتنقل باستمرار بين جدران البرلمان وفي المنتديات المختلفة وعلى أعمدة الصحف، هل هو حالة مرضية أم أنه نتاج طبيعي لتربية وثقافة تنظر الى الأمور الحياتية من واقع المصلحة الشخصية الضيقة، والدينية المنغلقة؟... ان استمرار الصراع بين شرائح المجتمع اللبناني المتنوعة فكراً وثقافة وتربية وانتماءً دينياً من اجل صيغة مقبولة من الجميع لعيش مشترك خال من الشوائب ستستمر في ان تؤدي في كل جيل وعند كل منعطف، الى طرح رؤى وأماني حول الهوية والدور والعلاقة بالمحيط. ولا يمكن الخروج من الحالة الهيولى التي تسود المجتمع اللبناني عند كل مفصل وعند كل إشكالية دستورية أو قانونية إلا بقراءة واعية للتاريخ للخروج من حالات ارتباط الإنتماء بالقوى الخارجية أياً كانت... وختام القول انه لما كانت الحروب تبدأ من عقول الناس... ففي عقولهم ينبغي ان تشيَّد حصون السلام!... عندها يمكننا الحديث عن عيش أكثر من مشترك... عن عيش واحد.
مراجع: - تاريخ لبنان الحديث: د. كمال الصليبي - دراسات في تاريخ لبنان المعاصر: د. حسان حلاق - بيروت ولبنان في عهد آل عثمان: يوسف الحكيم - اسرار الثورة العربية ومأساة الشريف حسين: امين السعيد - الحركة العربية: 1908 - 1924: سلمان موسى - يقظة العرب، تاريخ حركة العرب القومية: جورج انطونيوس - لبنان بين مشرق ومغرب 1920 - 1969: محمد جميل بيهم - الجذور التاريخية للمسألة الطائفية اللبنانية: د. مسعود ضاهر - أرشيف مركز محمود الأدهمي للتوثيق والأبحاث والمعلومات
إشكاليّة المدينة البحرية: مدينة الميناء نموذجًا
مداخلة في مؤتمر طرابلس (عيش واحد) - من تنظيم مؤسسة العزم والسّعادة والمركز الثّقافي للحوار والدّراسات
طرابلس- فندق الكواليتي-إن – الجمعة والسبت 27 و28 آذار 2009
الدكتور جان عبدالله توما
الجامعة اللبنانية وجامعة سيّدة اللويزة
عضو مجلس بلدية الميناء
يُقال: "مدن الشّواطئ هي واجهة البلدان"، صلة الوصل مع العالم الخارجيّ، مع الثقافات الأخرى والعوالم الأخرى، الأكثر إنفتاحاً وقبولاً للتغيّر والتّطور والتّقدم . هذا ما يميّز المدن البحريّة نظريًّا، لكن:
ما انعكاس ذلك على البُنى الاجتماعيّة والثقافيّة الداخليّة لها؟
كيف تقوم المدينة البحريّة بحجرها وناسها؟
ما هي العلاقات الاجتماعيّة والاقتصاديةّ الّتي تسودها؟
كيف يتكوّن النسيج الأهليّ؟ كيف تنهض بعلاقاتـها وبعاداتـها وبتقاليدها؟ ماذا عن التّفاعل الدينيّ والعقائديّ فيها؟
كيف تبحث المدينة البحريّة عن هُويّتها؟
ماذا عن انتماءات أهلها محليًّا ولبنانيًّا وعُروبيًّا وعالميًّا؟؟
هل يشكّل أبناء البحر عالمًا واسعًا مثله؟ أم يبقون أسرى "عقل السّمك" كما يقال باللغة الشعبيّة البحريّة؟
ماذا عن الهجمة العمرانيّة على السّكن في المدينة البحريّة، ما أدّى بالتالي إلى ظهور إشكاليّة بين إرث الماضي، والحاجة إلى التّجدُّد بـهدف تناسق المكوّنات الحديثة في المجال المُدني؟
هذه الاشكاليّة ظهرت، انطلاقًا مما خطّطه المهندسون الفرنسيون، منذ عام 1947 ، مع التأكيد على أنّ أصالة الميناء تكمن في بساطة ناسها، وفي انفتاحهم على الآخر، وفي تآلفهم وفي قدرتـهم على العطاء بغير مقابل.
الميناء: بين السّاحل والدّاخل:
هي طرابلس التاريخيّة، تخلّت عن اسمها يوم دكّها المنصور قلاوون عام 1289م ، فيما عاش البحر وملوحته في عقول وجلود أبناء العهود المتعاقبة. هذا البحر الذي ضرب شواطىء تلافيف العقول الميناوية أثمر، قديمًا، إنكفاءً واعتمادًا سكانيًّا على الانتاج البحري، ما أنشأ علاقة وثيقة الصّلة بين الإنسان البحريّ واليمّ. لعلّ مُوَاطِنَ الملح كان أشبه بمُوَاطِنِ الأرض: هذا يزرع حبوبًا وذاك يزرع رياحًا ويحصد الاثنانِ زيتونًا بريًّا وزيتونًا بحريًّا (أيّ السّمك).
