الشيخ حسين الجسر
(1845-1909)
المصلح الاجتماعي والمفكر التربوي:
هو ابن الشيخ محمد الجسر المعروف "بأبي الأحوال" الذي ترك طرابلس هرباً من المصريين والتجأ أولاً إلى قبرص ثم إلى استامبول واقترن فيها بالسيدة التي أنجبت حسيناً. وفي السنة التي ولد فيها حسين توفي والده وهو في فلسطين فنشأ حسين يتيماً. وقد اجتهد فيما بعد، ليتعرف إلى والده من خلال من كان يعرفه وسجل ما سمعه منهم في كتاب سمّاه "سيرة حياة أبي الأحوال". وفي العاشرة من عمره فقد والدته، إلا أن تربيته، لم تتأثر كثيراً بفقد والديه، فقد نشأ في رعاية عمه الذي سهر على تعليمه. وبين العاشرة والثامنة عشرة من عمره، أتيح له أن يدرس على أيدي بعض المشايخ أمثال أحمد عبد الجليل، وصهريه عبد القادر وعبد الرزاق الرافعيين والشيخ عرابي. فلما أنهى هذه المرحلة سافر إلى الأزهر على غرار كثير من أبناء مدينته، حيث مكث في أرجائه أربع سنوات ونصف السنة، بشكل متواصل ودون انقطاع.
وكان قبل وصوله القاهرة، أقام حسين أياماً في بيروت في ضيافة مفتيها آنذاك الشيخ محمد افندي الطرابلسي وكان تلميذاً لوالده، وهناك التقى بالمتصرف الذي نصحه بالاهتمام للعلوم العقلية كالمنطق والحكمة والفلسفة التي يحتاج إليها معظم العلماء. وقد أخذ حسين بهذه النصيحة.. الأمر الذي مكنه من مناظرة العلماء من غير المسلمين عندما نشر رسالته الحميدية.
وفي الأزهر كان للشيخ حسين المرصفي تأثير بعيد على أفكار التلميذ الجسر الذي لازمه واستمع إلى دروسه، وذلك من خلال تدريسه لمقدمة ابن خلدون التي منحت حسيناً عناصر وأدوات لتحليل المجتمع، ومن خلال ما كان يدور على لسانه من مصطلحات حديثة بدأت تستخدمها الأقلام آنذاك من مثل: الحرية والعدالة والوطن والسياسة.. ومن خلال اهتمامه للدور الإصلاحي الذي يمكن أن تنهض به التربية في المجتمع.
وكان في نية حسين الجسر البقاء عشرين عاماً في الأزهر، حتى يتابع تحصيله لولا.. رسالة وصلته من طرابلس تدعوه إلى العودة بسبب مرض عمه الشديد. وبعد عودته بقليل توفي عمه فاضطر حسين إلى أن يتحمل أعباء العائلة المعيشية والروحية..
كان والد حسين وعمه على الطريقة الخلواتية، فلما عاد إلى طرابلس 1867 خلف أباه وعمه في رئاسته الطريقة، وقام بما ترتب عليه من عقد الحلقات الصوفية في داره. وفي الوقت عينه انصرف إلى التعليم فبدأ بإعطاء الدروس في المدرسة الرجبية في الجامع المنصوري الكبير. ومكث في ذلك عشر سنوات، لا يشتغل سوى بالتعليم وبإحياء حلقات الطريقة الخلوتية. وكانت فكرة إنشاء مدرسة عصرية قد راودته منذ زمن طويل. فأقدم في العام 1880 على إنشاء المدرسة الوطنية التي حظيت بتأييد من المصلحين مدحت باشا وحمدي باشا. وقد شهدت المدرسة إقبالاً شديداً لتميزها عن سائر المدارس التي كانت قائمة آنذاك. فهي كانت المدرسة الإسلامية الأولى في طرابلس التي شاءت أن تدرس العلوم الحديثة. وكان من تلامدتها رشيد رضا وعبد القادر المغربي وعبد المجيد المغربي واسماعيل الحافظ وعبد الكريم عويضة.
