فهرس المقال |
---|
البحث الأول: المسلمون والنصارى في طرابلس، ملامح من التاريخ المشتركأ.د. عمر عبد السلام تدمري |
البحث الثاني: العيش المشترك في طرابلس خلال العهد العثماني: اتجاهات وثائقيةد. سعاد سليم |
البحث الثالث: في سوسيولوجيا العلاقات والصراعات والعيش المشترك خلال العهد العثمانيد. عبد الغني عماد |
البحث الرابع: علاقة أهل السلطة بمسيحيي طرابلس، علي باشا الأسعد نموذجاًد. قاسم الصمد |
كلمة النقيب رشيد درباس في افتتاح الجلسة الأولى
منزلة نسيج مدينة طرابلس المتنوع ، بمنزلة العطر في بساتينها ، وبمنزلة الربيع في الزمان كما يقول أبو الطيب ، ولكننا من أسف نشهد منذ مدة طويلة تهتك النسيج ، وتمزق الحزام الأخضر الذي ربطه جدودنا حول خصرها ستراً للعرض ، ودرءاً لعواصف الرمل ، وبثاً للكلوروفيل ، وموئلاً للعصافير ، ولكن الأحفاد لم يحافظوا على حزامهم ، فجرى إسقاطه من غير ممانعة منهم ، وهرب العطر من هواء المدينة ، فيما يحاول رئيسا البلديتين التقاطه في قوارير الشجر الصغير الذي تجري زراعته على أطراف الشوارع ، ولكن الزهرة لا تغني عن الخميلة والهنيهة لا تختصر الزمن ، والشال لا يقوم مقام الثوب ، وماء النهر لا يستعاض عنه بالزجاجات المعقمة والعقيمة . ولهذا فإنني أدعو القيمين على هذا المؤتمر ورعاته ألا يبحثوا عن عبير المدينة في سوق العطارين فقط ، لأن هذا العبير يوثق في كتبه الأصلية وأوراقه الخضراء التي جرى جرف تربتها من غير شفقة او تبصر .
أيها المؤتمرون
ما زال الأذان يرتفع في مآذن المساجد ، فيدعو المطران شارعه للصلاة ، وما زال شارع الراهبات ملء اسمه ومدرسته ، يستقبل رنين النواقيس ، فيوزع صداها على بنات طرابلس من مختلف الملل فيما رحلت الفرير فخلت الزاهرية من زهرها الأحمر ورهبانها ، والطلاب الوافدين إليها من أنحاء المحافظة ، ورحلت الليسيه إلى الكورة ، وفقد شارع التل رونقه من غير أن يستجيب أحد لتحويله إلى وسط حقيقي للمدينة ، وبدأت أبنيته التراثية بالانهيار ، وفقدت التبانة خيرها ، وراح يعشش فيها شر الفتنة والفوضى .
تفتح وعيي على طرابلس مدينة مأهولة بأكثرية وطنية عربية ساحقة ، وحفنة لا تذكر من أهل التعصب والانغلاق ، ولكننا نأتمر اليوم للحديث عن العيش الواحد ، لأننا نشعر بخطورة التسرب، ونفتقد الريعان المتنوع ونخشى من استفحال لغة غريبة وخطيرة على الخطاب السياسي ، وعليه فان هذا المؤتمر مطلوب فيه أن يؤكد في متن عناوينه وفي هوامشها إننا نحن العاصمة الثانية للدولة الواحدة لا نرضى فيها نشوزاً عن القانون ولا مروقاً على النظام ، ونحن لا نتطلع اطلاقاً إلى أن تكون دويلة ضمن الدولة ، أو أن يتملص أبناؤنا من العقاب المحق إذا كانوا مرتكبين ، فذلكم قياس المريض ولا يجوز فقهاً قياس الصحيح إلى العليل.
المسلمون والنصارى في طرابلس
ملامح من التاريخ المشترك
الأستاذ الدكتور
عمر عبد السلام تدمري
اتّسمت العلاقات بين المسلمين والنصارى في طرابلس عبر تاريخها الطويل بوطيد الصداقة والألفة وحُسن الجوار. وسجّل لنا التاريخ ملامح وومضات مشرقة من تلك العلائق الطيبة التي تجمع بين الطائفتين. وقد تجلّت بأوضح صورها في الحرب العبثية التي شهدها لبنان في الربع الأخير من القرن المنصرم، فكانت طرابلس مثالاً للوطنية الحقّة، وعنواناً للتاريخ المشترك. ولا غرو، فهذه السمة طبعت أبناء المدينة منذ مئات السنين.
فمنذ أن فتح المسلمون طرابلس وجدوا كنيسة كبيرة في الجهة الشرقية منها. خارج أسوارها، فأبقوا عليها ولم يهدموها، وكانت لا تزال قائمة في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي، وذكرها المحدّث الإخباري "معاوية بن يحيى الأطرابلسي" (ت. وبُعَيد 170هـ/786م) وهو معاصر وشاهد عيان .
وفي سنة 66 هـ/685 – 686م. جاء الى طرابلس في عهد "عبد الملك بن مروان" الكردينال "هونوريوس" موفداً من قبل "سركيس الأنطاكي" بابا روما، فقصده "يوحنا مارون" بعد أن أصبح بطريركاً واجتمع به وتناظرا في النصرانية حول طبيعة المسيح عيسى عليه السلام ومشيئته البشرية والإلهية، ثم أبحرا معاً من ميناء طرابلس الى روما حيث حصل "يوحنا" على درع التثبيت في بطركية أنطاكية .
إن هذا الخبر يؤكد انفتاح المدينة لاستقبال القاصد الرسولي وإقامته، وعقده للمناظرات الدينية، والتنقل فيها دون أية معّوقات أو مضايقات، في وقت كان فيه الصراع على أشدّه بين المسلمين والبيزنطيين أيام الأمويين.
وفي العصر العباسي، وبالتحديد في أواخر سنة 195هـ/808م. يفيدنا "ابن عساكر" خبراً يؤكد على وجود "النبط" و "الأنباط" وهم من النصارى السريان، أي الروم الأرثوذكس، في طرابلس، وأنهم كانوا يعبّرون عن آرائهم بحرّية وجرأة، وقد تجلّى ذلك في موقف امرأة نبطيّة من طرابلس تدعى "أوسطاوا" حين كانت تشنِّع على "علي بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية السُفياني" المعروف بـ "أبي العَمَيطر" عندما أراد إحياء الدعوة للبيت الأموي في ساحل الشام، وقد أخذ البيعة من أهل صيدا وبيروت وجبيل، ولما وصل رسوله الى طرابلس طرده أهلها، واشتهر أمر المرأة النبطية التي أطلقت اسم "أبي العَمَيطر" على قِط لها، وكانت تقول لجيرانها إذا شكوا من الفئران: "تريدون أعيركم أبا العَمَيطر" ؟
وفي العشر الأخير من القرن الثالث الهجري/مطلع القرن العاشر الميلادي، وفي العصر العباسي أيضاً، كان النصارى يمارسون حياتهم اليومية بحُرية، ويتنقلون لقضاء مصالحهم دون عوائق أو تضييق وهم آمنون مطمئنون في ظل الحكم الإسلامي، ولا أدّل على ذلك من بيت شِعر ختم به أحد الطرابلسيين قصيدته التي يعرض فيها ظلامَته لابن والي المدينة "محمد بن ليو الطرابلسي" وينفي عن نفسه تُهمة أحد الوُشاة:
.. لقد نقل الواشون عنّي مقالةً مزوَّرةً لم تجر يوماً على فِكر
أسيرُ ثوى في أرضه وبلاده لَعَمْرُكَ ذا خطْبٌ عظيمٌ من الأمر
أروح وأغدو خائفاً مترقباً وتمشي النصارى آمنين من الكفر
وفي منتصف القرن الرابع الهجري، وبالتحديد سنة 350هـ/961م. أي في العهد الإخشيدي – تم بناء كنيسة كبيرة للروم الأرثوذكس، تيمناً باسم القديس "بهنام" شهيد النصرانية أيام الرومان.
وعن التآلف بين المسلمين والنصارى يخبرنا الشاعر "ابن الخياط الدمشقي" الذي كان يقيم بطرابلس أيام أمرائها من بني عمّار في القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي، ويتلقى علومه في "دار العلم" بها، أنه كان يتردد مع شقيق المؤرخ "ابن عساكر الدمشقي" على دكّان أحد العطارين النصارى بسوق طرابلس، يُدعى "أبو الفضل بن يوسف النصراني" ويعقدون لقاءً أدبياً ويتجاذبون الأشعار، كما كانوا يخرجون منها الى منتزهٍ في عين ماءٍ بظاهر طرابلس تُعرف بـ"عين ملكان" فيتطارحون الأشعار عندها .
وفي ديوان "ابن الخياط" أكثر من قصيدة في مدح شخصيات نصرانية بطرابلس، منها الكاتب بديوان طرابلس "أبو المُنى فضل بن يوحنا" .
ويسجّل لنا المؤرخ "يحيى بن أبي طيّيء الحلبي" موقفاً تاريخياً لأهل طرابلس من النصارى حين سقطت المدينة بيد الفرنج الغُزاة آخر عام 503 هـ/1109م، وقد عَزّم هؤلاء على ذبح مسلمي طرابلس الذين وقعوا أسرى في أيديهم، فحال نصارى البلد بينهم وبين تلك المذبحة، وأقنعوا الفرنج بالإبقاء على أرواحهم على أن يتخذوهم عبيداً يؤدّون الجزية، وبذلك حقنوا دماءهم ، وقد حفظ الملك المنصور قلاوون لهم هذا الموقف التاريخي عندما تم تحرير طرابلس من المحتلّين الغزاة عام 688هـ/ 1289م، فقام بنقل النصارى الوطنيين من المدينة الساحلية القديمة الى قلعة طرابلس وما حولها قبل أن يهدم طرابلس التاريخية، وذلك بشهادة واحد من مؤرخي النصارى المعاصرين لتلك الأحداث .
وكان أمير طرابلس "بوهيموند السابع" أمر ببناء كنيسة في سنة 1286م. وتمّ له ذلك قبل فتح طرابلس بثلاث سنين (1289م)، وأبقى المسلمون على الكنيسة قائمة، وهي لا تزال الى الآن في محلة "البرانية" وقد جرى ترميمها على عهد المطران "أنطون عريضة" رئيس أساقفة طرابلس بمسعى وكيلها "إبراهيم يوسف البستاني" في 22 تموز سنة 1924.
ويسجّل الأمير والشاعر الأديب "أسامة بن منقذ" موقفاً إنسانياً لأحد نصارى طرابلس أيام احتلال الفرنج لها نحو خادم له أرسله في مهمة خاصة، وتعرّض له اللصوص وقُطّاع الطرق في نواحي عكار، فخرج "يونان المكاري" من طرابلس، وكان أكّاراً للبغال، فتصدى لهم، وأتاح للخادم العودة الى سيده بسلام .
وفي أول إحصائية لسكان طرابلس أجراها العثمانيون في سنة 925 هـ/1519م. كان المسلمون في محلة "حصن صنجيل" يشكّلون 32 أسرة، بينما كان النصارى في المحلة ذاتها 38 اسرة ، وهذا التفاوت ليس إلا نتيجة لسياسة قلاوون في نقل نصارى الميناء إلى هذه المحلة كما تقدم. وبعد نحو نصف قرن، وبالتحديد سنة 979هـ/1571م. أحصي ثلاثون أسرة مسلمة، مقابل أربع وخمسين أسرة مسيحية ، وفي سنوات لاحقة أخذ النصارى يعودون للسكنى في الميناء، واختار بعضهم الإقامة بظاهر طرابلس المملوكية، وبذلك نشأت المحلة المعروفة الى الآن بـ"حارة النصارى" وبجوارها "حارة اليهود".
كما نشأت محلتان لفقراء المسلمين وفقراء النصارى، الأولى في محلة السراي العتيقة عند حدود بوابة عائشة البشنّاتية عُرفت بمحلة "عديمي المسلمين" والثانية بين التربيعة وخان العسكر، وعُرفت بمحلة "عديمي النصارى" .
وطوال نيّفٍ وثلاثة أرباع القرن من القرن الثامن عشر تعاقب على ولاية طرابلس باشاوات من آل العظم، وكان كبار الموظفين في مرافق المدينة من النصارى، ففي ولاية "إبراهيم باشا العظم" بين سنوات 1136- 1143هـ/1723 – 1730م. كان "إلياس كرباج" أميناً على ضبط مال جمرك ميناء طرابلس، وكان "عبد الله صدقة" يتولى شحن بضائعه من ثغر دمياط في مصر الى ميناء طرابلس، ومن طرابلس إلى دمشق. وكان "يعقوب ابن فخر التاجر" يتاجر له بالحُلِيّ والعلائق الثمينة والحرير، ويشحنها له في المراكب من مختلف البلاد، وكان "جرجس الصّراف" رئيس خزانة دار المالية بالولاية، و"فرنسيس طرَبيه" ترجمان الفرنسيين بطرابلس .
ومن أصدق ما يرمز الى العلائق الطيبة وأكثرها دلالة على صدق مشاعر الودّ والاحترام بين نصارى طرابلس ومسلميها، ما أقدم عليه أحد أبناء أسرة "خلاط" وهو "فيليبس" ابن الترجمان "إسحاق خلاط" حيث وقف جُنينة لذريته، ونصّ في وقفيته على أنه في حال انعدام ذريته تصبح الجنينة وقفاً لمصالح الجامع الكبير وجامع التوبة بطرابلس. وسُجلت الوقفية في المحكمة الشرعية الإسلامية سنة 1136هـ/1723م .
وكان المسلمون لا يتحرّجون في الاستعانة بالنصارى لبناء المساجد، فقد أفادنا بعض المصادر في حوادث سنة 940هـ/1533م. أنّ معلّم البناء "إبراهيم الحصروني" ابن عمّ "الخوري موسى" الذي بنى دير مار أليشاع وتوسيعه، هو الذي بنى مئذنة جامع القبة القديم، المعروف الآن بجامع قبة النصر .
وكان النصارى يتحاكمون في دعاواهم أمام قاضي الشرع في محاكم المسلمين، مثلهم مثل اليهود، ويأخذ لهم القاضي حقّهم ولو كان من الحاكم والي السياسة. ومن يتصفّح سجلات المحكمة الشرعية بطرابلس يجد الكثير من القضايا التي تتحدّث عن ذلك، وعن عدالة قضاة الشرع ووقوفهم في وجه الولاة الذين يظلمون الناس أموالهم.
ومن ذلك دعوى تقدّم بها نصارى المدينة، يتقدّمهم "عبد المسيح بن إبراهيم" و"سليمان بن عبد النور" و"جرجس سليمان" و"هبة الله وهبة" و"سليمان مسرّة" و"عبد الله فرح" و"بركات نصر الله" و"عبّود أبو البهاء" و"ميخائيل عبد الله"، وادّعوا على الشمّاس "بترس إلياس الحلبي" الذي أتى في سنة 1086هـ/1675م ليجمع من نصارى البلد مالاً لبطركية البطرك "كيريلوس" فمنعه القاضي من مطالبتهم، وكتب لهم تعهّداً بذلك، غير أن الشمّاس الحلبي عاد بعد سنتين 1088هـ/1677م. وسعى عند والي طرابلس "حسين باشا" وتقدّم منه بوساطة وكيل أعماله "خليل آغا" مُدَّعِياً أن راهباً مات بطرابلس وترك ألف قرش نقداً، وأن النصارى أخذوا المبلغ وتصرّفوا به، وزيّن له أن يأخذ المال منهم، وذلك كذباً وافتراءً، فقام وكيل أعماله بالقبض عليهم وجرّمهم 380 قرشاً أسدياً ظلماً وعدواناً.
وعندما قدّموا دعواهم أنكر وكيل الوالي قولهم، فشهد ناظر خزينته "شعبان آغا بن بكر" و"الحاج أحمد بن سليمان السكباني" بصحّة أقوال النصارى، وأن الوالي ظلمهم، فأفتى قاضي طرابلس "هبة الله بن علي البصير الحموي الطرابلسي" بإلزام وكيل الوالي بدفع مبلغ 380 قرشاً للنصارى من جيبه الخاص لأنه كان المحرّض للوالي على أخذها. وسُجّلت الدعوى بعنوان "قضية طائفة النصارى دعوى وإلزام" . وحكم على الشمّاس الحلبي بالحبس حتى يؤدي المال المتوّجب عليه نحو أبناء طائفته، فمكث في السجن مدّة، إلى أن تقدّم اثنان من مسلمي طرابلس، وأبلغا القاضي أنهما يعرفان الشمّاس معرفة شخصية، وأنه فقير لا يملك سوى ما عليه من ثياب، فوافق القاضي على تخلية سبيله، وإمهاله لأداء ما عليه إلى حين ميسرة ، عملاً بقوله تعالى: ﴿وإنْ كان ذو عُسرةٍ فنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرة﴾. (سورة البقرة، الآية 280)
وحكى "إلياس غريّب" الجدّ الأعلى لآل غريّب خبر بناء كنيسة السيدة ومار نقولا في حارة النصارى سنة 1224هـ/1809م. ودور احد العلماء المسلمين، وهو الشيخ "رشيد الميقاتي" في تسهيل عملية البناء رغم مخالفته لمواصفات المرسوم السلطاني. وكتب "إلياس غريّب" تاريخ الكنيسة على صفحة من إنجيل العائلة، وفيه: أنها بُنيت على اسم القدّيس نيقولاوس والسيدة، في أيام المطران "كيرتاودوسيوس" ورياسة البطريرك "كيريوس كيرانتيموس" ووُضع الحجر الأساس لقاعدة القنطرة بمناسبة عام الهيكل الملوكي باتجاه هيكل مار جرجس، وذلك نهار الأربعاء في 6 تشرين الأول سنة 1809 الموافق 21 رمضان سنة 1224هـ. في أيام الوزير "كنج يوسف باشا" والي الشام وطرابلس، ومتسلّم طرابلس "علي بك الأسعد" وقاضيها "خليل أفندي بركة" ومفتيها "عبد الله أفندي كرامة" ونقيب أشرافها السيد "عبد الرحمن أفندي بركة" ورئيس الإنكشارية (اينكجار أغاسي) "محمد آغا عبد العزيز الشامي".
وقد نقل "عبد الله غريّب" عن جدّ جدّه "إلياس غريّب" حكاية هذه الكنيسة في تاريخه المخطوط، وعنه ننقلها كما كتبها بلغته المتوسطة بين الفُصحى والعامية:
حكاية عن بناء هذه الكنيسة
"صدر الفرمان السلطاني ببناء كنيسة مار نقولا على مساحة أقّل من مساحتها المبنية، وعليه زادوا على البناء المأذون به من طرف السلطة مساحة هيكل مار جرجس الذي بيسار الكنيسة، وإذ رجل فاسد الأخلاق من بيت ددّه ذهب لعند الحاكم ووشى له على أبناء طائفته بأن مساحة الكنيسة هي أزيد من المساحة المأذون بها بموجب الفرمان. فغضب الحاكم، وقرّر أن يحضر بذاته لمحل بناء الكنيسة ويحقّق بنفسه عن هذا التعدي ضدّ الفرمان، فشعر المرحوم جدّ جدّي إلياس غريّب بهذا الأمر، فحالاً اجتمع بحضرة المفضال الشيخ المرحوم رشيد الميقاتي وأخبره القضية بأن أحد سفلة الطائفة الأرثوذكسية من بيت ددّه فسَد على الطائفة للحاكم بخصوص بناء الكنيسة، وترجّاه بأن يدبّر الأمر بما يرتأيه(!) من الحكمة وحُسن التدبير، فطيّب خاطره ووعده بأن يحضر مع الحاكم للكشف على الكنيسة، ولكن إذا اقتضى الأمر والضرورة أحوَجَته لشتْم المعمارية ومسبّتهم وإهانتهم لا أحد يزعل منه، بل يكون ذلك للسياسة، حيث يقول المثل: (تعال عندي وخلّصني ولا تجي معي وتشركلني).
فثاني يوم حضر الحاكم ومعه الشيخ وبعض أرباب الحلّ والعقد للكشف على الكنيسة، فتناول التحقيق الشيخ وحده، وانتهر المعمارية قائلاً لهم: يا كفّار يا قليلي الحياء، أنا كنت أعطيتكم حبلاً قياس الكنيسة، أين هو الحبل؟ فابتدأ المعمارية يتظاهرون بالتفتيش على الحبل فوجدوه بجورة الماء، ومن عادة وطبيعة الحبال إذا وضعت بالماء تنكشّ ويقصر طولها، فأخذ الحبل وقاس مساحة البناء، ولما رآها مقصّرة قليلاً لوجودها بالماء التفت نحو الحاكم ووشوشه في أُذنه بأن المسيحيين ما زادوا على المساحة المعطاة لهم، وعمّا يبنوا ضمن المأذونية الممنوحة لهم. ثم التفت نحو المعمارية والعَمَلَة صارخاً بهم: يا ملاعين إيّاكم ثم إيّاكم أن يخطر على بالكم أن تزيدوا شبراً واحدا عمّا هو الحبل.
وانصرف الحاكم ورجال الحكومة، وكمل بناء الكنيسة بهذه الصورة، أي أربع هياكل خلافاً لبناء الكنايس التي جميعها مبنيّة من ثلاث هياكل. وأما هيكل مار جرجس فهذا هو الزيادة".
