أوقاف طرابلس وغاياتها الإنسانية
الدكتور عمر تدمري
تمثل مدينة طرابلس واحدةً من مدن بلاد الشام التي كثرت فيها الأوقاف الإسلامية على اختلاف أنواعها ووظائفها وغاياتها الانسانية السامية، من أوقاف ذرية وخاصة، وأوقاف خيرية عامة، تعود منافعها على المجتمع المدني بمختلف النواحي التي تعزز وحدته وألفته وتماسكه، إذ يبتغي الواقفون، كل حسب نواياه، تحقيق غاية نبيلة نحو أهل مدينته الذين هم حلقة في مجموع الأمة.
وتظهر وظائف الأوقاف في النواحي الداعمة للجهاد، ببناء القلاع والحصون والأبراج والأسوار، وشحنها بالمجاهدين والمرابطين، وتوفير أنواع السلاح للدفاع ومقاومة الغزاة، وهذا ما نجده في الأراضي والبساتين والعقارات، ودُور الصناعة، من معاصر الزيت، والمصابن، والطواحين، وغيرها من الموقوفات العمرانية لصالح قلعة طرابلس، والأبراج الدفاعية التي كانت تنتشر على ساحل البحر بين رأس الميناء ومصب نهر أبي علي، وهي ستة أبراج والبرج القائم خارج الباب الغربي للجامع المنصوري الكبير.
ولدينا مثال على هذا النوع من الأوقاف، وهو نص نادر لوقفية الأمير "سيف الدين، جُلبان بن عبد الله المؤيدي"، الذي كان نائباً للسلطان الملك الاشرف "بِرْسباي" المملوكي بطرابلس، بين سنتي 838-842هـ/1434-1438م. عن بناء برجه بالميناء الذي كان يُعرف ببرج الديوان أو السراي أو البُنْط، وكان لا يزال قائماً حتى سنة 1966، حيث أزيل، وبُني مكانه جامع عمر بن الخطاب.
وقد كُتبت الوقفية في سنة 845هـ/1441م. على رَقّ غزال يزيد طولها على ثلاثة أمتار، بعرض ثلث المتر. وهي تنص على أن الأمير "جُلبان" وقف على برجه جميع أراضي قرية "علما" بكل ما فيها من أشجار زيتون وكروم وتين وتوت، مع مساكن فلاحيها، ووعرها الواقع بين قرى كفردلاقص، وأرده، وكفربنين، وبصرما وبتديون، وجميع قرية "كفرفو" وما فيها من أشجار زيتون وكرم وتين وتوت، ومساكن فلاحيها، وأراضيها بين وادي العوينات وقربة بنشعي، وقرية عرجس، وجميع قرية "بَعيْزق" وأراضيها المزروعة بأشجار التوت، مع مساكن فلاحيها، وهي بين عرقة والعاطورية، وقرية تل كرّي، والقليعات وجميع قرية بينو بعكار وأراضيها المزروعة بأشجار زيتون وتوت وجوز ومختلف أنواع الفواكه، وتمتد بين: قبولا، وعيات، ووادي المنشرة، وبيت ملات، وجميع قرية الحُصين، وهي من عمل المرقب بساحل سورية، وبأرضها أشجار زيتون وتوت وتين وعنب...
واشتملت الوقفية على:
1- عمارة البرج ومصالحه
2- عمارة مسجد داخل البرج
3- شق طريق للمارة
4- إنشاء مقبرة لأموات المسلمين
وجاء في الوقفية ما يلي:
"... فأما البرج المبدوء بذكره أعلاه الذي أنشأه الواقف المشار إليه - أثابه الله تعالى - وقفه مسجداً لله تعالى وحصناً للمجاهدين في سبيل الله تعالى والمرابطين، وحَبَسه معبداً وحصناً تقام فيه الصلوات الخمس، ويأوي فيه أهل الذكر والمجاهدين في سبيل الله والمرابطين، وتتلى فيه آيات القرآن، ويُعلن في أعاليه بالأذان، ويسبّح فيه بالعشي والإبكار، ويعبد فيه من لا تدركه الأبصار، وأذن للمسلمين ان يقيموا الصلاة ويصلوا فيه الصلوات الخمس، ومجاهدة الكفارـ والرباط فيه لمن يذكر فيه على الذي شرح فيه...".
ووقف لمصالح البرج ما يحتاج إليه من عمارة وفرش وتنوير وما يحتاجه المرابطون من قسيّ وسيوف ونشّاب، وآلات حرب وجوامك (مرتّبات) للمرابطين.
