تطور العمران في طرابلس
خلال العهد العثماني
د. خالد زيادة
موضوع التراث العمراني العثماني في مدينة طرابلس كبير ومتشابك. لم يتم التطرق إليه سابقاً. وإذ أتناوله هنا فلكي أقترح مجموعة من الأفكار ونقاط البحث التي أرجو أن تكون عاملاً مساعداً على فتح الباب في هذا المجال.
وأول ما يجدر أن نشير إليه هو المسألة المتعلقة بدور العثمانيين في العمران. والشائع أن العطاء العثماني كان ضئيلاً وخصوصاً في بلاد الشام، وهذا الأمر لا موجب لمناقضته جذرياً، فقد ورث العثمانيون عام 1516 مدناً عامرة لم يتطرق إليها الخراب على عكس ما واجهه المماليك في النصف الثاني من القرن الثالث عشر إذ كان عليهم أن يعيدوا بناء المدن الساحلية بعد الحروب التي خاضوها مع الصليبيين. ومثال على ذلك مدينة طرابلس بالذات التي نقلوا موضعها من ساحل البحر حيث الميناء إلى الداخل الذي يبعد ميلين ونيف عن الشاطئ. ومن هنا فإن أبرز المعالم الأثرية من مساجد وحمامات ومدارس وخانات إنما تعود إلى عصر المماليك 1289-1516، وبالمقارنة فإن المعالم المماثلة التي تعود إلى العصر العثماني تبدو محدودة العدد.
إلا أن المفهوم الذي نستخدمه للعمران في هذا السياق لا يقتصر بطبيعة الحال على المعالم الأثرية التي هي المدارس والمساجد والحمامات والخانات، على أهميتها، فالعمران هو الدور والحارات والدروب والأزقة والأسواق. أي كل المحيط الذي يصنعه الناس ويشغلوه.
وحين نتحدث عن العصر العثماني فإننا نتحدث عن أربعة قرون من الزمن 1516-1918، وهي حقبة طويلة من أعمار الدول. وهذه المدة الممتدة على مسافة أربعة قرون تتصل من جهة بالعصور الوسطى وتتصل من جهة أخرى بالعصور الحديثة وقد تطورت خلالها المفاهيم والتقنيات وأنظمة الحكم وشهدت تحولات شتى بما في ذلك التحولات التي طرأت على العمران مادة ومقاييس ومفاهيم. ولهذا فإنني أقترح قسمة هذه المدة إلى ثلاث حقبات:
- الحقبة الأولى: تمتد من بدء السيطرة العثمانية على بلاد الشام عام 1516 وحتى نهاية الحروب بين الأطراف المحليين وتراجع حكم الأمراء المعنيين والسيفيين حوالي 1640. وتتصل هذه المرحلة بتقاليد الحقبات السابقة لجهة العمران. وبالرغم من أننا نلمح بداية ترسخ بعض التقاليد العثمانية والاتجاهات التي ستنمو لاحقاً.
- الحقبة الثانية: تمتد من حوالي 1640 مع بدء الحكم العثماني المباشر لبلاد الشام وإعادة ترسيخ السيطرة إبان عهد السلطان مراد الرابع وحتى بداية الاحتلال المصري لبلاد الشام عام 1830 وتمثل هذه الحقبة صلب التأثير العثماني في بلاد الشام وطرابلس.
- الحقبة الثالثة: مع بداية الاحتلال المصري عام 1831 الذي امتد عشر سنوات وعودة الحكم العثماني حتى نهاية الحرب العالمية الأولى والخروج النهائي للعثمانيين عام 1918. وقد تكون هذه الحقبة من أغنى الحقبات المذكورة في حمل المؤثرات العثمانية العمرانية وتنوعها.
ويجدر أن نأخذ هذا التحقيب بعين الاعتبار لأنه يوضح اتجاهات العمران وتنوعه عبر تعاقب الحقبات.
