المقاهي بين الماضي والحاضر
الدكتور حازم فنج
من الأخطاء الشائعة لغوياً تسمية المقهى "قهوة" بين عامة الناس، والسؤال: هل لأن الشراب الأساسي الذي كان يقدَّم فيها هو القهوة؟
كانت المقاهي في القرن الماضي، وفي طرابلس خاصةً محصورة بين مقاهٍ داخل المدينة القديمة وبين مقاهٍ خارجها. اشتهرت طرابلس داخلياً بعدة مقاهٍ أهمها "مقهى موسى" والمقاهي المجاورة له، وكانت بالماضي على حدود البلد الخارجية قرب باب الحدادين ولا تزال مشهورة، يؤمها أهل المنطقة ويأتيها شباب البلد من حين لآخر، خصوصاً في شهر رمضان حيث يقدم إلى جانب الشاي والقهوة الكعك الآتي من الأفران المجاورة. وكان لمقهى "العيوني" داخل الأسواق بداية شارع العطارين، شهرته الخاصة، ففيه كانت تقام مزادات الضمان لحدائق طرابلس التي كان يديرها أبو حازم المطرجي المشهور "بقمبازه" الفضي وطربوشه القصير، وكانت القهوة والشاي والأركيلة أهم ما كان يقدَّم في تلك المقاهي.
أما خارج المدينة فالشهرة كانت لثلاثة مقاهٍ دخلت التاريخ، اثنان منها لا يزالان يعملان: مقهى فهيم آغا، ومقهى ماريات باشا، والمقهى العالي، وهي تعود لأيام الدولة العثمانية، والكل يعرف أن المتصرف "عزمي بك" الذي كان يلازم المقهى العالي هو الذي أمر بفتح الشارع الذي لا يزال يحمل اسمه "عزمي بك" مشيراً إلى جهة البحر، فكان أطول شارع مستقيم في لبنان يبدأ من البلدية وينتهي إلى محطة القطار على شاطئ البحر.
وإذا كان هذا المقهى لا يزال يعمل مع مقهى فهيم آغا، فإن ماريات باشا قد حلّ محله بناء (مقابل المنشية) يطل على ساحة السراي، التي أصبحت الآن تسمَّى ساحة "ماسحي الأحذية"، مع الأسف الشديد.
في ذلك الزمن كانت المقاهي المتعددة تنتشر على شاطئ الميناء ولا يزال بعضُها يعمل حتى الآن.
من خصوصيات هذه المقاهي أنه ليس فيها مكان للمرأة، وكانت أمكنة لعقد الاجتماعات وإجراء العقود ولقاء الكَتَبَة لأنها كانت متواجدة حول السراي القديم.
نستطيع هنا أن نذكر أنه وخلال الاحتلال الفرنسي انتشرت العديد من المقاهي "المودرن" التي لا علاقة لها بالمقاهي البلدية، وكانت تقدم المشروب وتستغل السيدات، وكانت تنتشر في شارع المصارف وحول الحديقة العامة (المنشية) ثم أنشئت بعدها عدة مقاهٍ صغيرة أخذت أسماء أجنبية أقيمت بغية استقبال السيدات ولم تفلح في ذلك، ونذكر منها Pinki, Negersco وانتقلت بعدها صرعة المقاهي الجديدة إلى شارع الميناء، فكانت في وقت واحد مقاهي ومطاعم حيث دخلت المرأة إلى هناك بقوة وأخذت مكانها.
أما الصرعة الكبيرة الأخيرة فتراها في منطقة بساتين طرابلس، وخصوصاً في الشارع الرئيسي الممتد من مستشفى النيني إلى البحصاص، وحل مكان عطر زهر الليمون رائحة النارجيلة، وخاصة ما يسمى "المعسل"، فانتشرت الروائح الكريهة لتحل مكان عطر زهر الليمون، الذي سمِّيت المدينة "الفيحاء" بسبب شهرتها به.
ولكن ظاهرة هذه المقاهي والمطاعم لها طابعها الاقتصادي والسياحي، فقد أعطت لطرابلس دفعاً جديداً لم يعرف الطرابلسيون قيمته في نهوض البلد من كبوته، رابطةً الماضي التاريخي العريق بالمستقبل الزاهر.
(نُشرت في جريدة البيان)