ومن أوقاف برج "جُلبان" مرتب للناظر الذي يتولى نظر عمارته وترميمه وإصلاحه وتنويره، والإنفاق على منافعه وأجور فلاحيه، وإطعام الأبقار في القرى الموقوفة، توفير البذور لزراعة أراضي الوقف.
ويُصرف مرتَّب مائة درهم فضة شهرياً لرجل من أهل العلم، حافظ للقرآن الكريم، يُحسن الإمامة والأذان ليؤم الناس في الصلوات الخمس، ويؤذّن في أعلى البرج، ويُسبح الله تعالى قبل أذان الصبح في كل يوم، ويقيم الصلاة، ويدعو عقيْب كل صلاة للواقف وذريته، ولجميع المسلمين، وعلى الإمام أن يقرأ في كل يوم بعد صلاة الفجر على الكرسي الذي أنشأه الواقف داخل البرج نصف حزب من المصحف، ويقرأ سورة الإخلاص، والمعوذتين، وفاتحة الكتاب، وأوائل سورة البقرة، إلى قوله تعالى: (أولئك هم المصلحون)، ثم يدعو للواقف ولأموات المسلمين.
ورتب للبرج بواباً من أهل الخير والدين والصلاح يتقاضى ثمانين درهم فضة، مهمته إيقاد المصابيح في البرج، وعليه كنسه وفرشه وتنويره وتنظيفه، وفرش الحصر والبسط وطيها وحفظها، وحفظ ما في البرج من آلات الحرب وغيرها، وعين كاتباً حاسباً عليه ضبط مال الوقف وإجراء الحساب، وما يلزم من مدخول ومصروف، لقاء مرتب قدره خمسون درهم فضة في الشهر.
وعين للبرج مقدَّماً من أهل الدين والصلاح على المجاهدين مهمته رعاية مصالح البرج وإصلاح ما به من آلات الحرب. وعيّن له رجلاً بارودياً لصنع ما يحتاجه من البارود، وخمسة أنفار يحسنون الرمي بالنشاب والنبل والجلخ والمَكْحلة وسائر فنون الحرب، وعليهم ملازمة البرج والجهاد في سبيل الله ليلاً ونهاراً ، ويكون عليهم رجل رئيس يرعى مصالحهم ويساعدهم في ما يحتاجون إليه وهو غير المقدَّم.
وعين نائباً لناظر الوقف يُعِينه في أعماله وينوب عنه في حال غيابه، وما بقي من محصول الوقف يصرف في وجوه البر والإحسان، ويدخل في ذلك فكاك الأسرى المسلمين من أيدي العدو. وشهد على صحة هذه الوقفية قاضي الديار المصرية سعد الدين، أبو عبد الله محمد العنسي الديري، الحنفي، ووقع على تنفيذه قاضي قضاة الديار المصرية في المذهب المالكي بدر الدين، محمد بن أحمد بن محمد الزبيري البلَنْسي(نسبة الى مدينة بلَنْسية الأندلسية شرقي قرطبة).
ولما كانت غلة الوقف تفيض كثيراً عن نفقات البرج في ميناء طرابلس، فقد أضاف واقفه الأمير "جلبان" وقفية أخرى تشمل جميع أبنية البرج بقلعة صيدا البحرية، وجعلها معبداً وحصناً للمجاهدين، تقام فيه الصلوات الخمس، ويرفع في أعلاه الأذان والتسبيح، وعين له ناظراً، وإماماً، ومقدماً، وسبعة أنفار للمرابطة و الجهاد، ورجلاً بارودياً لصناعة آلات الحرب، ونائباً للناظر، وفراشاً يعتني بفتح البرج وإغلاقه وتنظيفه ، وفرشه، وإنارته...
وقرر الواقف أنه إذا بقي من غلة الوقف بعد صرف المرتبات، وصرف الصدقات على الفقراء والمحتاجين، فعلى الناظر أن يرصد جَدَكاً يجعله ذخيرة واحتياطاً لتنمية عين الوقف حولاً كاملاً ، فإن احتاج الى صرفه صرفه، وإن استغنى عن صرفه ابتاع به مِلكاً او متاعاً ووقفه على الجهات المعنيّة في الوقفية.
وشهد على ذلك قاضي قضاة طرابلس أبو العباس أحمد بن محمد بن فقيه النوري المالكي، في العشرين من شهر رجب سنة 845هـ.