وبعد هذه الحكاية يواصل "إلياس غريب" حديثه عن هذه الكنيسة بسياق متّصل، فيقول:
" ولا بأس من بيان تاريخ هذه الكنيسة فأقول: كانت الكنيسة المختصّة بالطائفة الأرثوذكسية هو "جامع السروة" الكائن في محلّة الصاغة على شمال طلعة القلعة. ولما كانت هذه الكنيسة ضمن البيوت الإسلامية منفردة عن حارات النصارى، سيما أيام المواسم والأعياد الاحتفالية، فصارت كأنها في مُنعزل عن المسيحيين، وحصل نوعاً ما ضيقٌ وحجزُ حرية في إقامة الحفلات، ارتأت الطائفة أن يصير المبادلة بين الطائفتين الإسلامية والأرثوذكسية، فالإسلام استلموا الكنيسة وجعلوها جامعاً بعدما استلمت النصارى محتويات الكنيسة من أيقونات وخلافها، واستلمت مصبنة وعمّرت في أرضها كنيسة مار نقولا، وبذلك أصبحت المصبنة كنيسة، والكنيسة جامعاً. وأول طفل اعتُمد في جُرن معمودية كنيسة مار نقولا هو جدّي عبد الله غريّب، وأول طفل اعتُمد في جرن كنيسة مار جرجس هو كاتبه عبد الله غريّب. فهذه صدفة من أحسن الصدف" (انتهى النص)
إنّ هاتين الحكايتين تؤكدان على جوّ الوفاق والتفاهم الذي كان يسود علاقات المسلمين والنصارى في العصر العثماني الذي وُصِمَ – ولا يزال – بأنه عصر الظلم والاستبداد وتضييق الحريّات للطوائف الدينية، وفي هذا الكثير من المبالغة والتجنّي، ونحن بحاجة لإعادة قراءة التاريخ العثماني وكتابته من جديد بتجرّد وحيادية علمية.
أما عن "جامع السروة" الذي ورد في الحكاية الأخيرة، فليس في جوامع طرابلس ومساجدها، ولا حتى مدارسها الدينية ما يُسمى بالسروة، كما أن محلّة الصاغة ليس فيها جامع أصلاً، بل فيها عدّة مدارس، ولا تُعرف إحداها بهذا الإسم. والذي جعلني استغرب هذه التسمية أنني كنت أصدرت كتابي "تاريخ وآثار مساجد ومدارس طرابلس في عصر المماليك عام 1973 وليس فيه جامع بهذا الاسم، وقد وقفت على "تاريخ آل غريّب" المخطوط بعد صدور كتابي ببضع سنين، في وقت كنت فيه رئيساً للقسم الديني في دائرة أوقاف طرابلس الإسلامية، واستوقفتني هذه التسمية كثيراً، وكان عليّ أن أتحقق منها لمعرفة من هو الجامع المقصود، إلى أن تحققتُ أنه الجامع المعروف بـ "جامع الأويسية" فهو على شمال طلعة القلعة كما جاء في المخطوط، وهي "طلعة السمك". وقد سمّاه "عبد الله غريّب" بجامع السروة لوجود شجرة سَرْو في أقصى الطرف الشرقي من فناء باحته الخارجية، وهي لا تزال قائمة الى الآن.
أما قوله إنّ الكنيسة هي جامع السروة، فهو مُجافٍ للحقيقة، والصحيح أن الكنيسة بجوار الجامع، وهو قديم البناء يعود الى بدايات العصر العثماني، فقد جرى تجديد مئذنته في سنة 941هـ/1534م. على يد نائب طرابلس ونائب قلعتها الأمير "حيدرة" في أيام السلطان "سليمان بن سليم الأول" المعروف بالقانوني، حيث اكتشفت أثناء بحثي لوحة مثبّتة في أعلى المئذنة، نُقش عليها ما يلي:
"عمّر في أيام السلطان سليمان جعله الله..................
... أيام نايب القلعة وطرابلس الفقير حيدره حفظه الله في كل حال
941
وذُكر هذا الجامع في رحلة "المَحَاسني" إلى طرابلس في سنة 1048هـ/1638م. وفي رحلة "النابلسي" سنة 1112هـ/1700م.
وفي سنة 1030هـ/1620م بنى الأمير "محمود بك السنجق" مسجداً صغيراً ملاصقاً للجامع من الجهة الشرقية، ودُفن الأمير في قبر خارج المسجد من الجهة الجنوبية (القِبلية) وعليه تاريخ الوفاة .
وفي سنة 1078هـ/1667م وضع والي طرابلس "أحمد باشا الشالق" وقفية للجامع ولمدفنه القائم حتى الآن قرب شجرة السرو في الباحة الخارجية للجامع.
أما في الجهة الغربية من حرم الجامع فيوجد مسجد صغير به محراب بناه "سليمان باشا العظم" وأذِن للناس بالصلاة فيه ابتداء من شهر شعبان سنة 1139هـ/1723م، ثم تولى على طرابلس (1147 – 1166هـ/1734-1752م) وقبل وفاته كان مير ميران أورفة (الرُها) فوقف أربعة دكاكين مستجّدة البناء في محلّة النوري بطرابلس ملاصقة لسوق خان الصاغة (المعروف الآن بخان الصابون)، وأُلحِق المسجد بجامع الأويسية، ونُفّذت الوقفية بعد وفاته في 12 من ربيع الأول 1166هـ/1752م .
وعلى بعد أمتار معدودة الى الجهة الشمالية من جامع الأويسية يقوم بناء الكنيسة التي وردت في حكاية "عبد الله غريّب"، وهي خالية مهجورة لا تقام فيها صلاة، ولم تتبع الجامع، فضلاً عن أنها لم تُحوّل الى جامع مطلقاً، ولا يزال مذبح الكنيسة قائماً حتى الآن، وهذا يعني أن المسلمين الذين تخّلوا عن أرض مصبنة كبيرة ليقيم النصارى عليها كنيسة، لم يخرّبوا كنيسة الروم، ولم يحوّلوها الى جامع ولا حتى إلى مُصلّى، بدليل أنها لا تزال قائمة إلى الآن، وإن كانت مهملة، وفي هذا مراعاة لمشاعر إخوانهم ومُواطنيهم.
وفي سنة 1215هـ/1800م تغلّب على طرابلس "مصطفى أغا بربر" وهو من أسرة آل القِرق، وحكمها على فترات متقطعة نحو 30 عاماً، وكان في صراع دائم مع "علي بك الأسعد المرعبي" من أعيان عكار، وكان "بربر أغا" على علاقة جيدة مع أبناء طرابلس مسلمين ونصارى، وكان بنو غريّب من أقرب أصحابه.
وعندما تمكّن "المرعبي" من تسلُّم حكم طرابلس أراد أن ينتقم من خصمه "بربر" بالاعتداء على أصحابه من آل غريّب فاستولى على أرضٍ واسعة بجوار دارهم في حارة النصارى، وأراد أن يبني عليها جامعاً، وهو يظن انه سيكسب إلى جانبه عواطف أكثرية الأهالي من المسلمين، وبذلك يفرّق بين الطائفتين ليسهُل عليه بعد ذلك قيادهم، فقام بتحويل دار "نعمة الله غريّب" الى جامع في سنة 1240هـ/1824م. وتمّ بناء المئذنة في وسط ارض الجامع، فوق القبو الوحيد الذي لم يُهدم من الدار، كما بنى محراباً في القبو المذكور، وسُمي الجامع آنذاك بالجامع الأسعدي نسبة الى "علي بك الأسعد" ولكنّ بناءه لم يكتمل نهائياً، حيث عُزل "علي بك" عن طرابلس في سنة 1242هـ/1826م.
وما إن عاد آل غريّب إلى طرابلس في سنة 1247هـ/1831م بعد إقامتهم سبع سنين في البترون حتى تعرّضت البلاد لحملة الجيش المصري بقيادة "إبراهيم باشا بن محمد علي الكبير" فسقطت طرابلس في يده سنة 1248هـ/1832م ولما كان بحاجة الى مكان يضع فيه الذخيرة العسكرية قريباً من السراي التي ينزل فيها، فقد وقع اختياره على دار "آل غريّب" لاتّساع أرضها حول المئذنة، ولقُربها من سراي طرابلس، المعروفة حتى الآن بالسراي العتيقة، فوضع الذخيرة فيها ولذلك أصبحت الدار تُعرف بـ"دار الشونة" وهو اسم مستودع الذخائر في التعبير المصري، وظلّت هذه التسمية تُطلق على الدار حتى بعد خروج المصريّين من طرابلس سنة 1256هـ1840م. ثم حرّف الطرابلسيون كلمة "الشونة" إلى "الشُوم" كناية عن شؤم طالع هذا الجامع الذي اغتُصب من أصحابه ولم يكتمل بناؤه، وبقيت نصف مئذنته من غير بناء .
وفي سنة 1251هـ/1835م أيام حكم المصريين، تقدّم أحفاد "آل غريّب" إلى مجلس الحكم الشرعي بكتاب يطلبون فيه الإذن لهم بإقامة حائط يفصل بين بناء الجامع وبين دارهم الملاصقة له، إذ كان باب الجامع مجاوراً لباب الدار، ما يجعلهم محرَجين في فتح باب الدار عند الحاجة لكثرة المترددين على "الشونة" واقتصر كتابهم على هذا الطلب فحسب.
وهنا تتجلى روح التعاطف والمودّة بين مسلمي ونصارى طرابلس، كما تتجلى عدالة التشريع الإسلامي، وصدْق أحكام العلماء المسلمين، إذ أصدر مفتي طرابلس في ذلك الوقت الشيخ "محمد كامل الزيني" فتوى شرعية بعدم جواز الصلاة وإقامة الشعائر الدينية في الجامع الذي أقيم على أرض اغتُصبت من أصحابها ظلماً وعدواناً. كما لوحظ في الفتوى أن مئذنة الجامع بارتفاعها مطلّة مباشرةً على نوافذ دار آل غريّب، مما يجعل النساء داخلها عُرضة لأنظار المؤذنين، ولذا أشير في الفتوى بسدّ كوّتين في المئذنة تنفتحان لجهة الدار. وتوِّجت الفتوى بالحكم الشرعي الذي ينصّ على أنّ من حق أصحاب الاستدعاء أن يتصرفوا في حقّهم وملكهم. وأن القبو الذي أقيمت عليه المئذنة هو ملكهم، ولهم حقّ إرجاعه إلى ملكهم وإزالة المنارة والمحراب، والتصرّف المطلق في ذلك.
ولقد حفظت لنا سجلاّت المحكمة الشرعية بطرابلس نصّ هذه الفتوى، كما يحتفظ السيد "عبد الله غريّب" بنسخة عن الفتوى، ونشر جدّه "عبد الله غريّب" نصّ الفتوى في مخطوطة عن تاريخ العائلة. ويوجد منها نسخة مصوّرة في مكتبة الجامعة الأميركية في بيروت، ونشرها الدكتور "أسد رستم" في أحد كتبه . ونسخة لدى أحد ابناء "سالم الزيني" صاحب الفتوى الشرعية، وكان قام بنفسه بالكشف على المكان في يوم الجمعة في 21 من شعبان سنة 1251هـ/1835م وبصحبته نقيب الأشراف، و"إبراهيم أفندي سندروسي"، ومن موظفي المحكمة الشرعية: الحاج مصطفى ضنّاوي، والحاج علي شقص، والشيخ محمد العادلي، والسيد مصطفى منقاره، ومن النصارى: الخواجة نصر الله زُريق، والخواجة إسحاق خلاط، وقد سبقهم إلى المكان قاضي طرابلس وجماعة من أهل الخبرة والمعرفة .
العيش المشترك في طرابلس خلال
العهد العثمانيّ: اتّجاهات وثائقيّة
د.سعاد سليم
تتمحوّر الأبحاث في العلاقات الإسلاميّة المسيحيّة خلال العهد العثمانيّ حول عدّة إشكاليّات. وقد أتت الوثائق المحفوظة في محكمة طرابلس الشرعيّة لتفصل بين الطروحات وتؤكّد الثوابت وتعكس الواقع السائد عبر العصور. كيف تنظّمت العلاقة بين المسلمين والمسيحيّين بين جماعتين متساويتين ومتكافئتين أو بين أقليّة وأكثريّة؟ أو بين حكّام ومحكومين؟ هنالك ثلاث نظريّات أساسيّة تم نقضها ودار حولها النقاش في مجال العلاقات المسيحيّة الإسلاميّة بعامّة وفي مدينة طرابلس بخاصّة. هذه النظريّات تطرح وتختلف من منطلق الأحوال الحاضرة ومن هواجس عالمنا المعاصرة، وكثيرًا ما تطغى المواقف السياسيّة على النظرة الموضوعيّة للتاريخ. فنحن دائمًا من منطلق نظرتنا التقليديّة ضحايا التاريخ بعيدون عن التفسير العلميّ والتحليل الموضوعيّ. ومن هذا المنطلق لا يمكن للضحيّة أيًّا كانت أن تصنع التاريخ. ويمكننا التساؤل عن أوضاع المسيحيّين في طرابلس وعلاقتهم بالمسلمين من منطلق الأوضاع السائدة في المدينة. هل كانت أوضاعهم أفضل أو أسوأ من أوضاع السكّان المسلمين؟ كيف يمكن أن تكون أوضاعهم في ظلّ الصراع بين آل سيفا وآل معن في منتصف القرن السابع عشر بعد المعارك التي دارت بين الطرفين ودمّرت الكورة وطرابلس ؟ كيف كانت أوضاعهم في ظلّ الصراع على الالتزام بين أسعد باشا العظم ومصطفى بربر آغا في بدء القرن التاسع عشر وما يستتبع ذلك من زيادة على الضرائب ؟ كيف يمكن أن تكون أوضاع الأرثوذكس في ظلّ الصراع بين آل غريّب وآل خلاط نتيجة انقسام المصالح والعائلات ؟
ماذا عن دفع الجزية في المدينة هل كانت تؤخذ من الجميع أو كان يعفى منها من ذكرتهم الشريعة الرهبان، النساء، الأولاد والمجانين ؟ ماذا عن مقابر المسيحيّين المنتشرة في أديار الكورة؟ هل تحاشيًا لحساسيّات المسلمين من المواكب أم بسبب ضيق المكان لم يكن للأرثوذكس مدفن في طرابلس؟ هل كانت في المدينة أحياء خاصّة بالمسيحيّين تدعى حارة النصارى أم أنهم اندمجوا في الشبكة المدينيّة وتوزّعوا على كلّ الأحياء التي عاش فيها المسلمون؟ يذهب بعض الباحثين إلى أنّ أحياء النصارى في المدن العثمانيّة أتت نتيجة التنظيمات التي نصّت على المساواة بين المسلمين والمسيحيّين، ونتيجة التطوّر الاقتصاديّ والاجتماعيّ الذي عاشته هذه الجماعات في نهاية القرن التاسع عشر، بينما يذهب البعض الآخر إلى التأكيد على وجود هذه الحارات بشكل أو بآخر منذ فترات قديمة في هذه المدن .
سجلات المحاكم الشرعيّة غنيّة بالوثائق عن مستوى التعايش والتفاعل بين مختلف الجماعات الدينيّة، الخاضعة بحكم عثمانيّتها للشرع الإسلاميّ. لقد شهدت المرحلة العثمانيّة جهدًا تنظيميًّا وتعليميًا على صعيد القضاء جعل من الشرع القاعدة الأساسيّة لتشريع القوانين وإصدار الأحكام لا مثيل له . وشكّل تحوّل القضاء في الولايات العثمانيّة من المذهب الشافعيّ إلى المذهب الحنفيّ انقلابًا كبيرًا في حياة أهل هذه المناطق بخاصّة تلك التي بوصفها عاصمة ولاية كانت مركزًا للسلطة المركزيّة والقضائيّة. كما أنّ الجماعات الدينيّة المسيحيّة بقيت خاضعة لحكم قوانينها الخاصّة بها على صعيد الشؤون الدينيّة والأحوال الشخصيّة . ففي الجبل مثلاً بقيت القوانين الكنسيّة والوضعيّة هي المسيطرة حتّى عهد الأمير بشير الثاني الذي وحّد القضاء في جبل لبنان وفرض تطبيق الشرع الإسلاميّ سعيًا إلى تثبيت مركزيّة حكمه وفرض سلطته .
1) توزّع السكّان المسيحيّين في المدينة
يبدو أنّ وجود السكّان المسيحيّين في طرابلس يعود إلى العهد المملوكيّ. فمنذ الإحصاء العثمانيّ الأوّل 1519 يبدو أنّ العائلات استقرّت ضمن أحياء ذات طابع طائفيّ محدّد. فلدينا على سبيل المثال 116 عائلة مسلمة في حيّ الجسر العتيق و92 عائلة مسيحيّة في محلّة النصارى و 62 عائلة يهوديّة في محلّة اليهوديّ. أمّا الإحصاء العثمانيّ الثاني العائد إلى السنة 1571 فيورد اسم عشرة أحياء لا ذكر فيها لحارة النصارى أو حارة اليهود لكنّها تحدّد عدد الذكور البالغين الذين يدفعون الجزية. يبدو أنّ زيادة ملحوظة في عدد المسيحيّين جرت في الفترة بين الإحصائين ناتجة ربّما من قدوم عنصر رومي أو يونانيّ إلى المدينة. فخلال القرنين الأوّلين لقدوم العثمانيّين ازداد السكّان الروم، اليونان والمحليّون، على حساب الجماعة اليعقوبيّة التي كانت مستقرّة في المدينة منذ القدم. ويبدو أنّه كان هنالك ثلاثة تجمّعات مسيحيّة موزّعة حسب انتمائها الاجتماعيّ: الأغنياء في حي القلعة، العنصر الروميّ في التبانة والقبّة والفقراء في حيّ اليعقابة .
كما أنّ مجموعة من الوثائق العائدة للسنوات 1519 إلى 1741 تقدّم تفصيلاً لأسماء الذكور البالغين في كلّ محلّة على حدة، يتبيّن منها أن ّثمّة ستّ عشرة محلّة سكنها المسيحيّون والمسلمون من أصل أربع وعشرين محلّة. فخلال القرون الثلاثة الأولى من المرحلة العثمانيّة حافظت محلات طرابلس على اختلاط ملحوظ بل أنّ الاختلاط قد ازداد، ومن الواضح أن أيًّا من الحارات لم تكن خالية كليًّا من المسيحيّين حتّى إنّ الحيّ النوريّ التي تقوم فيه معظم المدارس الدينيّة والجامع المنصوريّ كان ذات أكثريّة مسيحيّة . لقد حدث الاستقطاب بسبب نشاط الإرساليّات وبناء الكنائس الجديدة. فالإرساليّات اختارت لمدارسها مواقع خارج المدينة كما أنّ طرابلس شهدت حركة بناء كنائس بعد العام 1860 بسبب التنظيمات العثمانيّة الحديثة التي أذنت ببناء الكنائس، حيث أصبح هناك شارع في طرابلس يعرف باسم شارع الكنائس أو حارة النصارى حيث كثافة من السكّان المسيحيّين، استقرّوا فيه ليس بسبب انتقال بعض العائلات المسيحيّة إليه، ولكن بسبب نزوح بعض العائلات المسيحيّة من الأرياف المجاورة أيضًا. لم تفرغ أيّة محلّة من سكن المسيحيّين رغم تضاؤل نسبتهم تدريجيًّا بالنسبة إلى باقي السكّان واستمرّوا بكثافة محدّدة ضمن ثلاثة أحياء: الزاهريّة، التلّ، القبّة .
اعتبر مؤرّخو طرابلس أنّ السكّان المسلمين والمسيحيّين سكنوا جنبًا إلى جنب داخل تلك الحارات. ويعتبر باحثون آخرون أنّ التنوّع في المحلات لا يقابله تنوّع في التوزيع الجغرافيّ داخل المدينة. فبعض الأحياء المذكورة في السجلاّت كانت متجاورة ومتلاصقة. وبذلك يتّضح أنّ المسيحيّين في طرابلس وعند بدء القرن السادس عشر قد سكنوا في ثلاثّ تجمّعات وبلغ عددهم فيها 284 من أصل 298 عائلة وجدت في المدينة. هذا ما يناقض الطروحات السابقة عن توزّع المسيحيّين علىالأحياء كافة ويؤكّد ارتباط مكان سكن العائلات بانتمائها الدينيّ، وذلك بسبب دمج المحلات التي ينتمي أغلب سكّانها إلى طائفة واحدة، هو السبب في بروز التجمّعات الكبيرة. فإذا ما نظر الباحث إلى كلّ حارة على أنّها كيان مستقلّ عن واقعها الجغرافيّ يخلص إلى القول بالتنوّع الطائفيّ داخل الأحياء وبالتعايش الإسلاميّ المسيحيّ.
أمّا إذا نظر الباحث إلى مجموعة من الأحياء وتفاعلها في ما بينها يجد أنّ الأحياء ذات اللون المذهبيّ أو الطائفيّ الواحد كانت هي السائدة ولم تنتظر القرن التاسع عشر وتأثير التنظيمات ومداخلات القناصل الأجانب لتظهر .
من جهة أخرى نستطيع استخلاص أهمّيّة المسيحيّين واليهود في المدينة من خلال قرب أو بعد أحيائهم من وسط المدينة والمركز الإداريّ فيها. فمثلاً موقع اليهود قرب النهر في شمال المدينة يدلّ على أنّهم كانوا قد أتوا في فترات متأخّرة أو أنّهم كانوا منبوذين. أمّا المسيحيّون فكانوا بين محلّة الخوري قرب القلعة أي في منطقة مقرّبة من السلطة . امّا الذين كانوا في محلّة باب التبانة التي عرفت لاحقًا بحارة النصارى، أو بمحلّة الجماعة اليعقوبيّة التي سكنها اليعاقبة والروم في العام 1571، فموقع هذه المحلّة في الشمال الغربيّ في المدينة يدلّ على تهميش سكّانها وتواضع أحوالهم الاجتماعيّة. ربّما هذه المحلّة شهدت تمركز العناصر اليونانيّة التي أتت في مرحلة لاحقة إلى المدينة وحلّت مكان اليعاقبة .