1- إن أول ما يمكن أن ننطلق منه في حديثنا عن العمران في طرابلس في العصر العثماني هو توسع العمران انطلاقاً من النواة المملوكية. وبهذا الصدر نرى أن المدينة أخذت بالامتداد باتجاه الجنوب في المنطقة التي لا زالت تعرف باسم ساحة الدفتردار وبناء جامع المعلق في القرن السادس عشر وإقامة ما يشبه مجمع سكني سيمتد جنوباً بشكل تدريجي. وإقامة جامع المعلق الذي بناه محمود لطفي الزعيم عام 1555 هو علامة قيام مجتمع سكني في تلك الناحية. وقد توسعت هذه المنطقة في الحقبة الثانية التي تشمل القرنين السابع عشر والثامن عشر. والعلامات على ذلك بناء رباط الخيل وبناء الحمام الجديد. ولا يغير من الموضوع أن يكون سبيل الماء في زاوية الحمام الجديد يعود إلى العصر المملوكي. على العكس من ذلك فإن أسبلة الماء هي أيضاً على الخروج من المدينة خصوصاً أن الطريق التي تمتد جنوباً تصل إلى المقابر التي تعرف باسم مقابر باب الرمل وهي طريق يسلكها أبناء المدينة الذين يستخدمون هذا السبيل أو ذاك لأغراض شتى.
وتوسعت هذه المنطقة التي تعرف باسم محلة "سويقة الخيل" والتي هي اليوم جهة من جهات "الحدادين" في القرنين السابع عشر والثامن عشر بوفود جماعات من الأرياف واستيطانهم المدينة فامتد العمران بأكثر من اتجاه ويدل على ذلك بناء مصلى الشاع وبناء الوالي محمد باشا عام 1760 لمصلى في جهة المقابر الأقرب إلى جامع أرغون شاه وباب الرمل.
بل إن هذه الجهة الجنوبية استمرت في الاتساع في الحقبة الثالثة في القرن التاسع عشر ويدلنا على ذلك بعض المباني التي تحمل طرازاً حديثاً نسبياً في محيط ما يعرف باسم مقهى موسى.
2- توسعت المدينة باتجاه الشمال وخصوصاً في الضفة الشرقية من النهر التي تشمل القبة والتبانة. وقد اتسع العمران في هاتين المحلتين. وقد أقيم المسجد في التبانة الذي يعرف باسم جامع (محمود بيك الزعيم) الذي بُني في القرن السابع عشر. ونزوح سكان من الأرياف قد مدّ التبانة والقبة سكان أسهموا في اتساع هاتين المحلتين بين القرن السابع عشر والتاسع عشر. ومقبرة الغرباء هي علامة على كون شمال المدينة كان مفتوحاً على وفود الذين يقصدونها من الأرياف ومدن وقرى المناطق الشمالية بشكل أوسع مما استقبلت المنطقة الجنوبية.
3- لا شك بإن الميناء التي عرفت باسمها ذي المصدر اليوناني/ التركي، "الأسكلة"، هي المنطقة التي تنتمي إلى العصر العثماني في نموها البطيء ثم في اتساعها وازدهارها النسبي. ومن المعلوم أن الميناء كانت هي الأساس في المدينة التاريخية لطرابلس إلى أن هدمها المماليك الذين هدموا مدناً ساحلية أخرى خوفاً من عودة الصليبين فجعلوها خراب، وهو الاسم الذي احتفظت به إحدى محلاتها. وقد بنى المماليك الأبراج عند الشاطئ المحيط بما كانته الميناء ومن المحتمل أنها استخدمت في أيامهم كمرفأ. ومهما يكن من أمر فإن نمو الميناء (الأسكلة) كمنطقة سكن قد تم في العصر العثماني، خصوصاً أنها أصبحت مرفأ يصل طرابلس وتجارتها بمرافئ المتوسط. وإذا كانت الجاليات اليونانية هي التي استأثرت بأعمال البحر وخصوصاً قيادة السفن فإن نواة السكان المسيحيين في الميناء، كانوا في جلهم من اليونانيين العاملين في البحر والذين شكلوا نواتها في العصر العثماني المبكر.
وآثار الميناء العثمانية (عدا ما يُنسب إلى المماليك) يعود إلى الحقبة الثانية وخصوصاً المسجد والكنيسة. ويعود بناء الكنيسة التي تعرف باسم مار جاورجيوس إلى سنة 1735م.
أما مساجد الميناء فتعود إلى العصر العثماني وأولها "الجامع العالي" وقد بني عام 1713 في مطلع القرن الثامن عشر وجامع غازي الذي بني عام 1873 ثم الجامع الحميدي عام 1902. ومن الآثار العثمانية في الميناء الحمام والسرايا.