إن بناء الجوامع والمساجد والمدارس والزوايا والتكايا والبيمارستان والخانقاه ومكاتب تعليم وتأديب الأطفال التي شهدتها طرابلس في تاريخها الاسلامي لها دورها الأول والأبرز في تحقيق الغايات المثلى التي كان يرمي إليها الواقفون من استمرار إقامة الشعائر الدينية والروحانية مقرونة بتربية النفوس، وتنمية العقول والأفهام بالعلم والآداب عن طريق حلقات الدروس التي كان يعقدها الفقهاء والمحدثون، والمفسرون، والقراء، والوعاظ، والعلماء والمؤدبون، وللقارئ الكريم أن يعجب حين يعرف أنه كان بطرابلس قبل 300 عام، وبالتحديد في سنة 1700م. ثلاث مئة وستون مسجداً ومدرسة، في مساحة لا تزيد عن خُمس المدينة الآن! ولنا إزاء هذا ان نقدّر عدد الواقفين، وأنواع الموقوفات وحجم الهيئة التعليمية والتأديبية وعديد طلاب المعرفة. ويجسّد البيمارستان (دار المرضى) مثالاً حياً للتوجهات الانسانية عند الواقفين في العناية بالصحة والإستشفاء والتمريض. وقد كان بطرابلس بيمارستانان، أحدهما بناه نائب طرابلس الأمير "عز الدين أيبك الموصللي" صاحب الحمام المعروف باسمه، وذلك أثناء سنوات نيابته (1295- 1299م). وكان يقوم شمال جامع البرطاسي، وقد أزيل في جريمة تدمير آثار طرابلس المملوكية عند تنفيذ مشروع تقويم النهر. أما البيمارستان الآخر فقد بناه الأمير "بدر الدين محمد ابن الحاج أبي بكر الحلبي" توفي سنة 1341م. وكان على الضفة الشرقية من النهر في محلة سويقة أسندمر (السويقة) وفي البيمارستانين جناحان، خصِّص أحدهما للرجال والآخر للنساء، ويعمل بهما بموجب الوقفية طبيب وجراح وممرض وخادم وخادمة للمرضى، مع توفير الاحتياجات اللازمة من تأمين مياه للشرب، وزيت وقناديل للإضاءة، وفرش، وسرائر ومقاعد، واحتياجات للمرضى، من المأكولات والأدوية على اختلافها، وتجهيز الأكفان لحالات الوفاة.
ويرافق ما تقدَّم وقفية في غاية النبل والإنسانية والحس المُرهف المنطلق من فيض النفس البشرية للواقف من أبناء هذه المدينة الخيّرة المؤمنة، تُعرف بوقف عيادة المرضى التي حضّ عليها الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، وهي أن ينفق ريع الوقف على جماعة من الصالحين المشهود لهم بالتقى والورع والعدالة من الرجال والنساء، مهمتهم ان يقوم إثنان منهم بعيادة أحد المرضى في داره أو في دار الشفاء، ويتحدثان بقربه وعلى مسمع منه، ويذكران كلاماً طيباً يبعث الأمل في نفسه، ويُزيل عنه الكآبة، ويُنسيه آلامه، فيخاطب أحد الرجلين الآخر بصوت مخفوض، ولكنه مسموع من المريض، ويقول له: إن أخانا في حالة جيدة اليوم، والحمد لله، وإن وجهه مشرق، وفيه دموية وحيوية، وهو اليوم أفضل منه بالأمس، وقد علمت أنه سيستعيد عافيته في القريب العاجل... فتتسلل هذه الكلمات الرقيقة الى أُذني المريض، فيشعر بالإنتعاش، ويدبّ فيه الأمل، ويزول عنه الوهم... وهذا الوقف الصادر عن حسٍّ مرهف، هو من أسمى المشاعر الإنسانية التي تفيض بها أهداف الواقف التي تحفّها الرحمة والتراحم، وتعالج النفس البشرية بأفضل الوسائل الوجدانية والنفسية، وذلك قبل وضع الدراسات الجامعية في علم النفس الصحي وعلاج المرضى بمئات السنين.
ويختم الزائران عيادتهما للمريض بالدعاء له بالشفاء العاجل. وهكذا يفعلان في كل زيارة...
وللدلالة على الأهداف النبيلة للأوقاف الإسلامية في المجال التربوي والإجتماعي نرى المدارس والمكاتب الخاصة التي تُعنى بتربية وتعليم وإطعام وكسوة الأيتام والمساكين وفقراء المسلمين في مدارس وكتاتيب ومطاعم مجانية، وذلك مما ينفق في وقف الصدقة.