من هنا فإن العلاقة بين ابن الميناء والبحر كانت، قديمًا، علاقة برّانية،( أيّ من قلب المدينة إلى الأفق الخارجيّ) دون أن تنقلب، إلى علاقة داخليّة إلاّ في الأونة الأخيرة،حيث يمّم ابن الميناء وجهه باتجاه الداخل الطرابلسيّ والمُدني الآخر، خصوصًا بعدما تمّ ردم الخندق الذي كان يفصل الميناء عن طرابلس، وكانت الميناء أشبه بجزيرة تحيطها المياه من كلِّ الجّهات .
كما إنّ هذه "الرَّدَّة باتّجاه الداخل" جاءت نتيجة " استباحة بساتين الليمون وغيرها لتتصل الميناء بطرابلس عبر طرقات حديثة سهّلت تحوّل أبناء الميناء وخاصّة مع دخول التّعليم- عن التّجارة البحريّة لتنشأ طبقة متوسّطة من الموظّفين الّتي ساهمت في تطوّر الميناء وتغيير هويتها الأساسيّة وبات المجتمع الميناوي مجتمعًا متحوّلاً متبدلاً.
بداية نشير إلى أنّ عدد سكان الميناء كان في العام 1932م ( الإحصاء الرسمي الأوّل والأخير) 13400 نسمة ، بعد أن كان في العام 1913 /8535 نسمة يتوزّعون بين المسلمين السّنة، وكان عددهم 4156 والأرثوذكس وعددهم 4145 نسمة وعدد قليل من الموارنة وقد ساهم في هذه الزيادة لسكاّن الميناء، ما وفد إليها من مهاجرين في تلك الفترة استقروا فيها، كالكريتيين (ضحايا الحروب التركية اليونانية) والأرمن واليونانيين وغيرهم .
هذا التّراكم السّكاني الوافد هو سمة المدينة البحريّة، ولكنّ الاشكاليّة المطروحة :
هل استطاع مجتمع المدينة البحريّة أن يستوعب الأعداد الوافدة إليها؟
لعلّ الجواب واضح في تزايد عدد السّاكنين المطّرد في الميناء نسبة إلى عدد المسجّلين في سجلاتـها. ولعل الجواب أيضًا في العدد الوافد من أبناء سلك الدرك، أو عمال وموظفي سكّة الحديد ، أو الجمارك ، أو المعلّمين الرّسميين الذين عيّنوا في الميناء ولم يتركوها وقد اختاروها مركزًا لعيشهم عوضا عن بلداتـهم الأصلية، إذ بين عام 1932 و1952( أي خلال 20 سنة وصل النّمو السّكانيّ في الميناء إلى 8،3 بالمئة) كما أنّ فترة الحرب الّتي امتدت من 1976 إلى عام 1989 ساهمت في الزّيادة الديموغرافية، حيث ارتفعت نسبة سكّان الميناء حوالي 43 بالمئة بعدما قدّم أبناء الميناء صورة حضاريّة عن رقيّهم، وانفتاحهم وقبولهم بالآخر المختلف عنهم، وأبرزوا الميناء مدينة سكنيّة جاذبة وهادئة بامتياز.
لكننا هنا نتساءل: هذه المدينة البحرية الصغيرة والّتي كانت شبه منعزلة عن محيطها إذ كان البحر يشكّل مورد رزق العدد الأكبر من الميناويين: هل ما زال أهلها اليوم ينظرون إلى أنفسهم كشعب بحريّ يعتاش أساسًا من البحر؟
مهما كان الجواب فإنّ المهن في الذاكرة الجماعيّة وثيقة العلاقة بالبحر، إذ كان هناك الصيادون والبحارة والحمّالون والغطاسون والقباطنة وصانعو القوارب وصانعو الشبك والأقفاص وأصحاب المسامك وأصحاب الوكالات البحرية الصغيرة وأصحاب محلات أدوات الصيد وغيرهم، ورغم ذلك فإنّ مهنة صيد الأسماك كانت المهنة الرئيسة لأبناء الميناء وفي أيامنا الحاضرة، ما زال صيادو الميناء يُعتبرون مجموعة مهمة من مجموعات الصيادين العاملين على الشاطىء، في محافظة الشّمال.
هذا البحر جعل أبناء الميناء يدرسون أنواءه وعواصفه فجنحوا إلى المقلب الشرقيّ ، لأنّ الهواء الآتي من الغرب مزعج، لمعرفتهم بأحوال الطّقس والبلدان، فرممّوا ما كان خرابًا، منذ عهد كالسّلطان قلاوون، وبقي إلى اليوم يحمل اسم سوق الخراب، فيما يتحوّل بتؤدة إلى منطقة سياحيّة متقدمة.