وكانت المدرسة تدرس: العلوم الدينية (تفسير وحديث وفقه وعبادات وتوحيد) وعلوم الآلة (نحو وصرف ولغة وبيان ومعاني وإنشاء وأدب وعروض) والعلوم الفنية (منطق وحساب وجغرافية وهندسة) والقانون العثماني واللغات (التركية والفرنسية قراءة وكتابة).
وقد أشاد رشيد رضا- في ما بعد- بأثر هذه المدرسة. ومما قاله عن شيخه الجسر: "وكان أستاذنا العلامة الشيخ حسين الجسر الأزهري هو المدير لها بعد أن كان هو الذي سعى لتأسيسها، لأن رأيه أن الأمة الإسلامية لا تصلح وترقى إلا بالجمع بين علوم الدين وعلوم الدنيا على الطريقة العصرية الأوروبية مع التربية الإسلامية الوطنية تجاه التربية الأجنبية في مدارس الدول الأوروبية والأميركانية..".
غير أن المدرسة لم تستطع الاستمرار لأسباب متعددة ومتداخلة بينها حسد بعض علماء المدينة الذين مكروا به (بالشيخ حسين) لدى أولياء الأمر، وبينها كذلك عدم قبول الدولة عدّها من المدارس الدينية التي يعفى طلابها من الخدمة العسكرية وبينها تراجع الأجواء الإصلاحية بعد تعليق الدستور في العام 1876. فكان ذلك سبباً لإلغائها.
وبعد إغلاق المدرسة الوطنية انتقل الشيخ حسين إلى بيروت ليدير المدرسة السلطانية فيها. وقد أفاد كثيراً من إقامته في بيروت إذ أتيح له أن يكثّف اطلاعاته على العلوم العصرية والنظريات الحديثة من خلال الكتب التي كان يطالعها في مكتبة الكلية الانجيلية السورية.. وأن يكون على اتصال بالشيخ محمد عبده المصري الذي كان يلقي محاضرات على طلبة المدرسة السلطانية، الأمر الذي مهّد لصدور رسالته المعروفة برسالة التوحيد والتي يدافع فيها عن التوحيد الإسلامي ومقارعة النظريات الحديثة.
وفي بيروت أمضى الشيخ حسين فترة قصيرة نسبياً عاد بعدها إلى طرابلس ليرجع إلى التدريس والكتابة والتأليف 1883، وأمضى خمس سنوات على هذا المنوال حتى العام 1888 حين صدر له أول كتبه: "نزهة الفكر في مناقب مولانا الشيخ محمد الجسر" وكذلك "الرسالة الحميدية في حقيقة الديانة الإسلامية وحقيقة الشريعة المحمدية".
ويبدو أن الرسالة الحميدية جلبت له الشهرة فانتشرت نسخها في بلاد الشام ومصر وغيرها من الأقطار الإسلامية، واتصل خبرها بالسلطان عبد الحميد الثاني فاستدعاه للإقامة في استامبول فلبى الدعوة وأقام فيها تسعة أشهر أمضاها في تأليف رسالة متممة للرسالة الأولى. ودعاها "الحصون الحميدية للمحافظة على العقائد الإسلامية". وأفاد الشيخ حسين من إقامته في عاصمة السلطنة فاستحصل على رخصة بإصدار جريدة طرابلس لأحد معارفه من أبناء المدينة محمد كامل البحيري، وكان ذلك في العام 1893. فلما عاد إلى طرابلس أمضى أغلب سنوات حياته في كتابة افتتاحيات الجريدة وفي المطالعة والتأليف والعبادة. وقد جمعت افتتاحياته في عشر مجلدات باسم "رياض طرابلس".
ووافته المنية في العام 1909 بعد أن ترك مجموعة من المؤلفات والرسائل منها المطبوع ومنها المخطوط.
المؤلفات المطبوعة
1- الرسالة الحميدية في حقيقة الديانة الإسلامية وحقيقة الشريعة المحمدية. بيروت 1305هـ 524 صفحة (وفي أولها ترجمة حياته، وطبعة ثانية 1933 وطبعت مؤخراً بتحقيق د. خالد زيادة وتقديمه. منشورات جروس برس، طرابلس والمكتبة الحديثة في 354 صفحة بدون تاريخ).