ومن أمثلة ذلك ما وقفه الأمير سيف الدين طينال الأشرفي الحاجب من صدقات تُصرَف من وقفية جامعة للفقراء والمساكين، المقيمين بطرابلس من أهلها، والواردين إليها على السواء. ووقف مثل ذلك مما ينفق عند تُربته، من غير ترتيب مبلغ محدد لكل شخص.
وما وقفه سيف الدين آق طُرق الحاجب، صاحب المدرسة السقْرقية (في طريق صف البلاط) من مبالغ تنفق ثمن خبز يوزع يوم الإثنين من كل أسبوع للفقراء بباب التربة في مدرسته، مع ثمن ماء وثلج، ويصرف في يوم الخميس من كل أسبوع أيضاً، كذلك يصرف في كل شهر ثمن كسوة من قميص ولباس من النوع الرفيع (!) وغير ذلك للأيتام والأرامل والفقراء.
وما أوصت به السيدة "أرغون" زوجة الأمير "أيدمر الأشرفي" صاحبة المدرسة المعروفة بالخاتونية – وهي قبالة المدرسة السقرقية، من تقديم لونين من الطعام، مع قنطار من الخبز الطيب الصافي، يوضع في التربة ويفرق على الفقراء والمساكين، وذلك كل ليلة جمعة عند ختم القرآن العزيز عن روحها. كما أوصت بإنشاء كُتاب لتربية الأيتام وتعليمهم، وتعيين فقيه لهم يعلمهم لقاء مرتّب شهري، ويصرف لكل واحد من الأيتام ربع درهم كل يوم، ويُكسى كل واحد منهم كسوة كاملة، من قميص ولباس وقبع (طاقية) وجُبة ومتاع.
وتتضمن وقفية مسجد أرغون شاه تقديم الطعام للفقراء والمساكين في عيدي الفطر والأضحى، وهو ما يسمّى: سماط العيدين.
كما تتضمن وقفية المدرسة "الطورمشية" المعروفة الآن بـ "النورية" (أمام حمام النوري بسوق الصياغين) على وجود معلّم، مهمته تعليم أربعة أيام، ويتناول كل يتيم منهم نصف درهم يومياً، ويتناول كل يتيم منهم نصف درهم يومياً، مع كسوة كاملة لهم في شهر رمضان، وتوفير الألواح والأقلام والحبر والشمع، والقناديل للإضاءة.
ويذكر أن السيد "عبد الواحد المكانسي" وهو من مدينة مكناس بالمغرب، حين أنشأ مسجده المعروف به (705هـ/1305م) أنشأ معه رواقاً علوياً به 6 حجرات، وقفها لنزول الحجاج المغاربة وهم في طريق الذهاب أو الأياب لتأدية مناسك الحج، ويقدم إليهم الطعام، كما يقدم الطعام في كل ليالي شهر رمضان، والعيدين للفقراء.
كذلك تنص وقفية مسجد "الحجيجية" في "سوق النحاسين" على إطعام الفقراء ليالي الجمعة من كل أسبوع، وليالي شهر رمضان كلها، من الحنطة وغيرها، وما يلزم ذلك من حطب وبخور وغيره.
ونصت وقفية الأمير "الأكوز" على مدرسته التي كانت تعرف قبل إزالتها بمدرسة "السنكري" أمام حديقة الجامع المنصوري الكبير في (شارع محمد رشيد رضا) على تقديم الطعام للفقراء في كل ليلة جمعة.
أما الأمير "دمرداش الناصري" فنصت وقفيته المؤرخة في سنة 806هـ/ 1402م. على مسجده بالبداوي وبركة السمك التي بجواره على العناية بأسماك البركة، وتوفير قاعة للمسافرين من طرابلس وإليها، وتقديم الدبس والعسل والجبن والمخللات وخبز الحنطة، والدهن والشحم والملح والبصل والحطب للطبخ. مع تقديم الحساء في الصباح والمساء للمسافرين.