أما المقلب الغربي، فكان يستريح فيه السور الفينقي والحمام المقلوب وحيدين يتلاعب بـهما إعصار" فوق الريح" فيما الناس تتعمّق أكثر في المنطقة القديمة حيث المنطقتان: الاسلامية والمسيحية يخترقهما الحي الاقتصادي، (في منطقة "تحت الريح ") هذا الحيّ الذي يجتمع فيه صباحًا أبناء الميناء للتبضّع وتأمين الحاجات الضّرورية.
هذا الحيّ الاقتصاديّ، كان ملتقى الجميع، قبل أن تتداخل البيوت وتختلط العائلات الإسلاميّة والمسيحيّة في تجاور محبّ. هذه المنطقة البحريّة القديمة كانت مضروبة بالتّخطيط منذ العام 1947 ، ولم يكتب لهذا التّخطيط أن يرى النور وإلاّ لقضى على المدينة البحريّة ، بحجرها ونسيجها الأهلي المتداخل. لقد رفع مجلس بلدية الميناء الحالي التّخطيط لأكثر من 500 عقار قديم كي تبقى هوية الميناء سالكة في الدّاخل بين أبناء المجتمع البحريّ الواحد، لتكون هذه المنطقة الرئة الّتي تتنفس بـها المنطقة الغربيّة التي نشأت بعدما شقّ شارعا "بور سعيد" و"مار الياس " الميناء إلى قسمين:
1- قسم داخلي باتجاه لقمة العيش البحريّة،
2 - وآخر باتجاه المقلب الغربيّ حيث البنايات الجديدة الّتي تعجّ بالنّاس الوافدين، فيما ترفدهم المدينة القديمة بعاداتـها وتقاليدها وتؤثر في نمط حياتـهم وفي تعاملهم مع واقع المدينة البحريّة التي لا تعرف تبدلاً في الذهنيّة الثقافيّة التقليديّة، بل في الوظائف ونوعيّتها.
ولا ننسى أن المدينة البحريّة محصورة ضمن الأسوار القديمة المتعارف عليها بين المواطنين، فالشّوارع الجديدة، كشارع نقابة الأطباء وأول "عزمي" و"المئتين" و"طريق الميناء بعد البركة" و"منطقة الضم والفرز" قد لا تعني الكثير لابن الميناء الّذي تقف حدود "مينائه"، من شارعي بور سعيد ومار إلياس يسارًا، باتجاه كورنيش عبد القادر علم الدين البحريّ شرقًا، الّذي أصبح رصيفًا برّانيا للمدينة البحريّة يستوعب حركة الزّوار مساء، محافظًا على العلاقة بين أهل الدّاخل والبحر، إذ لم يسقط في فخّ المشاريع السياحية الّتي قد تسدُّ الواجهة المائية الميناوية المتحرّكة باتّجاه الخارج .
صحيح أنّ تلك المناطق الجديدة تدخل ضمن الخطوط الجغرافيّة، والسّلطة البلديّة المحلّية، إلاّ أنّ المراقب لحركة التنقّل الدّاخلي للسّكان الميناويين في الحيّ التاريخي الأثري القديم يلاحظ أن هذه المناطق الجديدة لم تُقبل بَعْدُ في الذَّاكرة الجماعيّة لأبناء المدينة، ما يؤكّد أنَّ التغيير الاجتماعيّ الداخليّ لا يتحقّق عبر التّخطيط الرسميّ، ولا يأتي من فوق، بل يتحقّق فقط عندما يصدر عن النّاس: السّلطة الاقوى، عندها فقط يُقبل. وهذه إشكالية، يشعر بـها القائمون عندما تتراجع الخدمات البلدية في أماكن السكن الميناوية الدّاخليّة الأساسيّة.
ما هي خصائص هذه المدينة العتيقة؟
لقد التصق إنسان المدينة القديمة بالأزقّة الداخليّة واكتفى بـها، فبنى مساجده وكنائسه ومقابره ( قبل أن تنتقل العام 1875 إلى منطقتها الحالية لتبقى التسمية على السّاحتين الرئيستين : ترب الاسلام وترب المسيحية) . هذا الاكتفاء ولّد التّعاون الأهليّ والتعاضد والتّناصر حتّى ساد القول السائر: "ابن مينتي". فترى المسيحيين يتبرعون مالياً لبناء مسجد عمر بن الخطاب كما ورد في دفتر التّبرعات الصادر عن لجنة بناء الجامع في الستينيّات ، وترى المسلمين يسهمون يدويا بترميم الكنائس، كما جرى في بناء كنيسة النبي الياس، زمن الاقتتال الأهليّ في جبل لبنان العام 1861، بعد عاصفة بحريّة كادت تودي بحياتـهم ، ولعلّ هذا التّكاتف هو وليد ملح البحر والسّعي المشترك لاصطياد لقمة العيش من قعر البحر.