2- الحصون الحميدية للمحافظة على العقائد الإسلامية. طبعت بالمطبعة العامرة المليحية 1328هـ
1510 صفحة من القطع الصغير وطبعة ثانية في مطبعة مصطفى البابي الحلبي مصر، 1955، في 160 صفحة.
3- العلوم الحكمية في نظر الشريعة الإسلامية.
4- البدر التمام في مولد سيد الأنام.
5- مهذب الدين.
6- هدية الألباب في جواهر الآداب، بيروت، 1289هـ في 8 صفحات.
7- تربية المصونة.
8- التوفير والاقتصاد.
9- حكمة الشعر.
10- إشارة الطاعة في صلاة الجمعة.
11- تربية الأطفال سعادة النساء والرجال وعموم الشعب في المآل.
12- تعدد الزوجات.
13- الأدبيات.
14- كلمات لغوية.
15- رياض طرابلس الشام (مجموعة مقولات في جريدة طرابلس في عشرة أجزاء.
16- نزهة الفكر في مناقب الشيخ محمد الجسر، طبع في المطبعة الأدبية في بيروت، 1306هـ في 271 صفحة.
المؤلفات غير المطبوعة
1- العقيدة الإسلامية والعقيدة النصرانية والمناظرة بينهما باستدلال من كتبهما.
2- القرآن الكريم وعدم التباسه.
3- بنات الأفكار في كشف حقيقة الكيمياء ومشارق الأنوار.
4- الذخائر في الفلسفة الإسلامية.
5- الكواكب الدرية في العلوم الأدبية.
6- رسالة في صدقة الفطر.
7- ذخيرة الميعاد في فضائل الجهاد.
8- خديجة وبثينة.
9- رسالة في آداب البحث والمناظرة.
10- مجموعة في خطب الجمعة.
11- مجموعة من الشعر (1375 بيتاً).
فكره التربوي والاجتماعي
آمن الشيخ حسين بأن التربية هي الطريق إلى إصلاح ما فسد من أحوال الأمة.. وانسحب في ذلك على أذيال أستاذه في الأزهر الشيخ حسين المرصفي. والفكرة كانت شائعة بين متنوري عصر النهضة أمثال الطهطاوي وعلي مبارك وغيرهما.
برز اهتمامه بالتربية في الأعداد الأولى من جريدة طرابلس ونشر في أعدادها الأولى كتابه الذي يحمل العنوان التالي: "تربية الأطفال سعادة النساء والرجال وعموم الشعب في المآل". فقد رأى "أن حسن تربية آحاد الشعب ذكوراً وإناثاً أغنياء وفقراء وتعميم ذلك فيهم ينتج عنه حسن تربية الهيئة الاجتماعية، أعني الأمة بتمامها فإن مجموع الشعب ليس إلا مركباً من آحاده وأفراده".
كما رأى بأنها يجب أن تطول أفراد المجتمع كافة دون تمييز وأنها فنّ أي علم قائم بذاته وأنها "تنمية الأعضاء الحسيّة والقوى العقلية وطريقة تهذيب النوع الإنساني ذكراً وأنثى على طبق أصول معروفة يستفيد منها الطفل هيئة ثابتة يتخذها عادة وشأناً واستنارة عقله بالمعارف المعقولة والمقبولة".
ويقسم الشيخ حسين التربية قسمين: حسية ومعنوية. "فالحسية تتجه إلى الجسد والعناية بالأطفال، والمعنوية تربي الأخلاق وتحصنها من الرذائل والخصال غير المقبولة، وفيها تربية العقل بتنميته بالعلوم الشرعية والمعارف العقلية وتحليته بالكمالات السامية والفضائل العالية".
ويرى بعد تقليب الأمر على وجوهه المختلفة، "أن تربية البنات من أسباب سعادة الشعوب وعليها مدار النجاح وقوام الاصلاح..".
وهو يعتقد بأن التعليم والتربية أساسان لنهضة الأمة. فالغرب إنما تقدم عن هذا الطريق وسبب تقدمه "انتشار المعارف بينهم وتعميمها بين الكبير والصغير والغني والفقير والعظيم والحقير".
وهو يحذو، في نظرته إلى تقدم الغرب وضرورة التوفيق بين الإسلام وحسنات التقدم الغربي، حذو كبار مفكري الإسلام في عصره. فالتقدم الغربي أمر واقع ولا بد من الأخذ به.. مع التمسك بديننا.