ويجسّد مبنى "الخانقاه" المعروف عند الطرابلسيين بـ"الخانكة" المثال الأبرز على العناية والرعاية اللتين خصّ بهما الواقفون شريحة خاصة من المجتمع تتمثل في إيواء النساء الأرامل المنقطعات من الأهل والأزواج والأولاد ولا معيل أو معين لهن على الحياة، ويُعرف بوقف الخانقاه الصالحية لصاحبته "الست الصالحة"، والتي رأت أن لا تفصح عن اسمها، حيث أنشأت مجمّعاً يضم إحدى عشرة حجرة لسُكنى النساء والأرامل الفقيرات، حول باحة سماوية، في وسطها حوض ماء، وفي الجهة القبلية منها مسجد للصلاة به شيخة تؤمّ النساء، وتعظهنّ وتعلمهنّ أمور دينهنّ، وبجوار المسجد حجرة دُفنت فيها الست الواقفة، وقد خصصت مبلغ 680 درهماً يُوزَّع على الفقيرات العجائز، و1692 درهماً لرواتب المتولي والقنواتي والشيخة العجوز، ونفقات زيت وحصير وسقي الماء. وتقع الخانقاه في طلعة العوينات التي عند حمام ابراهيم باشا العظم، وجامع محمود لطفي الزعيم المعروف بالمعلق، وهي من القرن 9هـ/ 15م في عصر المماليك. وكان للفقهاء وقف خاص بهم، ووقف خاص بالمؤذنين في الجامع المنصوري الكبير، وكان عددهم 12 مؤذناً، وهم الآن ثلاثة فقط. ووقف خاص بفقراء طائفة الدباغين هو بمثابة التأمين الاجتماعي في حالات المرض والشيخوخة والعجز عن العمل. وبطرابلس وقف الأكفان، وهو مخصَّص لتكفين الموتى من الفقراء ودفنهم. ووقف الغُرباء، وهو مخصَّص لغسل وتكفين ودفن الغرباء عن المدينة الذين يصادف انقضاء أجلهم وهم فيها ولا يُعرف لهم أهل أو أقارب، وقد خُصِّصت لهم مقبرة تعرف حتى الآن بمقبرة الغرباء (بين الزاهرية والملولة). وأشهر من دُفِن في هذه المقبرة الشيخ علي البصير الحموي، مفتي الديار الطرابلسية وخطيب الجامع المنصوري الكبير، وقد توطّن طرابلس أربعين عاماً، وألّف فيها عدة مصنَّفات، وتوفي سنة 1090هـ/1679م. وخلفه في الإفتاء ابنه "هبة الله بن علي البصير" ثم حفيده محمد بن هبة الله، وحفيده الثاني "أحمد بن هبة الله، وخلف أحمد ابنه "اسماعيل"، وخلف اسماعيل ابنه "عمر"، وهذا الأخير تولى الإفتاء والقضاء. وكان بطرابلس وقف كان يُعرَف بوقف الأسرى، غايتُه افتكاك الأسرى المسلمين من الفرنج، سواء كان الأسير طرابلسياً، أو من أي بلد من ديار الاسلام، ويعود هذا الوقف إلى عصر المماليك. وأفادتنا المصادر ان الفرنج (الصليبيين) قاموا قي سنة 711هـ/ 1311م. بأسر عدد من رجال السلطان الناصر محمد بن قلاوون، وكانوا عائدين من مهمة لدى الملك "طقطاي". وكان من جملة الأسرى أيضاً رسل الملك "طقطاي" المذكور. وكان الجميع مع أتباعهم وغلمانهم نحو 60 نفراً. فأخذ الفرنج يمرون بهم على البلاد الساحلية بقصد بيعهم، ووصلوا بهم إلى طرابلس الشام، وعرضوا بيعهم بها، ولكنهم اشتطوا في الثمن، وطلبوا فيهم ستين ألف دينار عيناً. كما عرضوهم في ثغر آياس في خليج الإسكندرون، فلم يجرؤ أحد على شرائهم خوفاً من السلطان الناصر محمد، ومن الملك "طقطاي". ومن أوقاف طرابلس "وقف الماء"، وهو خاص بإيصال الماء من طرابلس الى الميناء عبر قناة يتجاوز طولُها الأربعة كيلو مترات لسقي البساتين، والإشراف على نظافتها، وجريان المياه بانتظام فيها، مع تنظيم حقوق السقي في البساتين في مواعيد محددة. ويعود هذا الوقف إلى عصر المماليك، وبالتحديد في عهد نائب السلطنة بطرابلس الأمير الشيخ بن عبد الله المحمودي، الذي تولى نيابتها أربع مرات، بين سنتي (802-813هـ) قبل أن يصبح سلطاناً على دولة المماليك في مصر والشام، ويلقّب بـ"الملك المؤيد".