2) جباية الجزية في طرابلس
شكّلت قضيّة الجزية موضوعًا خلافيًّا تناوله المؤرّخون اللبنانيّون بشكل عامّ وبشكل خاصّ المهتمّون بالعلاقات الإسلاميّة المسيحيّة، فمن قضيّة الحماية إلى قضيّة الجهاد إلى قضيّة المواطنة كلّها أمور تتعلّق، بشكل أو بآخر، بعمليّة جباية ضريبة الجزية ومفهوم أهل الذمّة. إنّ الجزية من مفهوم قرآنيّ هي ضريبة الأعناق التي يدفعها كلّ غير مسلم مقابل إعفائه من حرب الجهاد . وهذه الجزية تؤخذ من أهل الكتاب أو أهل الذمّة. إنّ عبارة أهل الذمّة أخذت تدريجيًّا تحلّ مكان عبارة أهل الكتاب. وكلمة ذمّة تعني الضمير أيّ أنّ غير المسلمين من أهل الكتاب هم في ذمّة النبيّ محمّد وفي حمايته غير مجبرين على المشاركة في حروب الخلفاء والسلاطين، على أنّ هذه الحروب بمعظمها كانت حروب جهاد لا يمكن لغير المسلمين أن يشاركوا فيها. وبقيت عمليّة دفع الجزية مرتبطة بمفهوم حرب الجهاد وفي ما بعد، أيّ بعد مرحلة التنظيمات التي اعتمدت المساواة بين المسيحيّين والمسلمين، ألغيت الجزية واعتمد مفهوم المواطنة الذي يفترض واجب الخدمة العسكريّة والذي فرض ضريبة بدل العسكريّة على المسيحيّين الساعين إلى الإعفاء . ما جعل هذه الضريبة الجديدة تحلّ مكان الجزية. ويكون مفهوم الجزية مرتبطًا بمفهوم حرب الجهاد، فإنّ كل إنسان غير قادر على القيام بهذه الحرب معفى بالأصل من دفع الضريبة حسب النصّ القرآنيّ. فالقرآن يعفي من الجزية الأطفال والنساء المجانين ورجال الدين إلا أنّ هذا الإعفاء لم يكن دائمًا مطبّقًا. فالظروف المحليّة من تراجع في قيمة العملة أو عجز في خزينة الدولة وحالات الصراع والحروب في المدينة أدّت بالحكّام المحليّين إلى تجاهل الإعفاء وجباية الجزية من رجال الدين. ففي إحدى وثائق المحاكم الشرعيّة العائدة إلى العام 1691م / 1103 هـ حضر إلى المحكمة مطران طرابلس ميخائيل ابن الياس فرح والراهب الياس الخوري ابن يونس وقدّما شكواهما ضدّ حاكم طرابلس مصطفى باشا والقائمقام علي آغا اللذين كانا يطالبانهما بدفع الجزية رغم أنّ القوانين في الشرع الإسلاميّ كانت تعفي الرهبان من دفع الجزية على أنّهم فقراء وغير قادرين على الكسب . وتشمل هذه الشكوى إضافة إلى الكهنة في طرابلس كلّ الرهبان القاطنين في الأديار المحيطة بالمدينة. هؤلاء الرهبان معفيّون من الجزية نظرًا إلى فقرهم ولما بيدهم من العهدنامة النبويّة. فكان ردّ الحاكم الشرعيّ بأنّه مأمور بأخذ الجزية بموجب ما بيده من براءة سلطانيّة تحتّم عليه جباية الجزية من أهل الذمّة. فقرئت البراءة على مسمع الجميع حيث جاء فيها بأنّ الجزية الشرعيّة تؤخذ منهم على الأعلى والأوسط والأدنى مع ترك الفقير الذي لا يقدر على الاكتساب ويلحق هذا الإعفاء بالمفلوج والمريض . وطلب المدّعى عليه أي حاكم طرابلس إثبات أنّهم فقراء بالطريق الشرعيّ. فأحضرا أربعة شهود من المسلمين الذين شهدوا بأن طائفة الرهبان ليس لهم عادة من قديم الزمان بإعطاء الجزية وأنّهم فقراء وليس لهم كسب ولا حرفة وأنّهم يعيشون بصدقات النصارى شهادة صحيحة شرعيّة.
فحكم القاضي لهما بألا يدفعا الجزية وطلبا منه أن يحرّر لهما صكًّا شرعيًّا يبقى بيدهما في حال الاحتياج إليه، فقبل طلبهما.
من المهمّ أنّ هؤلاء المسيحيّين الرهبان مع المطران تمكّنوا عبر المحكمة الشرعيّة من استصدار حكم يرفع عنهم الظلم الذي كان يمارس من قبل أعلى سلطة سياسيّة في ولاية طرابلس. وهذه السلطة ممثّلة بشخصيّتين: فالقائمقام علي آغا يقوم مقام الوالي ويصدر المراسيم وهو المسؤول أو الوكيل عن شؤون الولاية، أمّا المحافظ فهو المسؤول عن الشؤون العسكريّة . لم يكونا في حال تراجع أو لم يكونا من المغضوب عليهما عندما خسرا الدعوى بل عندما عزلا عن ولاية طرابلس ترقى الواحد إلى منصب كاتب وقائمقام الصدر الأعظم بينما شغل الثاني منصب الصدر الأعظم . هذا الأمر يشكل مكسبًا إيجابيًا لوضع المسيحيّين في طرابلس ودليل على وجود حالة قانون تسمح بإنصاف من يحتاج من الرعايا أكانوا من الذميّين أو المسلمين.
قيمة الجزية لم تبق ثابتة خلال كلّ الفترة العثمانيّة فهي كانت تخضع للزيادات التي يتعرّض لها الميري التي كانت تجبى معه، إنّما بنسبة أقلّ. وفي هذا المجال لدينا وثيقة من العام 1816 (1231هـ) تؤكّد على زيادة الجزية المجبيّة في ولاية طرابلس من المسيحيّين أسوة بباقي الولايات . هذه الزيادة أتت نسبيّة كما أنّ قيمة الجزية هي أيضًا نسبيّة تتماشى مع القدرة الاقتصاديّة والمكانة الاجتماعيّة. فالجزية التي كانت تجبى سابقًا كانت اثني عشر غرشًا على الأعلى (أي من الأغنياء) وستة غروش على الأوسط (أي متوسّطي الحال) وثلاثة غروش على الأدنى (أي من الفقراء).أمّا الزيادة التي طرأت فكانت 4 غروش على ورقة (أي الفرد) الأدنى، غرشين على ورقة الأوسط، وغرش واحد على ورقة الأدنى. وما يلفت النظر في هذا المجال هو التوزيع الديموغرافيّ الاجتماعيّ الذي تقدّمه الوثيقة والذي يعطي فكرة على الأرجح إيجابيّة لأوضاع المسيحيّين في ولاية طرابلس التي تشمل بلاد جبيل وعكار ووادي النصارى أي الحصن وصافيتا وطرطوس بالإضافة إلى مدن حمص وحماه وبعلبك. فلدينا 406 أفراد مصنّفين من الأغنياء و3725 مصنّفين من الطبقة الوسطى و1047 مصنّفين من الفقراء . وإذا اعتبرنا أن معظم الأغنياء يتوزّعون على المدن الكبرى: طرابلس، حمص، حماه وبعلبك، يبقى أنّ الطبقة الوسطى كانت تقدّر بـ ثمانية أضعاف طبقة الأغنياء، وأنّ الفقراء كانوا قلّة. أهمّيّة الطبقة الوسطى لدى المسيحيّين في بدء القرن التاسع عشر مكّنتهم من تحقيق التطوّر الاقتصادي والديموغرافيّ والثقافيّ الذي شهدناه في هذه المرحلة. وتؤكّد لنا الوثيقة أنّ إيرادات الجزية في باقي الولايات كانت أعلى بكثير . فعلى كل رأس من طبقة الأغنياء 48 درهمًا فضّة وهذه الطريقة في تقدير الضرائب أو المدفوعات بالأوزان المعادن الثمينة تعود إلى تراجع قيمة العملة العثمانيّة وتناقص وزنها عبر العصور نتيجة الغش وسحب المعادن الثمينة منها. فأتت الفتوى الشريفة في الأمر السلطانيّ بتصحيح الوضع وزيادة الجزية على الصعيد الماليّ. تشير الوثيقة إلى أنّ هذه الزيادة لم ترفق بتصحيح للأعداد وتوزيعها على الفئات الاجتماعيّة فالمسؤولون يعرفون أنّ الكثير من المسجّلين من الوسط هم بالفعل أغنياء والعديد من المسجّلين فقراء هم من الطبقة الوسطى .
وتعلمنا وثيقة أخرى أن هذا القرار قد تلي على جمع غفير من المسؤولين وجزيدار (ربّما جابي ضريبة الجزية) وأهل الذمّة. وأن الجميع أجابوا بالسمع والطاعة إلى المراسيم الشريفة العليّة. وهذا أمر مهمّ إذا ما نظرنا إلى أحوال هذه الفترة، حيث تطلب الأمر إعلامًا خاصًّا يسجّل في سجلات المحكمة بأنّه تمّ إعلام أهل الذمّة ورضيوا بالأمر . ويشير هذا الإعلام إلى أن هذه المبالغ الجزية المجبيّة من أهل الذمّة ستسلّم إلى الخزينة العامرة الملوكانيّة لأجل الصرف في أمور الجهاد.
من خلال هذه الوثائق نرى أن الفترة العثمانيّة شهدت تغيّرات وثوابت في مسألة الجزية، فمن المتغيرات أنّ العامل الاجتماعيّ غلب العامل الدينيّ فالرهبان لم يُعفوا من الجزية لأنّهم رجال دين بل لأنّهم فقراء. كما أن هذه الفترة شهدت أولويّة للقرارات والحاجات الماليّة للدولة فالجباية من رجال الدين أو زيادة قيمة الجزية كانت مرهونة بحاجات الدولة، فبعد الأدعية وإنهاء الوثيقة يقول لنا المحرّر: "الأمر لمن له الأمر". والأمر الثابت في هذا المجال هو استمراريّة ارتباط الجزية في أن تصرّف إيراداتها بشؤون الجهاد وما هو مهمّ في هذه الوثيقة هو توزيع لجباية الجزية على المناطق التي تتألّف منها ولاية طرابلس. فيبدو لنا أن هنالك تمرّكزًا مسيحيًّا في المدن الكبرى كحمص وحماه وبعلبك وطرابلس بينما المناطق الريفيّة الأهم بالنسبة إلى سكن المسيحيّين هي جبيل التي ربّما تضمّ البترون (غير مذكورة) وعكار. فجبيل تدفع 128.6 غرشًا وعكار 5218 غرشًا. كلّ المناطق رأت ضريبة الجزية لديها تتضاعف ما عدا طرابلس التي كانت الزيادة لديها أكثر بقليل من ربع الجزية القديمة. ويمكن أن نتساءل إذا كانت المبالغ الضئيلة المدفوعة في الأرياف هي ناتجة من فقر السكّان في هذه المناطق أو من قلّة عدد السكّان فيها مثل الكورة ، طرطوس، حصن الأكراد...
3) علاقة المحكمة الشرعيّة بالأديار
هذا التوزع للسكّان المسيحيّين بين القرى والمدن يجعلنا نتساءل عن عدم وجود مقابر للمسيحيّين في مدينة طرابلس أو على مقربة منها. فهذه المدينة محاطة بعشرة أديار منها ما هو تابع لجبل لبنان أي لبيروت (قبل 1901)، منها ما هو تابع للبطريركيّة، ومنها ما هو تابع لأبرشيّة طرابلس. ثلاثة من هذه الأديرة تقوم بدور الأديرة المدفنيّة وتحوي في جوارها مقابر لعائلات طرابلس منها، دير سيّدة بكفتين، دير سيّدة البلمند، دير القدّيس يعقوب الفارسيّ المقطّع ودير سيّدة الناطور.
فإذا عدنا إلى المراحل السابقة للمرحلة العثمانيّة نرى أنّ الفئات المسيحيّة منذ انتشار الإسلام أخذت تنتقل تدريجيًّا من الأرياف إلى المدن سعيًا إلى المزيد من الأمان وإلى أقلّ من دفع المتوجبات الضرائبيّة . هذا الأمر قد ساهم في تطوّر المسيحيّين وتحسين أوضاعهم الاجتماعيّة لما في المدن من مجالات الترقّي والتقدّم. هذا الأمر الإيجابيّ على الصعيد الاجتماعيّ كان سلبيًّا على المدى البعيد إذ خلق نوع من التماهي بين الانتماء الطائفيّ والاجتماعيّ .
إلا أنّ المرحلة العثمانيّة شهدت اتجاهًا معاكسًا. فنظرًا إلى بعض القيود التي اعتمدت في بدء المرحلة أخذ المسيحيّون في المدن يتّجهون، بخاصّة خلال فترة الأعياد، إلى الأديار المجاورة لتمضية فترة العيد والاحتفال بالزياحات والأهازيج التي كانت غير مرغوبة في المدن. كما أنّ هذه الأعياد والاحتفالات كانت مناسبات لالتقاء الأهل والأقارب والأصدقاء ومتابعة التحوّلات المستجّدة في المدينة وفي البلاد. هذا الأمر جعل الأديرة تتلقّى التبرّعات والمساعدات بخاصّة أنّها مكان إقامة بديل وملجأ للمؤمنين التابعين لها خلال الحروب وانتشار الأوبئة والأمراض. من هنا نرى أنّ مراكز القرار والحياة الدينيّة الروحيّة تحوّل بالنسبة إلى المسيحيّين من المدن إلى القرى والأرياف أي إلى الأديار بعد أن كانت في أبرشيّات المدن . وهنا لدينا دور أساس قامت به السلطات القضائيّة في محكمة طرابلس الشرعيّة في تشجيع الأوقاف المسيحيّة والعمل على تطوّرها. هذا الأمر ترافق مع سياسة اتّبعتها الدولة العثمانيّة من تشجيع الأوقاف وتحويل الأراضي الأميريّة من خزانة الدولة إلى الأملاك الخاصّة والأوقاف .
في بدء الأمر ومع احتلال الدولة العثمانيّة لبلاد الشام ومصر تحوّل العديد من الأراضي الأوقاف والأملاك إلى أراضي تيمار (أميريّة) تعطى للمحاربين من فئة الخيالة. هذا الأمر جرى في مرحلة كانت الدولة العثمانيّة ما تزال دولة مجاهدة تتوسّع في جميع الاتجاهات الأوروبيّة والآسيويّة والأفريقيّة. استمرّت هذه الحالة حتّى بدء القرن السابع عشر عندما توقّفت الحروب وخفّت المغانم وسعت الدولة إلى إعادة تعبئة خزائنها عبر تغيير نظامها الماليّ والإداريّ وتحويله من نظام التيمار إلى نظام الالتزام. فكان من الأنسب لخزينة الدولة تحويل أراضي التيمار إلى أوقاف أو إلى أملاك تضبط فيها عمليّة جباية الضرائب . كان لهذا التحوّل في التنظيم العثمانيّ أثر واسع في تغيير أوضاع المسيحيّين في السلطنة بعامّة وفي لبنان بخاصّة. فنرى عائلات المقاطعجيّين في لبنان تتسابق لتحويل الأراضي الواقعة تحت سيطرتها إلى أوقاف عائليّة أو خيريّة كي تستصلح وتصبح منتجة وتتمكّن من دفع الضريبة على إنتاجها للدولة العثمانيّة. البلمند في هذا المجال كانت السبّاقة وولاية طرابلس سبقت بذلك جبل لبنان والولايات الجنوبيّة. فهذه التحوّلات جرت في جبل لبنان خلال القسم الأول من القرن الثامن عشر بينما البلمند أعيد تأسيسه العام 1602 بمبادرة من أعيان المنطقة ويوسف باشا سيفا والي طرابلس، حيث تمّت الاستفادة من وجود سليمان اليازجي بوظيفة كاتب أو مستشار عند هذا الوالي . فما هو معروف أنّ بناء الأديرة أو الكنائس في الدولة العثمانيّة كان أمرًا صعبًا. إنّما في هذا المجال يبدو أنّ الأمر تمّ بمساعدة الحاج سليمان اليازجي الذي حسب وثيقة تأسيس البلمند "ساعدنا بكل جهده وطاقته وبذل ماله مع مجهوده في كسوه".
هذه المحاولة في "فتوح الدير لانه كان خراب وداثر من زمان" لم تكن المحاولة الوحيدة ربّما هي المبادرة في تحويل أراضي البلمند من أراضي تيماريّة إلى أوقاف. إلا أنّ محاولات الإعمار كانت مستمرّة في توسيع الدير وبناء شقق جديدة إلى جانب أو فوق تلك المباني التي تركها الرهبان الفرنجة.
كذلك الأمر بالنسبة إلى ترميم المباني القديمة وتوسيع الدير. هنا أيضًا تدخّلت المحكمة الشرعيّة في طرابلس . فموقع الدير على تلّة مشرفة على الطريق المؤدّي من طرابلس إلى بيروت وإلى صيدا ومنها إلى القدس ومصر جعل الدير يتحوّل إلى محطّة لإقامة المسافرين والزوار. وعندما ضاقت المباني بالمقيمين قام رئيس الدير فيلوثاوس بالتوجّه إلى قاضي الشرع في طرابلس وطلب منه الإذن ببناء مبانٍ جديدة واصطبلات لاستقبال الزوار. فأرسل محافظ طرابلس لجنة مؤلّفة من علي آغا، يحيا الجلبي ومحمد باشا جوقدار يرافقها جمهور من المسلمين للتأكد من حاجة الدير الفعليّة لمبان جديدة. فتحقق الجميع من كثرة الزوار وضيق المكان وأعلموا المحكمة بضرورة هذه المباني التي لن تؤثّر أو تزعج أحدًا. فما كان من المحكمة إلا أن أعطت الإذن ببناء اصطبل بين الكنيستين شكّل الأساس لما سمّي الشقة الحلبيّة . تعود الوثيقة الصادرة عن المحكمة الشرعيّة المتعلّقة بهذا الأمر إلى السنة 1123 هجريّة أي إلى 1711مسيحيّة.
كذلك لدينا مناسبات أخرى نرى فيها تدّخل المحكمة الشرعيّة لمصلحة دير البلمند. ففي العام 1229 هجرية أيّ 1813 مسيحيّة أعطت المحكمة للدير وثيقة تحديد أراضيه الزراعيّة وممتلكاته لمنع تعدّي الأهالي. فتقول لنا هذه الوثيقة: "حيث تحرك بعض الأهالي وتجاسروا على الأراضي التي تخص دير البلمند المعروفة بحدودها مع الحرف أيضا كما يذكر" فتوجّه رئيس الدير سيميون إلى متسلّم طرابلس مصطفى آغا بربر وطلب منه وثيقة رسميّة تحدّد له ممتلكات الدير من الجهات الأربعة قبلة، شمالاً، شرقًا وغربًا. وصدر هذا التحديد موقّعًا من قبل الأمير علي ملتزم ثلث الكورة (ربّما من عائلة الأيوبي) مع تسعة عشر توقيعًا آخر من أمراء المنطقة وأهالي المنطقة. فلدينا اثنا عشر أميرًا (ربّما عائلة الأيوبي) مع خمسة من أعيان المسيحيّين من آل نصر ومالك وجحا واثنان من أعيان المسلمين محمد الحاج والشيخ محمد من القلمون .
وتؤكّد لنا وثيقة التحديد أنّها أعطيت للرئيس "لكي يبقى هذا البيان معه لوقت الاحتياج وخصم المنازعات وردع التعدّي". أتت هذه المرحلة التي حصل فيها التعدّي أي بدء القرن التاسع عشر بعد مرحلة كانت قد شهدت توسّعًا في شراء الأوقاف واستثمارها. ولدينا في مناطق أخرى من جبل لبنان خلافات أخرى بين أهالي المناطق من الفلاحين وأديار من مختلف الطوائف. معظم هذه الخلافات التي تمّ حلّها أصدرت الأحكام فيها لمصلحة الوقف ليس لأنّه مسيحيّ بل لكونه من صنف الوقف وتكون لديه الأفضليّة في حال النزاعات أو الدعاوى القانونيّة .
تظهر العلاقة المميزة بين محكمة ولاية طرابلس وأديار الكورة بشكل واضح، في تدخّل هذه المحكمة لدى الأمير بشير الشهابي الثاني لإعفاء الأديار الأرثوذكسيّة في ولاية طرابلس من الضرائب المعروفة بالخراج القديم. فالوثيقة تؤكّد أنّ هذه الأديار تدفع المال السنويّ والضرائب على الإنتاج. إلا أنّ هذه الأديار معفاة من الضرائب القديمة الخراج ذات الطابع الجزيويّ. فالأديار حسب العهدنامة النبويّة التي بحوزتهما لا تدفع الخراج القديم. وقد اطّلع القاضي على صورة العهدنامة وهو في هذه الوثيقة يعلم الأمير بشير بضرورة إعفاء هذه الأديار في قضاء الكورة والبترون وبشري والحصن حيث كلّها تابعة لولاية طرابلس. والغريب في الأمر أنّه يذكر مع هذه الأديار دير النبيّ إلياس في قرية شويّا مع هذه الأديار لأنّه يملك أراضي زيتون في قرية أميون. يبلغ قيمة الضريبة التي يشملها الإعفاء 326 غرشًا يعود 133 غرشًا منها إلى دير حماطورة .
وثيقة رقم 1: صورة حجة منع الخراج عن رجال الدين المسيحيين في طرابلس
وثيقة رقم 2: إعفاء الأديار من الخراج القديم
جدول إعفاء الأديار من الخراج القديم عام (1230 هـ)
وثيقة رقم 3: صورة زيادة الجزية على الذميين في الشمال
جدول زيادة الجزية على الذمّيين في الشمال
وثيقة رقم 4: تأسيس دير البلمند في سجل الدير.
وثيقة رقم 5: تحديد أراضي دير البلمند
في سوسيولوجيا العلاقات والصراعات والعيش الواحد
خلال العهد العثماني
الدكتور عبد الغني عماد
ينعقد مؤتمرنا هذا تحت عنوان: طرابلس عيش واحد، وعليه يمكن القول أن الكتابة تحت وطأة هذه الفرضية المسبقة المنطلقة من ضغط الحاضر قد تدفع البحث التاريخي في اتجاه انتقائي يخرجه عن حياده العلمي والموضوعي، إلاّ أن ما يخفف من هذا الخلل الإفتراضي هو الالتزام بمجموعة من الضوابط المنهجية التي لا تكتفي بعرض الوثائق بل تعمد إلى إستنطاقها وقراءة سياقها ومنظومتها السوسيوتاريخية، والأهم من كل ذلك أن الأمر يتعلق بنوعية الوثائق ودلالاتها، من هنا ضرورة التمييز بين الوثائق الثانوية والوثائق الأساسية من جهة، وضرورة قراءة الوثائق في سياقها التاريخي والإجتماعي وإستخلاص دلالاتها ومعانيها. يندرج هذا البحث تحت العناوين الفرعية التالية:
- المحلة والحارة الطرابلسية أولى تجليات العيش المشترك.
