إنصافاً ودفاعاً عن طرابلس...
الدكتور عبد الغني عماد
في كل مرة تزداد حدة التجاذب السياسي في لبنان وترتفع وتيرة التشنج والاتهامات في الخطاب الإعلامي بين الفرقاء المتصارعين، تتجه الأنظار نحو طرابلس، حتى باتت المدينة وكأنها الساحة المفضلة عند البعض لإرسال الرسائل وتسجيل النقاط وممارسة الضغوط.
بدايةً لا يمكن تجاهل حقيقة أن شيئاً من هذا كان يحدث خاصةً في السنوات الخمس الأخيرة إثر اغتيال الشهيد رفيق الحريري. لكن الاختلالات الأمنية التي شهدتها المدينة لم تكن بلا سياق أو بلا تاريخ، بل كانت وقائع جرى توظيفها وتغذيتها وإيقاظها لتكون ساحة المدينة صندوق بريد للرسائل الضاغطة تارةً ولتسجيل النقاط تارةً أخرى.
إنصافاً ودفاعاً عن طرابلس...
الدكتور عبد الغني عماد
في كل مرة تزداد حدة التجاذب السياسي في لبنان وترتفع وتيرة التشنج والاتهامات في الخطاب الإعلامي بين الفرقاء المتصارعين، تتجه الأنظار نحو طرابلس، حتى باتت المدينة وكأنها الساحة المفضلة عند البعض لإرسال الرسائل وتسجيل النقاط وممارسة الضغوط.
بدايةً لا يمكن تجاهل حقيقة أن شيئاً من هذا كان يحدث خاصةً في السنوات الخمس الأخيرة إثر اغتيال الشهيد رفيق الحريري. لكن الاختلالات الأمنية التي شهدتها المدينة لم تكن بلا سياق أو بلا تاريخ، بل كانت وقائع جرى توظيفها وتغذيتها وإيقاظها لتكون ساحة المدينة صندوق بريد للرسائل الضاغطة تارةً ولتسجيل النقاط تارةً أخرى.
ولعل طبيعة المدينة وواقعها السياسي والاجتماعي من جهة، وما شهدته من أحداث مؤلمة ومحزنة منذ العام 1975، والمعالجات الخاطئة والشوائب الخطيرة التي لحقت بكل الصراعات التي تأتت عن الخلاف السوري الفلسطيني عام 1976، ثم عن المرحلة السورية وما تخللها من شوائب، ثم مرحلة هيمنة حركة التوحيد على المدينة، وانفجار الصراع على خط جبل محسن باب التبانة من جهة والتي انتهت كما هو معلوم بدخول القوات السورية إلى طرابلس أثر معارك دامية، انتهت بمجزرة ولم تنته بمصالحة، والذي نتج عنه ان بقيت الأحقاد نائمة سنوات وسنوات إلى أن أعاد البعض الى إيقاظها بعد أحداث 7 أيار 2007 حيث شهدت المدينة جولات عنف مؤسفة إنتهت بمصالحة أشرف عليها الرئيس سعد الحريري وشارك فيها جميع قيادات المدينة، تلك كانت تجربة مريرة وصفحة سوداء يتذكرها الطرابلسيون في وجهيها: الأول الظالم (يوم استبيحت وقصفت لشهر كامل بحجة تحريرها من العرفاتيين)، والثاني الظلامي (يوم زجت باسم الإسلام في صراع خارج زمانه ومكانه).
