شهداء مجزرة الاستقلال في طرابلس...
من ينصفهم ومن يخلّد ذكراهم؟
غسان ريفي
طرابلس – جريدة السفير
في بقعة صغيرة ضمن مقبرة الشهداء في باب الرمل بطرابلس، تصطف سلسلة قبور لـ«شهداء الاستقلال» الذين سقطوا خلال مواجهات مع جيش الاستعمار الفرنسي في أحياء المدينة في 13 تشرين الثاني عام 1943 غداة اعتقال الزعماء اللبنانيين في قلعة راشيا ومن بينهم إبن طرابلس الزعيم عبد الحميد كرامي، حيث شكلت تظاهرة الطلاب التي انطلقت في حينها من دار التربية والتعليم الاسلامية، والمجزرة التي ارتكبها الجنود السنغاليون بدباباتهم ومجنزراتهم بأوامر من الضباط الفرنسيين بحق المتظاهرين، عامل ضغط على الحكومة الفرنسية، وساهمت الى حد كبير في تسريع إعلان استقلال لبنان الذي عُمّد بدماء 14 شهيداً من أطفال وفتيان طرابلس وأكثر من 25 جريحاً، لتلعب آنذاك مدينة العلم والعلماء دوراً نضالياً كبيراً أغفله التاريخ اللبناني في كتبه، وتغاضت عنه العهود المتعاقبة منذ الاستقلال وحتى الآن...
ليس صعباً الوصول إلى مقابر «شهداء الاستقلال» في باب الرمل، لكن الصعب هو اختراق الأعشاب التي تغطي بعضها حتى تكاد تخفيها، فضلاً عن تحطم معظم الشواهد التي تحمل الأسماء وتدل على قبر كل شهيد منهم، ما يشير إلى حال الاهمال الذي تشهده مقابر هؤلاء الشهداء الذين همّشهم التاريخ حتى غابت أسماؤهم، وتناستهم القيادة السياسية في لبنان، وأهملتهم إدارات ومؤسسات المدينة، لتغدو مقابرهم عنوانًا لمصادرة دور طرابلس وتهميش شراكتها الأساسية في صنع الاستقلال، على غرار ما تواجهه اليوم من تهميش سياسي واقتصادي واجتماعي بات يصنفها من بين أسوأ المدن على ساحل المتوسط.المجزرة
تشير المعلومات التاريخية الى أن الطرابلسيين فوجئوا يوم الجمعة في 12 تشرين الثاني عام 1943 بقيام جيش الاستعمار الفرنسي باعتقال الزعيم عبد الحميد كرامي من مزرعته في مرياطة، واقتياده الى سجن قلعة راشيا حيث يعتقلون رجال الاستقلال. فتجمع المواطنون في الجامع المنصوري الكبير الذي غصّ بالحشود في الداخل والخارج احتجاجاً على ما أقدم عليه الفرنسيون، مطالبين بالافراج الفوري عن كرامي ورفاقه وإعلان استقلال لبنان.
وفي اليوم التالي أي السبت في 13 تشرين الثاني خرج طلاب دار التربية والتعليم الاسلامية وتجمعوا في مسجد الأمير سيف الدين طينال، وانطلقوا من هناك بتظاهرة حاشدة جابت شوارع طرابلس مروراً بـ«حي النصارى» حيث تقع مدرسة الفرير، فسارع عدد من الأساتذة والمربين وعلى رأسهم فؤاد الولي ومحيي الدين مكوك الى تغيير وجهة سير التظاهرة خوفاً من الاحتكاك بالجنود الفرنسيين الذين كانوا يعسكرون في خان العسكر في محلة الدباغة، فتوجهت التظاهرة إلى ساحة التل ومنها الى شارع المصارف وساحة السلطي حيث كانت الدبابات والمجنزرات الفرنسية بانتظارها على أرصفة الطرقات، ويقودها جنود سنغاليون تلقوا أوامر من ضباطهم الفرنسيين بالتحرك نحو الطلاب وهم جميعهم من الاطفال لا يتجاوز عمر اكبرهم 15 سنة، وبالفعل واجهت الدبابات الفرنسية المتظاهرين وداست أجسادهم مرتكبة مجزرة مروّعة ومشهودة، حيث استشهد 14 طالباً وجرح أكثر من 25 آخرين.
وتقول المعلومات التاريخية أن ولداً للحاج ظافر الخطيب (أحد شخصيات طرابلس المعروفة) نام في وسط الطريق تحت إحدى الدبابات ومرت من فوقه دون أن تدوسه ونجا من الموت بأعجوبة، كما لاحقت إحدى الدبابات طفلاً من عائلة هاجر وحشرته أمام أحد الجدران وبترت يده، فيما تلقى مواطناً طرابلسياً كان يركب دراجته الهوائية رصاصة أطلقها باتجاهه أحد الجنود السنغاليين أردته على الفور.