- الحي والعائلات.
- مشاهد حقلية وثائقية.
• حول الحرف والمهن.
• حول التجارة، الوظائف، الشراكة.
• في مسائل حلّ النزاعات.
• في عدالة التقاضي.
- نماذج وتحولات في ظل زعامات القرن التاسع عشر.
- المحلة والحارة الطرابلسية أولى تجليات العيش المشترك:
سنعتمد بشكل خاص على وثائق هامة عثرنا عليها من خلال صحبتنا الطويلة مع وثائق سجلات محكمة طرابلس الشرعية، ففي السجل السابع العائد للعام (1737-1741م) عثرنا على 21 وثيقة هي عبارة عن حجج تعهد جماعية أجراها الحاكم الشرعي على كل محلة من محلات طرابلس بعد إستدعاء إمام المحلة وشيخها وجميع الذكور البالغين القاطنين فيها فرداً فرداً، والذين سجلت اسماؤهم في الوثيقة كاملة. وتمثل هذه الوثيقة التي نعرضها نموذج يتكرر في كل المحلات والحارات الطرابلسية عدا الميناء أو الاسكلة التي لم نعثر لها على حجة تعهد مماثلة بين هذه الوثائق، فالصيغة واحدة ولكن تختلف الأسماء حسب كل محلة وحارة.
حجة تعهد محلة الصباغة
" حضر كل من أهالي محلة الصباغة من محلات طرابلس المحمية وهم الشيخ محمد السيري أمام المحلة المذبورة وباكير بشة الحلاق بن أحمد وصهره حجازي بن محمد ويوسف آغا كبري زاده والحاج داوود المصري...(تذكر الوثيقة 153 إسم) وأشهدوا على أنفسهم بالطوع والرضا أنهم لن يتركوا أحد من الزرب ولا من الخوارج يسكن في محلتهم ولا يمكنونه من السكن ولا يخفونه عندهم في محلتهم...وإن خرج منهم أو من محلتهم رجلاً زرباً أو خارج عن طاعة أولي الأمر ولم يمسكوه ويقتلوه ولم يسلموه إلى حاكم البلدة...فيكون عليهم بطريق النذر الشرعي لمطبخ حضرة السلطان نصره العزيز الرحمن خمسة أكياس كل كيس خمسماية غرش نذراً شرعياً..."
ويبدو أن حجج التعهد هذه قد نظمت إثر أحداث أو مواجهات وصدامات حصلت في العام (1252هـ/1739م)، وكان الهدف منها ضبط الأمن، خاصة وأنه كان قد سبقها إنتفاضات عدّة شهدتها المدينة، تمرّد فيها الأعيان والأهالي وما كان يعرف باليرلية المحلية على الوالي إبراهيم باشا العظم سنة 1730 والتي إستمرت عاماً ونيّف قبل أن يستطيع خلفه سليمان باشا العظم إخمادها وإستيعابها.
حجج التعهد الجماعي هذه الواحد والعشرون متشابهة من حيث الصياغة ، وهي تقدم فائدة هامة لدراسة فئات السكان في المدينة، فهي بمثابة مسح شامل لكل الذكور البالغين في المدينة موزعين على الأحياء والحارات والعائلات، وبعد قراءة هذه الوثائق وفرزها والتدقيق بكل إسم ورد فيها، تبيّن مدى فائدتها على أكثر من صعيد، فهي تساعد على تكوين صورة واضحة عن عائلات طرابلس، وتوزع نطاق سكنها على الأحياء، كما تكشف بعض الحقائق الديموغرافية التي إذا ما قورنت بنوع آخر من الوثائق قدمت صورة دقيقة في مجالها، والأهم أنها تكشف عن الكثير من الأصول الجغرافية والحرفية والإدارية والعسكرية التي إلتصقت ببعض العائلات وأصبحت بالتالي جزءاً من "كنيتها" أو شهرتها العائلية.
إلاّ أن ما يهمنا في هذا البحث هو توظيف هذه الوثائق للكشف عما يمكن أن تقدمه في مجال العيش المشترك، لذلك قمنا بإعداد جدول مقارنة يتضمن عدد الأفراد الذكور الذين حضروا لإجراء التعهد في كل حي مع لحظ عدد الذكور من غير المسلمين من بينهم، وكانت هذه مهمة عسيرة تطلبت صبراً كبيراً للتدقيق بحوالي 1900 إسم كتبت بخطوط صعبة ومتداخلة فضلاً عن ان بعض الوثائق كان متضرراً ولحقه التآكل، مع ذلك خرجنا بالجدول التالي:
جدول أسماء الذكور البالغين الحاضرين لدى الحاكم الشرعي لإجراء التعهد الشرعي بعدم إيواء الأشقياء والزرب
المحلة أو الحي العدد الإجمالي للذكور الحاضرين عدد الذكور غير المسلمين
سويقة الخيل 235 فرداً 30 فرداً
بين الجسرين 165 فرداً -
الصباغة 153 فرداً 14 فرداً
النوري 145 فرداً 27 فرداً
باب التبانة 141 فرداً -
باب الحديد 133 فرداً -
التربيعة 122 فرداً 18
زقاق الحمص 94 فرداً 1
العوينات 82 فرداً 3
عديمي النصارى 77 فرداً 75
الأي كوز 76 فرداً 31
القنواتي 72 فرداً 5
ساحة عميرة 67 فرداً -
الرمانة 67 فرداً 3
قبة النصر 48 فرداً 7
اليهود 45 فرداً 30
الحجارين 41 فرداً 32
اليعقوبية 40 فرداً 22
الناعورة 38 فرداً -
عديمي المسلمين 35 فرداً 19
القواسير 25 فرداً 22
المجموع 1901 فرداً 321
يتضح من الجدول أن الثقل السكاني كان في النصف الأول من القرن الثامن عشر يتركز في محلة السويقة وبين الجسرين والصباغة والنوري وباب الحديد والتربيعة وزقاق الحمص والعوينات، فهذه شكلت قلب المدينة وفيها نسبة 58.4 بالمئة من العينة. فيما تبدو التبانة في المركز الأول من أحياء الأطراف، أما المحلات الأخرى (القبة ومحلة اليهود والحجارين والقواسير) مع باب التبانة فشكلت نسبة 15.9 بالمئة من نسبة الحضور للتوقيع على التعهد الجماعي.
ويبيّن الجدول أن المسيحيين واليهود قد تواجدوا وتوزعوا بنسب متفاوتة على ست عشر محلة من أصل 21 محلة أي أن 76 بالمئة من أحياء المدينة كانت مختلطة طائفياً. وقد بلغ عدد الذكور من غير المسلمين الذين حضروا إلى جانب المسلمين في التعهد الجماعي لدى الحاكم الشرعي 321 فرداً من أصل 1901 أي ما نسبته 16.88 بالمئة، وذلك بدون إحتساب الميناء أو الأسكلة كما كانت تعرف في سجلات محكمة طرابلس الشرعية، ويبدو أن الميناء لم تتعرض لأية مشاكل تستدعي مثل هذا الإجراء الذي تعرضت له أحياء المدينة، وقد قمنا بتنظيم هذا الجدول لبيان نسب توزع غير المسلمين على الأحياء.
نسب المسيحيون واليهود في أحياء طرابلس سنة 1153 هـ
1- محلة القواسير 80 بالمئة وهي منطقة المسلخ القديم وقد أزيلت بعد توسيع مجرى نهر أبو علي
2- محلة الحجارين 78 تقع بين سوق الكندرجية وحي النوري
3- محلة عديمي النصارى 74 وهي حارة النصارى المعروفة حالياً
4- محلة اليهود 66.6 تقع بالقرب من حارة النصارى
5- محلة اليعقوبية 55 تقع في محلة السويقة
6- محلة عديمي المسلمين 54.28 تقع بين سوق الصياغين وسوق الكندرجية
7- محلة الأي كوز 40.7 تقع بين ساحة النجمة وطلعة رفاعية
8- محلة النوري 18.6 وهي لا تزال معروفة بهذا الإسم
9- محلة التربيعة 14.75 لا تزال معروفة بهذا الإسم
10- محلة قبة النصر 14.5 وهي منطقة القبة المعروفة حالياً
11- محلة سويقة الخيل 12.75 من أحياء منطقة الحدادين
12- محلة الصباغة 9.1 لا تزال تحمل نفس الإسم ويلاصقها محلة الرمانة المعروفة حالياً
13- محلة القنواتي 6.94 تقع بين محلة النوري وساحة النجمة
14- محلة الرمانة 4.4 لا تزال المحلة معروفة بنفس الإسم
15- محلة العوينات 3.6 شرقي ساحة الدفتردار ولا تزال تعرف بنفس الإسم
16- محلة زقاق الحمص 1.06 متفرع من ساحة الدفتردار بإتجاه قبوة الطرطوسي ولا يزال يحمل نفس الإسم
هذا الجدول يشير إلى حقيقة سوسيولوجية ساطعة تسقط دفعة واحدة عشرات التحليلات التي كتبها بعض المستشرقين عن المدينة الإسلامية والتي تتحدث عن التعازل في السكن والأحياء المتجانسة التي تتشكل فيها على أساس المطابقة الدينية، حيث في كل مدينة إسلامية حي للنصارى وحي لليهود. هذا الجدول يشير إلى وجود أحياء من هذا النوع، لكنه يشير أيضاً إلى إنفتاح المدينة الإسلامية أمام كل أبنائها من جهة وإلى توزع غير المسلمين وسط الأغلبية الإسلامية في كل الأحياء، على الرغم من تشكيلهم أغلبية في أحياء (القواسير، الحجارين، عديمي النصارى، اليهود، محلة اليعقوبية وعديمي المسلمين).
هذا التوزع السكاني الواسع لأبناء المدينة وخاصة لأبناء الطوائف غير الإسلامية في ذلك الحين، وإستناداً إلى وثائق لا تقبل التشكيك، يسقط نظريات المطابقة الدينية والتمركز السكني التي حاول بعض المستشرقين إلصاقها بالمدينة العربية الإسلامية ككل. في كل الأحوال ثمة سؤال يستمد مشروعيته من الحق في الإثبات، وهو ينطلق من التساؤل عن مدى تمثيل طرابلس للمدينة العربية الإسلامية بقدر ما ينطلق من إعتبار مدينة طرابلس صاحبة تجربة تاريخية خاصة ورائدة في العيش الواحد على مستوى الناس والمجتمع بعيداً عن السلطة والسلطان لجهة السكن والتجاور والتخالط في العمل والعلاقات وما ينتج عن كل ذلك من تفاعل. الجواب على هذا السؤال بشكل حاسم يحتاج إلى دراسة سوسيوتاريخية مقارنة لكي تكون الإجابة منصفة بين طرابلس ودمشق وحلب والقاهرة والإسكندرية وبيروت وغيرها.
التمعن في الجدول يبيّن أن الأحياء التي سكنها هؤلاء لم تكن كلها أحياء طرفية، بل توزعت في جميع أرجاء المدينة، منها ما كان داخل المدينة وفي قلب الأحياء التي تمركز فيها النشاط الإقتصادي والتجاري (التربيعة، العديمي والحجارين...) أو التي تمركز فيها النشاط الثقافي والديني (الأي كوز، النوري والصباغة...) وأقاموا أيضاً في الأحياء التي تميّزت بغلبة الصفة السكنية عليها عموماً.
وينبغي أن ننتبه إلى أن السكن في محلة أو حارة من حارات المدينة في ذلك الحين، وهو لا يزال بنسب متفاوتة حتى اليوم، يعطي الفرد الشعور بالإنتماء إلى إطار مميّز من جهة، ويعزز الشعور بالتضامن الجماعي من جهة أخرى، فقد كان الإعتزاز بالإنتماء إلى الحارة والتضامن بين أبنائها يعطي صاحبه شعوراً بالفخر يشبه غيره من الروابط القادرة على الجمع والتأليف بين الجماعة الواحدة.
ومن الأمور التي كانت تعمل على تفعيل هذا التضامن والتماسك بين أبناء الحي الواحد، إن الضرائب والساليانات والعقوبات كانت تفرض على الحي كله ككتلة واحدة، الأمر الذي كان يفرض دينامية داخلية خاصة داخل الحي تمنع وقوع العقوبات من جهة وتؤمن سهولة سريان الضرائب وجبايتها من جهة أخرى. هذه الدينامية كانت تنتظم في كل حي أو محلة حول شخصية "شيخ المحلة" أو شيخ الحارة كما أصبح يعرف فيما بعد. وشيخ المحلة كان يتم تنصيبه بإقرار رسمي من قبل سكان المحلة أمام الحاكم الشرعي وبطوعهم ورضاهم، وكان عليه تمثيلهم أمام السلطات, وفي تتبعنا للوثائق وجدنا أن هناك سبع محلات أقيم عليها شيوخ من غير المسلمين، أي من "أهل الذمة" كما في تعبير ومصطلح السجلات الشرعية وهي التالية: الأي كوز- محلة عديمي المسلمين- محلة اليهود- اليعقوبية- أق طرق- المزابل.
ميخائيل شيخ محلة الأي كوز
داوود شيخ محلة اليهود
ياسف سلامة شيخ محلة عديمي المسلمين
وهبة شيخ محلة اليعقوبية
الياس شيخ محلة المزابل
مخائيل ولد عازار شيخ محلة أق طرق
العائلات والحي: في تحليلنا لهذه الوثائق واجهتنا مشكلة أساسية، وهي ان الحاكم الشرعي لم يكن يتشدد في كتابة الاسماء مع ذكر نسب العائلة بشكل دائم، بل كان الشائع في السجلات هو ذكر اسم الاب، وفي الغالب نسبة الفرد الى المهنة أو الحرفة أو مناطق جغرافية معينة، الأمر الذي حرمنا من رصد دقيق للعائلات التي سكنت أحياء طرابلس في ذلك الحين. مع ذلك خرجنا بهذا الجدول الذي يشير الى بعض هذه العائلات المسيحية ومنها:
- عائلات: صدقة – نعمة – وهبة – نوفل – قبرصلي – زريق – الشامي – زغبي – نجار – معماري – شموط – الكركجي – الحلبي – الصايغ – الخوري – البستاني – بسطاتي، وقد سكنت هذه العائلات في محلة العديمي.
- عائلات: عشي – طويل – جحا – شعار – الدويك – البرنس – الحلبي – كمش – الفلاح – الخوري – انبع وسكنت في محلتي الصباغة والرمانة.
- عائلات: السيوفي – العاقوري – المكاري – العيلة – السطل – النجار – فضول – كرباج – عبد النور – الخوري – رزق الله – ديب – الحايك – شحادة - الفلاح سكنت في محلات اليعقوبية والاي كوز والتربيعة ومحلة سويقة الخيل.
- عائلات: النقاش – البحري – العلاف – دايه – صوان – قنواتي – بيطار – المطران – خلاط – طربيه – سيوفي – الياس – شما – مليس – مكاري – الشامي – الحكيم – الخشن – حداد سكنت في محلات النوري والحجارين.
- وعائلات: عيد – الجبيلي – معماري – عجوز – خياط – صايغ – فرح وعبد الله سكنت في محلة اليهود وقبة النصر.
- سكنت هذه العائلات المسيحية وغيرها الكثير ممن لم يتبين كنيتها بشكل واضح في الوثائق، الى جانب العائلات الاسلامية في تجاور انساني وعلاقات اجتماعية يومية نسجت على مرّ الأيام نمط حياة مشتركة وثقافة عيش واحدة، على مستوى الناس والحياة المعاشة والممارسة.
اما على مستوى السلطة، فمن الضروري التمييز بين سلطة الوالي وسلطة القاضي أو الحاكم الشرعي، فالأول حاكم السياسة ورأس الحكم في الولاية، وقد إستخدم الولاة معاونين من المسلمين والمسيحيين، إلاّ أن القضاة كانوا معنيين بتطبيق الحكم الشرعي. وكان هذا يتطلب منهم تطبيق الشريعة بعيداً عن الأهواء. وصلاحيات القاضي لا تخوّله التدخل في الشؤون الدينية لغير المسلمين حسب نظام الملل العثماني، وهو كان يحكم بين المتقاضين أمامه، في حال حضورهم من مختلف الطوائف الدينية.
الخلاصة أن الإختلاط والتعايش يبدو واضحاً على أكثر من صعيد، وهو يتخطى السكن والتجاور، فالوثائق تقدم صوراً مختلفة وأنماطاً متعددة من هذا العيش المشترك. ومنها على سبيل المثال مشاهد حقلية عديدة نختار منها أربعة:
* مشهد حقلي وثائقي حول الحرف الممارسة:
أن المسلمين والمسيحيين من أبناء طرابلس عملوا في العديد من الحرف بشكل مشترك، ويستدل على هذا من أسمائهم التي كان يضاف إليها ويلحق بها نوع الحرفة، وقد رصدنا من هذه الوثائق الحرف التي عمل بها المسيحيون في ذلك الحين وكانت على الشكل التالي:
الطحان – اللبان – المبيض – النحاس – النشار – المعماري – الباقرجي - المكاري – القاطرجي - الصابونجي – الصراف – الخياط – البيطار – الحايك – الاتمكجي(الخباز) – السمان – النجار – القبجي - القواص – الترجمان – الشماس – الاسكافي – السيوفي – الحداد – الصباغ – الصايغ – الخانجي (القيم على الخان) - البواب – التاجر – الحجار – الزيات – البزاز - البورغانجي - الجابجي - الجراح – الشعار –الكوركجي - المجلد - الخمرجي - العقاد - المحجي - السمكري – الرتّا – المبيض – مليس - الصواف – الفحام – الفاخوري – النشواتي – الدهان – المصوّل - البستاني.
تبين هذه القراءة انه لم تكن في أواسط القرن الثامن عشر ومطلعه مناطق أو حرف أو تجارة مغلقة أو محتكرة من فئة بوجه أخرى. لقد شكل السوق وشكلت الحرف حقلاً للتفاعل المتميز بالرغم من ان بعضها قد غلبت عليه أكثرية معينة. واللافت إن الحرف كانت تنتظم في ذلك الحين ضمن ما يعرف بالأصناف الحرفية، حيث لكل حرفة شيخ يختاره معلمو الحرفة بالطوع والرضا بعد اجتماعهم أمام القاضي الذي ينظم محضراً بذلك ويعلن اتفاقهم على اسم شيخ الحرفة. وقد تبين لنا ان هناك ثلاث حرف على الأقل كان مشايخها من المسيحيين، وهم الياس ولد عبود الباقرجي باشي وابراهيم ولد خاشروا والترزي باشي . وفي وثيقة أخرى وقبل سنوات كان الترزي باشي مسيحياً أيضاً وهو عيسى ولد عبد النور . أما السيوفي باشي فقد كان مسيحياً أيضاً وهو صفر ولد يوغز . أما طائفة الصباغين وهي أيضاً حرفة مختلطة اشترك فيها المسلمون والمسيحيون واليهود فقد كان شيخها مسلماً، إلا أن معلمي الحرفة اجمعوا على خلعه ولم يمنعهم هذا من اختيار أحدهم من المسيحيين ولأهمية هذه الوثيقة أوردناها في البحث بنصها (سجل رقم 2/ ص 184). حضر بمجلس الشرع الشريف كل من المدعو ناصر بن عبد الرحمن والذمي عبد الله ولد مسعود ويحنا ولد ابراهيم واليهودي ناصر ولد ابراهيم والذمي مخائيل ولد نقولا و... باقي طايفة الصياغ بطرابلس واعلموا انهم تضرروا من شيخهم السابق المدعو سليمان... انه ليس له قدرة على القيام بخدمة المشيخة المرقومة وانه عاجز عن ادائها وانهم لا يرضونه شيخاً عليهم، وقد اختاروا من بينهم الذمي الياس ولد ياسف الحاضر معهم وقد أقرهم الحاكم الشرعي..." .
* مشهد حقلي وثائقي حول التجارة والوظائف والشراكة مع التجار المسلمين:
يتبين من مجموعة وثائق متتالية لمحاسبات مالية جرت مع والي طرابلس ابراهيم باشا العظم بعد عزله من منصبه في الولاية (1730م/1143هـ) مدى أهمية الدور الذي لعبه مسيحيي طرابلس في الحركة التجارية والاقتصادية والحرفية، فقد شغل خلال ولاية ابراهيم باشا منصب أمين مال جمرك ميناء طرابلس الياس كرباج وكان هذا الوالي يتعامل مع أحد أبرز تجار المدينة من المسيحيين حينها وهو عبد الله صدقة الذي كان يشحن له البضائع من دمياط، ومن ثم ينقلها من طرابلس الى دمشق، وكان للوالي أيضاً شراكة مع تاجر آخر من مسيحيي طرابلس هو "يعقوب ولد فخر التاجر" الذي كان يتاجر له بالحلي والعلائق الثمينة والحرير. وعبد الله صدقة شغل منصب مأمور الوالي سليمان الذي تسلم بعد ابراهيم باشا. وتشير الوثائق نفسها الى ان جرجس العراف شغل منصب رئيس خزانة دار المالية بالولاية وان فرنسيس طربيه ترجمان الفرنسيين بطرابلس، كان له نفوذ وعلاقات واسعة مع الولاة شملت مسائل تجارية وحرفية ومالية مختلفة.
هذه الوثائق تدل على عمق العلاقة بين الوجهاء المسيحيين والولاة العثمانيين في الأمور التجارية والمالية وكل ما له علاقة بحركة السوق والتجارة عبر مرفأ طرابلس، وقامت بينهم وبين آل زريق وسكاكيني وصدقة ونوفل وعبد النور وطربيه، علاقات وطيدة كما قامت شراكات واعمال مع تجار مسلمين، وتجاوزت نشاطاتهم الاطار المحلي لتشمل السوق الأوروبية والعربية عبر مرفأ طرابلس الذي كان لا يزال أواسط القرن الثامن عشر يتميز بحيوية ونشاط بارزين وهناك قضايا مشابهة (سجل2/ ص14).