ثمّ إنّ المجتمع الميناويّ الأصيل هو مجتمع فَعَلة وعمال، وهذا المجتمع الحرفيّ اليدوي العتيق، هو الذي صنع الحجر الرّملي واشتغل بالكلس لدهان الحيطان وصنّع أدوات البناء بمهارة ، ولعلّ ذاكرة أبناء الميناء العتيقة وأرشيفها يبيّنان مهارة اليد المسيحية الشعبية التي اشتغلت ببناء المساجد والكنائس، وفق الأساليب العمرانية القديمة كبناء القناطر وحجارة الزوايا وغيرها ، فها هو كبير البنّائين (شيخ المعمرجيّة) انطون الكيك، ( 1885-1981) ( وهو لقب موثّق من رئيس بلدية الميناء عبد الستار علم الدين في الثّلاثينيات ، يبني الجزء المزيد على مئذنة الجامع الحميدي والمعلم جرجس توما (1882- 1933) وعماله يشتغلون بجامع الأيوبيين في الثلاثيِنّيات في الحارة الجديدة.
هذا وقد اعتمد المهندسون المسلمون الكبار ومنهم مثلاً زهدي عبس (1911-1997) ومصباح حولا ( 1888-1972) على اليد العاملة الماهرة المسيحيّة في الحنيات الأثريّة والبناء فوق الحجر الرمليّ الّذي كان سائدًا في بناء البيوت الميناويّة القديمة.
ومن مداواة الحجر إلى مداواة البشر يظهر في نـهاية القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين، طبيب شعبي يلتفّ حوله أبناء الميناء من المسلمين والمسيحيين، يداوي فقراءهم ويبلسم جراح الكلّ دون تمييز في الدين أو اللون. هو الطّبيب يعقوب لبان (1887- 1968) الذي خرجت الميناء، بشبابـها وشيبها، في وداعه، وأصرّ أهل الميناء على جمع التبرعات لإقامة نصب له تكريمًا لخدمته التي لم تميّز بين الناس في المدينة البحرية، فأقاموا له تمثالاً العام 1971، ليختفي زمن الحرب الأهليّة وليعود، بعد أن عثر عليه الجيش اللبناني في قعر حوض مرفأ طرابلس، إلى مكانه باحتفال تحت رعاية رئيس الجمهورية، ومشاركة اهالي الميناء كلّهم .
هذا التّراث وهذا التّاريخ التكامليّ بين المسيحيين والمسلمين هو الّذي أبقى مدينة الميناء – ما عدا بعض الحوادث المدبّرة- واحة سلام ومحبة طيلة أيام المحنة اللبنانيّة.
كيف توطّدت هذه العلاقة بين اهل المدينة البحريّة؟
توطّدت هذه العلاقة بالعمل اليوميّ الّذي يعرف الوجوه والأسماء. إنّ أهل المدينة البحريّة يعرف بعضهم بعضًا، ويعيشون حياة مشتركة، يفرحون معًا، ويتألمون معًا، لأنَّ المجتمع البحريّ هو مجتمع ضيّق، والمقاهي البحريّة تستقبل الصّيادين يوميًّا، فهذه مجالس عاديّة وتقليديّة، بعد العودة من رحلة بحريّة متعبة، حيث يملأ البحر عيونـهم أحلامًا ومشاريع... وخوفًا من الغد.
هذا البحر الميناويّ السّاحر، خرج منه جبران خليل جبران طفلاً من قصر عثمان علم الدين ، بعدما نزل من بشري مع عائلته ليستقلّ مركبًا يقلّه إلى الباخرة الراسية خارجًا، لتنقله إلى بيروت، ومنها إلى مصر فأميركا. هذا الطفل لاعب بكفّ يده وجه البحر الّذي رآه للمرّة الأولى ، وغسل وجهه بالماء المالح، ومرّ أمام الجزر فوقف أمامها متعجبًا، فلماذا ننسب مشهديّة كتابه" النبي" إلى جزيرة وهميّة، وبحر وهميّ، ومركب وهميّ، فيما هو نزل هنا في المدينة البحريّة العتيقة، فرأى بشرها وحجرها وبحرها وجزرها في طفولته، فسكنت قلبه وأخيلته ولم تسكنه مدينة "أور" "فلاز" أي مدينة الصخرة ؟!