مع ذلك لا يزال ملف جبل محسن والتبانة ملفاً مقلقاً وشائكاً، وقد أصدرت الأسبوع الماضي مجموعة الأزمات الدولية تقريراً طويلاً ومفصلا حول هذا الموضوع، ويحاذر الكثيرون من الغوص فيه بصراحة وعمق، واليوم لا زال هذا الباب مدخلاً لإثارة مخاوف المدينة كلما احتدم الصراع، ولا يشك أحد أن مفاتيحه سياسية بامتياز، إلا أن إقفال هذا الملف المحزن في المدينة وإزالة خطوط التماس المفتعلة والتي يتم افتعالها كل حين تحتاج إلى قرار سياسي وأمني حازم من جهة، كما تحتاج إلى خطة إنمائية شاملة تنصف هذه المناطق التي صُنفت بإنها الأكثر حرماناً في لبنان، حيث يتساوى أبناء جبل محسن والتبانة في الحرمان. لقد أصبح واضحاً عند الجميع إن الخيار الصحيح هو الخيار التنموي، فهو الذي يدفع بطاقات أبناء منطقة جبل محسن وشباب التبانة تحو الانخراط بمشروع الدولة والولاء للوطن، والاندماج بالنسيج الوطني والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، بعيداً عن الخطابات الطائفية والمذهبية، إن النهوض بمناطق الحرمان والفقر ومكافحة الأمية والتخلف والقيام بمشاريع اقتصادية وتنموية وتوفير فرص العمل والرعاية الاجتماعية والصحية، هو المدخل الصحيح لإزالة خطوط التماس المفتعلة، ولتأكيد العيش الواحد بين أبناء المدينة الواحدة.
كذلك لا يزال الملف الإسلامي المرتبط بصورة المدينة ملفاً مخيفاً ومرعباً عند البعض وخاصةً وأن بعض الإعلاميين أصبحوا وبسذاجة يشبّهون طرابلس بقندهار لبنان، بل أن بعض السفارات ذهبت إلى تحذير رعاياها من زيارة طرابلس.
في الواقع هناك الكثير من المبالغات عند بعض الإعلاميين الذين يأتون من خارج المدينة وهم على عجلة من أمرهم يجولون في احيائها القديمة وأزقتها الداخلية منبهرين بهذا العالم الذي يسوده الفقر والتهميش والحرمان، فيلتقطون بعض الظواهر الهامشية ليصنعوا منها حدثاً إعلامياً لا يعبر في الحقيقة عن روح المدينة وأصالتها وحقيقتها ومزاجها.
- هل طرابلس مدينة جاذبة للإسلاميين فعلاً؟
سُئلت مرة في إحدى المحاضرات هل طرابلس مدينة جاذبة للإسلاميين؟ فقلت أن طرابلس لطالما كانت جاذبة لليساريين وللعروبيين وللإسلاميين ولكل أشكال المعارضة للنظام السياسي الذي أهملها وهمّشها وكأنها عقاب تاريخي على رؤوس الطرابلسيين منذ الاستقلال.
مع ذلك قد يكون هوية غالبية أبناء طرابلس الإسلامية المؤمنة مصدر تشجيع وحضانة للإسلاميين، لكن هذا على أرض الواقع يحتاج إلى نقاش.
نعم طرابلس مدينة مؤمنة لكنها أيضاً محافظة وتقليدية، وهي بنفس الوقت ليست مدينة التطرف والتكفير، بل هي مدينة الإيمان والاعتدال والتسامح والوسطية، وربما هذا ما يجعلها مدينة جاذبة للإسلاميين عموماً.
فربما يظنون أن هذه البيئة هي التي يمكن أن تتجاوب مع المشروعات الحزبية والحركية الإسلامية أكثر من غيرها، وللأسف فإن الكثير من المحللين يظنون ويعتقدون نفس الشيء، لكن الواقع أثبت فشل هذا التحليل طيلة أكثر من أربعين سنة منذ أن بدأت أولى إرهاصات العمل الحزبي الإسلامي في المدينة.
فالمدينة منذ الاستقلال حُرمت من أبسط حقوقها كعاصمة ثانية، وجرى تهميش منظم لدورها وموقعها في الجمهورية الناشئة، واستمر ذلك مع الجمهورية الثانية بعد الطائف مضافاً إليه تسلط مخابراتي وأمني طال حياتها السياسية، وهي في الذاكرة التاريخية لأبنائها مدينة العلم والعلماء وقلعة العروبة والإسلام. ومع ذلك لم تخفِ طرابلس تطلعها يوماً نحو حداثة حرمت منها، ونحو تنمية طالبت بها، ومشاركة سلبت منها، وهي عبرت عن هذا في مناسبات عديدة. لذلك هي محافظة وتقليدية لكنها مجتمع يعيش ديناميات التغير والتحول وما يستدعيه ذلك من إشكاليات على مستوى وعي الهوية والإصالة والمعاصرة.