* مشهد حقلي وثائقي في حلّ المنازعات:
ان المسيحيين استأجروا عقارات عديدة من الأوقاف الإسلامية في طرابلس. ونعرض لهذه الوثيقة الهامة في هذا المجال، فقد حضر الحاج حسين بن عبد الله البازركان باشي شيخ التجار ومعه مجموعة من تجار طرابلس وادعوا على التجار المسيحيين القاطنين بخان الصاغة وطلبوا بأن..." يواسونهم فيما خص حرفتهم من مال ساليان المنزل، وسألوا سؤالهم، فأجابوا بأنهم من تجار الخان المرقوم الذي هو وقف على مصالح الحرمين الشريفين، وهو من قديم الزمان سربست معاف مغرور القلم ، ومقطوع القدم داخله وخارجه، ولم يسبق له عادة من قديم الزمان لأحد من الجباة التعرض للتجار السالكين فيه بطلب شيء من التكاليف ولا من غيرها، وراجعوا في ذلك المتولي على الوقف، فأبرز من يده فرامانات شريفة مطاعة وبيورلديات منيفة وحجة شرعية محررة..." ولما اطلع الحاكم الشرعي على هذه السندات وشهد بصحتها أمام الجامع المنصوري الكبير منع البازركان باشي والجباة من التعرض للسكان والتجار بخان الصاغة بطلب شيء من التكاليف العرفية.. "وعرّفهم ان القديم يبقى على قدمه والأوامر السلطانية والأحكام الشرعية يجب اتباعها" . يستدل من هذه القضية المتضمنة في هذه الوثيقة الهامة ان التجار المسيحيين استأجروا أغلب المحال في خان الصاغة من وقف الحرمين الشريفين وأن البعض حاول استغلال هذا الأمر لتغيير نسب توزيع الضرائب كما كانت معتمدة سابقاً، حيث كانت هذه العقارات معفاة من الضريبة، لكنه لم ينجح في احداث مثل هذا التغيير أو الانقلاب امام الحاكم الشرعي الذي قرر انه ينطبق عليهم ما كان ينطبق على التجار المسلمين من إعفاءات ضريبية، رغم احتجاج شيخ التجار وبقية التجار في السوق من مسلمين وغير مسلمين. يتضح من سياق القضية ان خلفيتها تتعلق بالضرائب بشكل أساسي، فكلما توزعت الضريبة على عدد أكبر من التجار إنخفض حجمها بالنسبة لكل واحد منهم. فالدولة كانت تحدد مسبقاً حجم الضريبة المطلوبة وتطلب من مشايخ الحرف والمحلات والتجار القيام بجمعها، أو تقوم بتلزيمها، لأشخاص يدفعونها سلفاً ثم يكلفون بجمعها، الأمر الذي يجعل في كل الحالات المسؤولية عن الضرائب جماعية وتضامنية.
* مشهد حقلي وثائقي في عدالة التقاضي:
كذلك أمكن للمسيحيين التقاضي في المحكمة الشرعية في مواجهة كبار الشخصيات النافذة بعيداً عن الهواجس الطائفية. وبين أيدينا وثائق تنشر لأول مرة. ومنها هذه الوثيقة، وهي مضمون دعوى أقامها عثمان افندي المفتي بطرابلس على الخواجا يعقوب بن فخر يتهمه فيها بأنه يضع يده على أصول زيتون تعود ملكيتها اليه استناداً الى "فرمان شرعي مطاع" من الخليفة بأن جميع قرية مرياطة "مالكانة" له. وللفصل في هذا النزاع شكل الحاكم الشرعي لجنة للكشف على الأرض موضع الخلاف: "... فتوجهوا الى ان وصلوا الى القرية المذبورة ووقفوا على الأرض القايم فيها الزيتون المذبور بحضور الذمي شديد ولد ضاهر شيخ ناحية الزاوية و... تبين ان المدعى عليه اشترى منذ ثلاثين سنة هذه الأرض المشتملة على مئة وعشرين أصلاً من الزيتون شهادة مشايخ الناحية بموجب حجة شرعية تحدد حدودها بدقة. وعندما عرضت الوقائع على الحاكم الشرعي طلب من المدعي بيّنة أو دليل يشهد له فعجز عن ذلك وعليه أمر بمنعه من التعرض للذمي يعقوب منعاً شرعياً.." . تثبت هذه الوثيقة ان تذرع المفتي بما اسماه "فرمان شرعي مطاع" صادر عن السلطان لم يكن كافياً للاستيلاء على املاك الغير وغصبها، ولم يشفع له كونه مفتي طرابلس سليل أهم عائلاتها، وهناك قضية أخرى مشابهة يقاضي فيها أحد السكان المسيحيين مفتي طرابلس بشأن خلاف معه على بستان شجري في قرية عشاش . إن هذا النوع من القضايا المحفوظة في سجلات المحاكم الشرعية يؤكد واقعاً قائماً يرتكز على العيش الواحد البعيد عن القهر والهواجس والعقد.
إن إقامة دعوى على مفتي المسلمين في مدينة طرابلس في ظل الحكم العثماني ومن قبل أحد السكان أو "الرعايا" المسيحيين، لم يكن أمراً عادياً، لكنه حصل وكان يحصل كما تفيد وثائق عدة. لكن اللافت هو ان خسارة المفتي لهذه الدعوى مرت في السجلات كحدث عادي لم يتم تمييزه عن أي قضية أخرى. ولا شك ان لهذا الأمر دلالات ومعاني عميقة، أقلها ان مناخ العيش الواحد والتسامح كان قوياً، وان مناخ التحدي والانحياز كان غائباً، وهذا ما جعل أحد السكان المسيحيين العاديين لا يتردد في مقاضاة مفتي طرابلس والدفاع عن حقه امام محكمتها الشرعية طلباً للعدالة.
نماذج وتحولات في ظل زعامات القرن التاسع عشر
يتفق مؤرخو بربر أغا على سياسته المتشددة تجاه العيش المشترك وحسن الجوار وحرصه البالغ على نسج أوثق الصلات مع المسيحيين في طرابلس ومحيطها. لذلك كان يجد دائماً النصرة والمؤازرة منهم عندما يتعرض من خصومه إلى حملات الكيد التي أوقعت به عدة مرات. لجأ بربر عام 1821م إلى جبة بشري هارباً من خصمه اللدود علي بك الأسعد، ولم يجد إلا صديقه البطريرك الماروني يوحنا الحلو الذي أجاره في نكبته وتشرده ووفر له الأمان، ومن هناك كتب الى الأمير بشير يتوسط بأمره عند الوالي عبد الله باشا ، الذي يبدو انه لم يكن يرتاح إلى مثل هذه العلاقات فعيّن من طرفه مصطفى أغا الملقب "ابو كرباج" مأموراً في طرابلس الذي أخذ يتظلم المسيحيين ، ويذكر عبد الله غريب في كتابه المخطوط (تاريخ آل الغريب) ما جرى لأسرته في ذلك الحين فيقول انهم: "... هربوا مع آل خلاط لاجئين إلى قرية عينطورين المارونية قرب اهدن.. وأراد السفاح ابو كرباج أن يقصدهم. وكان بربر أغا عاد الى طرابلس منتصراً على عدوه علي بك الأسعد، فركب في حملة من رجاله وقطع الطريق على ابي كرباج.. دافعاً أذاه عن آل غريب وآل خلاط وخلّصهم من شره...".
بعدها بعشر سنوات حين تولى حسين بك العظم قائمقامية طرابلس (1832م/1239هـ) يذكر جرجي يني في تاريخه انه أمر "... أن يهدم بعض دور الأعيان، وبينما الفعلة ذاهبون لهدم دار آل صدقة، أصدقاء بربر المعهودين، نشبت ثورة الأهالي، وهاجوا على القيمقام حسين بك العظم، فهاجموه في سراي الحكومة من جهة باب تل الرمل وهم يطلقون البارود بكثرة هائلة.. وترأسهم رجل من باب التبانة اسمه الشيخ علي دنون...".
تدل هذه الحوادث على مدى قوة الترابط بين السكان المسيحيين والمسلمين في ذلك الحين، ومدى نجاح بربر أغا في توطيد العلاقة هذه، التي استمرت أيضاً مع البطريرك يوسف حبيش (1832 – 1845م) وهي صداقة ابتدأت منذ أن كان مطراناً على طرابلس أولاً (1820 – 1832م) واستمرت حتى وفاة بربر أغا (1834م) وتنطق بهذه الصداقة رسائل متبادلة بينهما، لم نوفق إلا بجانب منها بين أوراق البطريرك الخطية في خزانة بكركي ومنها هذه الرسالة - الوثيقة ، وهي جواب بربر أغا على رسالة البطريرك:
حضرة خلاصة الأصدقاء وقدوة الاحباب، عزيزنا الاكرم يوسف المحتشم سلمه الله تعالى، غب تأكيد المودة الفاخرة، وتوطيد المحبة العاطرة والاشواق الوافرة لرؤياكم المأنوسة على كل خير المبدى لصداقتكم.. بأيمن وقت تحرير حبكم المتضمن توضيح صفاوة ودكم وخلوص الميال الصميمي، وانواع الاستعلام عن صحة ورفاه الحال. انحظينا عند تلاوته باعلام سلامتكم المأثورة. ومن كل معلوم صداقتكم ومحبتكم ثابتة وتشهد به السراير، واننا بحمد الله تعالى وكرمه موجودين بكل صحة ورفاه، لا برحتم بذلك، واقتضى تحرير الطرس لاجل السؤال عن خاطركم. ونود دوام الاعلام المسرة فيما يلزم تعريفه. ومنا سؤال خاطر محبتنا المطران سمعان ودمتم سالمين.
السيد مصطفى بربر
في 21 شوال سنة 1239 (1823م)
وقد حدث الكثير من الوقائع مما كان يؤكد متانة هذه العلاقات ورسوخها، ولعل قصة الجامع الاسعدي الواقع في محلة التربيعة من الوقائع الشهيرة، وهي واقعة عرضنا لها بالتفصيل في مؤلفنا "مجتمع طرابلس في زمن التحولات العثمانية" وخلاصتها ان علي باشا الاسعد بنى الجامع على انقاض دار "نعمة الله غريب" من العائلات الطرابلسية المسيحية التي تنتمي الى خصمه مصطفى بربر أغا، وقد تقدم هؤلاء بشكوى من مجلس شورى طرابلس بهذا الأمر، وتذكر مختلف المصادر التاريخية الفتوى الشهيرة للمفتي محمد كامل الزيني بعدم جواز الصلاة في هذا الجامع لانه مخالف للنصوص الشرعية ، ويحتفظ آل غريب بنسخة من هذه الفتوى حتى اليوم. ومن حينها عرف هذا الجامع باسم جامع الشوم تعبيراً عن شؤم طالعه.
لقد كانت العلاقات بين العائلات الطرابلسية والجوار المسيحي أقوى من المتغيرات السياسية الطارئة على الرغم مما تفرضه الأحداث من اختلاف في المواقف أحياناً. فقد وقف اعيان طرابلس ووجهاؤها بالإضافة الى مفتيها وقاضيها ضد الحملة المصرية وحليفها الأمير بشير واعلنوا ولاءهم للدولة العثمانية، حينها كانت طرابلس ميدان صراع بين قوات ابراهيم باشا المصري وعثمان باشا والي السلطان العثماني الذي كان يستعد لاستعادة المدينة لصالح الدولة العثمانية. وكان حينها يتلقى مراسلات سرية من اعيان المدينة لحضّه على الهجوم، وقد انكشفت هذه المراسلات مما أدى الى اعتقال بعضهم وهرب البعض الآخر. ولكن الى أين؟! اللافت هنا كما تشير الوقائع التاريخية ان اغلب اعيان طرابلس لجؤوا الى اصدقائهم موارنة اهدن ، بالرغم من ان هؤلاء كانوا من المتعاطفين مع الحكم المصري والمير بشير وبربر اغا في ذلك الحين، ومع ذلك وجدوا حسن الاستقبال والحماية والامان اللازم.
من جهة أخرى وكما تعرض بربر اغا لمطاعن بسبب صداقته وعدالته في التعامل مع المسيحيين من ابناء وطنه، تعرض ايضاً يوسف بك كرم، فالخوري اسطفان البشعلاني ينشر وثيقة لكاتب مجهول تتضمن مطاعن ومآخذ واتهامات تطال يوسف كرم وانه ".. يساعد المسلمين على النصارى ووقف بجانب خضر أغا ضد البشرانيين..." وكان طبيعياً ان يرتبط بربر أغا بصداقة مع الشيخ بطرس والد يوسف كرم ويزوره باستمرار ، فالاثنان ينتميان الى نهج قام على الانفتاح والتعاون.
وبعد وفاة الشيخ بطرس والد يوسف كرم تبين من تركته انه مدين للسيد احمد النعنعي بـ (400 قرش) والسيد عثمان الرحيم بـ (1740 قرش) والسيد درويش افندي الشنبور (2321 قرش) وهي مبالغ كبيرة تدل على وجود نشاطات تجارية مشتركة .
في ظل هذا المناخ من الانفتاح والتعاون أقام يوسف كرم علاقات وطيدة مع مفتي طرابلس وعائلاتها وتحديداً مع المفتي عبد الحميد كرامي (الأول ابن عبد الله) وولده حسين وآل الشنبور وآل عدره وآل رعد واغوات الضنية ومع العائلات المسيحية من آل نوفل ودياب والداية وطربيه وشبطيني والسمعاني وخلاط وغيرهم. وهي علاقات استمرت تتعزز في احلك الظروف وتحديداً في حوادث 1840 وما عقبها، فقد امتنع يوسف كرم عن المشاركة في تلك الأحداث الأمر الذي جلب عليه عتب الأمراء والاتهام له بالتقاعس عن الحضور لنصرة أبناء دينه. ويحاول الخوري البشعلاني، أبرز مؤرخي يوسف بك كرم تبرير هذا الموقف، فيعيده الى تقدم الشيخ بطرس بالسن وعدم سماحه لولده يوسف بالحضور الى ساحة القتال، ونشير الى هذه الرسالة الهامة التي أرسلها يوسف كرم الى صديقه مفتي طرابلس عبد الحميد كرامه يستشيره فيها في أمر الذهاب الى القتال شأن الصديق الى صديقه. ونورد نص الرسالة الجوابية (الوثيقة الهامة) من المفتي كرامي:
فخر الملة المسيحية محبنا الاعز الاكرم المكرم الشيخ يوسف بطرس كرم حرسه الله تعالى من سائر النقم آمين.
غب الشوق لمشاهدة محبتكم بكل خير نبدي انه وصل لنا تحريركم. ما ذكرتموه بوجه الاختصار صار معلوم. ومقصدكم بالمعنى تستشيرونا. فالذي نعرفكم عنه بان خاطرنا وشورنا حسب محبتنا لكم بأن لا تروحوا لمطرح ولا تقارشوا شي. فهذا هو نصحنا لمحبتكم. ومن خاطرنا بأننا نريد لكم الصالح. وحبنا لكم الله مطلع عليه. وبهذا القدر كفاية ثم نعرفكم بأن محمد أغا الفاضل والشيخ محمد علي خضر لبسو (تعينوا) على الضنية، وفي غد يطلعوا. والذي كنتم عرفتمونا عنه طلع من حينما سمع عزله، ومنتظرين همتكم حتى نسمع. فهذا الزم اعلامكم.
27 جمادى (اول حزيران 1845)
الفقير اليه تعالى عز شأنه
السيد عبد الحميد المفتي بطرابلس شام
وتشير الوقائع الى التزام يوسف كرم بهذه النصيحة، كما تشير الوثيقة الرسالة الى ان العلاقة تعدت الصداقة والمشاورة الى نوع من التحالف انعكس على تعيين متسلم الضنية في ذلك الحين.
كان الموقف من الفتنة والاقتتال الطائفي واضحاً في طرابلس فقد رفض علماؤها وفقهاؤها الانجرار الى الفتنة، بل حاربوا ومنعوا حصول ما يعكر صفو العلاقات، فالسيد محمد رشدي الميقاتي الامام والمؤقت في الجامع المنصوري الكبير يروي عن جده كبير علماء طرابلس في ذلك الحين في كتابه "الاثر الحميد في مناقب سيدنا الشيخ محمد رشيد (الميقاتي) انه :" ... وقت حدوث فتنة الشام الشهيرة سنة 1275هـ التي كان على اثرها حصلت الحوادث الهائلة بين المسلمين والنصارى في اغلب جهات سوريا، فاهتم الجدّ على استئصال بذور هذه الفتن والشقاق ومنع سريان هذا الداء العضال في نفوس ذوي الجهالة من شبان طرابلس، فصار يرسل اولاده لدور رؤساء المسيحيين ليلاً ويأمرهم بأن يسهر كل واحد منهم على طريق المناوبة عند كل واحد من اكابرهم. وجعل ذلك علانية على أعين الناس ليقتدوا بمسراه ويقلدوه في مبداه. فما كان الا ان خمدت في طرابلس شرارة اهل الشر بأجمعها. حتى ان الحكومة كانت تضم رأيها الى رأيه اذ ذاك. وحيث انه كان مطاعاً ومعتقداً، كان لا يجترأ احد على مخالفته لما يعلمون من وفور عقله وإصابة رايه وصدقه مع اخوانه...".
لقد كانت تلك المواقف تشير إلى عمق الترابط والعلاقة الطيبة التي كانت بين مسلمي طرابلس ومسيحييها، حتى في تلك الأيام السوداء التي شهدت المجازر الشهيرة أعوام 1840 و 1860 والتي بقيت طرابلس بمنأى عنها رغم امتدادها إلى دمشق ومناطق أخرى خارج جبل لبنان.
ولا شك ان هذا التراث المتراكم من العيش المشترك وروح التسامح والتعاون وحسن الجوار كانت عاملاً رئيسياً في تحصين مدينة طرابلس والشمال عموماً من امتداد النزاع الطائفي إليه في تلك السنوات السوداء من تاريخ لبنان.
هذه الخلاصة تختلف في جوهرها ومضمونها مع الكثير من الدراسات والأبحاث التي ذهب إليها بعض المؤرخين الذين ركزوا على تاريخ التقاتل الطائفي في جبل لبنان وما نتج عنه. ان هذه المنهجية في الدراسة والتأريخ تساعد على إنماء العصبيات والنزعات الطائفية وتظهر المجتمع وكأنه كتل وقبائل متناحرة منعزلة ساعية إلى إلغاء بعضها على الدوام. وبالتأكيد ليس في نيّتنا القول أن السلطنة العثمانية قدمت نموذجاً مثالياً للعيش المشترك، بقدر ما نريد قول أن مجتمعنا صنع عيشاً واحداً، في تلك المرحلة. تؤكد نتائج هذه الدراسة انه ليس من الموضوعية إهمال حقبات تاريخية معينة شهدها تاريخ لبنان الحديث في مناطق محددة منه كانت نموذجاً مقبولاً للعيش الواحد في ذلك الحين ولم تشهد تلك المذابح السوداء التي لا يزال ذكرها يخضّ ذاكرة التاريخ.
نخلص إلى القول ان الوثائق تنطق بأنه لم يكن هناك في طرابلس مناطق مغلقة، صافية لطائفة دون الأخرى، فهذا لا يتفق مع الواقع التاريخي للمدينة، هذا الواقع الذي شكل حقلاً للتفاعل المميز والتجاور الفريد والاختلاط الغني، على الرغم من الأكثرية الإسلامية الواضحة، والتي لم تستغل أكثريتها لتقيم حصناً مغلقاً منعزلاً بوجه الآخرين، أو عاملاً على إلغائهم.
خلاصة هذا البحث ينطق بحقيقة مختصرة مفادها ان عروبة هذه المدينة هي عروبة حضارية وان قدرها ورسالتها هو الإيمان بلا تعصب والالتزام بلا تحزب والتسامح بلا تفريط والعدل بلا تظلم ولا تظالم، تلك هي رسالة الاعتدال والوسطية التي طبعت مزاجها العام على مدى صفحات طويلة من التاريخ ولم تعكره سوى غيوم عابرة.
العلاقة بين أهل السلطة والمسيحيين في طرابلس
علي باشا الأسعد نموذجاً
د. قاسم الصمد*
مقدمــة :
عند البحث في طبيعة العلاقة القائمة بين صاحب السلطة وأتباعه أو رعاياه أو مواطنيه، سواء كانت العلاقة هذه بين السائس ومسوسيه أو صاحب الأمر العسكري والإداري ومحكوميه أو صاحب المال الآمر ومأموريه، سوف لن يجد الباحث صعوبة كبيرة في استجلاء ماهية تلك العلاقة وطرائق ممارسة الحاكم المتنفذ لسلطاته، المتعارف عليها عرفاً أو المنصوص عنها قانوناً ، والتي قد تتراوح ما بين التزامه بإملاءات المفاهيم الاجتماعية المعمول بها وبضوابط القوانين الشرعية منها أو الوضعية، وبين تجاوزها والقفز عليها وصولاً إلى ادعاء النزاهة والعصمة، وهذا ما نجد له تطبيقاً في سيل الأوصاف والنعوت التي تسبق وتلي اسم الحاكم، بدءاً من السلطان وصولاً إلى ملتزم المقاطعة مروراً بأصحاب المراتب والمناصب، السياسية منها أو العسكرية أو الإدارية أو الدينية، وأخصها الوالي في كل من ولايات السلطنة العثمانية، هذه الأوصاف والنعوت تزخر بها كافة وثائق السجلات العثمانية وخاصة سجلات المحاكم الشرعية في عواصم الولايات.
وتكاد الصعوبة تتلاشى عند التطرق إلى مواضيع أو أحداث أو شخصيات تعود إلى فترة الحكم العثماني المتأخرة، أعني القرنين الأخيرين من عمر السلطنة العثمانية، حيث بلغ ضعف الدولة وتهالك أجهزتها مبلغاً كبيراً، وحيث تجاورت وتعايشت بل اختلطت عناصر الضعف هذا بالحضور القوي والجريء لنفوذ الدول الأوروبية على كافة الصعد، السياسية والاقتصادية والثقافية، مع ما استتبع ورافق ذلك من بروز قوي لشرائح واسعة من المسيحيين، الرعايا منهم والمستأمنين، بالإضافة إلى الهامش الواسع من الحرية في التحكم التي استطاع الولاة والمتنفذون ممارستها على رعاياهم، سواء بغض الطرف من قبل السلطة المركزية في الاستانة وغفلتها حيناً أو برضاها واسترضائها، عند تجاوز المألوف والمسموح، من قبل الولاة أحياناً كثيرة، وهي التي باتت همومها ومطالبها تنحصر بأمرين اثنين هما: جباية الأموال الأميرية ووصولها إلى الخزينة في مواعيدها أولاً، وعدم شق عصا الطاعة والارتباط أو الاشتراك بمشاريع تضرب هيبتها ووحدتها ثانياً.