ويرى بأن بإمكان المسلمين الاستعانة بما وصل إليه الغرب واتخاذه أساساً للبناء عليه، توفيراً للوقت والجهد، "فالطفرة من المحال العادي فلا نحاول خرق العادة ونسلك سبيل العجلة".
ويؤكد الشيخ حسين أن الانفتاح على علوم أوروبا أمر لا مناص منه فيتساءل: ما الذي يمنعنا من إقامة مدرسة صنائع يدوية، ويدعو أهل زمانه قائلاً: شيّدوا المدارس وانصروا الصنائع واجلبوا الفبريقات لعمل البضائع واجتهدوا..
ولم ينسى أن يؤكد على الجانب الأخلاقي حسب التصور الإسلامي لمفهومه التربوي ولإصلاحه الاجتماعي. معتقداً بأن المشكلة الأخلاقية هي أصل المشاكل المعاصرة.
فكره السياسي
كان الشيخ حسين من مؤيدي السلطان عبد الحميد الثاني لوقوفه في وجه مطامع الدول الأوروبية بالاستيلاء على مناطق الدولة الإسلامية. فالسلطان وقف مدافعاً عن الدولة عاملاً على وحدة الأمة الإسلامية، وقد اكتسب إعجاب العدد الكبير من متنوري عصره الثائرين بمن فيهم الأفغاني وعبده وأديب اسحق ومصطفى كامل.
والمدافعة عن السلطان بالنسبة لهؤلاء، وللشيخ الجسر، ليست إلا دفاعاً عن المسلمين في وجه أعدائهم من الأوروبيين الذين كانوا يسعون إلى قضم أقاليم الدولة العثمانية اقليماً بعد آخر.
وكان يرى أن الخلافة لها المنزلة العليا في المذهب الإسلامي: فالإسلام والسلطان توأمان كل واحد منهما لا يصلح إلا بصاحبه. الإسلام أساس والسلطان حارس.
ولم يكن الشيخ حسين غافلاً عن دسائس الأجانب وسعيهم إلى تفتيت الوحدة السياسية للأمة حسب مفهومه.. يقول: "لم يزل الأجنبي الحسود الطماع يسعى إلى إلقاء المفاسد بين رعايا دولتنا العلية حتى يغتنم غنيمة جديدة، أو يرفع المطالبة عنه في غنيمة غصبها قديماً". "ولهذا كان يعمل على تنمية روابط الألفة بين العثمانيين من المذاهب المختلفة خوفاً من أن تعمل الدعايات الأجنبية عملها وتبلغ غرضها في خلق الانفصال داخل الأمة التي يريدها موحدة.
وكان مؤيدي التنظيمات الحديثة التي أعلنها السلاطين في استامبول خلال القرن التاسع عشر والتي أعطت الاعتبار الأول للمواطنية وقدمته على اعتبارات الانتماء الديني في حقوق الأفراد المدنية.
غير أن الشيخ حسين لم يكن يملك برنامجاً للاصلاح بالرغم من معرفته بأزمات الدولة العميقة، وما تواجهه من تقهقر في الداخل ومطامع في الخارج. ولقد عوّل الكثير على إنشاء الخطوط الحديدية التي كانت في رأيه- الضمانة المادية- لتحقيق الوحدة الإسلامية وترجمتها بشكل عملي وواقعي، كما أمل أن تكون مدينة طرابلس مركزاً لمحطة سكك حديدية تنطلق منها وإليها القطارات فتزدهر أحوالها الاقتصادية.
ولم يكن الشيخ حسين مقتنعاً بالدور الذي يجب أن يعطى للعامة في إصلاح الأحوال والتغيير السياسي. لذلك ابتعد عن سياسة التحريض والعمل العام، والاشتغال بشؤؤن السياسية وصراعات عصره.
وقد عاب عليه بعضهم شدة تحفظه وتهيبه الخوض في الأمور العامة وابتعاده عن المشاركة في العمل السياسي، على احترامهم الشديد لعلمه فقد قال فيه تلميذه الشيخ عبد القادر المغربي: "كان مصلحاً دينياً دقيق النظر لكنه مع هذا بقي طول حياته محافظاً شديد الحذر".