- الإنطباع أقوى من الحقيقة:
وللأسف أحياناً يكون الإنطباع أقوى من الحقيقة، ويقع ضحية الإنطباع بعض الإعلاميين والمراسلين، الذين وبدون تدقيق يعمّمون صوراً جزئية وعابرة لا تمثّل تاريخ المدينة ولا هويتها، حتى باتت طرابلس عند البعض مخيفة وكأنها مدينة طالبانية يسكنها التطرّف والتعصّب، وهذا ظلم إعلامي يضاف إلى ما تتعرّض له طرابلس من بعض الذين يمارسون الإعلام على طريقة القنص والصيد.
والحقيقة أنه ليس في طرابلس للإسلاميين بكل فروعهم تلك السطوة أو الهيمنة التي يتخيّلها البعض، فهم ما استطاعوا الحفاظ على مركز نيابي حصلوا عليه في انتخابات 1992 وفي ظروف استثنائية، ولا استطاعوا الحفاظ على حصتهم في المجلس البلدي والمجالس الإختيارية التي تدنت إلى أدنى مستوى، فضلاً عن دورهم الهامشي في كل المعارك الإنتخابية لنقابات المهن الحرّة (محامين، أطباء، مهندسين، صيادلة...)، فضلاً عما تبقى من مؤسسات المجتمع المدني ودورهم المتراجع على المستوى الطلابي والجامعي. لا يعني هذا الكلام التقليل من دور وحجم الإسلاميين ولكنه دعوة إلى عدم المبالغة وإلى الواقعية.
كما أنه لا ينبغي التخويف من الإسلاميين، فأغلبهم قد انخرط في الحياة السياسية والإنتخابية منذ أن أتيح له المشاركة بحرية، فقد تعرّض العديد من هؤلاء إلى قمع وظلم في مراحل سابقة، وها هي حركات وتنظيمات إسلامية في طرابلس تصبح أكثر تلبنناً وتكيّفاً مع الواقع اللبناني، بل حتى سلفيو طرابلس هم في غالبيتهم يتّبعون السلفية الدعوية ويركزون على العمل المؤسساتي والوقفي والتربوي على عكس الصورة الغير موضوعية التي تروّج عنهم إعلامياً في الخارج. يكفي الإطّلاع على الوثيقة السياسية الإسلامية 2005 التي وقّع عليها جميع القوى الإسلامية وصولاً إلى المؤتمر الموسّع الذي عقد برعاية مفتي طرابلس مالك الشعار 2010 ليقرأ المتابع في بنودهما مدى التطور الذي حدث في الخطاب السياسي والفكري عند هذه القوى والحركات، وقد كشف موقف طرابلس من ظاهرة فتح الإسلام صدق وحقيقة غالبية هذه القوى، فالعناصر الطرابلسية التي تورطت مع هذا التنظيم كانت قليلة جداً وأغلبها تعرّض للتضليل، رغم أن ذلك التنظيم كان يقول أنه جاء لنصرة أهل السنة في لبنان.
ومع ذلك لا يمكن تجاهل حقيقة التنوع السياسي والإجتماعي والطائفي في المدينة، ولا يمكن القفز فوق ما فيها من مؤسسات وجمعيات ونقابات تمثّل أطياف المجتمع المدني الذي أثبت عند كل منعطف أنه ينبذ التطرّف بكل أشكاله، وأن الخطّ العام الذي يلتزم به هو خطّ الإعتدال والتسامح الذي مثّل على الدوام هوية المدينة، ولا يمكن التعامي عما يجري على أرض الواقع من نمو لما يمكن أن نسميه "المجال الطرابلسي العام" حيث الإختلاط فيه بين أبناء المدينة يتّسع مداه في كل اتجاه حاملاً في جوفه كل ما يتناقض مع مظاهر التطرّف والعنف.
ومع ذلك يجب التنبيه إلى أن مناطق التهميش الإقتصادي والإجتماعي في طرابلس والضنية وعكار تشكّل محاضن طبيعية لإستقطاب الشباب، ولنمو دعوات التطرف وسلوكيات العنف والإنحراف الإجتماعي، وليس في هذا خصوصية طرابلسية بقدر ما فيه من خصوصية سوسيولوجية لها علاقة بالقهر الإجتماعي والبطالة والأمية وغياب مشاريع التنمية وتكافؤ الفرص.