ونظل مع الأوقاف الإسلامية التي تعبّر عن لمسات إنسانية رقيقة، فنذكر وقف السقاية، وهو يُصرف لرجل مهمته حمل قربة الماء وسقي أبناء السبيل في الأسواق حسبة لله تعالى، وهو من باب الصدقة الجارية، مع كثرة سبل المياه المنتشرة في أنحاء المدينة التي وقفها أهلُ الخير.
وكنتُ - وأنا صغير في الخمسينيات من القرن الماضي، أرى شخصاً يحمل قِربة من جلد الماعز على ظهره، وبيده طاسة نحاسية، وهو يمشي في الأسواق بعد ظهر كل يوم في فصل الصيف، ويسقي المارة وأصحاب الدكاكين، وذلك تنفيذاً لشرط أحد الواقفين من أهل الخير من بلدي.
ولدينا وقفية خاصة لإحدى السيدات الطرابلسيات، وقد تصدّقت بكل ما تملك من عقار، وبكل يؤول إليها بطريق الإرث الشرعي، ووقفته على بئر يُعرف ببئر العبد في محلة التبانة من محلات طرابلس، وعلى بئر آخر يعرف ببئر السيدة في المحلة ذاتها، من أجل تنظيفها، وشراء حبال ودِلاء لسحب المياه منهما، وسقي المارة. وفي حال انهدام البئرين واندثارهما، وانقطاع المياه عنهما، يعود الوقف على الفقراء بطرابلس. وفي أسواق المدينة القديمة يوجد أكثر من مائة بركة أو سبيل ماء كلها موقوفة في باب الصدقات الجارية، منها ما هو من عصر المماليك، ومنها من العصر العثماني، وكلها تنضح بما جُبل عليه أهل بلدي من صلاح وفعل الخير.
ولم تقتصر أوقافُ الطرابلسيين على بني الإنسان فحسب، بل تعدّته الى الرفق بالحيوان، فوجدت أوقاف خاصة يُنفَق ريعُها على الحيوانات الأليفة منذ مئات السنين قبل ان نسمع في تاريخنا الحديث بقيام جمعيات الرفق بالحيوان، ومن تلك الأوقاف وقف القطط، ووقف الكلاب، وغايتها العناية بالحيوانات الأليفة، وتأمين الطعام بها، إذ كان يصرف مرتب مخصص لرجل مهمته ان يجمع سقط اللحوم والعظام من دكاكين الجزارين ومن المسلخ بالدباغة، ويطوف على الأحياء لتوزيع ما جمعه على القطط والكلاب في أماكن محددة.
وكنتُ أرى بنفسي وأنا أجلس في دكان والدي في حي "قهوة الحنة" بمحلة الحدادين، أحدهم وهو يحمل كيساً كبيراًـ بين الظهر والعصر، وهو يفرغ كمية معينة من السقط الذي يحمله في ناحية محددة من السوق، وقد تجمّعت القطط عندها بمجرد رؤيتها له وهو قادم من بعيد.
وكان من مهام هذا الشخص ان يدفن الميت من القطط أو الكلاب ومواراتها الثرى منعاً لانتشار الأوبئة، تنفيذاً لشرط الواقف.
ولا ننسى في موضع الأوقاف أن نذكر وقف "الصَحْفة" أو "التَبسة" وهو يمثل الحس المرهف لدى الواقفين وعواطفهم النبيلة نحو الأولاد الصغار الذين ترسلهم أمهاتهم إلى السوق لشراء سمنة أو طحينة أو زيت، فيقع الوعاء منه في الطريق، أو ينكسر، وحتى لا يعود الى البيت فتنهره أمُّه على ضياع المال والزاد، فقد كانت بعض الوقفيات تنص على وجود متولٍ من أهل الدين والصلح في الحي، لديه صحون وأوعية في دكانه، ويأتيه هذا الولد أو ذاك فيأخذ منه وعاءً بدل الذي ضاع، ودراهم بقيمة ما اشتراه، ويعود إلى بيته وقد سكن روعُه، ولا يخشى معاقبة أمِّه له!
ومن أوقاف طرابلس وقف يُعرف بوقف السواري أو الصواري، ويقصد باللفظين العمود الذي ينتصب في وسط المركب ويُربط به الشراع، فيقال له الساري أو الصاري. وهو من أوقاف السلطان الأشرف قايتباي عند زيارته لطرابلس 882هـ/1477م. وهو مخصَّص لصناعة المراكب والسفن المعدَّة للجهاد، وإصلاح وتأهيل ما يتضرر منها.
نُشرت في جريدة البيان في ستة حلقات متتالية