لكن ما يعنينا بخصوص الميناء هو تكوينها العثماني الذي استقر لها في الحقبة العثمانية الثانية أي في القرنين السابع عشر والثامن عشر بحيث تشكل حيّان، الحي المسيحي مع الكنيسة والمقبرة ثم حي الإسلام مع السوق والمقبرة.
وقد توسعت الميناء في الحقبة العثمانية الثالثة وخصوصاً في النصف الثاني من القرن التاسع عشر حين بدأت تستقبل البعثات الأوروبية والأميركية التبشيرية فانشئت المدارس والمستشفى وبعض المرافق الأخرى، بحيث اتسع الحي المسيحي باستقباله لهذه البعثات. وفي نفس الفترة اتصلت الميناء مع طرابلس عبر خط التراموي الذي أدى إلى ازدهار منطقة البوابة التي عرفت قيام المؤسسات التجارية ثم الصناعية وبناء الدور التي ما زالت قائمة حتى اليوم وتحمل في واجهاتها طراز العمران العائد لنهاية القرن التاسع عشر.
4- بالإضافة إلى كون طرابلس قد اتسعت في الحقبتين الأولى والثانية باتجاهي الشمال والجنوب كما تقدم. فإن الحقبة الثالثة التي تشمل القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين قد شهدت امتداد المدينة باتجاه الغرب عبر المسافة الرملية التي تعرف باسم تل الرمل وهكذا تقدم العمران السكني والتجاري باتجاه التل فتشكل حي جديد حمل سمات المرحلة التي اتصفت بالتحديث والتنظيمات.
ولكن المدينة في القرن التاسع عشر وخصوصاً في منتصفه كانت آخذة بالامتداد باتجاهات مختلفة: لجهة الشمال عبر منطقة الزاهرية التي نمت كمنطقة عمل ومنطقة سكن وباتجاه الشرق لجهة القبة التي نمت كمنطقة سكنية.
والعوامل التي أدت إلى توسع المدينة عمرانياً في القرن التاسع عشر متعددة، أبرزها:
- إتصال المدينة عبر الميناء بالدول الأوروبية، إذ تكثفت الاتصالات التجارية وكذلك العلمية والدبلوماسية، فتعدد القناصل في المدينة وأقاموا قنصليات في الميناء وطرابلس.
- ومفرد الإرساليات: الراهبات اللعازايات، الفرنسيسكان، الفرير، الطليان، الأمريكان، الروس. وقد بنى هؤلاء المدارس في الميناء وطرابلس وخصوصاً في حارة النصارى وجوارها، وفي القبة أيضاً كما بنوا المستشفيات.
- دور الدولة العثمانية في التحديث العثماني عبر ما عُرف بعصر التنظيمات الذي هو عصر انفتاح وتجديد، وقد شمل التجديد نمط العمران وإقامة مؤسسات جديدة مثل المصارف والوكالات وغيرها.
5- وإذا أردنا أن نجري قراءة سريعة في المعالم العثمانية عبر أربعة قرون من الزمن، نلاحظ تطور هذه المعالم على النحو التالي:
- في الحقبة الأولى كانت المعالم التي ارتفعت أو رُممت تقتصر على المساجد والخانات والزوايا والمدارس. وبخصوص الحقبة الأولى التي تشمل بشكل أساسي القرن السادس عشر، فإن الجدال ما يزال يدور حول بعض المعالم والتأكد من نسبتها إلى العصر المملوكي أو العثماني. ويدل ذلك على كون النمط العمراني كان متداخلاً، ولم يكن الطابع العثماني قد فرض نفسه.
- في الحقبة الثانية: وهي الأطول حسب التقسيم الذي اقترحناه، فقد شهدت طرابلس ارتفاع عدد من المعالم وأبرزها المساجد والحمامات والسرايات أو القوناقات، يضاف إلى ذلك قيام بعض الكنائس في المدينة والميناء.
- شهدت الحقبة الثالثة تبدلاً في المعالم العمرانية التي تركها العثمانيون. فبالإضافة إلى إنشاء المساجد، جرى بناء المدارس على النمط الحديث، ثم بناء الوكالات وشق الجادات الواسعة واستلهام الأنماط الأوروبية في بناء الدور من طبقتين أو ثلاث التي تشمل على الوكالات التجارية. وأبرز معالم الحقبة الثالثة السرايا، برج الساعة، المقاهي، الطرقات الواسعة، المدارس والكنائس والمستشفيات.