وللمناسبة : ماذا عن المفكر العقلانيّ فرح انطون (1874-1922) ابن المدينة البحريّة والرّجل الّذي حملته السّفينة إلى مصر ليكتب في الانسان وليدعو إلى العقلنة وإلى الاتّجاه العلمي الناقد، وليقيم محاورات ومناقشات مع الإمام محمد رشيد رضا ،( ابن القلمون) وللمصادفة فإن المركب نفسه الّذي انطلق من الميناء حملهما إلى مصر ولم يكونا يعرفان ذلك. هذا البحر الذي حملهما وحمل أفكارهما هو نفسه الّذي يجعل أبناء مدن الملح قادرين على مواجهة الحقيقة والتّفاعل معها . ويتأثر أهل الميناء بمناقشاتـهما، فها هم " أرثوذكسيو الميناء آنذاك، يردّون إلى فرح انطون مجلته "الجامعة" التي نشر فيها تباعًا " سيرة المسيح" وقد عرّبـها عن أرنست رينان ( 1823-1893) فأهل الميناء اعتبروها انتقاصًا من شأن السيّد المسيح أو نكرانًا لإيمانـهم له" .
من هذا البحر الزّاخر بالعلم والآراء، يأتي الشّهيد الشيخ صبحي الصّالح ليسأل خادم رعيّة الميناء المطران الحالي جورج خضر عن رأيه في مخطوطه حول النّظم الاسلاميّة، قبل أن يدفعه للطبع .كما أن المرحوم المفتي الشّيخ منير الملك كتب مخطوطًا في تاريخ الأيام وزمانـها مشيرًا إلى المناسبات المسيحيّة انعكاسًا لواقع علاقاته المميّزة مع أهل مينائه ، على اختلاف معتقداتـهم لأنَّهُ كان مرجعًا حقيقيًّا لهم . هذه العلاقات، كانت تقوم على احترام الإيمان المتبادل: فعن دور مدرسة مار الياس ، يقول الشيخ ناصر الصالح:" كان مدير المدرسة مكاريوس موسى (مدير مدرسة مار الياس من 1933 إلى 1957 - توفي 1964) يؤمن للتلاميذ المسلمين أداء صلاة الجمعة، في "مسجد الميناء الكبير"، يصحبهم بنفسه أو يرسل معهم أحد المدرسين (0000) وكان كلّ طلبة صفّنا يحضرون درس الدّين ، دون حرج وكان مدرّس الدّين يومئذ الأب جورج خضر" . وماذا نقول عن وفد كنيسة الأرمن الأرثوذكس في الشمال، وغالبية أبنائـها السّاحقة من الميناء والذي أعلن أثناء زيارتـه لتهنئة مفتي طرابلس الجديد سماحة الشيخ مالك الشّعار : " أنّ لا مطران لنا في طرابلس، ولتكن سماحتك مشرفًا على شؤوننا لثقتنا بك وبنهجك واسلوبك" . وكيلا يبقى هذا الموقف بروتوكوليا، أعلن الوفد الأرمني ذلك أمام الصحف ووسائل الاعلام . واستطرادًا لهذه الصّور من العيش الواحد في الميناء، المدينة البحرية، نلاحظ في صورة تعود إلى العهد العثماني وتضمّ نخبة من أعيان الميناء وقادتـها، منهم ابراهيم حبيب ( 1857- 8 تشرين الثاني 1947 ) في الصفّ الأول، وعلى صدره إشارة الصليب تبدو بشكل علني، على لباسه الرسمي ، دون أن يثير حفيظة أحد. هذه هي الميناء تعيش يومياتـها بعفوية وتسبق عصر ما أصطلح على تسميته بعصر "حوار الحضارات".
صور من ذاك التّاريخ:
هذه العلاقات، ليست جديدة على أهل المدينة البحريّة ، فإذا عدنا إلى أزمنة ولّت، نلاحظ مثلاً أنّ الحركة الثقافيّة عند مسلميّ طرابلس لم تنطفىء، بعد سقوط طرابلس التاريخيّة ،( أي الميناء) بيد الفرنجة العام 1108 م ، فبالرغم من إحراق دار العلم ومكتبة بني عمّار وتخريب مراكز العلم، بقيت في المدينة البحرية أقليّة مسلمة، وهذه الأقليّة كان لبعض أفرادها، بشكل أو بآخر- الدّور في تعليم كونت طرابلس ريموند الثالث (1520-1187) اللغة العربيّة والعلوم الاسلاميّة (000) حيث إنّ الطبيب الخاصّ ، لكونت طرابلس المذكور كان مسلمًا من أهل المدينة يدعى"بركة"(BARAKA) وهو الذي قام بتطبيب ومعالجة ملك بيت المقدس"بلدوين الثالث" قبيل موته سنة 1162م .