الشهداء
حصدت الدبابات الفرنسية بتاريخ 13 تشرين الثاني عام 1943، 14 شهيداً من أطفال وفتيان طرابلس التي شهدت في اليوم التالي مسيرة تشييع غاضبة انطلقت من الجامع المنصوري الكبير حيث صلي على جثامين الشهداء، وخطب فيها القاضي الشيخ عبد اللطيف زيادة، ووري الشهداء في ثرى مدافن الشهداء في باب الرمل وهم: سليم صابونة، أحمد صابر كلثوم، رشيد رمزي حجازي، فوزي قاســم شحود، محمد ثروت، عبدالغني أفيوني، عباس إبراهيم حبوشي، محمد علي حسين خضر، عبد القادر مصطفى الشهال، كمال عبد الرزاق ضناوي، وديع خاطر بركات، أحمد جوجو، محمد حسين المحمد، وسليم الشامي.
تخليد الذكرى
شهدت طرابلس منذ العام 1963 عدة محاولات لتخليد ذكرى شهداء الاستقلال فيها، قام بها توفيق سلطان الذي اقترح إقامة نصب تذكاري يحمل أسماءهم في المكان الذي حصلت فيه المجزرة أي عند مدخل شارع المصارف من جهة ساحة السلطي، لكن الظروف السياسية وغياب الاهتمام الرسمي كان يحول دون ذلك، لكن هذه المحاولات التي لم يكتب لها النجاح حتى الآن، ساهمت في وقف مرور الزمن المسقط للحق (بحسب المصطلح القانوني) حيث ان التذكير الدائم بالشهداء وضرورة تكريمهم من خلال تسمية أحد شوارع المدينة بأسمهم أو بإقامة نصب تذكاري يخلد ذكراهم يجعل هذه القضية حية على الدوام، ويحول دون طمسها، في ظل غياب أي اهتمام من قبل المؤسسات الرسمية في المدينة باستثناء إكليل من الزهر يتيم كانت ولا تزال تضعه بلدية طرابلس في يـوم عيد الاستقلال على مقابرهم المحطمة والمهملة والمخفية.
ويقول توفيق سلطان لـ«السفير»: إن تاريخ لبنان الحقيقي لم يكتب بعد، وما كتب عمل على تغييب ذاكرة طرابلس، وشهداء الاستقلال لم يمر قرن على استشهادهم، وهناك من عايش تلك المرحلة ولا يزال على قيد الحياة، إضافة الى أرشيف الصحف، لكن كل ذلك لم يشفع لهؤلاء الشهداء لتكريمهم من قبل الدولة في عيد الاستقلال او حتى من قبل أبناء مدينتهم...
ويضيف سلطان: هناك تعمية حقيقية حول ما قدمته طرابلس لتحقيق الاستقلال دون المدن اللبنانية الأخرى، وهي كانت بيضة القبان في الحركة النضالية وفي كل المحطات الأخرى، ولها وزن ثقيل جداً في أي معادلة، لكنها اليوم صارت بوزن الريشة في السياسة اللبنانية، مؤكداً انه سيستمر في مساعيه لإقامة نصب في شارع المصارف يخلد ذكرى شهداء الاستقلال في طرابلس لاعطائهم حق كان يجب ان يعطى لهم منذ 67 عاما.
ويقول مؤرخ طرابلس الدكتور عمر تدمري: إن المدينة شهدت في 13 تشرين الثاني عام 1943 يوماً مشؤوماً من تاريخها، وصب الطرابلسيون جام غضبهم على الاستعمار الفرنسي، وظل الوضع في المدينة متأزماً ومتوتراً على أعلى الدرجات الى حين إطلاق سراح المعتقلين من قلعة راشيا وإعلان استقلال لبنان، لافتاً الى أن طرابلس كانت المدينة اللبنانية الوحيدة التي تحركت في وجه المستعمر الفرنسي، وتحملت الثمن الباهظ وقدمت أطفالها قرابين على مذبح الحرية والاستقلال، فبالتالي كان لها دوراً كبيراً في تحقيق هذا الاستقلال، وهــي كانت قبل 9 سنوات أي عام 1936 أعلنت الاضراب المفتوح لمدة 36 يوماًَ احتجاجاً على تجاوزات الاستعمار الفرنسي، وقد جاءها زعماء دمشق والبلاد العربية وقاموا بوساطة كبرى مع رجالات المدينة لإعادة الحياة إليها...