فكره الديني
أثناء إقامة الشيخ حسين في بيروت مديراً للمدرسة السلطانية فيها أتيح له أن يطلع على ترجمات عربية لبعض المؤلفات العلمية، ولا سيما في مكتبة الكلية الانجيلية السورية (الجامعة الأميركية فيما بعد).
وفي كتابه المعروف باسم "الرسالة الحميدية" حاول الشيخ حسين أن يرد على بعض النظريات الحديثة التي تعرّف إليها من خلال المؤلفات التي تمت ترجمتها، ومن خلال الصحف التي كانت تكثر آنذاك من عرض الاكتشافات الحديثة وتلخيص النظريات المعاصرة الناشئة في أوروبا. وهو أراد التأكيد على كون الدعوة المحمدية دعوة "صحيحة" في الأصل وأن الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان. فإذا كانت الاكتشافات العقلية العلمية تناقض ظاهرياً ما جاء في القرآن، فإن ذلك يعود إلى خطأ في تأويل النصوص الشرعية إذ إن هذه النصوص تتفق مع العقل، وهو يدعو الماديين إلى المذاكرة مع علماء الشريعة المتبحرين فيها العالمين بقواعدها المحيطين بما قاله أجلاّؤها في تفسير نصوصها.. ليعلموا أن ما من شيء منها إلا له انطباق صحيح على قانون العقل لا يخالفه بأدنى مخالفة.
والشيخ حسين الجسر يسعى إلى التوفيق بين الإيمان والعلم، بل هو على استعداد لأن يقبل بكل نتائج العلم الحديث إذا ما اقر العلماء بأولوية الخالق. وليس الشيخ الجسر معادياً للعلم، بل على العكس من ذلك، إنه معنيّ بقضية الإيمان ونشره، فيدعو الماديين الطبيعيين إلى الإيمان، ويطعن بأصدقاء الدين الجهلة الذين يضرون قضية الدين.
والشيخ الجسر يظهر في الرسالة الحميدية متكلماً فقهياً: فقد انبرى للرد على ما أثاره علماء الغرب من شبهات كثيرة تقوم على ان هذا المذهب مع تقدير صحته ليس من شأنه أن يتعارض مع القرآن.
ومع أن الشيخ الجسر ليس عالماً وليس فيلسوفاً بالمعنى الدقيق للكلمة، فقد استطاع أن يكون على مستوى النقاش الذي تفرضه النظريات الحديثة بوجهيها العلمي والفلسفي. وهو متمرس بتقاليد المدرسة السنية الأشعرية، وهدف إلى إحياء تقاليد الفقهاء والمتكلمين المسلمين الكبار، ولم يسلّم بفتح باب الاجتهاد تفادياً للآراء الجاهلة والمغرضة في زمن قلّ فيه الورع وكثرت فيه الدعاوى الباطلة.
هذا وقد تناول الشيخ الجسر في رسالته التي كتبها كمقال متواصل لا انقطاع فيه المسائل التالية:
- الدفاع عن العقيدة الإسلامية وتبيان صحتها
- شرح أركان الإسلام والإيمان
- الرد على النظريات الحديثة من وجهة نظر الإيمان
- تأسيس موقف إسلامي معاصر أو علم توحيد جديد
- الرد على بعض ما ينتقض به الإسلام
وتثبت له من الرسالة الحميدية بيان أسباب تأليفها وتسميتها بالحميدية.
بسم الله الرحمن الرحيم
بيان أن سبب تأليف الرسالة ما حاوله بعض أحبار الانكليز من تقريب الدين الإسلامي لدينهم.