وهنا ، وقبل الولوج في موضوع علاقة الوالي علي باشا الأسعد ببعض النخب المسيحية في طرابلس، لا بد من إيراد ملاحظتين هامتين اثنتين:
الملاحظة الأولى : إن ما كان يمارسه الوالي، كل والٍ ، من سلطة جاوزت التسلط، على رعايا السلطنة في ولايته، لم يكن منطلقه في غالب الأحيان نابعاً من تعصب ديني يستهدف فئة ما أو طائفة بعينها، بل كان ينطلق عموماً من شبق في ممارسة السلطة، ما توافق منها مع القوانين أو ما تعارض، على كل الرعايا من أتباع كل الديانات، المسيحيون منهم واليهود والمسلمون أيضاً ، لأن ما كان يهمه ، أساساً وبالدرجة الأولى، ليس راحة الرعايا ورضاهم بل سكوت الطبقة الحاكمة في العاصمة ورضاها من جهة، وتأمين مصلحته من جهة ثانية المتمثلة بجمع أموال الالتزام وفائضها وتثبيت قدرته وسطوته على كل مفاصل وموارد المقاطعات المكونة لولايته.
الملاحظة الثانية : إن ما قد يتبادر إلى أذهان البعض من إسرافنا في سوء الظن لدى تحليلنا معطيات الوقائع وتفاصيلها ونوايا أبطالها، ليس نابعاً من أحكام جاهزة، أو من أفكار مسبقة نريد إسقاطها من مطالع القرن الواحد والعشرين على المفاهيم السائدة في مطلع القرن التاسع عشر؛ بل إن هدفنا سيبقى الوصول إلى الحقيقة واستجلاء تفاصيلها، وستبقى وسيلتنا هي تحليل معطيات الوثائق بكل تجرد وموضوعية دون إسراف أو تجنٍ أو مراعاة، ودون أن يكون لدينا أفكار- ثوابت نريد البرهنة عليها وتأكيدها أو نفيها والتصويب عليها أو التشهير بأحد أو التحامل عليه.
علي باشا الأسعد:
هو سليل عائلة المرعب التي برزت في التزام وحكم مقاطعات عكار منذ العقد الثاني من القرن الثامن عشر (1714) ، والده أسعد آغا أول من تولى حاكمية (متسلمية) مدينة طرابلس من عائلته، حيث استطاع الكثيرون من زعماء ومقاطعجيي منطقتي الضنية وعكار من تبوء هذا المنصب في فترات طويلة ومتقطعة منذ الربع الأخير من القرن السابع عشر وحتى منتصف القرن التاسع عشر.
إن الخلاف على النفوذ وعلى منصب " متسلمية طرابلس الشام" بين علي بك الأسعد ومصطفى آغا بربر طبع بميسمه وأرخى بظلاله الثقيلة، سحابة الثلث الأول من القرن التاسع عشر، على مجمل الوضع في مدينة طرابلس وفي الكثير من المقاطعات التابعة لولايتها، وانسحب ذلك بتأثيره على أهل طرابلس من مسلمين ومسيحيين، سياسياً وإدارياً واقتصادياً، فنشأ حزبان رئيسيان أحدهما يتزعمه مصطفى بربر ويضم مؤيدين من مختلف الطوائف والطبقات ،ومنهم نعمة الله غريّب الثري المسيحي صاحب الحظوة لدى بربر، وثانيهما يترأسه علي الأسعد المقاطعجي الأكبر في عكار وصاحب الشخصية القوية الطموحة والجسورة، الذي يرنو إلى اعتلاء منصب ولاية طرابلس والحصول على رتبة الباشوية، والذي يضم مؤيدين من مختلف الطبقات والطوائف.
إن هذا الخلاف بين بربر والأسعد كان يغذي ويتغذى من حالة الاضطراب التي عاشتها طرابلس نتيجة الصراع على النفوذ بين زعماء الانكشارية فيها، ونتيجة الصراع بين مختلف ولاة بلاد الشام، ولاة حلب ودمشق وصيدا (عكا) للسيطرة على مقاليد الأمور في ولاية طرابلس؛ وهو الخلاف الذي بلغ أقصاه عام 1822، حيث حاصر علي بك مدينة طرابلس مدعوماً بالعساكر التي وصلت إلى ميناء طرابلس مساعدة له من والي عكا ضد واليي حلب ودمشق اللذين ساندا مصطفى بربر المتحصن في قلعة طرابلس.
وبوصوله إلى منصب الولاية وحصوله على رتبة الباشوية عام 1825، حقق علي الأسعد حلمه التاريخي مطلقاً العنان لنفسه في ممارسة سيطرته وتفوقه على جميع أقرانه من الملتزمين، مقاطعجيي عكار والضنية وغيرهما من المقاطعات، ومن منافسيه على منصب متسلمية طرابلس وأخصهم مصطفى بربر ومشايعيه من الانكشارية والوجهاء والتجار، كما أراد إثبات قدرته على القيام بالمهمات المنوطة به من جباية الضرائب وحفظ الأمن وتأمين مستلزمات قافلة الجردة من حماية وتموين ووسائط نقل.
إلاّ أن ذلك وغيره الكثير كان يستوجب تخطي جملة من المصاعب والاصطدام بالكثير من الخصوم وتوسل مختلف الطرق والأساليب، سواء ما توافق منها مع الشرع والقانون والعوائد أو ما تنافر معها؛ وهذا بالطبع لم يكن ديدن علي باشا الأسعد وحده من بين ولاة الدولة العثمانية، بل كان عادة وطبيعة عمل كل صاحب منصب ونفوذ وقوة في فترة تاريخية وصلت فيها الدولة إلى حالة من الضعف سمحت للولاة بتجاوز صلاحياتهم عند القيام بمهامهم، حتى لو وصل الأمر إلى حدّ الاصطدام عسكرياً أحدهم بالآخر،وحتى إن لزم الأمر اضطهاد فئة أو طبقة أو أفراد لا يرضخون لرغبات هذا الوالي أو ذاك، إضافة إلى إنزال أشد العقوبات، الغير منصوص عنها عرفاً أو قانوناً، بحق مؤيدي خصومه السابقين منهم والمستجدين.
ولما كان نطاق بحثنا لا يتسع لدراسة وتتبع كل هذه الأمور، ولا لملاحقة تفاصيل العلاقة التي قامت بين الوالي علي باشا الأسعد وبين مختلف شرائح المسيحيين في طرابلس، فإننا نكتفي بدراسة وجه من وجوه تلك العلاقة القائمة بينه وبين فئة محددة من وجهاء بورجوازية مسيحية أورثوذوكسية بالتحديد، وهذا يكشف لنا الطريقة التي اتبعها علي الأسعد مع مسيحيي طرابلس على وجه الإجمال، خصوصاً أولئك الذين يقفون منه موقف الخصومة أو التردد أو التربص. وهذا أيضاً ما يسمح لنا بطرح سؤال غير بريء وقد لا يحتاج أو ننتظر عليه إجابة ، وهو :
إذا كانت هذه طبيعة علاقة علي باشا، على ما سوف نرى، بالنخبة البورجوازية من المسيحيين، فكيف كانت العلاقة مع العامة من أبناء الطائفة، وكل طائفة، من عمال وفلاحين وصناع وغيرهم؟
ونسارع هنا في الإشارة إلى ما تورده بعض الكتابات التاريخية عن سيرة علي باشا وصفاته من كرم ونبل ، كان عقيماً ليس له ولد، ومواقف جريئة في مواجهة القناصل الأجانب في طرابلس وفي مواجهة غيره من ولاة بلاد الشام، بالإضافة إلى ما شيده من مبانٍ في منطقة عكار وفي طرابلس بالذات ومنها الجامع الأسعدي الذي بقي يسمى حتى العام 1981 بجامع الشوم على ما سوف نطّلع عليه بعد قليل.
لذلك سوف نعمد إلى دراسة حادثتين هامتين تحملان دلالات معبرة عما كان يتوسله الوالي في تعامله مع الرعايا، والطريقة التي كان يستخدم فيها سلطاته عند حصول خلاف ما، أو عندما يرفض طرف ما الإذعان لرغباته.وقد تبين لنا أن أوجه تشابه وعناصر مشتركة تجمع بين الحادثتين- القضيتين وهذه أهمها:
1- الخلاف في كلتي القضيتين وصل إلى المحكمة (مجلس الشرع الشريف).
2- نشب الخلاف مع الوالي بسبب حقوق مادية: قبوٌ لبناء جامع ومال لتمويل قافلة جردة الحج.
3- الطرف الأول في القضيتين هو الوالي علي باشا والطرف الثاني نخبة أرستوقراطية مسيحية، في القضية الأولى ، هم "أولاد الياس غريب"، وفي القضية الثانية التاجران "الذميين نصر الله ولد بطرس زريق وجرجس يني ولد ميخائيل".
4- التطاول على المال ووضع اليد على القبو حصلا بحجة معلنة هي تأدية ركنين أو عبادتين إسلاميتين هما الصلاة والحج.
5- أثيرت إحدى القضيتين لاسترجاع الحق أو بعضه بعد مرور عشر سنوات من حصول وضع اليد ،بعد تغير الظروف السياسية ووفاة علي باشا، وثانيتهما أثيرت في وجه الوالي زمن ولايته عام 1826.
6- حاول آل غريب، ونجحوا، في استرجاع ما طالبوا به باعتبار أن قضية البناء يمكن انتظار البت بها (عقار ثابت)، في حين تراجع زريق ويني بعد معاندتهما الوالي ومحاولة الاحتماء بالعلاقة مع قناصل الإفرنج (رعايا، مستأمنين)، باعتبار القضية مالية لا يمكن تأجيلها أو السكوت عليها.
القضية الأولى - جامع الشوم:
1- الوقائع والتفاصيل :
في السجل رقم 42 من سجلات المحكمة الشرعية في طرابلس، العائد للعام 1251هجرية الموافق للعام 1835 ميلادية، وتحت عنوان "إعلام إلى بيت غريب"، موجّه من قاضي الشرع إلى "الأعتاب الشريفة" و" باقي الأمر لمن له الأمر"، والأرجح أنه الحكمدار المصري في بلاد الشام، جاء ما ملخصه:
"المعروض لسعادتكم... هو أنه قد حصل الكشف بالالتماس على جميع الدار الشهيرة بدار أولاد غريب فإذا هي مهدومة وذاهبة أحجارها ولم يبق سوى قبو كان وضع له المرحوم علي باشا العكاري محراباً وبنى في ظهره منارة وسماه جامعاً لأجل الصلات فيه و ...؟ مالكي الدار المذكورين في بناء حايط فاصل ما بين القبو المذكور وبين عرصة الدار...
" وذلك بحسب التماسهم بما أن وضع المنارة والمحراب في محل دارهم كان بدون مسوغ شرعي كما هو مستفيض الثبوت بناءً على مالكي الدار المذكورة يبنوا الحايط المذكور من مالهم لأنفسهم ويبنوا حوض ماء ودكان مع سلم يتوصل منها إلى المنارة ثم من خصوص المنارة واطلالها على الدار المذكورة وهو مقر النسا فنُظر بالكشف أنه لا بأس سد كوتين منها مما يلي الجهة التي يطل منها على الدار المذكور...
" فسألنا عن ذلك كله جناب عمدة العلماء الأعلام والمدرسين الفخام السيد محمد كامل أفندي زيني زاده المفتي بالمحمية حالاً بما نصه في دار لجماعة من أهل الذمة هدمها حاكم السياسة وأبقى منها مكاناً على حدة وجعل فيه محراباً وجعل على ظهره منارة للأذان قصد بذلك أن يكون جامعاً لأجل إقامة الصلاة فيه فلم يصل فيه وبقي على ذلك مشغراً ...
" ... فهل والحالة هذه يجابوا إلى ذلك كله شرعاً أم لا أفيدوا أجاب الحمد لله وحده نعم حيث الحال ما ذكر فلهم بناء الحايط للفصل بين عرصة الدار وبين المكان المذكور ولهم سد الكوتين من المنارة المطلتين على عرصة الدار لمنع الكشف عن مقر النسا يحرم بل لهم إزالة المنارة والمحراب من مكان الموضوع ذلك ظلماً بدون مسوغ شرعي فسد الكوتين من المنارة بالطريق الأولي حتى أن الصلاة في المكان المذكور مكروهة شرعاً لأنه مغصوب ولا يكون المكان المذكور جامعاً بمجرد وضع المنارة والمحراب بوجه الغصب والحال ما ذكر حتى إذا طلبوا إزالة ذلك وأخذهم لمكانهم يتصرفوا فيه فإنهم يجابوا إلى ذلك شرعاً بدون توقف بل يجب إزالة هذه الظلامة على ولاة الأمور ضاعف الله لهم الأجور والله تعالى أعلم...".
وفي الموضوع نفسه وفي وثيقة بعنوان "مذاكرة بمجلس شورى طرابلس الشام" مرسلة إلى "الأعتاب السعيدة الحكمدارية"، وقعنا على تفاصيل كثيرة هامة زيادة عما أمدتنا به وثيقة المحكمة الشرعية، إن لجهة أساس القضية وزمنها وأسبابها، أو لجهة أسماء أعضاء المجلس الشرعي، أو لجهة التعابير الدقيقة والصريحة والعنيفة التي استعملها المفتي في رده على سؤال القاضي ليستفتيه في الموضوع، وهو الذي توجه بشخصه على رأس الوفد للاطلاع على واقع الحال مباشرة. ومن هذه التفاصيل نكتفي بإيراد ما يلي منها حرفياً:
1- "... من خصوص بيت الداعيين لجنابكم المعروف ببيت غريب فكان سابقاً أخذ منه جانب بعد هدمه في مدة حسين بيك متسلم طرابلس في مدة ولاية سليمان باشا عظم زاده ثم بعدها في مدة ولاية المرحوم أسعد زاده علي باشا تحسن عنده بناء منارة في البيت المرقوم وجعله جامعاً لإقامة الصلوة الخمس... ثم وقد حصل لي غاية الوقوف على ما توقع لهولاي (لهؤلاء) المذكورين من ظلامتهم وتشتت حالهم في مدة المشار إليه وكما يذكروا حيث لهم في ما أخذ من دارهم وجعل جامعاً وإن يكن لا نفع به فهو جامع صوره لكونه مأخوذ ظلماً ...
" وينبغي إجابتهم نظراً لعدالة هذه الدولة العلية أيدها الله في دفع ورفع معذورية مثل هذه واضحة الثبوت ثم وينبغي أن أهل المجلس كافة أن يتوجهوا للكشف على ذلك حتى أن هذا الفقير (المفتي) أكون بمعيتهم دفعاً لهذه المعذورية الوخيمة التي لحقت المذكورين سابقاً...
"ثم ويكون من طرف الشرع الشريف كاتب معين لأجل أن يعمل على موجب الكشف المذكور اعلام شرعي ثم ويعمل على موجبه جرنال يتضمن الاعراض عن واقعة الحال للأعتاب الشريفة وكما يصدر الأمر السامي يكون على مقتضاه العمل ويبقى الأمر لمن له الأمر والرأي لحضرات أرباب المجلس صدق على ذلك كافة أهالي المجلس...
2- ... ففي يوم الجمعة 20 ش سنة 251 ( 20 شوال سنة 1251) توجه للكشف كل من حضرة مفتي أفندي وحضرة نقيب أفندي (نقيب الأشراف)وحضرة إبراهيم أفندي سندروسي زاده وبقية أهل المجلس الحاج مصطفى ضناوي والحاج علي شقص والشيخ محمد العادلي والسيد مصطفى منقاره والخواجه نصر الله زريق والخواجه اسحق خلاط ووجد حين الكشف جناب قاضي أفندي وجماعة من أهل الخبرة والمعرفة...
3- "... فكشف على جميع الدار الشهيرة بدار أولاد غريب فإذا هي مهدومة وأحجارها ذاهبة وهي صحرا فيها بعض بناء من الردم ولم يبق من أصلها سوى قبو من جهة الشمال وهوا لذي بنا على ظهرها أسعد زاده علي باشا منارة لأجل الأذان وداخل القبو عمل به محراب للصلاة...
"... قرر مفتي أفندي أنه ظهر بالكشف على الجامع المذكور وعلى المنارة... إذا بني الحايط المذكور فاصلاً ما بين دار المدعيين المالكين الدار وبين القبو الذي جعله علي باشا جامعاً على الوجه الذي ظهر بالكشف فلا بأس في بنا الحايط على الوجه المشروح لأجل أن يتصرفوا في خالص حقهم وأن يكن حقهم أيضاً القبو الذي أحدث به الباشا المذكور المنارة والمحراب فوضعه غير صحيح شرعاً ولأصحابه تملك ذلك وإرجاعه إلى ملكهم كما أن خالص حجارة المنارة المذكورة هي خالصة ملكهم ولهم شرعاً إذالة المنارة والمحراب والتصرف في القبو المذكور بأنواع التصرفات الشرعية...صدق على ذلك كافة أهل المجلس.
ففي 29 ش سنة 51 ورد اعلام ممهور من جناب قاضي أفندي وهذه صورته حرفياً."
2- النقد والتحليل :
إن المتابعة الدقيقة للأوضاع في مدينة طرابلس، السياسية والاجتماعية منها بالتحديد، طوال الثلث الأول من القرن التاسع عشر، تظهر أن هذه الأوضاع لم تكن فقط نتاج التطاحن على السلطة بين زعماء الانكشارية في المدينة، وليست فقط حصيلة الصراع بين على الأسعد ومصطفى بربر على منصب المتسلمية أو بين ولاة بلاد الشام على التحكم والنفوذ في ولاية طرابلس؛ بل كانت أيضاً نتاج الأحداث الهامة والخطيرة التي كانت تشهدها أو تتعرض لها السلطنة العثمانية في أكثر من ولاية أو منطقة، وخاصة الحروب المتتالية التي قامت بينها وبين روسيا القيصرية، التي لم تضع معاهدة كوجوك قينارجه حداً لها أو تنهيها عام 1774، وكذلك الثورة التي قامت في بلاد اليونان مطلع العشرينيات من القرن التاسع عشر ، ما أدى إلى إلصاق التهمة أو تثبيتها بمسيحيي السلطنة، ومنهم الرعايا الأرثوذوكس في طرابلس، بأنهم يؤيدون عدو السلطنة ويعملون لصالحه ويشكلون طابوراً خامساً يكيد للإسلام والمسلمين.
إن ما ترويه بعض المصادر وتصرح به،وما استطعنا استخلاصه من مجريات الأحداث اللاحقة في طرابلس وخاصة ما تعرض له كثير من العائلات الأرثوذوكسية في طرابلس، يسمح لنا بالقول أنه، وعلى الرغم من توزع مسيحيي المدينة بين هذا الوالي أو المتسلم أو ذاك، وعلى الرغم من تبؤو بعضهم مناصب هامة وحساسة في إدارة الولاية وأجهزتها، وعلى الرغم مما تمتعوا به من بحبوحة اقتصادية ورعاية أو حماية أجنبية، فإنهم دفعوا مراراً أثماناً باهظة من أملاكهم وأموالهم وأحياناً من أرواحهم، بالإضافة إلى المضايقات والملاحقات التي ينزلها بهم أحد طرفي كل نزاع محلي ينشأ لأسباب سياسية، محلية كانت أم دولية، ولأسباب ناشئة عن طمع أو تجبر وتسلط هذا الوالي أو ذاك المتسلم.
جاء في مخطوطة نوفل نوفل، الذي يروي عن شيوخ المدينة المعاصرين للحدث وهو المولود عام 1812، أنه قد وردت في هذه الأثناء ، 1821- 1822، "أخبار ثورة اليونان فاضطرب النصارى وخافوا كثيراً لأنهم سمعوا بورود أمر سلطاني مؤداه أن الأروام عصوا بممالئة ( بممالأة ) روسيا، ولذلك يجب إذلال النصارى وقص أجنحتهم. كأن الدولة ظنت أن روسيا تشفق على النصارى لأنهم يدينون بدينها، فتكف عن الحرب. وبينما كان الطرابلسيون مضطربين جاء مأمور مخصوص من طرف عبد الله باشا( والي عكا وطرابلس) اسمه مصطفى آغا،... وكان مع المذكور أوامر من الباشا، ومن الأمير بشير حاكم الجبل، تصرح له بها، بسلب أموال النصارى، وضبط موجوداتهم ومنقولاتهم،وأن يبحث عنها حتى في الأديرة وفي قرى الجبل،وكان أكثر أولئك المساكين قد هربوا منذ شيوع تلك الأخبار، وذلك بحريمهم وأولادهم إلى الجبل المذكور بحسب مألوف عادتهم عندما يقعون في نكبات مثل هذه وخلت بيوتهم من السكان..."
وهكذا نستطيع ترجيح أن ما فعله والي طرابلس، سليمان باشا العظيم، عام 1824 فور توليه منصب الولاية كان لأسباب سياسية، وهو المعروف بظلمه وعسفه منذ أن كان متسلماً في حماه، وبعدما فر أهالي طرابلس من المدينة فور معرفتهم بقدومه، " فكدره ذلك لخلو الوظائف المهمة من متوظفيها فأضمر لهم الشر وعزم على هدم دورهم فهدم دار آل غريب وكانت داراً كبيرة في غاية الاتقان ولم يبق منها مع كل كبرها إلا قبو واحد ثم شرع في هدم دار آل الصراف على أن الويل لم يمتد حتى أخمدته الوسائط بالمال وداركته أمورا لجردة فأقام أخاه حسين بك قيمقاماً وأمره بأن يهدم بعض دور الأعيان وبينما الفعلة ذاهبون لهدم دار آل صدقة وإذا بثورة وهياج بين الناس..."