كما تأثّر أسقف طرابلس" وليم الطرابلسيّ" بالحركة الثقافيّة الاسلاميّة في المدينة البحريّة، حيث ولد ونشأ فيها، واطّلع على القرآن والسّنة إلى جانب العلوم الفلسفيّة والتاريخيّة الّتي أحاط بـها، كما درس اللغة العربيّة حتى أتقنها، وصار اسقفًا على طرابلس منذ العام 1250م، ثم أسقفًا على بيت لحم في العام 1263 م ، وفي العام 1270 م وضع كتابًا عن الإسلام متحدّثًا على عبقرية الاسلام ومميزاته مركّزًا في السّور القرآنيّة الّتي تتشابه تعاليمها مع تعاليم المسيحيّة .
هذا الانفتاح هو انفتاح طبيعي للمدن البحريّة الّتي يتحوّل شعبها إلى صورة المدّ البحريّ والجَزْر، أيّ في حركة تبادل بين شرائح المجتمع المتنوّعة. كذلك أخذ الفيسلوف "فيليب الطرابلسيّ" العربية منصرفًا للدراسات المنطقيّة والفلسفيّة فترجم مخطوط"سرّ الأسرار" إلى اللاتينيّة . ولأنّ المدينة البحريّة تـهتم بأدوات الإبحار والصّيد ، فقد أخذ الأوروبيون من البّحارة المسلمين في ميناء طرابلس "البوصلة"، وكانت مستعملة العام 1242م ، عند هذا الشّاطىء .
هذا البحر، كان رافدًا لكلّ حركة فنّية أو اقتصاديّة، لا سيما في القرن الثّامن عشر، حيث أنعش البحر حركة الحياة في المدينة - الخراب، إذ انطلقت الحركة الملاحيّة التّجاريّة مع موانىء جنوا والبندقية ومرسيلية ومع موانىء مصر في دمياط والاسكندرية وغيرهما من موانىء البحر الأبيض المتوسط ، ولاحقًا اضّطرت الدّول الأوروبيّة إلى أن تقيم قناصل لتؤمِّن هذه الحركة وتسهر على رعاياها. فقامت القنصليات وكان مسيحيو الميناء من روّادها ما جعل الميناء تزدهر وتتطّور الحياة فيها، ولعلّ هذه الميزة لأبناء الميناء تراجعت في نـهاية القرن العشرين إذ فقدت الميناء القنصليات ، ولم تعد لها قائمة في المدينة البحريّة التي تحتاج إلى نـهضتها التجاريّة البحريّة المستدامة تمثيلاً قنصليًّا وتجاريًّا.
وهنا، لا ننسى دور المدارس التعليميّة في المدينة البحريّة، ولعلّ مدرسة عباس علم الدّين الرسميّة ومدرسة مار الياس الأرثوذكسيّة يلعبان دورًا بارزًا في تطوير المجتمع الميناويّ وخدمته، منذ أواخر القرن التاسع عشر ، فَصُنِّفَت كمدينة لا تعرف التّعصب لأن أسماعها والافئدة مفطورة على الأذان المرتفع إلى السّماء على إيقاع أجراس كنائسها، ولم تميّز بين فقير وميسور ، ولا ننسى أن نشير إلى أن بـهو كنيسة النبي الياس الذي شهد أول مسرحيّة لميخائيل ديبو، رائد المسرح الطرابلسيّ، قبل ان تنطلق حركة المسرح العربيّ مع مارون النقاش في مصر العام 1848م .
ماذا عن ترجمة الحياة الميناويّة البحريّة؟
إنّ الحرص على إبراز هوية الميناء المنفتحة، دفعت بكل قياداتـها إلى ترجمة هذا الانتماء لبحر واسع متنوّع الثروات إلى ترجمة ذلك وممارسته بشكل واعٍ في الانتخابات البلديّة،وهذا ينمّ عن الوعيّ الشّعبي لواقع الحياة في المدينة البحرية .
واستطرادًا لا بدَّ من الإشارة إلى التطوّر الاجتماعي الذي يرافق حركة المواطنين في المدينة البحرية التي تقبل المعوّقين ، وذلك لارتباط الاعاقة في ذهن الصيادين بإمكانية الإصابة المحتملة الدائمة نتيجة الغطس ونقص الاوكسيجين، أو السّقوط فريسة الضغط في النـّزول إلى أعماق البحر، أو الصّعود منها. هذا، إذا نجا الصّياد من غدر البحر، ومن انقلاب هدوئه إلى فخّ يؤدّي إلى التّهلكة. من هنا، لا يرى المراقب في الميناء أيّ عجب من انتخاب مواطني "الميناء البحري" كفيفًا هو الدكتور مؤنس عبد الوهاب عضوًا في المجلس البلدي العام 1998 كما أنتخبوا مُقعَدًا هو محمد فوزي عضوًا في المجلس البلدي الحالي العام 2004.