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد فيقول الفقير إلى عفو مولاه حسين بن محمد الجسر الطرابلسي: أنني في هذه الأثناء وجدت في جرائد بلادنا الشامية بعض مقالات مترجمة عن جرائد أورباوية منسوبة لبعض أحبار الانكليز المدعو اسحاق طيلر قد حاول فيها التوفيق بين معتقد الإسلام ومعتقد المسيحيين وإقامة الدلائل على تقاربهما وتشابه كتبهما، وأن الاختلاف بين الطائفتين ليس إلا في أمور غير جوهرية، وذكر في إحدى تلك المقالات أنه أتى البلاد المصرية لمخالطة الإسلام واستكشاف حقيقة دينهم لبلوغ هذه الغاية، وكلامه وإن كان صريحاً بهذا المقصد ولكنه يشف عن استحسان الدين الإسلامي ويرنو إلى دفع اعتراضات يوردها بعض أحبار بلاده على المسلمين فيعارضهم بورود أمثالها عليهم ويدعوهم للنصفة ولاعتبار الدين الإسلامي أول مساعد على تمدن الأمم المتوحشة التي يدعون حرصهم على تمدنها مستدلا بأن الذي شوهد في أفريقيا أن تلك الأمم هناك أسرع قبولاً للدين الإسلامي من سواه. وهو افعل في تهذيب أخلاقهم وتعزيز أنفسهم من كل ما عداه، وما ذاك إلا لمطابقته لصريح العقول وسهولة فهمه عليها، وقد انتشر هناك في هذه السنين انتشاراً غريباً مع عدم المبشرين به والداعين إليه، ومع ذلك كله فالناظر في كلام هذا القس لا يقطع بحقيقة مقصده وإن كان يتخيل للفكر أن بحثه في هذا الشأن للتوصل إلى كشف الحقيقة لبني جلدته وإقناعهم بالصواب، أعانه الله تعالى على عمله الذي يرضي الله تعالى وبلغه مقصده فيه، وبلغني أيضاً أن بعضاً آخر من رجال الإنكليز المتضلعين في اللغات والفنون قد سعى هذه الأيام ببناء معبد للإسلام في البلاد الإنكليزية وأنه يباشر هناك بنشر جريدة عربية ليكون جل مقصدها البحث عن حقيقة الدين الإسلامي وإشهار فضائله لدى غير العارفين بها وقد رغب الرجل بواسطة أحد أذكياء المسيحيين اللبنانيين الموجود الآن في لندن من بعض فضلاء بلدتنا أن تقدم بعض مقالات للجريدة المذكورة في هذا البحث الرفيع، وفقه الله لما فيه خير العالم الإنساني وما يرضي مولانا جل وعلا، وقد خطر لي حيث وجدت مجالاً للكلام وسميعاً للنداء أن أحرر رسالة يستبان منها حقيقة الدين الإسلامي وكيفية تحققه لمتبعيه على أسلوب جديد سهل الفهم لا تمله الأنفس ولا تستوعره الأفكار، يروق العقول الحرة ويعجب الأذهان المطلقة عن قيود التعصب إن شاء الله تعالى.
تسميتها بالحميدية نسبة لاسم الخليفة عبد الحميد رحمه الله تعالى
وحيث إن الحامي للدين الإسلامي والمؤيد لشعائره، والمحافظ على أوامره هو حضرة مولانا أمير المؤمنين، وخليفة رب العالمين حامي حمى الإسلام، ومشيد أركان شريعة المصطفى عليه الصلاة والسلام السلطان الأعظم والخاقان الأفخم السلطان ابن السلطان السلطان الغازي عبد الحميد خان ابن السلطان الغازي عبد المجيد خان أدام الله أيامه، ونشر أعلامه، وأمده بالإمدادات الإلهية والتوفيقات الصمدانية فكان من كمال حظ هذه الرسالة وطالع سعدها الأكبر أن تكون لاسمه الكريم منسوبة، وفي صحائف حسناته مكتوبة إذ هي حسنة من حسنات عصره السعيد وقطرة من بحار تقدم رعاياه في منهج المعرفة والتسديد فسميتها الرسالة الحميدية في حقيقة الديانة الإسلامية وحقيقة الشريعة المحمدية فأسأل الله تعالى التوفيق لطرق الصواب وهداية قلوب ذوي الألباب للنظر في عاقبة يوم المآب إنه قريب مجيب، وهذا أوان الشروع بالمقصود بعون الملك المعبود.
[1] - اعتمدنا أساساً على كتاب الدكتور خالد زيادة: الشيخ حسين الجسر. حياته وفكره، سلسلة أعلام طرابلس، دار الإنشاء للصحافة والطباعة والنشر، 1982، ط أولى.