لكن سليمان باشا ما لبث أن توفي مريضاً عقب عودته من ترؤس قافلة جردة الحج ، فتولى منصب ولاية طرابلس علي الأسعد مع رتبتي الباشوية وميرميران طرابلس (أمير الأمراء) عام 1825، فعمد وأخاه مصطفى إلى متابعة ما فعله سليمان باشا ضد المسيحيين في المدينة ، مستفيداً من الأجواء السائدة في ولايات السلطنة لينتقم بشكل خاص من أصدقاء خصمه التاريخي مصطفى آغا بربر ومعاونيه، ويأتي على رأسهم نعمة الله الياس غريب الهارب من المدينة. وقد أدرك علي باشا أن أفضل ما ينتقم به من نعمة الله هو حرمانه، وإلى الأبد ، من أهم رمز من رموز وجود عائلته وحضورها وتميزها في المدينة وهو بقايا قصرها التي "هدمها حاكم السياسة"، فتفتق ذهنه عن بدعة إقامة شبه جامع " جامع صورة" على القسم الوحيد المتبقي قائماً من "دار آل غريب" وهو القبو السفلي المتهالك بين الأنقاض، وهو يضمر ويعرف جيداً أنه من غير المنطقي وغير الشرعي أن يقام فوق القبو مئذنة وفي داخله محراب ليسمى ذلك جامعاً،وأن السلطات العثمانية لا يمكن أن توافق على إقامة أو بناء جامع إلا بشروط محددة، ومنها تحديد ملكية الأرض ومساحتها ومساحة الجامع والمرافق التابعة له وأكلاف ذلك كله ، كما لا يمكنها الموافقة شرعاً على بناء جامع للصلاة فوق أرض مغصوبة معدة للبناء، فكيف تكون الموافقة إذا كان المكان قبواً كانت تسكنه عائلة مسيحية ذمية؟
وهذا بالتحديد ما ينسف أساس الرواية التي ذكرها بعض المراجع من أن علي باشا قد استصدر إذناً من الدولة العثمانية تبيح له بناء الجامع، في الوقت الذي تشدد المصادر على أن الدولة قد منعت إقامة الصلاة فيه، ثم جاءت الوثيقتان الرسميتان، اللتان استعرضنا مضمونهما آنفاً، لتوردا تفاصيل هامة من أن :... فلمَ يُصلّ فيه وبقي على ذلك مشغراً (شاغراً)..."، و"جُعل جامعاً وإن يكن لا نفع به فهو جامع صورة" و"حتى أن الصلاه" مكروهة شرعاً لأنه مغصوب"، وغيرها من التعابير الدالة على أن الباشا لم يكن يريد أن يقيم جامعاً للصلاة ولا أن يتقرب إلى الله بعمله كالذين "يعمرون مساجد الله"، بل كان كل همه هو الانتقام من أخصامه مشايعي مصطفى بربر ومن المتهمين بالارتباط بدولة المسكوب عدوة الإسلام والدولة العثمانية.
انتظر نعمة الله غريب وإخوانه، أولاد الياس غريب، طويلاً حتى انتهاء ولاية علي باشا وحتى انكفاء الحكم العثماني بمجيء الحملة المصرية عام 1832، بل حتى سمحت لهم الظروف عام 1835 بعودتهم إلى ديارهم في طرابلس وبتجرؤهم على الطلب من السلطات الحاكمة، مجلس شورى الولاية والحكمدار المصري، لاستعادة حقهم في أرض دارتهم دون المطالبة بهدم الجامع على الإطلاق ، وهم المدركون تماماً حساسية الموضوع دينياً، مستفيدين من أجواد الانفتاح والتسامح والمساواة التي أشاعها حكم إبراهيم بن محمد علي في سنواته الأولى في بلاد الشام، فاقتصر طلبهم في "عرضحالهم" على السماح لهم ببناء حائط يفصل ما بين الجامع-القبو وبين دارهم التي شرعوا في إعادة بنائها، وبسد كوتي المئذنة المطلة على "مقر النسا".
لكن اتخاذ قرار في هكذا موضوع،على درجة عالية من الخطورة والحساسية والمسؤولية الدينية، لم يكن بالأمر السهل على رئيس وأعضاء مجلس شورى ولاية طرابلس، فكان لا بد لهم من التمهل ومن التحصن برأي أو بفتوى المرجع الديني الأعلى في الولاية، وهو المفتي في المدينة، فسئل عن ذلك " بما نص في دار لجماعة من أهل الذمة هدمها حاكم السياسة" ، بل طلبوا منه أن يكون موجوداً حين الكشف على الدار قبل اتخاذهم قراراً وقبل إصداره فتواه "... ثم وينبغي أن اهل المجلس كافة أن يتوجهوا للكشف على ذلك حتى أن هذا الفقير أكون بمعيتهم دفعاً لهذه المعذورية الوخيمة التي لحقت المذكورين..."
إن إجابة المفتي التي عثرنا عليها في مصدرين اثنين، أحدهما ورد في سجل المحكمة الشرعية في طرابلس تحت عنوان " إعلام إلى بيت غريب"، والآخر على شكل صورة طبق الأصل موجود في منزل السيد عبد الله غريب في طرابلس تحت عنوان "مذاكرة بمجلس شورى طرابلس الشام"، نرجح أنها صدرت عن المفتي بشكل شفهي، أو أنها صدرت مكتوبة بنسختين مختلفتي النص متطابقتي المضمون؛ إلا أن ما يلفت النظر هو أن اختلاف تعابير النص ولهجته ظهرا واضحين لجهة دقة التعابير وبلاغتها. ففي نص المذاكرة المرسلة إلى الحكمدار جاءت الإجابة واسعة فضفاضة مفصلة بتعابير بسيطة" وكما يذكروا حيث لهم طمع في ما أخذ من دارهم... فلا بأس في بنا الحايط على الوجه المشروح لأجل يتصرفوا في خالص حقهم..."؛ بينما الإجابة الواردة في الإعلام كانت دقيقة بليغة صيغت بتعابير جازمة :؛"... بل لهم إزالة المنارة والمحراب... حتى أن الصلاة... مكروهة شرعاً لأنه مغصوب... بل يجب إزالة هذه الظلامة..".
وهكذا فإن خصوصية موضوع دار آل غريب لا تكتسب أهميتها فقط انطلاقاً من خطورة ممارسة وضع اليد على أرض ليس بهدف الربح أو التملك، وليس فقط لأنها أرض مملوكة لعائلة مسيحية وجيهة، بل باعتبارها مؤشراً على طبيعة علاقة الوالي صاحب السلطة بمسيحيي ولايته ومدينته، كما أن تلك الخصوصية تستحيل إشكالية خطرة إذ يعمد الوالي المسلم أو يدعي بناء مسجد، أو صورة مسجد، لممارسة عبادة الصلاة، وهي الركن الأهم من أركان الإسلام، في قبو متهالك تعود ملكيته لذمي مسيحي مواطن وبطريق الغصب الموصوف، ما أدى إلى خلق مشكلة عويصة مربكة، لصاحب الملك ولمسلمي المدينة على السواء، قليلاً ما شهد المجتمع المسلم مثيلاً لها، حيث تذكر المصادر التاريخية المحلية أن الدولة العثمانية منعت المسلمين من الصلاة في الجامع المذكور ، ليس فقط لأنها لم تأذن ببنائه أصلاً، بل لأنه مخالف للنصوص الشرعية، وعلى رأسها اغتصاب الأرض ، فبقي الجامع مهجوراً حتى عام 1981، يعني ما يزيد عن القرن ونصف القرن من الزمان، حيث أعاد بناءه الحاج عبد الجواد شرف الدين، وكان ذلك سبباً في تسميته لدى العامة بجامع الشوم (الشؤم) دلالة على شؤم طالعه وإشكالية كينونته وسيرته، انطلاقاً من إقامته على أرضٍ أو قبوٍ بطريق الغصب الصريح أولاً، ومن أن الدولة لم تأذن ببنائه أصلاً بل منعت إقامة الصلاة فيه ثانياً ، ثم جاء كلام المفتي صريحاً واضحاً بأنه " لا يكون المكان المذكور جامعاً بمجرد وضع المنارة والمحراب بوجه الغصب ثالثاً، ولأن علي باشا لم يكن يقصد إقامة الجامع من أجل الصلاة وتقرباً إلى الله، لأن من يريد إقامة بيت لله يبنيه على ملكه الخاص ومن حرّ ماله، بل كان ذلك كله انتقاماً من نعمة الله الياس غريب تأسيساً على موقف سياسي باعتباره مقرباً من مصطفى آغا بربر وصاحب الحظوة لديه والمتسلم لكثير من مسؤولياته ومصالحه.
القضية الثانية- أموال الجردة :
1- الوقائع والتفاصيل:
في الصفحة 94 من السجل 39 من سجلات المحكمة الشرعية في طرابلس، العائد للعام 1242هـ الموافق للعام 1826م، وتحت عنوان "حجة إقرار وإسقاط وإبرا لسعادة افندينا علي باشا"، جاء ما ملخصه:
إنه في مجلس الشرع الشريف، وبعد أن كان بتاريخ سنة 1241 " حين حصل الاهتمام في نظام الجردة السنية بحسب العوايد القديمة والقوانين المستديمة التي منها استقراض الولاة بطرابلس... إعانة لمهام الجردة من تجار البلدة من مسلمين ورعايا ذميون حسبما جرت العادة والقانون على السوية وكان ذلك لا بد منه...
" أحضر سعادة ... كلا من الذميين نصر الله ولد بطرس زريق وجرجس يني ولد ميخائيل وطلب منهما ما جرت العادة لهما مما قبل بدفعه على سبيل القرض لمهام الجردة السنية لكي يتناولانه كساير التجار بعد مدة يسيرة من أموال الميرية ... لكونهما من كبا تجار الذميين في البلدة ومتعاطيان لرايج التجارة الواردة لهما من ساير البلاد برا وبحرا وذوي امانات كثيرة...
" فاجابا بعد الطلب منهما بانهما تراجمين عند قناسل دول الافرنجية بطرابلس المحمية وامتنعا عن دفع القرض بالكلية ومانعا اشد الامتناع... ثم التمسا من وكلا القناصل القاطنين بالمحمية الممانعة للوالي المشار إليه فحضر الوكلا لديه ومانعا سعادته من ذلك بدون وجه مرضي ولا امر ملوكي...
" وطلب منهم (الوكلاء) امرا من الدولة العلية في جعل تراجمين عندهم من ذميين رعايا طرابلس وحمايتهم من الاستقراض منهم فلم يفد ذلك معهم شيء وادام واصر الذميين مقيمين في وظيفة الترجمة عند القناصل بعد ان امرهما الوالي بتركها فلم يمتثلا ولم يرضيا بان يستقيما في البلدة كما كانا في السابق...
" واجاب وكلا القناصل بانهم يعرضوا للدولة العلية ويبرهنوا على دعواهم التراجمين عندهم من رعايا طرابلس وكذلك يحرر سعادة الوالي المشار اليه اعراضاً بهذا الخصوص لدى الدولة العلية والسدة الخاقانية فصدر الاعراض من الطرفين فايد الله سعادة افندينا المحتشم بتأييده وحياه بظفره وامر الدولة العلية والسدة الخاقانية ايد الله انصارها المتضمن فحواها والمعرب مضمونها بان رعايا ذميين طرابلس الشام رعايا الدولة العلية ممنوعون من اقامتهم بوظيفة الترجمة عند القناسل بساير البلاد وان شروط المستأمنين في الممالك المحروسة اقامة تراجمين عندهم من الافرنج لا من رعايا البلاد...
" فلما ان تحقق الذميين... الامر الملوكي بما فيه منعهما عن زعمهما فرا هاربين من البلدة الى مدينة حلب ولجبل الدروز ولم يوديا قرضاً...
" فحينئذ ضبط سعادة الوالي المشار إليه ما في المخازن التي لهما باسكلة المحمية من حنطة وشعير وفول وحنة وباع تلك الحبوب والحنة لاجل مال القرض المرتب عليهما في السنة المرقومة...
" بعد ذلك حضر الذميين المذكورين في غرة شهر تاريخه... وتراميا على اذيال سعادته... ورجعا عن زعمهما القديم واستقاما رعية اسوة اهالي البلدة فصفى خاطر سعادة الوالي عليهما وامنهما في اوطانهما وتعاطي تجارتهما...
"واجرى المحاسبة معهما على اثمان الموجودات في المخازن التي باعها فاذا هي ثلاثة وعشرون الف قرش وثلاثماية قرش وعشرون قرشا وثلاثة ارباع القرش وخمس مصريات فانعم بارجاع ذلك لهما...حلماً منه وعدلاً... ولم يبق لهما من ذلك شي وابريا ذمة سعادته ابرا عاماً من كل حق ودعوى مسقط لساير الحقوق والدعاوى فيما مضى من الزمان لحد تاريخه... واجاز مولانا الحاكم الشرعي ذلك وحكم به في خامس من جمادى الاولى سنة اثنين واربعين ومايتين والف .
2- النقد والتحليل :
إذا كان قبو آل غريب عقاراً ثابتاً لا يتحول، فإن أموال آل يني وآل زريق سائلة متحولة من يدٍ إلى أخرى؛ وإذا كان أولاد الياس غريب انتظروا عشر سنوات حتى تغيرت الظروف السياسية بارتفاع يد علي باشا الأسعد ومجيء الحكم المصري لاستعادة حقهم ، فإن التاجرين نصر الله زريق وجرجس يني وجدا نفسيهما أمام خيارين أحلاهما مرّ في تحديد العلاقة مع الوالي الباشا، فإما الرضوخ والاستسلام أمام رغباته وأطماعه في أموالهما وإما المجابهة المرة التي لا تحتمل انتظاراً وتأجيلاً حتى تتبدل الأحوال.
ولما كان علي باشا قد تفتق ذهنه، للكيد من آل غريب أصدقاء غريمه بربر آغا، عن طريقة مبدعة فابتنى مئذنة فوق قبو دارهم المهدومة وأقام محراباً داخله، فكان عليه أن يتفنن في ابتداع طريقة تؤمن له السطو على أموال التاجرين الذميين زريق ويني،وهما المثابران على البقاء في بلدهما وعلى علاقتهما الجيدة به و" متعاطيان لرايج التجارة الواردة لهما من ساير البلاد براً وبحراً وذوي أمانات كثيرة ترد لهما ومنهما من ساير الأطراف والجهات".
وهكذا كان عليه أن يهتبل الفرصة السنوية السانحة، فرصة إعداد وتمويل قافلة الجردة المنوطة به؛ وهي التي يفترض بها أن تذهب لملاقاة الحجاج المسلمين عند وصولهم إلى جنوب بلاد الشام" من دار المزاريب إلى قلعة هديّة"، وتقتضي احتياجات القافلة استئجار قوى عسكرية غير نظامية لحمايتها وتوفير المؤن اللازمة لإطعام الحجاج والقائمين بشؤون الحج، وكذلك نقلهم التي كان عمادها الجمل، وقد بلغ عدد الجمال التي استأجرها علي باشا عام 1242هـ/1826م أربعمئة وعشرين جملاً بلغت كلفتها، ما عدا الضموم والعوائد، خمسة وثلاثين ألفاً وتسعمائة وعشرة قروش .
ومع أن المصادر المالية التي موّلت قافلة جردة الحج قد تنوعت كثيراً، حيث تورد بعض الدراسات الجادة أن قسماً كبيراً منها جاء من مال الميري أو من الرسوم التي فرضتها الدولة على التجارة والصناعات في ولايات بلاد الشام، دمشق وحلب وطرابلس وصيدا، ومن المال الذي دفعه أصحاب الإقطاعات (فرسان السباهية)، ومن مالكانات حمص وحماه ومعرة النعمان التي ألحقت بوالي دمشق لينفق من عائداتها على قافلة الحج، ومن مال التزام المقاطعات والأقلام المتنوعة، فإن علي باشا الأسعد عمد فوق ذلك إلى استقراض مبالغ مالية من تجار طرابلس بحجة تمويل القافلة، معللاً ذلك بعبارات تكررها الوثيقة ثلاث مرات في ثلاث سطور "بحسب العوايد القديمة والقوانين المستديمة التي منها استقراض الولاة بطرابلس الشام المحمية اعانة لمهام الجردة السنية من تجار البلدة من مسلمين ورعايا ذميون حسبما جرت به العادة والقانون على السوية... وحيث أن ذلك معتاد قديم على الجميع من تجار البلدة مسلمين ورعايا...".
إن تحليلاً تاريخياً بسيطاً لهذه التعابير والمصطلحات المستعملة يوضح مدى الإحراج الذي يشعر به علي باشا حيال ما قام به بحق التاجرين، يني وزريق، كما يظهر التباساً وتناقضاً كبيرين بين الحقائق التاريخية القانونية المعمول بها في الدولة العثمانية وبين ما يريد الترسمل به والاستناد عليه لتبرير ما أقدم عليه من إجراءات لا يمكن تبريرها لا شرعاً ولا قانوناً.
إنه يدمج ما بين " العوايد القديمة" التي تسكت المصادر التاريخية تماماً عن ذكرها وذكر مدى قدمها: هل كانت منذ بداية الحكم الإسلامي، أم العثماني، أم، ونحن نرجح هذا، أنها استحدثت منذ تفرد الولاة وتسلطهم في فرض ما هو غير مبرر وغير شرعي وغير قانوني؟، وما بين "القوانين المستديمة" التي لا ذكر لها إطلاقاً في جميع الأدبيات العثمانية القانونية منها والتاريخية والإدارية، والتي عمد كاتب المحكمة الشرعية إلى كتابتها وحشرها وتردادها بناءً على أوامر علي باشا ليشرّع لفظاً ما هو غير شرعي ويقنّن تجاوزاً ما هو غير قانوني.
كذلك أراد مدبج النص وكاتبه أن يوحيا بسلامة العلاقة القائمة بين الوالي والتاجرين وطبيعتيها، فتظهر الوثيقة أنهما أقرضا الوالي في السنين السابقة . " ما جرت العادة لهما مما قبل بدفعه على سبيل القرض"، وأن المبالغ ستعاد إليهما بعد مدة يسيرة من الأموال الأميرية" في غياب سعادته في الجردة"، وبالتالي فإن أقرض التاجران المال للوالي فهو الأمر الطبيعي والعادي والمنتظم، وإن استنكفا أو تهربا أو مانعا ففيه المكابرة وتجاوز العوايد والمألوف وفيه الممانعة ومخالفة القوانين!؟.
3- رعايا أم مستأمنون:
لما كانت المشكلة قد بدأت بتمنع التاجرين عن دفع مال القرض للوالي، مع أنهما من "كبرا تجار الذميين في البلدة ومتعاطيان لرايج التجارة الواردة لهما من ساير البلاد براً وبحراً وذوي أمان كثيرة"، وانتهت بأن خضعا لأمر الوالي و"رجعا عن زعمهما القديم واستقاما رعية أسوة أهالي البلدة"، بأن دفعا ما يترتب عليهما، ما يعني انتفاء أي سبب سياسي لهذه المشكلة، سواء كان هذا السبب المفترض هو ممالأة التاجرين الأرثوذوكسيين لقيصر روسيا أو تأييدهما سابقاً لخصم علي باشا مصطفى بربر، مما يسمح بالاستنتاج أن السبب إن هو إلا تخوّفهما من عدم قدرتهما على استعادة مال القرض المطلوب، ومما يبرر طرح السؤال الهام الذي لا بد من طرحه وهو :
لماذا يمتنع التاجران، وربما غيرهما، عن إقراض الوالي ويخالفا " ما جرت العادة لهما مما قبل بدفعه على سبيل القرض لمهام الجردة السنية"، ويستنكفان عن إقامة علاقة جيدة معه، بل يلجآن إلى الممانعة والتحصن بعلاقتهما بقناصل الدول الإفرنجية بحجة أنهما ترجمانين لدى هؤلاء القناصل، لو لم يتخوفا على أموالهما اعتماداً على ما حصل لهما ومع غيرهما في سنوات سابقة أو في مناسبات مختلفة، حيث يتبين بالتحليل لكل متبصر أن الوالي كان قد استقرض من التجار في مواسم للحج سابقة ولم يرجع الأموال لهم، أو قسم منها، مما دفعهما إلى ركوب هذه المغامرة الصعبة ومعاندة الوالي؟.
لم يكتف التاجران برفض إقراض علي باشا بحجة أنهما ترجمانين لدى القناصل، علماً بأن الوثيقة لا تذكر أسماءهم ولا أسماء دولهم، بل استقدما وكلاء هؤلاء القناصل لشد أزرهما في معركتهما مع الوالي ، الذين لم يتأخروا في إضفاء حمايتهم على يني وزريق مدافعين عنهما أمام الباشا، الذي أصر على هؤلاء الوكلاء الاستحصال، عبر سفراء دولهم في اسطمبول، على أمر أو إذن أو براءة سلطانية تبرر لهم حق حماية التاجرين عبر جعلهما ترجمانين "عندهم من ذميين رعايا طرابلس وحمايتهم من الاستقراض منهم"، في الوقت الذي أمر الوالي هذين التاجرين بترك وظيفة الترجمة عند القناصل، وهما في الأصل ليسا بحاجة إليها إلا لأنها ترفع يد الوالي عنهما وتمنعه من فرض الاستقراض عليهما وغير ذلك الكثير من الأمور المشابهة، كما أجابه وكلاء القناصل بأنهم سوف يعرضوا الأمر" للدولة العلية ويبرهنوا على دعواهم التراجمين عندهم من رعايا طرابلس" ، في الوقت الذي يحرر الوالي "إعراضاً بهذا الخصوص لدى الدولة العلية والسدة الخاقانية". ومما تجدر الإشارة إليه هنا هو أن القناصل ووكلائهم لا بد أنهم يعرفون جيداً حدود صلاحياتهم وطبيعة البنود التي تتضمنها اتفاقيات الحماية والامتيازات الأجنبية في أراضي السلطنة العثمانية، والتي تبيح للقناصل جعل مسيحيي السلطنة تراجمة لديهم أو مشمولين بحماية دولهم.