وبالعودة إلى سجلات المجالس البلديّة المتعاقبة، يستطيع المراقب أن يسجّل حرص القائمين على التّعيين، أو النّاخبين على تمثيل الطّوائف التاريخيّة للمدينة ، وهذا أثر من آثار بساطة العيش البحريّ ووحدة الحال فيه، وإليك نموذجًا انتقائيا للشهادة على هذا الموضوع بالأرقام :
أرمني ماروني ارثوذكس سنّة القرار
- - 1 5 قرار رقم 1208 عام 1920
- - 2 5 قرار عام 1926
1 - 4 5 قرار عام 1928
1 - 2 4 مرسوم 125 عام 1932
1 - 1 4 انتخابات عام 1952
1 - 1 3 مرسوم عام 1944
1 4 9 انتخابات شعبية 1963
- - 3 3 مرسوم403 عام 1977
1 1 5 7 مرسوم1816عام 1991
- - 5 16 انتخابات شعبية عام 1998
- لا مرشح 5 16 انتخابات شعبية عام 2004
من قراءة متأنّية هذا الجدول تجعلنا نستخلص أنّ المراسيم راعت التّوازن الطّائفي، فتمثّلت الطوائف الأساسية، مع التّنويه بخطوة نواب طرابلس ورئيس بلدية الميناء عبد القادر علم الدّين الّذين أخذوا بعين الاعتبار عام 1991 مسألة تعيين المجلس البلديّ الجديد ، بالمرسوم 1816، التّمثيل للطّوائف التاريخية الميناوية ، فنلاحظ قسمة العدد بالتساوي مع تمثيل الطائفتين الأرمنية والمارونية ، وهذا أمر ورد قبلاً في مرسوم التعيين عام 1955 (الماروني غبريال رفيع والأرمني سركيس سركيسيان)، ومرسوم التعيين عام 1959 ( الماروني فؤاد رفيع والأرمني سركيس سركيسيان) . ولكنه لم يتكرّر كصورة أهليّة سكانيّة واقعيّة حقيقيّة لتاريخ المدينة البحريّ عبر العصور، مع تسجيل حرص العاملين في الشّأن البلديّ على العُرف القائم في إسناد نيابة رئاسة البلديّة إلى عضو مسيحي، مهما كان عدد الأعضاء المسيحيين في المجلس .
أما في الانتخابات الشعبيّة الأربعة الّتي حصلت (1952و1963و1998و2004) فلم يمتنع أبناء الميناء عن تمثيل شرائح المجتمع البحري، ما خلا سقوط التمثيل الأرمني، مع غياب للمرشّحين الموارنة على اللوائح البلديّة المتنافسة، وهذا عائد إلى عوامل الهجرة، والانتقال الجماعيّ من أماكن السّكن إلى أماكن العمل، وإلى بلاد العالم المتنوّعة، كلّ ذاك ترك أثرًا مهمًّا على الحضورين الأرمني والماروني.
ولاكتمال الصّورة العامّة للترجمة الشعبيّة انتخابيا، لا بدّ من الإشارة إلى التّمثيل النيابيّ للميناء في النّدوة البرلمانيّة، فبعد عثمان علم الدين ( أوّل نائب بالتعيين، في اللجنة الإدارية في عهد الانتداب الفرنسي، بين عامي 1920و1922)، يأتي نور علم الدين نائبًا في المجلس بين عامي 1922و1925 وصولاً إلى النّائب الراحل فؤاد البرط ، ابن الميناء، الذي احتكر تمثيل الميناء منذ عام 1951 إلى عام 1972 عند اعتزاله العمل العام. ومنذ ذلك الوقت لم تعد الميناء تتمثّل بأيّ نائب. ولعلّ المرحوم فؤاد البرط الذي كان يُجمع عليه أبناء الميناء في مختلف الصناديق ، كان يعرف أن مجتمع المدينة البحريّة يقوم على التّوظيف وتقديم المساعدة، والأهم، من ذلك، التّعامل مع اسلوب تقييم أبناء البحر للواقع الّذي يعيشون فيه، ومن الملاحظ أنَّ المرشحين من أبناء الميناء كانوا يحصلون دائمًا على عدد مرتفع من أصوات من الناخبين في المدينة البحريّة.
واستكمالاً للصورة السياسية لا بدّ من الإشارة إلى أن ابن الميناء المرحوم الوزير جورج حكيم شارك، في عهد الرئيس كميل شمعون، في ثلاث حكومات .
لا شكّ في أن ناخبي الميناء وعددهم يناهز 34 ألف ناخب، (فعليًّا أكثر من 12 ألف ناخب )، يشكّلون كتلة شبه متراصّة وراء مرشح من مدينتهم، يحدوهم على ذلك التّاريخ المشترك اليوميّ، وجنوحهم إلى انتخاب من يرونه يحقّق آمالهم ويعيش بينهم. هذا لا يعني أن المدينة البحريّة لا تعيش الحالة السياسيّة، بل بالعكس، فأهلها يتحسّسون المشاكل العامّة ويسهمون في التّظاهرات والتّحركّات الشعبية، وهم بالنّهاية يعرفون أن مدينتهم دفعت شهداء في المظاهرات، وهي مدينة مسيّسة بامتياز حيث شعارات العدالة والرّغيف والدّواء تفعل فِعْلَهَا، وما زالت، في نفوس أبناء البّحر الّذين يعانون حرقة الشّمس وتقرّح الجلد وصعوبة التنفّس حين يغوصون بحثًا عن اللقمة ..... المالحة، فكيف تنسى الميناء شهداء العروبة والقومية والأممية والوطنية، شهداء الدفاع عن حقوق الفقراء والصيادين والعمال والكادحين، كـأحمد علم الدين وحمدي درويش (سقطا في مظاهرة العام 1969) ومصطفى صيداوي ( اغتيل 1985) وأحمد المير الأيوبي ( اغتيل عام 1979)، وبكلمة فإنَّ الطبقة الشّعبية من بسطاء ومثقفين كانت الطّبقة المناضلة من أجل الحقوق ولقمة العيش، وكانت الزنازين مقرًّا للدورات الحزبية وتكوين الزعامة القيادية".
هي مدينة بحريّة، نعم، لكنها مدينة لبنانيّة عربيّة لا زالت:
تعاني الحالة السّائدة في طرابلس والشّمال وفي كلّ الوطن،
تتّحمل نتائج الانماء غير المتوازن،
تحزن على ما آلت إليه حالها،
ولكنها .......تحلم دائمًا بيوم جديد.
المراجع:
- أحمد قاسم الجنابي: الشيخ الشهيد الدكتور صبحي الصالح وجهوده اللغوية. بحث لجامعة الجنان، 2001
- أرشيف مجلة الموج والأفق، الصادرة عن بلدية الميناء وأرشيف بلدية الميناء والصفحة الإلكترونية البلدية.
- أرشيف نقابة المهندسين في الشمال.
- المناطق اللبنانية في ظلّ الاحتلال الفرنجي- منشورات فيلون لبنان-1997.
- الميناء: مدينة، تراث وإعادة إعمارجامعة الروح القدس، الكسليك 1998.
- الميناء في ذاكرة الغد- اللجنة العلمية لتطوير الميناء- دار الانشاء-2001.
-بطرس البستاني: محيط الميحط، مكتبة لبنان، 1977.
- بيان بالتبرعات والمصاريف لبناء جامع عمر بن الخطاب- 1969م -1389 هـ
- ثناء سليم الحلوة: بحر الميناء بين الذاكرة والواقع، رسالة جدارة في الأنتروبولوجيا، معهد العلوم الاجتماعية، الفرع الثالث، الجامعة اللبنانية، طرابلس 1999.
- جان توما: الأرثوذكس بشرًا وحجرًا في الميناء، دار الكلمة،1997.
- جريدة التمدن- العدد 1204- 19 آذار 2009.
- جريدة الأنوار، العدد 6191 تاريخ 20 شباط 2006.
- جريدة المستقبل، عدد 16 نيسان 2008.
- الانشاء، عدد خاص : الميناء تاريخ وحضارة، 1982، العدد 8.
- حكمت شريف: تاريخ طرابلس الشام من اقدم زمانـها إلى هذه الأيام،1323هـ، 236 صفحة (مخطوط)، طبع وصدر عن دار الايمان ودار حكمت الشريف، طرابلس.
- خير الدين الزركلي : الأعلام، دار العلم للملايين، الطبعة العاشرة 1992.
- دراسة صادرة عن مكتب الاحصاء والتوثيق، آب 2004 .
- شفيق حيدر: هكذا تكلّمت مدرسة مار إلياس [ميناء طرابلس] ، تعاونية النور الأرثوذكسية للنشر والتوزيع، مطبعة ليزار، بيروت، 2002، 160 صفحة.
- عبد الغني عماد: انتخابات بلدية الميناء 1998 دراسة سوسيولوجية مقارنة، دار الانشاء،2004.
- عبدالله كبارة : الميناء:مدينة البحر تروي قصتها!مطبعة ماب- طرابلس-2000.
- عمر عبد السّلام تدمري: تاريخ طرابلس السياسي والحضاري عبر العصور، دار البلاد، طرابلس، الطبعة الأولى، 1978.
- مارون عيسى الخوري: ملامح من الحركات الثقافية في طرابلس خلال القرن التاسع عشر، منشورات جروس برس، طرابلس، الطبعة الثانية، 1983,
- ميشال جحا: فرح انطون، دار رياض الريس، ايلول 1998، الطبعة الأولى.
- نقولا ناصيف: كميل شمعون، آخر العمالقة. دار النهار للنشر، بيروت،1988.