وقبل أن نسترسل في عرض وقائع القضية وتحليلها ونقدها، لا بد من استكمال طرح بعض التساؤلات التفصيلية التي لم تقدّم الوثيقة إجابات عنها، ومنها :
هل أن التاجرين حتى ذلك الوقت لم يكونا قد حصلا على براءة روسية أو غيرها تخولهما التحصن بوظيفة الترجمان؟ أم أنهما قد وعدا من القناصل بذلك ولم يتم بعد تنفيذ ذلك رسمياً؟ أم أنهما كانا ترجمانين فعلاً منذ فترة أقرضا خلالها علي الأسعد أموالاً، بحجة قافلة الحج أو غيرها ولم يوفهما حقهما فعمد لدى سلطات الدولة العثمانية أن ينزع عنهما تلك الصفة ويجردهما من قدرتهما على الممانعة أو على استرداد ديون أو قروض سابقة من الوالي؟.
أم أن عبارة " بعد أن أمرهما الوالي بتركها (الوظيفة) فلم يمتثلا ولم يرضيا" تعني أن التاجرين يني وزريق كانا فعلاً ترجمانين فانتهت مدة صلاحية براءة الحماية أو أن علي الأسعد، بماله من نفوذ في العاصمة اسطمبول، استطاع نزع تلك الصفة عنهما وإبطال مفعول تلك البراءة؟.
ومما يرجح هذا التساؤل - الافتراض ما تذكره الوثيقة أو ما تدعيه من أن كلاً من الوالي ووكلاء القناصل قام بعرض الأمر على السلطات المركزية، وحاول الحصول على ما يبتغيه منها : الوالي من جهته يريد منع الحصول على الإذن للتاجرين، والوكلاء من جهتهم يريدون تثبيت حقهما في الحصول على وظيفة الترجمة والتمتع بالحماية؛ لكن جواب السلطات في اسطمبول جاء صريحاً، على ما تدعيه الوثيقة، من أن الرعايا الذميين "ممنوعون من إقامتهم بوظيفة الترجمة عند القناصل بساير البلاد وأن شروط المستأمنين (الأجانب) في الممالك المحروسة إقامة تراجمين عندهم من الإفرنج لا من رعايا البلاد...".
إن هذا الجواب يستبطن، على الأرجح، إضافة إلى تناقض محتواه مع ما كان سائداً ومعمولاً به في تلك الفترة من استحصال سفراء الدول الأوروبية في اسطمبول على أعداد كبيرة من براءات الحماية ليتم توزيعها أو بيعها لمسيحيي الدولة العثمانية في مختلف ولاياتها، يستبطن أموراً غامضة يحوم الشك حولها، وحول إمكانية حصولها، ومنها:
هل استطاع علي الأسعد فعلاً التأثير على قرار السلطات العثمانية لتعطي ذلك الجواب الفاقد الصدقية والذي يتنافى مع منطق الأمور؟، لأن القنصل الإفرنجي المستأمن ليس بحاجة إلى ترجمان إفرنجي مستأمن مثله، ولأن مبرر وجود وظيفة الترجمان، الذي يجيد لغة أهل البلاد، هو أنها كانت الوسيلة الناجعة لدى الدول الأوروبية لربط الرعايا من مسيحيي الدولة العثمانية بخدمة مصالحها وجعلهم تابعين وعملاء لها.
أم أن التاجرين اللذين " فرا هاربين من البلدة إلى مدينة حلب ولجبل الدروز"، وهما المنطقتان الأقرب والمجاورتان ،شمالاً وجنوباً، لمقاطعات ولاية طرابلس التي يتولاها علي باشا، بعد وصول جواب الدولة المشكوك بصوابيته وبحصوله أصلاً، قد وصلهما خبر ما أقدم عليه الوالي من السطو على تجارتهما في طرابلس "فحينئذ ضبط سعادة الوالي المشار إليه ما في المخازن التي لهما بأسكلة المحمية من حنطة وشعير وفول وحنه وباع تلك الحبوب والحنة لأجل مال القرض المرتّب عليهما"، مما دفعهما للعودة سريعاً إلى طرابلس ، تداركاً منهما للأسوأ مما قد يمارسه ويقدم عليه الوالي من أذية تلحق بأملاكهما ودورهما، كما جرى لأملاك ودار آل غريب سابقاً؟.
إن العبارة الواردة صريحاً في الوثيقة" لأجل مال القرض المرتب عليهما"، تظهر جلياً أن المال المطلوب من التاجرين يني وزريق لم يكن على سبيل القرض، بل هو مال مرتب عليهما بمعنى الفرض وليس القرض، لأن الاستقراض يفترض ، بطبيعته، قبولاً من صاحب المال وليس فرضاً من صاحب الحاجة. وإذا كان جائزاً على التجار المسلمين الذين يمولون تكاليف لوازم عبادة إسلامية، فهو غير جائز أو مبرر، دينياً ومنطقياً، فرضه على التجار المسيحيين. وهذا ما لم يقدم عليه أو يفرضه ولاة دمشق على ما تظهره بعض الدراسات القليلة الجادة التي تناولت هذا الموضوع".
ولا بد لنا من التطرق ولو سريعاً إلى موضوع الحمايات والامتيازات والبراءات التي يحوزها ويتمتع بها قناصل ورعايا الدول الأجنبية العاملون في أراضي السلطنة العثمانية (المستأمنون)، والتي لم تلبث أن شملت بانعاماتها الرعايا الذميين العثمانيين من مختلف الطوائف المسيحية. حيث أن المستفيدين من الحماية المدنية، بالإضافة إلى الأوروبيين ، هم العديد من رعايا السلطان ومنهم القناصل الذميون ومساعدو القناصل وكذلك المترجمون والحراس الذين ا ستخدمهم السفراء والقناصل والتجار كما استخدمتهم الرهبانيات الأجنبية. وكان كل من هؤلاء يُسلم براءة سلطانية تعترف بوظيفته وتمنحه الامتيازات التي كانت للفرنسيين وتعفيه من الضرائب التي يدفعها الرعايا".
وكان الباب العالي يسلّم تلك البراءات إلى السفراء لقاء مبلغ من المال، فيوزعها هؤلاء على مستخدميهم، وكانوا أحياناً يبيعونها إلى تجار كبار فيتخلص هؤلاء بفضلها من دفع الضرائب ويتمتعون بالحصانة القضائية التي كانت للفرنسيين. ولأجل ذلك فلم يكن للحاكم وعماله سلطة عليهم، ولا يستطيع أحدهم تغريمهم، وتُرك أمر مقاضاتهم لديوان القنصل، فعرف هؤلاء في الشرق بـ"تراجمة أصحاب البراءة"، التي بلغ ثمن الواحدة منها ألفا قرش، أو ألفان وأربعماية، وكل سفير كان يُعطى خمسين براءة، وإذا مات صاحبها حصل السفير على براءة جديدة بدلاً منها.
وقد لعبت تلك البراءات دوراً هاماً في إيجاد قاعدة تجارية محلية للرساميل الخارجية. وساعد غياب الرقابة العثمانية عن عمليات توزيعها على إخراج عدد وافر من الرعايا المحليين من دائرة الخضوع لأجهزة السلطنة وولاتها وانخراطهم الكامل في القنصليات الأجنبية كتراجمة وتجار محليين وغيرهم. فبلغ عدد هؤلاء مثلاً في حلب عام 1793 ألفاً وخمسمائة ترجمان. أما التدخل الروسي في موضوع الحماية الدينية، فقد بدأ مع بطرس الأكبر وتبلورت معالمه في معاهدة القسطنطينية عام 1720 ثم في معاهدة بلغراد عام 1739، وبلغ ذروته مع معاهدة كوجوك قينارجي عام 1774 ، حيث اعتُبر القيصر حامياً لجميع المسيحيين التابعين للمذهب الأرثوذكسي من رعايا الدولة العثمانية، كما نصت المادة التاسعة منها على ما يلي :
"المترجمون الموجودون في خدمة سفراء الروسيا المقيمين في محروسة القسطنطينية من أي ملة كانوا حيث خدموا أمور الدولة وخدمتهم هذه راجعة للدولتين فإنهم يعاملون بكامل المرؤة والاعتبار ولا تجوز مؤاخذتهم في الأمور المكلفين بها من طرف من هم في خدمته".
وإذ تزايد الطلب على البراءات السلطانية، فقد ازداد عددها حتى تجاوز حدود المعقول، مما حمل الباب العالي ، متأخراً، على إصدار تنظيم جديد للقنصليات الأجنبية عام 1863، منع بموجبه السفراء الأجانب من تعيين قناصل مساعدين من رعايا السلطان إلا في الحالات الاستثنائية وبعد الحصول على موافقة الحكومة العثمانية؛ كما حدد عدد المترجمين والحراس الذين يحق للأجانب استخدامهم.
ولنا أن نتصور بالتحليل الموضوعي كيف كان الحال ما بين عامي 1826، زمن ولاية علي باشا الأسعد في طرابلس، و1863 حيث استدركت الدولة الوضع المتفاقم لفوضى توزيع البراءات، التي وإن كانت تؤمن الحماية المدنية المرتبطة بوظيفة الترجمة أو الحراسة ولا علاقة لها بالدين، إلا أن المستفيدين منها كانوا بأكثريتهم الساحقة من أهل الذمة وبنوع خاص من الأرمن واليونان (الروم) Les grecs واليهود؛ إنها الحماية التي إنما وجدت فهي تهدف الدفاع عن مصالح خاصة، فالشخص الذي يتمتع بها يعتبر من رعايا الدولة الحامية وتتعامل معه السلطات العثمانية على هذا الأساس.
هل عجز التاجران يني وزريق، والحال على ما هي عليه، عن الحصول على براءتي الحماية والتمتع أو التحصن بمفعولهما ومندرجاتهما؟
سؤال لن ننتظر الإجابة عليه.
4- محاسبة أم دفعة على الحساب = 23323 قرش:
أما وقد أعيتهما الحيلة وأدركا عجزهما أمام سلطة الوالي وسطوته، فقد حصل ما لا بد من حصوله، حضر الذميان يني وزريق، و"... تراميا على أذيال سعادته... ورجعا عن زعمهما القديم... فصفى خاطر سعادة الوالي عليهما وأمنهما في أوطانهما وتعاطي تجارتهما... وأجرى المحاسبة معهما على أثمان الموجودات في المخازن التي باعها فإذا هي ثلاثة وعشرون ألف قرش وثلاثماية قرش وثلاثة وعشرون قرشاً وثلاثة أرباع القرش وخمس مصريات فأنعم بإرجاع ذلك لهما فأرجع لهما ذلك حلماً منه وعدلاً؟! ..."
إن الحجة- الوثيقة لم تورد، بطبيعة الأمر ونظراً لقدرة الوالي وسطوته وانكسار التاجرين وعجزهما، كمية المال التي لا بد أن الوالي قد اقتطعها " على سبيل القرض"، كما لم تظهر كيف سيعيدها إلى التاجرين، ولم تفصّل هذه الوثيقة ولا غيرها في سجلات المحكمة المبالغ المطلوب دفعها، وبالتالي هي ليست وثيقة- محضر لجلسة محاسبة أو كشف حساب اتفق فيها الطرفان على تصفية ما بينهما من خلاف مادي. ويمكن التكهن ،وبقليل من سوء الظن الواجب إعماله في مثل هذه الظروف والمواقع، بأن هذين التاجرين " وقد تراميا على أذيال" الوالي، قد دفعا ما فرضه الوالي الباشا عليهما وأنهما سامحاه بتلك المبالغ ليعودا إلى أعمالهما وديارهما بعدما " صفى خاطر سعادة الوالي عليهما وأمنهما في أوطانهما...".
إن لجوء الوالي وإصراره على تسجيل القضية في سجلات المحكمة الشرعية تحت عنوان "حجة إقرار وإسقاط وابرا لسعادة أفندينا علي باشا" أولاً،
وفي جلسة عقدت "بمجلس الشرع الشريف بطرابلس الشام لدى متوليه مولانا الدرويش محمد افندي الحاكم الشرعي حالاً " ثانياً،
والتأكيد على أن التاجرين يني وزريق " لم يبق لهما من ذلك شيء وأبريا ذمة سعادته ابرآ عاماً من كل حق ودعوى مسقط لساير الحقوق والدعاوى فيما مضى من الزمان لحد تاريخه " ثالثاً،
وتتويج الحجة في خاتمتها بعبارة " وأجاز مولانا الحاكم الشرعي ذلك وحكم به" رابعاً،
وحشد عدد كبير من الشهود وتسجيل أسمائهم في ذيل الحجة، وقد بلغ عددهم سبعة عشر اسماً وإضافة عبارة و"غيرهم" خامساً،
بالإضافة إلى ما يمكن التكهن به، بل والتأكد منه، وهو أن التاجرين يني وزريق لم يكونا المبادرين إلى طلب تسجيل القضية في السجل الرسمي للولاية، بل إن المبادر إلى ذلك كان الوالي علي باشا الأسعد، وهو الظنين والفطين والحريص على عدم لجوء التاجرين، في مستقبل الأيام، إلى إثارة الموضوع والتقدم بشكواهما أمام القاضي حالما تنقضي مدة ولاية الباشا الوالي وقدوم غيره إلى سدة الولاية، فيلزمانه وذريته بإعادة الأموال التي اقتنصها منهما بذريعة تمويل قافلة جردة الحج على سبيل القرض. ولا يستبعد أن يكون ذلك أمراً وإجباراً للقاضي بتدوين هذا النص- الوثيقة في سجل المحكمة الشرعية، أرسله الوالي في محاولة لتبرئة ذمة نفسه حاضراً ومستقبلاً ، مع ترجيحنا أن جلسة في المحكمة لم تعقد بهذا الخصوص ولم يحضر التاجران إلى قاعة المحكمة ولم يبرئا ذمة الوالي أمام القاضي ، بل امتثلا كرهاً لأوامره وتنازلاً له شخصياً في جلسة خاصة نرجح أن تكون قد حصلت في دارة الوالي وليس في أي مكان آخر.
أما عبارة "فيما مضى من الزمان لحد تاريخه"، فإنها تنبئ بل تكاد تنطق بأن للتاجرين في ذمة علي باشا أموالاً كثيرة أخرى سابقة زمنياً على قضية تمويل قافلة جردة الحج، وهي أموال اقترضها الباشا ولم يستعدها التاجران في مناسبات سابقة وبذرائع مختلفة، ما دفع بالتاجرين إلى التمنع عن إقراض الباشا، فعمد هذا إلى فعل ما فعله معهما ومع غيرهما أيضاً، لكن موقعهما الاجتماعي وجسارتهما هما سبب الوصول بالأمر إلى قاعة المحكمة، في حين لم يجرؤ غيرهما من التجار والمتمولين على الإقدام على ما أقدما عليه.
أمر آخر يستلفت نظر الباحث، وهو ما أضيف إلى الحجة- الوثيقة بعد كتابتها، وبعد عرضها على التدقيق وربما على الوالي، وبخط طولي ، وللتأكيد على أن ما ورد فيه هو من صلب ومتن الوثيقة- الاعتراف، وبهدف سدّ أية ذريعة قانونية يمكن أن يحتج بها لاحقاً كلٌ من التاجرين بأنهما ينكران ما جاء فيها أو يجهلانه، فأضيف إليها ما يلي:
" حضرا للمجلس الشرعي وقررا بالطوع والاختيار من غير إكراه ولا اجبار انهما قد استوفيا المال المضبوط المرقوم من سعادة افندينا المشار اليه صح".
خاتمــة :
إن قضية دار أولاد الياس غريب، وقضية أموال التاجرين نصر الله زريق وجرجس يني، إن هما إلا فصلين معلومين من فصول كثيرة أخرى، جاءا في سياق تاريخي شهد تدهور أوضاع الدولة العثمانية لأسباب كثيرة منها الذاتي الداخلي ومنها الخارجي الأوروبي، ما أفسح في المجال، ليس فقط لسفراء الدول الأوروبية وقناصلها ومبعوثيها وتجارها ورهبانها للعمل على تأمين مصالح دولهم، بل ليشمل أيضاً من لاذ بهم وتحصّن بقدرتهم من أبناء الطوائف المتكاثرة والمتناسلة من رعايا السلطان العثماني، وخاصة أبناء الطوائف المسيحية؛ وليشمل أيضاً ولاة الدولة العثمانية في مختلف ولاياتها ومختلف مراتب المسؤولين في عاصمة السلطنة العثمانية ، الذين أدركوا جيداً ما آلت إليه أحوال الدولة من ضعف وترهل، وما وصلت إليه دول أوروبا من قدرة على التحكم والمناورة في مختلف مناحي الحياة داخل أراضي السلطنة من سياسية وإدارية واقتصادية وثقافية، فتركوا لأنفسهم عنان التفنن في ممارسة سطوتهم على رعاياهم وفي التفلت من كل رقابة أو محاسبة تجريها السلطات المركزية بحقهم، كل ذلك لم يكن ليحصل إلاّ على حساب مصالح هؤلاء الرعايا من مسلمين وذميين، فلاحين وعمال وصناعيين وتجار متمولين.
هي ليست أحداث يتيمة حصلت خارج السياق الطبيعي والمنطقي لتطور الأمور، وما نزل بآل غريب ويني وزريق لم يحصل بالتأكيد لأنهم مسيحيون ذميون، وليس لأي سبب سياسي أيضاً، بل لأنهم فقط أصحاب رؤوس أموال وتجارات سال لها لعاب الوالي الباشا، فأنزل بهم ما أنزل مما كان قد فعله ويفعله مع كل متمول يعارض رغباته ويقف في وجه محاولاته المستميتة للبقاء في منصب الولاية، والذي لن يكون إلاّ إذا أثبت لقادة الدولة في اسطمبول أنه قادر على تنفيذ ما يؤمر به من مهمات يأتي في مقدمها تأمين سلامة قافلة الحج الشامي، وهي العنوان الهام والمؤشر الأبرز على اهتمام الدولة بشؤون رعاياها المسلمين وعلى فرض هيبتها في ردع المغيرين على قافلة الحج العائدة من الأراضي المقدسة.
مصادر البحث ومراجعه
1- سجلات المحكمة الشرعية في طرابلس التي تحمل الأرقام: 39- 40- 42- 50.
2- مذاكرة بمجلس شورى طرابلس الشام، الواردة في مخطوط عبد الله غريب: تاريخ آل غريب، نقلاً عن كتاب د. فاروق حبلص: طرابلس المساجد والكنائس.
3- بك، محمد رفيق ومحمد بهجت: ولاية بيروت القسم الشمالي ألوية طرابلس واللاذقية، دار لحد خاطر ، الطبعة الثالثة 1987.
4- تدمري، د. عمر عبد السلام: آثار طرابلس الإسلامية، دار الإيمان، طرابلس لبنان 1994.
5- جب وبوون: المجتمع الإسلامي والغرب، ترجمة د. أحمد عبد الرحيم مصطفى، مراجعة د. أحمد عزت عبد الكريم، دار المعارف بمصر، القاهرة 1971.
6- حبلص، د. فاروق: طرابلس المساجد والكنائس، قراءة في النقوش الكتابية،دار الإنشاء للصحافة والطباعة والنشر، طرابلس لبنان، الطبعة الأولى 1988.
7- حكيّم ، د. أنطوان: الحماية الفرنسية للأقليات غير المسلمة في السلطنة العثمانية، بحث منشور في أعمال مؤتمر "الأقليات والقوميات في السلطنة العثمانية بعد 1516"، منشورات الجمعية التاريخية اللبنانية، الفنار 2001.
8- الخوري، الأب أغناطيوس طنوس: مصطفى آغا بربر، جروس برس، طرابلس لبنان، الطبعة الثانية 1985.
9- رافق، د. عبد الكريم: قافلة الحج الشامي وأهميتها في العهد العثماني، بحث منشور في مجلة دراسات تاريخية الصادرة عن قسم التاريخ في جامعة دمشق، العدد 6 عام 1981.
10- الصمد،د. قاسم: تاريخ الضنية السياسي والاجتماعي في العهد العثماني، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، بيروت.
11- الصمد، د. قاسم: ألقاب المسلمين والمسيحيين ونعوتهم في سجلات المحكمة الشرعية في طرابلس 1800- 1850، أعمال مؤتمر "العلاقات بين المسلمين والمسيحيين في بلاد الشام خلال المرحلة العثمانية، معطيات وثائق المحاكم الشرعية في مدن: حلب، بيروت، دمشق وطرابلس"، بيروت، 2004.
12- الصمد، د. قاسم: الامتيازات والخمور في طرابلس بين بربر آغا والقناصل، أعمال مؤتمر "الأقليات والقوميات في السلطنة العثمانية بعد 1516"، منشورات الجمعية التاريخية اللبنانية، الفنار 2001.
13- ضاهر،د. مسعود: الجذور التاريخية للمسألة الطائفية اللبنانية 1697- 1861، معهد الإنماء العربي، بيروت 1981.
14- عماد، د. عبد الغني: مجتمع طرابلس في زمن التحولات العثمانية، دار الإنشاء للصحافة والطباعة والنشر، طرابلس، الطبعة الأولى 2002.
15- مرعب،د. خالد مصطفى: الإمارة المرعبية امتدادها الجغرافي وتطورها السياسي حتى سنة 1840، دار البخاري، طرابلس، الطبعة الأولى 1992.
16- المحامي، محمد فريد بك: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق د. إحسان حقي،دار النفائس ، بيروت، الطبعة الأولى، 1981.
17- نوفل، نعمة الله نوفل:كشف اللثام عن محيا الحكومة والأحكام في إقليمي مصر وبر الشام، أوجزه جرجي يني، قدم له وحققه ميشال أبي فاضل ود. جان نخول، جروس برس، طرابلس لبنان، 1990.
18- يني،جرجي أفندي: تاريخ سوريا، دار لحد خاطر، بيروت 1986.
19- Ismail, Adel: Documents diplomatiques et consulaires relatifs à l'histoire du Liban et des pays du proche – orient du XVIIIème siècle à nos jours tome 5.
20- Volney: Voyage en syrie, et en Egypte, Paris, 1946.
ملحق رقم ( 1 )
ملحق رقم ( 2 )